نستكمل أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الجزء الثاني الفصل التاسع والعشرون من روايات سماح نجيب ( سمسم ).
لا يليق بك الا العشق2 الفصل 29
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الخامسة والسبعون
ج٢-٢٩-” إنها معنى حياتى ”
لا يعلم كم إستلزمه من وقت حتى يعيد التفكير فيما سمعه عبر الهاتف ، فمنذ تلقيه ذلك النبأ الصادم من أن شقيق زوجته قد لقى حتفه فى إيطاليا ، وكأن أحدهم أصاب رأسه بضربة قوية من مطرقة ، فأرتعشت يداه لا إرادياً ، وعمل عقله على تصوير ذلك المشهد بعد أن تعلم حياء بخبر مقتل شقيقها ديفيد ، فبدت عيناه السوداويتين فزعتين غائرتين وقد زاغت نظراتهما ، وكان الوجوم يعكس نفسه بوضوح على وجهه ، فقد كان يضبط أعصابه كى لا ينفجر غاضباً ويتهم ذلك الرجل بأنه يكذب ، وما يقوله ماهو إلا مزحة سمجة وثقيلة ، ولكن ما أن إستمرت المكالمة بينهما وظل حديث الرجل يدور حول كيفية وصول الجثمان للإسكندرية ، ظلت الأفكار السيئة تراوده وترعبه حول رد فعل زوجته ، فحتى بعدما أنهى المكالمة وخرج من مكتبه بسرعة ووصل لسيارته ، تردد فى قيادتها ليعود إلى المنزل ، فزوجته لو حدث لها مكروه لا قدر الله ، فهو لن يسامح نفسه طيلة حياته ، من أنه حمل لها نبأ سيئ كهذا ، لعلمه بمدى رقتها وهشاشتها حتى وإن كانت بارعة فى ممارسة صلابتها فى أشد المواقف السيئة ، ولكن حتماً نبأ كهذا سيحطم شيئاً بداخلها ، فهو قد ذاق مرارة فقد الأخ من قبل عندما توفى شقيقه الأكبر وجدى
– يارب إسترها يارب
دمدم بها راسل مراراً ، فكان السير كثيفاً طيلة الطريق من المشفى للمنزل ، وأكثر من مرة شعر برغبة عارمة لإطلاق صوته بالصراخ فى وجه كل السائقين ورجال المرور ، لكنه لم يفعل ، فقد خيم الصمت عليه وكأنه سارحاً فى أفكار عميقة بعيدة ، فلاشئ يقال الآن ، مجرد الإنتظار والترقب حتى يصل إلى البيت
وما أن وصل إلى المنزل وتوقف بسيارته أمام الباب الداخلى ، خشى أن يترجل منها ويصبح وجهاً لوجه أمام حياء ، فحتماً هى تنتظره الآن ، ولكنه عاد إليها يحمل لها أخبار سيئة ، ولا يعلم كيف سيطاوعه قلبه ولسانه أن يتفوه بتلك الكلمات التى ولا شك ستحطم قلبها
– طب أعمل إيه أنا دلوقتى
غمغم راسل بقلق وحيرة ، فخرج من السيارة وولج للداخل ولكن فكر أن يتحدث مع والده أولاً ، لعله يكون قادراً على أن يسدى له نصيحة فى التخفيف عن زوجته من أثر ذلك الخبر ، فوصل لغرفة المعيشة ووجده يجلس مع أحد رجاله ، ولكن ما أن رآه صرف الرجل وأشار لراسل بالجلوس خاصة بعدما قرأ تعبيرات وجهه المتجهمة
فأسند كفيه لعصاه وسأله بإهتمام:
– مالك كده فى إيه ؟
جلس راسل على المقعد المقابل لوالده ورد قائلاً بعدما أزدرد لعابه :
– النهاردة جالى تليفون من السفارة المصرية فى إيطاليا وبلغونى أن ديفيد أخو حياء مات وشكله ميت مقتول كمان وهيبعتوا الجثة بكرة على هنا علشان تدفن
صعق رياض من ذلك الخبر الذى ألقاه راسل فى وجهه دفعة واحدة ، دون محاولة منه فى أن يمهد له الأمر ، فرد قائلاً بصدمة :
– إيه ديفيد مات مقتول ! دا لو أخته عرفت هيجرالها حاجة ، هتعمل إيه معاها
هز راسل كتفيه قائلاً بيأس :
– والله ما عارف أعمل ايه أو أقولها إزاى ، دا حياء ممكن يجرالها حاجة وده اخوها برضه ، أنا لسه فاكر لحد دلوقتى حالتها لما اتوفى باباها ومامتها اللى اتبنوها ، كانت حالتها النفسية وحشة جدا ، لدرجة انها وقتها اتهمتنى إن أنا شمتان فيها علشان كنت بعزيها وساعتها كانت مش بطيق تشوف وشى ، هيبقى ايه الحال دلوقتى
وضع رياض يده على جبهته كأنه أصيب بالسقم فجأة ، فراسل محق بكل كلمة تفوه بها ومحقاً ايضاً فى مخاوفه من رد فعل زوجته ، فحدق فى وجهه ونقر بعصاه قائلاً بهدوء وروية :
– متقولهاش إنت ، سيبنى أنا أقولها ، أبعت حد من الشغالات يندهلها تيجى على هنا
لم يتردد راسل فى تنفيذ ما قاله أباه ، فظل يرصد الخادمة وهى تصعد الدرج ، كأن كل خطوة فاصلة بينها وبين زوجته ، تجعل ترقبه ومخاوفه يتصاعدان حتى يكاد يشعر بالإختناق ، فعاد لمجلس أبيه فى غرفة المعيشة ، وماهى إلا دقائق حتى وجدا حياء تلج الغرفة بإبتسامتها المشرقة كعادتها
نظرت لزوجها أولاً وتساءلت :
– أنت جيت من المستشفى أمتى ؟ مقولتليش أنك هترجع بدرى النهاردة يعنى
لم يجد راسل الشجاعة أن يبتسم فى وجهها ، فأجابها وهو يحاول ضبط أنفاسه المترقبة :
– هو حصل حاجة خلتنى رجعت بدرى
راودها شعور بالقلق ، ولكن ما أن أشار لها والد زوجها بالجلوس على المقعد القريب منه ، أطاعته على الفور ، فجلست وأنتظرت أن يتبرع أحد منهما فى تفسير ما يحدث ، ولم تدوم حريتها طويلاً إذ سمعت والد زوجها يقول برصانة كعادته :
– حياء يا بنتى أنتى مؤمنة بقضاء الله وقدره ،و السبب اللى خلى جوزك رجع بدرى من المستشفى ، هو السبب اللى هقولك عليه دلوقتى بس أرجوكى حاولى تهدى وتشدى حيلك ، البقاء لله فى أخوكى ديفيد
أنتفضت حياء ما أن سمعت عبارة والد زوجها الأخيرة ، وغمغمت بصدمة :
–– إيه ! ديفيد أخويا مات
إلا أن قدميها لم تتحمل وقوفها المفاجئ فعادت وسقطت على مقعدها ثانية ، وعيناها المتسعتان علقت بهما الدموع التى لم تجرؤ على كسر حاجز أجفانها ، ولكن نظرت لزوجها لعله يقول شيئاً أو يخبرها أن ما سمعته لم يكن سوى ضرب من الجنون وأن شقيقها بخير وأنها هى من توهمت أنه لم يعد على قيد الحياة
على الفور أقترب منها زوجها وجثى على ركبتيه أمامها وهز ذراعيها بلطف لعلها تنطق بأى كلمة عوضاً عن تصنمها المقلق :
– حياء بلاش تعملى فى نفسك كده طب عيطى أو صرخى ، حبيبتى ردى عليا
ولكن لا من إجابة من تلك التى بدت كأنها صماء وبكماء ، فهاهى مخاوفه يراها على أرض الواقع ، فزوجته كأنها فقدت النطق بعد عبارتها التى حملت الصدمة بين طيات حروفها ، والتى خرجت من فمها بثقل كأنها لن تكون قادرة على قول أى كلمة أخرى ، بل الوصف الأقرب والأدق لما يراه أنها أضحت كأنها فقدت الحياة وصارت تمثالاً حجرياً لم تدب به الروح إلا فى عينان تذرفان الدموع دون توقف
رآى رياض أنه من الأنسب أن يترك لهما الغرفة ، خاصة أن ربما رد فعلها بعدما تفيق من تلك الصدمة لن يصح أن يراها أحد بحالتها تلك إلا زوجها ، فخرج من غرفة المعيشة وهو فى نيته أن يرسل فى طلب عاصم من أجل تلك الاجراءات الواجب اتباعها فى الغد عند إستلام جثمان ديفيد ودفنه وما يليه من أمور العزاء خاصة أن الجميع بات يعلم بشأن أنه أعلن إسلامه قبل وفاته
– حبيبتى ردى عليا
نطق راسل بإستجداء وعاد يهز ذراعيها لعلها تخرج من حالة البلادة التى جعلتها تكتفى بالتحديق فى وجهه دون أن تنبس ببنت شفة
ولكنها لم تستطع التفوه سوى بعبارة حملت كل معانى الألم الذى يمكن أن يشعر به كل من يفقد عزيزاً:
– أخويا مات ، يعنى اللى كان فاضلى من ريحة أهلى راح خلاص هو كمان
هو خير من يعلم مدى الشعور بالألم والشقاء لفقد الأشقاء ، فهو سبق له تلقى نبأ جعله يشعر بأن لا أحد على وجه الأرض لن يستطيع أخذ تلك المكانة التى تركها أو أن أحد سيستطيع محو تلك الندبة التى تركت أثراً مازال محفوراً على جدران قلبه ، رغم أن من يراه يظنه صلباً صلداً بمشاعره تجاه الآخرين
رفع يده ومسح تلك الدمعة التى كادت تلحق بما سبقوها من دمعاتها الغزيرة ، فقال بإشفاق على حالتها :
– دا أمر الله يا حياء والموت علينا حق ، حاسس بوجعك دلوقتى ، بس عارف كمان أنك مؤمنة وعارفة أن لا رد لقضاء الله ، وديفيد ….
كف راسل عن الحديث عندما تذكر حديث الرجل معه عبر الهاتف وذكر أن ديفيد ترك رسالة من أجل زوجته ، فسألها وهو مقطب جبينه يفكر فى حيرة بشأن من تكون تلك زوجة ديفيد التى لا يعلمون عنها شيئاً :
– حياء هو أخوكى اتجوز أمتى ؟ أو مين هى مراته دى عندك علم بالحكاية دى ؟
رغم صدمتها بسماع خبر وفاة شقيقها ، إلا ما أن سمعت سؤال زوجها حملقت فى وجهه وقالت بدهشة :
– ديفيد كان متجوز ! أنا معرفش حاجة عن الموضوع ده ، بس أنت عرفت إزاى
قص عليها راسل ما ذكره ذلك الرجل من ترك ديفيد رسالتان على أقراص مدمجة احدهما خاصة بها والاخرى بزوجته ، وأن تلك الرسائل ستصل فى الغد أيضاً ترافق جثمانه المغدور
– ااااااااه يا راسل ، قلبى مبقاش قادر يتحمل كل اللى بيحصلى ده
صاحت حياء ولم تكف عن ذرف الدموع ، بل أنها سقطت جاثية على ركبتيها ، بعدما نهض راسل من مكانه وأرادها أن تقف على قدميها ، فهى لم تستطع تحمل كل تلك الأخبار الصادمة التى جاءتها تباعاً دون أن يمهلها الوقت فى إدراك ما يحدث حولها
– بس يا حبيبتى إهدى يا حياء
قالها راسل فور أن جلس بجوارها وأخذها بين ذراعيه ، لعله يفلح فى إنهاء ثورتها الباكية ألماً ونحيباً على رحيل شقيقها ، فالليلة يبدو أنها لن تنتهى ، وعليه أن يكون الداعم الأول لها حتى يمر الأمر والذى إذا حتى أنتهى بدفن شقيقها فالحزن سيظل ساكناً فى إحدى غرف القلب
ففى اليوم التالى ظهراً ، وصل ذلك التابوت الحامل للجثمان على متن تلك الطائرة القادمة من ايطاليا ، وقف كل من راسل وحياء وعاصم ووالده الذى أصر على الحضور ، و ما أن أبصرت حياء ذلك التابوت الخشبى ، حتى هرولت إليه وأنحنت عليه باكية بحرارة وقائلة بعتاب :
– كده يا ديفيد تسيبنى ، تسيب أختك من غير أخ ، ليه روحت ترمى نفسك فى النار يا حبيبى ، يا وجع قلبى عليك يا أخويا
مزقت قلب زوجها ببكاءها ونحيبها المتواصل ، فأغرورقت عيناه بالدموع على حالتها التى لم يفلح فى تسكينها سوى سويعات لتعاود وتبكى من جديد ، فأقترب منها وجذبها إليه لتترك الرجال يحملون التابوت لوضعه فى تلك السيارة التى ستحمله إلى المقابر الخاصة بعائلة النعمانى ، إذ أن حياء طلبت من والد زوجها أن تقوم بدفن شقيقها فى المقابر الخاصة بالعائلة لعلها تشعر بأنه مازال قريباً منها
أقترب أحد الرجلان المرافقان للتابوت وناول حياء الظرف قائلاً بتهذيب :
– ده الظرف اللى سابه علشان حضرتك
أخذته منه حياء وفتحته لعل هناك أمراً أوصى به ديفيد قبل رحيله ، ففتحت الرسالة الورقية وما أن علمت فحواها حتى شعرت برجفة إجتاحتها ، إذ علمت من خلالها أن زوجته ماهى إلا إبنة إمام المسجد وشقيقة بلال ، وتم توصيتها بأن تخبرها إذا حدث له مكروه وأن أبيها هو من يؤدى صلاة جنازته ، وأوصاها ايضاً بأن تعتنى بها
رفعت حياء عينيها عن الرسالة ونظرت لزوجها وقالت بصدمة :
– ديفيد كان متجوز ياسمين بنت إمام المسجد وأخت بلال ، إزاى ده حصل
ظل الرجال الثلاثة ينظرون لبعضهم البعض لايفقهون شيئاً مما قالته حياء ، إلا ما أن طلبت من والد زوجها تأخير دفن شقيقها لحين مجئ زوجته ووالدها ، وافقها بل حثها على أن تذهب هى وزوجها لمنزل إمام المسجد ليعلمون حقيقة الأمر
أخذ راسل زوجته مع فى سيارته وقادها ليصل إلى منزل والد زوجة ديفيد ، وطوال الطريق كانت حياء تحملق فى رسالة شقيقها ديفيد وهى متخذة الصمت ملاذها ، فلاشئ يقال يمكن أن يصف حالتها فى ذلك الوقت ، لذلك من الأفضل لها أن تظل صامتة
وما أن وصل راسل بسيارته أمام منزل الإمام ، نادها برفق لتخرج من السيارة ، فدلفا للداخل وطرقت حياء الباب وفتحت لها زوجة الإمام قائلة ببشاشة :
– أهلا بيكى يا حبيبتى اتفضلوا
ولجت حياء وتبعها زوجها ، فتعجبت زوجة الإمام من زيارتهما المفاجئة خاصة أن حياء تبدو بحالة مزرية من أثر البكاء وتلك الثياب السوداء التى ترتديها ، فرمقتهما بقلق وتساءلت :
– مالك يا بنتى خير ، أنتى كنتى بتعيطى ليه كده كفى الله الشر
أبتلعت حياء تلك الغصة الناتجة عن بكاءها وتساءلت بصوتها الخافت :
– هى فين ياسمين ؟ كنت عيزاها هى وباباها
دون أن تخوض زوجة الإمام فى أسباب مطلبها لرؤية إبنتها وزوجها ، ذهبت لغرفة ياسمين التى كانت تجلس برفقة أبيها وشقيقها بلال يتناقشون حول ما يمكن أن تفعله بشأن إثبات حقوق طفلها من والده ، خاصة أن الأمر فى غاية التعقيد ، فأخبرتهما بأن حياء تريدها هى وأبيها سوياً ، ورغم دهشتهم مما سمعاه إلا أنهما خرجوا من الغرفة
أقتربت حياء من ياسمين على مهل وأخذت يديها بين كفيها وقالت بدموع :
– أنتى فعلاً كنتى متجوزة ديفيد أخويا ، أنا مكنتش أعرف ، وهو مقاليش على حاجة ، أنا اتفاجئت النهاردة بأنك مراته ومش عارفة ده حصل إزاى
شهقوا جميعهم مما سمعوه منها ، فأقترب منها والد ياسمين قليلاً متسائلاً بدهشة :
– ديفيد أخوكى إزاى يعنى ؟
تركت حياء يديىّ ياسمين ومسحت وجنتيها بمحرمة ورقية ومن ثم بدأت فى إخبارهم الحقيقة كاملة من أن ديفيد شقيقها ، فهى سبق وأخبرت الإمام بأنها فتاة متبناة ولكنها لم تكن تعلم من هم والديها الحقيقين ، وأنها تعرفت إلى شقيقها ديفيد بعد زواجها ، ولكنه لم يخبرها بشأن ياسمين أو أنه تزوجها ، لذلك كان أمر إكتشافها لزواجهما صادماً لها
أرتفعا حاجبى بلال بتعبير الصدمة والدهشة وتمتم قائلاً وهو فى حالة أقرب للذهول :
– معقولة اللى بتقوليه ده ، يعنى أنتى وديفيد أخوات ، يعنى أنت من أصول يهودية يا مدام حياء
رغم أن الموقف لا يحتمل النقاش إلا أنها اجابته بخفوت :
– أيوة أنا اخته شقيقته بس بابا وماما الحقيقين ماتوا مسلمين اعلنوا إسلامهم قبل ما يموتوا ، يعنى لو كانوا عاشوا كنت هبقى أنا وديفيد مسلمين برضه ، وحتى هو أعلن إسلامه من فترة أنا كنت معاه وقتها يعنى هو كان مسلم ، بس كان لسه فى البداية
أبتلعت ياسمين لعابها وسألتها بحذر :
– هو فين ديفيد ؟
عادت حياء ببصرها إليها وأجهشت بالبكاء ومن ثم قالت بنبرة صوتها التعيسة :
– ديفيد مات
ضعفت ساقيها أمام حملها فأرتدت بخطواتها للخلف مأذنة بسقوطها الحتمى ، لولا أن أبيها أسرع فى إسنادها قبل أن يختل توازنها وتسقط أرضاً ، فنظرت فى وجه أبيها وهى مشدوهة مما سمعته ، فقالت بشعور عارم بالصدمة :
– ديفيد مات يا بابا ، وأنا السبب
أندهش الجميع من قولها ، فما الذى تهذى به ؟ ولما تلقى على عاتقها موت زوجها ، ولكن لا أحد من الواقفين يعلم أنه ربما بعد ما حدث بينهما فضل الإختفاء من حياتها حتى ولو كان سيلقى بنفسه وسط النيران وهذا ما كان ، فها هى تتلقى خبر وفاته بعد مرور عدة أيام من فراقهما
قالت حياء بشفقة :
– ليه بتقولى إنك السبب ، ده قدره اللى ربنا كتبهوله
أشفق عليها الجميع ظناً أن حالتها تلك ما هى إلا نتيجة لشعورها بالصدمة من تلقى خبر وفاة زوجها الذى لم يدم زواجهما سوى ليلة فعلية و أكثر من شهر وهما متخاصمان، أو بالأحرى هى من كانت رافضة إقترابه أو أن ترى له وجه ، فهى علمت الآن مدلول عبارة وداعه من أنه سيفتقدها كثيراً
جلست حياء وزوجها مع بلال وأبيه ليعلمان سر تلك الزيجة التى أخفاها عنها ديفيد ، لحين انتهاء ياسمين ووالدتها من ارتداء ثياب الحداد السوداء ، وعلمت حياء حقيقة الأمر منهما وإستطاعت فهم أسباب إمتناع شقيقها عن إخبارها من تكون زوجته ، فزفرت بقوة لعلها تتخلص من ذلك الشعور الذى سحق قلبها من أنها بعد دقائق ستودع شقيقها الوداع الأخير قبل أن يصبح ذكرى حية بداخل قلبها وعقلها ، فبعد خمسة عشر دقيقة كان راسل يصطحب أسرة ياسمين معه فى السيارة لتفيذ وصية ديفيد بأن يؤدى والدها صلاة الجنازة ، وياسمين لها الحق فى أن ترى زوجها للمرة الأخيرة قبل أن يواريه الثرى
وما ان وصلوا لذلك المسجد الكبير الذى أنتظر به رياض وعاصم ورجالهم فى انتظار عودتهم ، ولج كل من والد ياسمين وشقيقها وراسل المسجد فى الطابق الأول ، وجدوا عدد من الرجال فى إنتظار تأدية صلاة الجنازة ، بينما ذهبت النسوة للطابق الثانى الخاص بالنساء
بدأ الإمام بتأدية صلاة الجنازة ورغم عنه بكى بكاءًا شديدًا ولم يعلم لمن يبكى ، ايبكى من أجل زوج ابنته المغدور وهو مازال شاباً ، أم إبنته التى حملت لقب أرملة وهى التى لم تتزوج إلا من مدة قصيرة وهاهى الآن تحمل فى احشاءها ثمرة هذا الزواج ، وبعد الإنتهاء تم حمل الجثمان للخروج من المسجد ومنه إلى المقابر
خرجت بيرى من سيارتها وأقتربت من حياء تحتضنها وبكت بكاءًا مريراً من أجل إبن عمها ، فقالت بغصة :
– معقولة يا حياء ، ديفيد خلاص مبقاش موجود معانا
ربتت حياء على ظهرها وقالت بثبات رغم انهيارها الداخلى :
– دا أمر الله يا بيرى ، الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته
نظرت حياء خلف بيرى وجدت مارجريت ، فهى البارحة أخبرتها بمكان دفن ديفيد ، ولم تكن تريد لمارجريت الحضور ، فربما ستتشدد فى الرفض بأن يقوموا بدفن شقيقها فى مقابر غير تلك المقابر المملوكة لعائلتها الحقيقية ، وهذا ما كان إذ أقتربت من ياسمين التى ترجلت من إحدى السيارات ولم تمهلها فرصة لإلتقاط أنفاسها ، فقبضت على ذراعها بقسوة وهزتها بعنف رغم وهن عظامها وقالت بحقد :
– أنتى السبب فى ده كله ، لولا عشقك الملعون مكانش ديفيد مات ، هو مات بسببك أنتى ، ايوة بسببك أنتى
تألمت ياسمين من قبضة مارجريت على ذراعها وعادت تبكى إلا أن حياء حاولت أن تفض النقاش الحاد من مارجريت حتى لا تثير البلبلة خاصة فى مكان كهذا ، فناشدت مارجريت بصوتها المتعب :
– ارجوكى يا مارجريت ده مش وقته ، وهى ذنبها ايه ، ده نصيبه
رمقتها مارجريت بإمتعاض وصاحت فى وجهها غير عابئة بما سيحدث:
– اخوكى مات بسببها هى ، يأس من حياته بسبب كرهها ليه ، وراح جرى ورا الموت علشان بس يخلص من حياته
بدأو المشيعين يتهامسون حول ما يحدث ، فتكفلت بيرى بحل الأمر وأخذت مارجريت إلى سيارتها ، لحين إنتهاء الدفن ، ولاتدرى حياء كم من وقت استغرقهم فى دفن جثمان شقيقها ، إذ عادت تنتحب على صدر زوجها ، الذى منعها من الاقتراب أثناء وضع ديفيد بالقبر ، وبعد الانتهاء إنصرف المشيعين وظل الأقارب فقط ، وظلت ياسمين تحدق فى القبر وعينيها متسعتان حتى أنها غير قادرة على البكاء
لمست حياء ذراع ياسمين لتنتبه عليها ومن ثم مدت يدها لها بالقرص المدمج الحامل لرسالة ديفيد الخاصة بها ، فقالت وهى تطرق برأسها أرضاً لتخفى دموعها :
– ده كان ديفيد مسجلك عليه رسالة صوت وصورة ، ومكتوب فى رسالته إن اسلمهولك ، خديه يا ياسمين
اخذته منها بيد تملكتها الرجفة التى لم تعد تسيطر عليها بل إجتاحت جسدها بالكامل ، فنصحتها حياء بالعودة هو واسرتها إلى المنزل لحين أن يأتى المساء من أجل إقامة العزاء فى أحد القاعات الخاصة بذلك
وما أن عادت حياء مع زوجها للبيت لتنال قسط من الراحة ، صعدت لغرفتها وبحثت عن حاسوبها لتعلم فحوى تلك الرسالة التى تركها لها ديفيد ، فبعد وضعها للقرص المدمج فى مكانه داخل الحاسوب ، ثوانى ورآت شقيقها كأنه جالس أمامها ، فبكت وظلت شهقاتها تعلو شيئاً فشيئاً
أنحنى راسل إليها قائلاً برجاء :
– حياء لو مش قادرة تشوفى الفيديو بلاش دلوقتى يا حبيبتى
هزت رأسها رافضة وأصرت على أن تسمع ما جاء به ، فعادت تستمع لما يقوله شقيقها ، فوجدته يقول وهو يحاول أن يبتسم :
– حياء يا حبيبتى ، عارف إنك دلوقتى ممكن تكونى زعلانة منى ، بس سامحينى يا حبيبتى ، عارف أن قلبك طيب وبيسامح ، وصدقينى كانت احلى حاجة حصلت فى حياتى إن لقيتك وعشت معاكى إحساس الاخ واخته وإن ازاى يبقى فى حد بيحبنى وخايف على مصلحتى وده شوفته فيكى ، تقريباً يا حياء أنتى الوحيدة اللى حسيت بالحب منها حتى لو كان حب الأخوة ، فعايزك لو مت تدعيلى ربنا يسامحنى وخلى بالك من نفسك ومن ياسمين واللى فى بطنها ، واللى مقدرتيش تعمليه معايا اعمليه مع بنتى أو ابنى عايزه يعيش ويكبر زى ما أنتى كنتى عيزانى أعيش ، عارف إن غلطت كتير ، بس انتوا بتقولوا ربنا رحيم وبيسامح ، فأنا نفسى يسامحنى ، فأدعيلى أنه يسامحنى ، ومش عايزك تبقى زعلانة منى ولا تزعلى عليا ، خليكى دايماً قوية زى ما اتعودتى تبقى قوية ، وخلى بالك من نفسك
عند الجملة الأخيرة وأنتهى مقطع الفيديو ، فأنخرطت حياء فى بكاء مرير وأسرع راسل إليها وجعل من كتفه ملجأ وملاذ لرأسها المنهك بأفكار وأحداث يعلم أنها ستترك أثرًا بها إلى الأبد
فى منزل أسرة ياسمين وبعد عودتهم من المقابر ، ذهبت إلى غرفتها لمشاهدة رسالة زوجها ، ولكن تبعها والديها وشقيقها ليعلمون ماذا كان يريد أن يقول لها ، ومن جهة أخرى يقدمون لها الدعم إذا كانت فى حاجة إليه ، فوضعت ياسمين القرص المدمج في الحاسوب الموضوع على مكتبها وجلسوا جميعهم فى أماكن متفرقة بالغرفة
وما أن رأت ياسمين وجه زوجها ، وضعت يديها تلقائياً على عنقها لشعورها المميت بتلك الغصة التى سدت عليها مجرى الهواء ، وكم بدت صورته فى تلك اللحظة شاحبة مرهقة ، كأنه لم ينال من الراحة ما يجعله يبدو فى حال أفضل وقت تسجيل تلك الرسالة والتى صارت الذكرى الأخيرة منه ، فأرهفوا سمعهم وبدأ صوت ديفيد يرن فى آذانهم وهو يقول بنبرة صوت طغى عليها الشعور باليأس :
– ياسمين حبيبتى ، اللى مكنش ليا الحظ فى إن أعيش معاها قصة الحب اللى كنت بحلم بيها ، بس أنا مش بلومك ، أنا بلوم نفسى على إن أنا اللى ضحكت على نفسى وافتكرت إن اقدر اعيش حياة مزيفة ، بس صدقينى كان نفسى تكونى ليا طوق النجاة من اللى كنت فيه ، و صدقينى يوم فرحنا لما خلتينى اصلى وساعتها قولتلك إن خوفت ، كان خوفى وقتها إن يكون وقت التوبة عدا وفات ، أنا فعلاً أسلمت بس كنت مستنى الفرصة اللى اخد فيها تارى من اللى كانوا السبب فى موت أهلى واخواتى ، انا يا ياسمين مكنتش زعيم مافيا ولا بتاجر فى السلاح بمزاجي ، هم غصبوا عليا اشتغل معاهم وهددونى لو ما اشتغلتش معاهم هيأذوا كل اللى بحبهم ، فوافقت بس فى نفس الوقت كرهى وانتقامى بقوا يزيدوا ، بقيت كل ما اعمل صفقة ليهم ، بعد ما اخلصها ابلغ عنها البوليس ويتقبض على الناس اللى اخدت السلاح بس اكون انا خلصت دورى فى تسليمى ليهم ، هم شكوا فى الموضوع وبعتوا واحد يراقبنى ويراقب خطواتى ، بس قدرت اخدعهم ، جايز الجينات الوراثية اللى عندى كان لسه شغالة ، حتى عمك اللى كان السبب فى انه كشف حقيقتى قدامك وقدام أهلك ، بعد ما عملت الصفقة معاه اتقبض عليه ، بس وقتها قدرت اقنعهم إن السبب فى القبض عليه إن البوليس بيدور عليه من زمان وتلاقيهم قدروا يلاقوه ، انا اللى كان بيحركنى النار اللى كانت جوايا ، بسبب إن عاقبت ناس ابرياء على موت أهلى ، فقولت لازم اخد حقهم من اللى عملوا فيهم وفيا كده ، عارف إنك مقدرتيش تحبينى وشوفت فى عينيكى نظرة الكره وده اللى خلانى أبعد بالرغم من إن انا عارف إنك متخلصتيش من البيبى ، جايز أول ما قولتيلى صدقت بس لما فكرت إن واحدة بتربيتك وتدينك مستحيل تفكر تقتل روح جواها ، علشان كده خليتك ترجعى بيت اهلك لأن مكنش ينفع افرض حبى عليكى وتفضلى كرهانى ، نظرة الكره فى عينيكى كانت بتقتلنى كل ما اشوفك بتبصيلى كأن وحش ، حتى لما طلبت منك إنك متسبنيش وأنا مستعد أكون شخص تانى كويس ، أنتى رفضتينى ، فمكنش فى مجال إن إحنا نستمر مع بعض ، فلقيت إن اركز على إن اخد حقى ، حتى فكرت إن بعد اللى هعمله لو كنت عايش كنت هبعد عنك واديكى حريتك ، حتى لو حسيتى إن الامانة اللى سيبتهالك تقيلة عليكى أو لو مقدرتيش تحبى الطفل اللى هتخلفيه علشان هو ابنى أنا ، فخلى حياء اختى تاخده تربيه ، وهى هتربيه أحسن تربية ، ولو أنتى احتفظتى بيه ، ارجوكى يا ياسمين متبقيش تقوليله إن أنا كنت إنسان وحش أو مش كويس ، احكيله حكايات حلوة عنى ، علشان ميكبرش هو كمان ويكرهنى ، وعايز اقولك هتوحشينى أوى يا حبيبتى ، وجايز الحاجة اللى مخليانى افرح شوية إن لو مت هشوف بابا وماما واخواتى ، لأن من بعدهم ملقتش اللى يحبنى إلا أختى حياء وكان نفسى أنتى كمان تحبينى ، بس الظاهر أمنيتى ده مش هتتحقق ، سلام يا ياسمين
أنتهت الرسالة ولكن كأن سيل من الدموع تفجر داخل مقلتيها ، حتى صار صوت نحيبها مسموعاً لدى الجالسين ، الذين لم يمنعون دمعاتهم من أن تذرف لأجل ذلك الشاب الذى يبدو أنه كان فى حاجة ماسة إلى المساعدة ولكن دفعه اليأس لأن يلقى بنفسه وسط النيران التى لم تخمد إلا بموته ، ولكن تساءلت ياسمين فى قرارة نفسها لمن تبكى ألزوجها تميم الذى جعلها لأول مرة تعلم ماهو الحب ، أم ذلك المدعو ديفيد والذى جعلها تفيق من أحلامها على واقع مرير ، وترك لها ذكرى تمثلت فى جنين حاملة له ولا تعلم بما تخبره عندما تتوالى الأيام ويأتى الوقت ويسألها من هو أباه؟ وأين ذهب ؟ ولكن شعور قوى لم تستطع إنكاره أو التخلص منه بأنها ربما مذنبة مثله تماماً ، فلم لم تسمع له وأخذت بيده من ذلك العالم القمئ والمظلم الذى كان يحيا به ، لم أخذها الكبرياء كأنثى شعرت بالخداع وظلت على عنادها حتى تركها ، حتى وإن كان الآن راقداً تحت الثرى ، فهو قد إنتصر عليها ، إذ سيتركها تعانى من تأنيب ضميرها بأنها تركته منغمساً فى ذلك العالم ، الذى أودى بحياته فى الأخير ولم تفكر فى أن تمد له يد العون أو المساعدة
❈-❈-❈
مرت الأيام وظل الجميع على حالهم ، يقضون يومهم تاركين التفكير فيما سيحدث فى الغد إلى أن يحين وقته
عزف أدم مقطوعة موسيقية كسبيل للترويح عن نفسه ، خاصة أن بعد سفر عماد وساندرا وهو يشعر بوحدة قاتلة بدونه ، وتلك الحالة من الحزن التى خيمت على المنزل بعد فقدان حياء لشقيقها ، جعلت الجميع يشعورن بالحزن من أجلها ، لذلك أول ما لجأ إليه لنسيان ما يعتريه من فتور وملل وحزن هو أن يعزف الموسيقى ، وطوال عزفه كان يشعر بأن تلك الفتاة التى رآها مرة ومازال متذكراً إياها كأنها تجلس معه فى الغرفة ، فتاة يصعب نسيانها بسهولة ، فتلك الغرفة أصبح يتخذها ملاذاً له بعيداً عن روائح الغرام التى كانت تفوح من غرف ذلك القصر ، ففى هذه الغرفة يستطيع أن يكون على سجيته لينسج احلاماً بفتاة ربما لن يلتقى بها مرة أخرى ، فنظر أدم إلى صورته المنعكسة فى المرآة ، وبدا له كأنه ينظر لشبح يشبهه وليس ذلك الشاب الذى حفلت حياته بالموسيقى والغناء والفتيات ، وها هو جالساً وحيدًا إذ أنه لن يكون من المقبول لدى تلك العائلة أن يظل مغنياً ، ورغم أن لا أحد تحدث معه بهذا الأمر ، إلا أنه فطن إليه منذ أن سلمه والده مهام العمل وتحول من شاب مرح يقضى معظم أوقاته فى الملاهى الليلية والحانات ، إلى رجل مسئول عن إدارة مجموعة من الشركات ، فتوقف عن عزف الموسيقى بهدوء وترك الجيتار ومن ثم فكر فى الخروج من المنزل ولا يعلم إلى أين يذهب فى هذا الوقت المتأخر من الليل ، ولكنه لم يفكر طويلاً إذ ذهب لتبديل ثيابه
– طب أنا هروح فين دلوقتى ؟
طرح ذلك السؤال على نفسه ما أن وصل لسيارته المصفوفة فى المرآب الكبير ولكنه لم يتردد فى قيادتها ليخرج من البيت ، وما أن وصل للشارع ظل يقودها على غير هدى لا يعلم له وجهة محددة ليصل إليها ، ولكن جذب أنظاره أضواء مقهى صاخب ربما رواده من الشباب والمراهقين ، فصف السيارة وخرج منها ومن ثم ولج للداخل ، وتحققت ظنونه من أن من يرتاد هذا المقهى مجموعة من الشباب والمراهقين الذين ربما تسللوا لخارج منازلهم من أجل قضاء وقت ممتع برفقة أصدقاءهم
جلس أدم على مقعد طويل حول طاولة مستديرة ، وما أن جاءه النادل ليسأله عما يريده ، فكر فى البداية إحتساء تلك المشروبات الكحولية التى كان معتادًا عليها قبل مجيئه للإسكندرية ، ولكنه عدل عن الأمر وطلب منه أن يأتى له بمشروب من مخلوط الفواكهة الطازجة ، وما أن أتى له النادل بما أراده هتف أدم قائلاً بلطافة :
– شكراً
ما كاد يبدأ فى إحتساء مشروبه حتى سمع صوت صيحات لمجموعة من الشباب والبنات ويبدو عليهم أنهم يحتفلون بمناسبة خاصة أو ربما يلعبون، فصاح شاب قائلاً بصوت مرح :
– يلا بقى يا ليليان ده دورك وهنحكم عليكى أنك تغنيلنا أغنية
رفعت تلك المدعوة ليليان ذراعيها كأنها بصدد تحية الجمهور الغفير حولها ، ومن ثم قالت ضاحكة :
– أصدقائى الأعزاء لو أنا غنيت وخلصت أتمنى صاحب الكافيه ميرمناش برا أو يطلبلنا البوليس
ما أن أمعن أدم النظر فى وجه تلك الفتاة ، حتى سقطت يداه بجوار الكوب على الطاولة ، لا يصدق أنه عاد ورآها مرة أخرى ، تلك الفتاة التى أطلق عليها ” فتاة البروفة ” ولكن هذا ما لم يشعره بالصدمة والدهشة فقط ، بل ما ترتديه من ثياب لا تمت بصلة لتلك الثياب التى رآها بها أول مرة ، إذ أن بنطالها الجينز الضيق ملتصق بها على الرغم من أنها نحيلة القوام ، وترتدى بلوزة بدون أكمام تاركة ذراعيها عاريين ، وشعرها الأسود تلملمه بجديلة وضعتها على أحد كتفيها
فغمغم أدم بإندهاش ومازالت علامات الصدمة متجلية على قسمات وجهه :
– معقولة هى دى البنت اللى شوفتها ، ولا أنا اللى بقيت أتخيل كل بنت أشوفها إنها هى
بدأت ليليان بالعزف على الجيتار الذى ناولها إياه أحد أصدقاءها ، ومن ثم عم الصمت والسكون فى المقهى وبدأت الغناء ، وأرتفعا حاجبى أدم بدهشة إذ أنها أنتقت أحد أغانيه الشهيرة والتى لقت رواجاً واسعاً عندما غناها أول مرة ، ولم يكن يعلم أنه مازال صدى تلك الاغنية يتردد بين الجماهير وخاصة العرب
– صوتها حلو وهى جميلة
اسند أدم مرفقه للطاولة وأسند ذقنه لكفه المضموم وهو يستمع إليها بإنتباه ، وظل يحرك رأسه إعجاباً بمهارتها فى الغناء وأثنى عليها بقرارة نفسه من أنها حقاً ماهرة ولديها موهبة رائعة فى الغناء
أنتهت ليليان من العزف والغناء وأنهال عليها أصدقاءها بالثناء وظلوا يصفقون إعراباً لها عن مدى إستمتاعهم بغناءها وعزفها ، فوضعت الجيتار من يدها ورغبت فى الذهاب للمرحاض ، ولكن أثناء سيرها إصطدمت بذراع أدم وهو جالساً ولكن ما أن نظرت فى وجهه عرفته على الفور
فصاحت بدهشة وعدم تصديق لما تراه :
– معقولة إنت !
لم تكتفى بعبارتها القصيرة ، إذ إلتفتت خلفها وصاحت منادية لأصدقاءها :
– تعالوا تعالوا شوفوا مين هنا فى الكافيه
ظل أدم ينظر حوله وهو يرى الجميع ينظرون إليه كأنها قامت بضبط مجرم تبحث عنه الشرطة ، فالنظرات تحمل ألف سؤال وتخيل لصياح تلك الفتاة معلنة عن أنها وجدته
وما أن وصل إليها أصدقاءها ، راحوا جميعهم يسألونها عما وجدته ، فأشارت بيدها لأدم وقالت كأنها أحرزت نصراً :
– أنتوا مش عارفين مين ده ، ده أدم جوزيف اللى كنت بغنى أغنية ليه من شوية
قال أحد اصدقاءها كأن ما تقوله ما هو إلا محض توهم منها :
– شكل دماغك لسعت من كتر ما بتحبى أغاني المطرب ده ، سلامة عقلك ، هو إيه اللى هيخليه يجى هنا وهو أساساً عايش فى فرنسا
فتحت عينيها وأغلقتهما عدة مرات ، لكى تتأكد أنها لم تتوهم أنه هو مطربها المفضل ، ولكن وجدت صديقتها تجذب ذراعها وتنظر لأدم نظرة عابرة قائلة بإعتذار :
– إحنا اسفين يا أستاذ هى كده ساعات بتتخيل وبتتوهم
لا يعلم أدم لما أشفق عليها من أقوال أصدقاءها وهم يتهمونها بأنها تتوهم أشياء لا وجود لها ، ورغم أن ليس فى صالحه أن يعلم أحد بشأن أنه هو المطرب الشهير ، إلا أنه وضع حداً لسخرية أصدقاءها منها ، فقال أدم وهو ينظر فى وجوههم تباعاً:
– بس أنا فعلاً أدم جوزيف المغنى
ضحك شاب من الواقفين ووكز صديقه قائلاً بسخرية :
– شكله أدم جوزيف النسخة العربى ، هم مش بيقولوا المطرب ده فرنسى
يبدو أن تصريحه بهويته الحقيقية لن يجدى نفعاً مع هؤلاء الحمقى ، فعاد يحتسى مشروبه بعد أن دعا ليليان أن تجلس برفقته ، فقبلت دعوته على الفور ، وأشارت لأصدقاءها بأن يعودوا لأماكنهم
إبتسمت على نحو مفاجئ قائلة وعيناها تتفرس فى وجهه ، كأنها لا تصدق أنها حقاً قابلته وجهاً لوجه :
– أنا عارفة أنهم مش مصدقين إنك أدم جوزيف ، بس أنا مصدقة ، لأن أنا حافظة كل أغنية من أغانيك ، حتى لما كنت فى فرنسا مرة حضرت حفلة ليك
عندما أراد سؤالها عن سبب عدم معرفتها له أول مرة قابلها بها ، سمع صوت هاتفه ووجد رقم والده ، ففتح الهاتف على الفور ، وقال وهو مازال ينظر لتلك الفتاة التى يبدو عليها كأنها رآت شيئاً أعجبها :
– أيوة بابا فى إيه
قال عاصم وبدا فى نبرته شعور بالقلق :
– أدم أنت فين أنا مش لاقيك فى البيت روحت فين كده
ترك أدم مقعده وابتعد قليلاً عن الطاولة متسائلاً بإهتمام :
– فى إيه بابا ؟ مال صوتك كده
اجابه والده قائلاً بإرهاق :
– غزل فى المستشفى بتولد بس الولادة صعبة شوية وهى تعبانة ، وأنا دورت عليك ملقتكش فقولت اتصل اشوفك فين ، إحنا هنا فى مستشفى راسل
– تمام بابا جاى حالاً
نطق أدم بعبارته وهو يأخذ مفتاح سيارته واعتذر من الفتاة وهرول بسرعة حتى خرج من المقهى ووصل إلى سيارته التى قادها حتى وصل لمشفى راسل ، ومن ثم ركض للداخل حتى وصل إلى حيث ينتظر والده وعمته سوزانا وعمران ومعتصم وتغيبت حياء عن حضور ولادتها نظرا لسوء حالتها النفسية بعد موت شقيقها
فأقترب من أباه الذى جلس منحنياً واضعاً رأسه بين يديه ويشعر بالخوف على زوجته ، ربت على كتفه وقال محاولاً أن يبتسم له بتشجيع :
– متقلقش بابا هى والبيبى هيبقوا كويسين
شد عاصم على يد أدم قائلاً بتمنى :
– يارب يا أدم يارب ، الدكتورة بتقول الولادة صعبة وأنا خايف على غزل
ظل الترقب قائماً طوال الليل حتى وضعت غزل صغيرها فى تمام الساعة السادسة صباحاً ، ومثلما خرجت ميس حاملة إبن معتصم وولاء ، خرجت حاملة لإبن خالها والذى يشبه والدته كثيراً ، فوضعته بين ذراعىّ والده ، الذى اغرورقت عيناه بالدموع ، بل صارت نشيجاً ما أن سمح لها بأن تفر من بين أجفانه
قبل الصغير ومن ثم رمق ولده الكبير قائلاً بحنان :
– خد يا أدم ده أدهم أخوك مش هيبقى اخوك بس عايزك تبقى اخوه وأبوه كمان وتحبه وتخاف عليه
رق قلب أدم لقول والده ، فأخذ منه الصغير ، وظل يقبل وجنتيه وجبينه كأنه لا يصدق أن أباه منحه ذلك الإمتياز بأن يساهم فى تربية شقيقه ، فقال وهو يبتسم :
– هيبقى شاب وسيم
ما أن أنتهى جميع الحاضرين من تقبيل الصغير وتقديم عبارات التهنئة ، أخذ عاصم الصغير وولج لتلك الغرفة التى ترقد بها زوجته ، فوضعه بين ذراعيها قائلاً بحب:
– حمد الله على السلامة يا حبيبتى ، أنا كنت خايف عليكم أوى عليكى يا غزل
ضمت صغيرها إليها وقالت بوهن :
– الحمد لله عدت على خير يا حبيبى
إجتاحها شعور عارم بالحب والحنان تجاه صغيرها ، ذلك الشعور الذى لا يعادله أو يوازيه شعور أخر ، وما أن أنقضت تلك الأيام القلائل التى أقامتها فى المشفى نظراً لإرهاقها الناتج عن ولادة الصغير ، عادت غزل إلى المنزل ووجدت حياء فى إنتظارها ورحبت بعودتها ، بل أنها قامت بتزيين تلك الغرفة الخاصة به ، تعبيراً عن سعادتها وعن اعتذراها لعدم تمكنها من حضور ولادته ، ولكن غزل تفهمت حالتها النفسية ، وشكرتها على ما فعلته من أجل الصغير ، فأخذته حياء منها وتفرست فى وجهه الجميل وغامت عيناها بدموع الفرح والسرور من أجلها ، وعادت تتمنى لو أن يهبها الله طفلاً يشبه قطعة الحلوى ، كذلك الذى تحملها بين يديها ، فإبتهلت غزل لله بالدعاء أن يمن عليها هى الأخرى بالذرية الصالحة ، فأعادت حياء الصغير إليها ومن ثم ذهبت لتوصى الخادمة بأن تعد لها الطعام ، وما أن ولجت غزل لغرفتها أقترحت على زوجها أن يرجئ أمر إقامة حفل السبوع لصغيرهما بضعة أشهر مراعاة لشعور حياء والتى لم تتخلص بعد من حدادها على شقيقها ديفيد ، فوافق عاصم وفكر أن يقيم فى وقتها حفلاً ضخماً من أجل الصغير ، لعل ذلك الحفل يعيد السعادة للمنزل بعدما خيم الحزن على بعض ساكنيه نظراً لذلك الحدث المؤسف الذى حدث مؤخراً
❈-❈-❈
وقفت هند فى غرفة نومها وراحت تتطلع من النافذة وهى تقضم أظافرها بلا وعى ، فما أن بدأت بترك الفراش بعدما سمحت لها الطبيبة فى أن تتنقل فى الغرفة مثلما تريد مع بعض الحذر ، لأنها أصبحت على وشك وضع طفلها ، وهى لا تصدق أن أشهر حملها مرت بسرعة هكذا ولم يتبقى إلا القليل وترى صغيرها ، فوقفت قريباً من النافذة لعلها ترى زوجها عائداً من الخارج ، إذ أنه اليوم تأخر عن موعد عودته للمنزل أكثر من ساعتين ، ولا يجيب على إتصالاتها ، فأرادت أن تصرف عقلها عن التفكير بأى شئ سيعكر من صفو مزاجها ، فظلت تتأمل حديقة المنزل على أضواء الإنارة المنتشرة بها ، فهذا المنزل ولدت ونشأت وترعرت فيه ، وها هى ستنجب طفلها هنا أيضاً ، فدائماً ما كان لهذا المنزل مكانة خاصة لديها ، خاصة حجراته الواسعة والمريحة ، وتصميمه الجذاب ، وما أن أكتفت من تذكر ماضيها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، تطلعت إلى نقوش الزهور المتناثرة فى ثوبها ، فإبتسمت تلقائياً لأن من أهداها هذا الثوب هو زوجها كرم ، كهدية لها لبدأه العمل فى تلك المدرسة التى إشتراها له والدها ، فعادت إلى الفراش فى تراخ بدون أن تحدوها الرغبة فى أن تظل واقفة أمام النافذة ، وجلست هند صامتة على الفراش والحيرة تتجاذبها ، وتتساءل هل زوجها بخير أم حدث له شئ عرقل أمر عودته للمنزل ؟
– أنت فين كل ده يا كرم ؟
تساءلت فى قرارة نفسها ، محاولة إيجاد سبب لتأخره هكذا ، ولكن فى ذلك الوقت وصل إلى سمعها صوت والدتها وهى تضحك مع كرم أتياً من الطابق الأول ، فوضعت يدها على صدرها وتنفست براحة ، وماهى إلا لحظات حتى وجدته يلج الغرفة حاملاً العديد من الحقائب البلاستيكية
وضع ما بيده على الأريكة وأقترب منها يقدم لها اعتذاره عن عدم إجابته على اتصالاتها الهاتفية المتكررة ، فقبل جبينها قائلاً بوداعة دائماً ما تجعلها تغفر له :
– أسف يا حبيبتى إن أتأخرت عليكى ومعرفتش أرد على التليفون
نظرت هند للحقائب الموضوعة على الأريكة ومن ثم عادت ببصرها إليه وتساءلت :
– إيه الشنط دى كلها ، وفيها إيه
خلع كرم عنه سترته الأنيقة ووضعها على طرف الفراش ، ومن ثم بدأ بفتح الحقائب وأخرج منها ثياب للأطفال ، وقعت هند فى غرامها على الفور ، وأبتهجت نفسها بأن زوجها أشترى كل هذا من أجل طفلهما القادم إليهما في وقت ليس بالبعيد
فأخذت أحد الأثواب تتأمله قائلة بإبتسامة حب :
– الله يا كرم دى هدوم البيبى شكلها يجنن أنا حبيتها أوى أوى ، تعيش وتشترى يا حبيبى
أهداها قبلة على وجنتها ورد باسماً :
– تسلميلى يا حبيبتي ، بس مش ده بس اللى أخرنى ، فى مفاجأة كمان
أتسعت عينيها بحماس كبير فى إنتظاره أن يبوح لها بالمفاجأة الأخرى ، فوجدته يخرج من الغرفة ونادى خالته ، التى جاءت هى والخادمة التى حملت قالب حلوى تم الكتابة عليه ” عيد زواج سعيد ” فشهقت بسعادة فهى لم تكن تتذكر أن اليوم هو يوم ذكرى زواجهما
وضعت الخادمة قالب الحلوى من يدها وخرجت من الغرفة وأنضم إليهم والد هند بعد عودته من عمله ، ففتح ذراعيه وقال باسماً:
– كل سنة وأنتم طيبين يا حبيبة بابا وعيد جواز سعيد عقبال احتفالكم بالسنة الـ ١٠٠
قبلت أباها وطوقته بذراعيها وهى دامعة العينين من فرط شعورها بالسعادة ، ومن ثم نظرت لزوجها وهمست له ” كل سنة واحنا مع بعض يا حبيبى ”
قاما بتقطيع قالب الحلوى وبعد أن إستحسنوا مذاقها الطيب ، أخذ والدها والدتها وخرجا من الغرفة تاركين هند وكرم بمفردهما فالإحتفال خاص بهما كزوجين ، وربما كل منهما فى حاجة لأن يعرب عن سعادته لنصفه الأخر فى تلك المناسبة السعيدة
– عيد جواز سعيد يا حبيبتى
قالها كرم باسماً وكم بدا جذاباً فى تلك الثياب الأنيقة والثمينة التى أصبح يرتديها فى الأونة الأخيرة ، فهى من أوصت بشراءها من أجله معللة أنه الآن مديراً وصاحب مدرسة تعليمية لا يرتادها سوى أبناء صفوة المجتمع السكندرى ، لذلك لابد له من أن يكون على قدر كافِ من الأناقة والمظهر الحسن ، ولكنها أحياناً كثيرة تشتعل الغيرة بقلبها من علمها أن هناك نساء أخريات سيرونه بوسامته وأناقته ورماديتيه اللتان تسهمان فى جعل قلبها يخفق بقوة ما أن يقع بصرها عليه ، ولا ضمان لديها سوى علمها بأخلاقه الرفيعة وأنه ليس بالرجل الذى يستهوى رؤية النساء أو إصطحابهن
أخذ من قالب الحلوى وقربته منه لتطعمه قائلة بنبرة صوتها الحنون :
– وأنت طيب يا حبيبى وعيد جوازنا اللى جاى يبقى ابننا معانا إن شاء الله
بعد إنتهاءهما من تناول الحلوى ، ذهب كرم للمرحاض فسمعت هند صوت رنين هاتفه ، فأخذته لتعلم من المتصل به في هذا الوقت ، فوجدت رقماً دون إسم ، ففتحت الهاتف قائلة بصوت هادئ :
– ألو مين معايا
جاءتها الاجابة من صوت أنثوى جاد:
– حضرتك مش ده تليفون مستر كرم
اجابتها هند قائلة بضيق بعد سماع صوتها :
– أيوة ده تليفونه وأنا مراته مين حضرتك
ردت السيدة قائلة بهدوء :
– أنا ميس فريدة وكنت عايزة أكلمه بخصوص المشكلة اللى حصلت النهاردة بين أتنين من الطلبة ، أنا ملقتهوش فى مكتبه فقولت اتصل عليه علشان نحل الموضوع لأن الولدين اللى اتخانقوا مع بعض كل واحد فيهم متوعد للتانى وشكلهم ناويين يعملوا مشاكل تانى
فكرت هند فى حديثها ولا تعلم هل تقول الحقيقة أم أن ذلك لم يكن سوى حجة منها لتتحدث مع زوجها ، إلا أنها حافظت على هدوءها للأخير وردت قائلة بتجهم :
– هو حضرتك دلوقتى مش جمب التليفون انا هبلغه باللى قولتيه وهخليه يكلمك
أنهت المكالمة وخرج كرم يجفف وجهه بالمنشفة ، فبدأت هجومها مبكراً ، إذ أنتفضت من مكانها قائلة بغيرة عمياء :
– هى مين ميس فريدة دى كمان اللى بتكلمك على تليفونك
وضع كرم المنشفة من يده وقطب حاجبيه قائلاً بدهشة طفيفة :
– ميس فريدة ! هى كلمتنى على تليفونى دلوقتى ؟
– أيوة وبتقول أنها بتكلمك علشان مشكلة الولدين اللى اتخانقوا مع بعض فى المدرسة ، حجج فارغة
قالت هند بتبرم وإستياء وهى تعقد ذراعيها ، بل أنها أشاحت بوجهها عنه
ضحك كرم بصوت عالى وهو يرى علامات ودلائل الغيرة على محياها ، فإمتعضت من كونه يضحك ولا يأخذ الأمر بجدية ، فأقترب منها وقبض على كتفيها وهزها برفق قائلاً بلين :
– ملهاش لازمة غيرتك دى ، ميس فريدة هى وكيلة المدرسة دا غير أنها ست عمرها معدى الخمسين سنة وأصغر اولادها فى الكلية ، يعنى دى ست فى سن أمى تقريباً يا ست الغيرانة
أدركت حماقتها وسوء ظنها ، فإبتلعت لعابها وحاولت أن تقول شيئاً ، إلا أنه ضمها إليه مستطرداً:
– مش عايزك فى يوم تفكرى إن أنا ممكن أبص لواحدة غيرك ، ماشى ياهند
تنهدت وقالت باسمة :
– عيزاك على طول تقولى الكلام الحلو ده
ولكن قبل أن يفه زوجها بكلمة لم تعد تستطيع الوقوف أكثر بدون أن تضع يديها على مكان الألم في ظهرها ، والذى بدأت تشعر به منذ نهوضها من نومها ولكنها لم تعطى الأمر أهمية كبيرة إذ اخبرتها الطبيبة أن ميعاد وضعها ربما بعد أسبوع أو أكثر
شعرت هند بالتعب أكتر وقالت بألم :
– ااه
كان كرم يراقب حركاتها فتقدم منها أكثر وأزاح يدها من على ظهرها وسألها بقلق:
– مالك يا حبيبتى أنتى تعبانة ولا ايه
هزت رأسها وتسارع تنفسها قائلة وهى تنظر إليه :
– أنا مش عارفة ايه الوجع ده بس شكلى كده هولد يا كرم
شعر كرم بالجنون وهند شعرت برغبة قوية بالضحك وهى تراه يخرج من الغرفة ينادى خالته وزوجها وسرعان ما عاد إليها ، فأجلسها على طرف الفراش لحين أن يأتى بتلك الحقيبة التى أعدتها مسبقاً من أجل إذا داهمها ألم المخاض فى أى وقت ، ولكنها زاد ألمها وراحت تاخذ تنفساً قصيراً عدة مرات لتخفيف الألم ، ولكن شحب وجه كرم أكثر من وجهها ولكنها حاولت طمئنته بأن الأمر طبيعى ، وماهى إلا دقائق حتى ذهبوا جميعهم إلى المشفى ، ووضعت هند مولودها وشعرت بالفخر والإرتياح وهى تتلمس وجنتيه المزهرة وتتلمس شعره القاتم
رفعت رأسها ونظرت لزوجها وتمتمت بإبتسامة واهنة ممازحة :
– هو طالع شبهك ليه ؟ المهم هنسميه إيه ؟ إحنا مخترناش له اسم محدد
اجابها بلطف وقد انحنى يتطلع إلى الطفل قائلاً بسعادة :
– هنسميه كريم ، بس بجد هو شبهى ؟
ربتت خالته على كتفه ودمعت عيناها وهى ترى حفيدها الأول :
– ألف مبروك ويتربى فى عزكم ، حبيب قلب تيتة
أخذته من جوار هند ووضعت بين ذراعىّ زوجها ، الذى لم يستطع منع دمعاته التى تجمعت فى مقلتيه ، فقبل جبين الصغير :
– حبيب جدو ، حمد الله على السلامة يا حبيبة بابا ، دا أنا هعمله سبوع إسكندرية كلها هتتكلم عنه
طغى شعور عارم بالسعادة على وجوههم ، ولم يكن بإمكان هند نكران شعورها الجميل بالأمومة عندما ضمت الرضيع إلى صدرها ، وكان كرم يراقبها وعلى وجهه علائم الرضى ، وبعد يومين بدأت هند تنهض وتسير ، رغم أن كرم توقع أنها ستبقى فى الفراش بضعة أيام أخرى ، إلا أنه شعر بالطمأنينة ما أن رآها تسترد رونقها وبهاءها بعد تجربة الولادة التى حتماً أصابتها بالإنهاك والإرهاق ، وبعد أسبوع كان منزل والدها يضج بالصخب احتفالاً بالصغير ، وكانت هند وصغيرها بحالة جيدة ، وشعرت بالسعادة لوجود والدتها ومساعدتها لها ، فهناك الكثير من متطلبات الرضيع ، وهى ليس لديها الخبرة الكافية لاعتناءها به خاصة أنه طفلها الأول ، وكان الأمر مضنياً بعض الشئ ، خاصة أن الصغير يستيقظ فى أوقات متأخرة من الليل ولا يدعها تنال راحتها إلا أوقات قليلة ولا تنام أكثر من ثلاث ساعات متواصلة ، ولكن كرم لم يتردد فى أن يقترح عليها توظيف مربية لمساعدتها ، ولكن اشترطت هند أن تكون المربية إمرأة كهلة فهى لن تغامر ثانية فى أن تجلب خادمة أو مربية مازالت شابة ، فيكفى ماحدث من تلك الخادمة ، التى لولا أبيها لم تكن تعلم إلى أى مدى كان من الممكن أن يصل خطرها إليهما ، وما أن حصل زوجها على موافقتها بحث عن مربية بتلك المواصفات التى وضعتها زوجته حتى وجدها فى الأخير ، وشعرت هند ببعض الراحة من أنها صارت بإمكانها النوم فترات أطول ورغم ذلك هى لا تدع طفلها يفارقها وكم من مرة إبتسمت على تبرم زوجها الواهى فى أنها صارت تفضل الصغير عليه ، ولكنها كانت ماهرة وبارعة فى أن تجعله يتيقن من أن حبها له لن يخف حتى لو إمتلكا دزينة من الأطفال
❈-❈-❈
بعد بضعة أشهر من تلك الواقعة والتى تركت أثراً نفسياً عميقاً داخل قلبها ، إذ لم يكن ديفيد فقط إبن عمها بل بمثابة شقيقها ، كانت بيرى تهبط الدرج فى تلك البناية المملوكة لعائلة زوجها ، كانت الشمس تضئ تلك الأمسية ، وكانت تعلم أنها تبدو جميلة وخاصة فى ثوبها الطويل الأسود والذى حرصت أن يكون محتشماً لكى يخفى أثار حملها عن أقرب العيون ، والتى بدأت فى الظهور عليها فى وقت مبكر كأنها تحمل العديد من الأجنة ولكن يبدو أن تؤاميها سيأتيان بصحة وفيرة ، نظرت للأسفل وجدت زوجها ينتظرها عند مقدمة الدرج ، كان يبدو نحيفاً وجذاباً يرتدى سترة غامقة اللون ، نظر إليها نظرة نافذة ومد يده لها بإبتسامة ، فوضعت يدها فى كفه الدافئ وأكملت الباقى من الدرج ، حتى صارت تقف قبالته ، فمنذ ذلك اليوم الذى ذابت به الخلافات بينهما وهو عاد إليها ذلك العاشق الذى عرفته بماضيها ، ولم يعد يدخر جهداً فى أن يظهر لها حبه وتعلقه بها ، وها هى تحمل ثمرة ليالى عشقهما ، فبعد وفاة ديفيد عانت من حالة نفسية سيئة أصابتها بالإعياء ، لتكتشف بعد ذلك أنها حامل ، وربما علمها بأنها ستصبح أم بعد بضعة أشهر ، هذا ما خفف عنها حزنها العميق ، فخرجا من البيت ، وأشار عبد الرحمن لسيارة أجرة ، رغم أن سيارتها مصفوفة أمام المنزل ، ولكنه شدد أوامره لها بعدم قيادتها خاصة بحالتها تلك ، فأعطى السائق عنوان عيادة الطبيبة ، إذ أن اليوم هو يوم معاينتها الشهرية
تطلعت إليه بنظراتها الدافئة والوديعة وقالت باسمة :
– حبيبى بعد ما نخلص مشوار الدكتورة ، هروح مع حياء نزور ياسمين علشان نطمن عليها
أماء عبد الرحمن برأسه موافقاً وقال بعدما أسر يدها بين كفه :
– ماشى يا حبيبتى ولما ترجعى من مشوارك اتصلى عليا علشان عندى مشوار مع جوز أختى
بعدما تم الاتفاق بينهما على خططهما المسائية ، ظلا يتحدثان لحين تنتهى المسافة من المنزل لعيادة الطبيبة ، وما أن وصلا وترجلا من السيارة ، قالت بيرى بعفوية قبل أن تلج للداخل :
– نفسى ييجى الوقت اللى أعرف نوع التؤام إيه ، وأه لو يبقوا بنوتة وولد
إبتسم عبد الرحمن قائلاً بحب :
– بس أنا عايزهم بنوتين ويبقوا شبهك يا بيرى
ضيق عينيه ومن ثم قال مستطرداً:
– بس مش عايزيهم بأمور الجنان بتاعتك اللى خلتك فضحتينى فى القاعة وقولتى إنك حامل منى علشان تبوظى الجوازة
وضعت بيرى شعرها خلف أذنها قائلة بزهو وفخر :
– دى أول حاجة هعلمهالهم أنهم ميسبوش حقهم ، وأنت يا حبيبى كنت حقى إزاى كنت عايزنى أتنازل عنك لواحدة تانية
مال عبد الرحمن برأسه إليها هامساً :
– هو أنا النهاردة قولتلك إن أنا بحبك
هزت بيرى رأسها سلباً وقالت وهى تمط شفتيها ببراءة ممازحة:
– لاء مقولتليش خالص يا أبو قلب قاسى
فغر عبد الرحمن فاه قائلاً وهو متصنعاً الدهشة :
– يا خبر دا أنا فعلاً معنديش قلب
– شوفت بقى
نطقت بها بيرى وهى تحكم وضع يدها فى يده ومن ثم ضحكا حتى تذكرا أنهما مازالا أمام العيادة الطبية ، ولكن ربما حديثهما اللطيف والودى أنساهما ما جاءا من أجله ، وما أن تذكرا أكملا طريقهما للداخل
–أهلا بيكم أتفضلوا
رحبت الطبيبة بقدومهما ومن ثم دعتها لأن تستلقى على سرير الفحص لتبدأ عملها بالأشعة التلفزيونية ، وكلما تطلعت بيرى لتلك الشاشة والتى بدأت فى عرض طفليها تبتسم وتنظر لزوجها الواقف بمكان ليس ببعيد ولكن بإمكانه رؤيتهما بوضوح
أنهت الطبيبة فحصها لها ونهضت بيرى تزيل أثار تلك المادة اللزجة التى تم وضعها لها من أجل إجراء الفحص ، فقالت الطبيبة بإبتسامتها البشوشة :
– كل شئ تمام يا مدام بيرى وأنا هكتبلك على فيتامينات علشان تساعدك مع نظام الاكل بتاعك وإن شاء الله الحمل يتم بخير وتقومى بالسلامة
جلست بيرى على المقعد قبالة زوجها وسألت الطبيبة بلهفة :
– هو أمتى أعرف نوع التؤام إيه يا دكتورة
رآت الطبيبة لهفتها الواضحة ، فردت قائلة بهدوء :
– لسه شوية يا مدام بيرى على ما نعرف نوع الجنين ، هو لسه الحمل فى الشهور الأولانية ، بس من خبرتى ممكن أقولك أنك حامل فى تؤام ولدين
زادت إبتسامة بيرى اتساعاً بما قالته الطبيبة ، رغم أنها كانت تريد صبى وفتاة ولكن طالما ستتحقق نصف أمنيتها ، فهى ممتنة لذلك ، فرمقت زوجها بإبتسامة ، بادلها بأخرى أشد حلاوة ، على العلم أنه كان يتمنى أن يرزقه الله بفتاتين ولكن إذا كانت تلك إرادة الله فهو حامداً شاكراً لنعمته عليه
خرجا من عيادة الطبيبة ، فوجدت حياء فى انتظارهما فى الخارج جالسة فى سيارتها ، فاستأذن عبد الرحمن للذهاب وصعدت بيرى إلى السيارة التى قادتها حياء لتذهبان كالعادة إلى منزل ياسمين للإطمئنان عليها وتفقد أحوالها تنفيذا لوصية ديفيد
انتبهت بيرى على شرود وصمت حياء ، فربتت على ذراعها وسألتها باهتمام بالغ:
– مالك يا حياء فى إيه ؟
حاولت حياء أن تبتسم إلا أنها لم تفلح في فعل ذلك ، فردت قائلة بشفقة :
– النهاردة روحت أشوف مارجريت وأطمن عليها ، لقيت حالتها صعبة وعمالة تخطرف بكلام مفهمتش منه حاجة ، الظاهر موت ديفيد أثر على عقلها ، شكلها بقت محتاجة تروح مصح نفسى
قطبت بيرى حاجبيها وتساءلت:
– كانت بتخطرف بتقول ايه ؟
ركزت حياء بصرها على الطريق وقالت بعدما مطت شفتيها:
– أنا مفهمتش أوى معنى كلامها بس اللى فهمته إن فى واحد عيزاه يرجع ، وأن وقته خلاص جه ، بس هو مين ويرجع منين مفهمتش حاجة خالص
قضمت بيرى ظفرها وقالت بعدم فهم :
– هو مين ده ؟ بس جايز بتقول كده من صدمتها وأنها قصدها على ديفيد ، هو موته وجعنا كلنا ، وشكل مارجريت محتاجة دكتور فعلاً أنا هشوف الموضوع ده
ما أن وصلتا لذلك الحى الواقع به منزل أسرة ياسمين ، ترجلتا من السيارة وحملت حياء تلك الاشياء التي ابتاعتها من أجلها وأجل تلك الصغيرة الحاملة لها فى أحشاءها ، إذ علموا أنها حامل في فتاة ، ولم يتبقى الكثير حتى تأتى إلى هذا العالم
وما أن دقت الباب فتحت لهما والدة ياسمين ورحبت بقدومها ونادت إبنتها من غرفتها ، فخرجت منها وذهبت لغرفة المعيشة وإبتسمت لهما مرحبة بمجئ حياء وبيرى ، فقالت وهى تشير لتلك الأغراض الموضوعة على المنضدة :
– مكنش فى داعى تتعبوا نفسكم كده وتجيبوا كل الحاجات دى
ردت حياء باسمة وقالت بحنان :
– دى حاجة بسيطة يا ياسمين ، عقبال ما تقومى بالسلامة إن شاء الله
قالت بيرى هى الأخرى باسمة :
– أنتى بقيتى غالية عندنا ولسه كمان الصغنونة اللى جاية فى السكة دى هتبقى حبيبة عماتها ريا وسكينة
أشارت بيرى لنفسها ولحياء ، فرغماً عنهن ضحكن لمزحتها ، وجلبت لهن والدة ياسمين مشروبات مرطبة وظللن يتحدث عن أحوالها وعمل ياسمين كمهندسة ديكور ، إذ بعد شهر من وفاة زوجها أقترح أباها أن تعود لعملها لعلها تجد شئ يلهيها عن التفكير وتأنيب ضميرها ، ولكن نظراً لإقتراب موعد وضعها لطفلتها أخذت إجازة من عملها
ولكن سمعن صوت جرس الباب وهن جالسات فى غرفة المعيشة ، فخرج أباها من غرفته ليرى من الطارق ، ففتح الباب وجد رجلاً ذو شعر أسود حالك ويرتدى نظارة طبية ذات إطارات عريضة فقال بإبتسامة بشوشة كعادته :
– أيوة حضرتك خير
تسائل ذلك الزائر بإحترام :
– حضرتك ده بيت الباشمهندسة ياسمين مهندسة الديكور ؟
رد والدها قائلاً بهدوء :
– أيوة ده بيتها ، تبقى مين حضرتك ؟
❈-❈-❈يتبع…
ج٢-٢٩-” إنها معنى حياتى ”
لا يعلم كم إستلزمه من وقت حتى يعيد التفكير فيما سمعه عبر الهاتف ، فمنذ تلقيه ذلك النبأ الصادم من أن شقيق زوجته قد لقى حتفه فى إيطاليا ، وكأن أحدهم أصاب رأسه بضربة قوية من مطرقة ، فأرتعشت يداه لا إرادياً ، وعمل عقله على تصوير ذلك المشهد بعد أن تعلم حياء بخبر مقتل شقيقها ديفيد ، فبدت عيناه السوداويتين فزعتين غائرتين وقد زاغت نظراتهما ، وكان الوجوم يعكس نفسه بوضوح على وجهه ، فقد كان يضبط أعصابه كى لا ينفجر غاضباً ويتهم ذلك الرجل بأنه يكذب ، وما يقوله ماهو إلا مزحة سمجة وثقيلة ، ولكن ما أن إستمرت المكالمة بينهما وظل حديث الرجل يدور حول كيفية وصول الجثمان للإسكندرية ، ظلت الأفكار السيئة تراوده وترعبه حول رد فعل زوجته ، فحتى بعدما أنهى المكالمة وخرج من مكتبه بسرعة ووصل لسيارته ، تردد فى قيادتها ليعود إلى المنزل ، فزوجته لو حدث لها مكروه لا قدر الله ، فهو لن يسامح نفسه طيلة حياته ، من أنه حمل لها نبأ سيئ كهذا ، لعلمه بمدى رقتها وهشاشتها حتى وإن كانت بارعة فى ممارسة صلابتها فى أشد المواقف السيئة ، ولكن حتماً نبأ كهذا سيحطم شيئاً بداخلها ، فهو قد ذاق مرارة فقد الأخ من قبل عندما توفى شقيقه الأكبر وجدى
– يارب إسترها يارب
دمدم بها راسل مراراً ، فكان السير كثيفاً طيلة الطريق من المشفى للمنزل ، وأكثر من مرة شعر برغبة عارمة لإطلاق صوته بالصراخ فى وجه كل السائقين ورجال المرور ، لكنه لم يفعل ، فقد خيم الصمت عليه وكأنه سارحاً فى أفكار عميقة بعيدة ، فلاشئ يقال الآن ، مجرد الإنتظار والترقب حتى يصل إلى البيت
وما أن وصل إلى المنزل وتوقف بسيارته أمام الباب الداخلى ، خشى أن يترجل منها ويصبح وجهاً لوجه أمام حياء ، فحتماً هى تنتظره الآن ، ولكنه عاد إليها يحمل لها أخبار سيئة ، ولا يعلم كيف سيطاوعه قلبه ولسانه أن يتفوه بتلك الكلمات التى ولا شك ستحطم قلبها
– طب أعمل إيه أنا دلوقتى
غمغم راسل بقلق وحيرة ، فخرج من السيارة وولج للداخل ولكن فكر أن يتحدث مع والده أولاً ، لعله يكون قادراً على أن يسدى له نصيحة فى التخفيف عن زوجته من أثر ذلك الخبر ، فوصل لغرفة المعيشة ووجده يجلس مع أحد رجاله ، ولكن ما أن رآه صرف الرجل وأشار لراسل بالجلوس خاصة بعدما قرأ تعبيرات وجهه المتجهمة
فأسند كفيه لعصاه وسأله بإهتمام:
– مالك كده فى إيه ؟
جلس راسل على المقعد المقابل لوالده ورد قائلاً بعدما أزدرد لعابه :
– النهاردة جالى تليفون من السفارة المصرية فى إيطاليا وبلغونى أن ديفيد أخو حياء مات وشكله ميت مقتول كمان وهيبعتوا الجثة بكرة على هنا علشان تدفن
صعق رياض من ذلك الخبر الذى ألقاه راسل فى وجهه دفعة واحدة ، دون محاولة منه فى أن يمهد له الأمر ، فرد قائلاً بصدمة :
– إيه ديفيد مات مقتول ! دا لو أخته عرفت هيجرالها حاجة ، هتعمل إيه معاها
هز راسل كتفيه قائلاً بيأس :
– والله ما عارف أعمل ايه أو أقولها إزاى ، دا حياء ممكن يجرالها حاجة وده اخوها برضه ، أنا لسه فاكر لحد دلوقتى حالتها لما اتوفى باباها ومامتها اللى اتبنوها ، كانت حالتها النفسية وحشة جدا ، لدرجة انها وقتها اتهمتنى إن أنا شمتان فيها علشان كنت بعزيها وساعتها كانت مش بطيق تشوف وشى ، هيبقى ايه الحال دلوقتى
وضع رياض يده على جبهته كأنه أصيب بالسقم فجأة ، فراسل محق بكل كلمة تفوه بها ومحقاً ايضاً فى مخاوفه من رد فعل زوجته ، فحدق فى وجهه ونقر بعصاه قائلاً بهدوء وروية :
– متقولهاش إنت ، سيبنى أنا أقولها ، أبعت حد من الشغالات يندهلها تيجى على هنا
لم يتردد راسل فى تنفيذ ما قاله أباه ، فظل يرصد الخادمة وهى تصعد الدرج ، كأن كل خطوة فاصلة بينها وبين زوجته ، تجعل ترقبه ومخاوفه يتصاعدان حتى يكاد يشعر بالإختناق ، فعاد لمجلس أبيه فى غرفة المعيشة ، وماهى إلا دقائق حتى وجدا حياء تلج الغرفة بإبتسامتها المشرقة كعادتها
نظرت لزوجها أولاً وتساءلت :
– أنت جيت من المستشفى أمتى ؟ مقولتليش أنك هترجع بدرى النهاردة يعنى
لم يجد راسل الشجاعة أن يبتسم فى وجهها ، فأجابها وهو يحاول ضبط أنفاسه المترقبة :
– هو حصل حاجة خلتنى رجعت بدرى
راودها شعور بالقلق ، ولكن ما أن أشار لها والد زوجها بالجلوس على المقعد القريب منه ، أطاعته على الفور ، فجلست وأنتظرت أن يتبرع أحد منهما فى تفسير ما يحدث ، ولم تدوم حريتها طويلاً إذ سمعت والد زوجها يقول برصانة كعادته :
– حياء يا بنتى أنتى مؤمنة بقضاء الله وقدره ،و السبب اللى خلى جوزك رجع بدرى من المستشفى ، هو السبب اللى هقولك عليه دلوقتى بس أرجوكى حاولى تهدى وتشدى حيلك ، البقاء لله فى أخوكى ديفيد
أنتفضت حياء ما أن سمعت عبارة والد زوجها الأخيرة ، وغمغمت بصدمة :
–– إيه ! ديفيد أخويا مات
إلا أن قدميها لم تتحمل وقوفها المفاجئ فعادت وسقطت على مقعدها ثانية ، وعيناها المتسعتان علقت بهما الدموع التى لم تجرؤ على كسر حاجز أجفانها ، ولكن نظرت لزوجها لعله يقول شيئاً أو يخبرها أن ما سمعته لم يكن سوى ضرب من الجنون وأن شقيقها بخير وأنها هى من توهمت أنه لم يعد على قيد الحياة
على الفور أقترب منها زوجها وجثى على ركبتيه أمامها وهز ذراعيها بلطف لعلها تنطق بأى كلمة عوضاً عن تصنمها المقلق :
– حياء بلاش تعملى فى نفسك كده طب عيطى أو صرخى ، حبيبتى ردى عليا
ولكن لا من إجابة من تلك التى بدت كأنها صماء وبكماء ، فهاهى مخاوفه يراها على أرض الواقع ، فزوجته كأنها فقدت النطق بعد عبارتها التى حملت الصدمة بين طيات حروفها ، والتى خرجت من فمها بثقل كأنها لن تكون قادرة على قول أى كلمة أخرى ، بل الوصف الأقرب والأدق لما يراه أنها أضحت كأنها فقدت الحياة وصارت تمثالاً حجرياً لم تدب به الروح إلا فى عينان تذرفان الدموع دون توقف
رآى رياض أنه من الأنسب أن يترك لهما الغرفة ، خاصة أن ربما رد فعلها بعدما تفيق من تلك الصدمة لن يصح أن يراها أحد بحالتها تلك إلا زوجها ، فخرج من غرفة المعيشة وهو فى نيته أن يرسل فى طلب عاصم من أجل تلك الاجراءات الواجب اتباعها فى الغد عند إستلام جثمان ديفيد ودفنه وما يليه من أمور العزاء خاصة أن الجميع بات يعلم بشأن أنه أعلن إسلامه قبل وفاته
– حبيبتى ردى عليا
نطق راسل بإستجداء وعاد يهز ذراعيها لعلها تخرج من حالة البلادة التى جعلتها تكتفى بالتحديق فى وجهه دون أن تنبس ببنت شفة
ولكنها لم تستطع التفوه سوى بعبارة حملت كل معانى الألم الذى يمكن أن يشعر به كل من يفقد عزيزاً:
– أخويا مات ، يعنى اللى كان فاضلى من ريحة أهلى راح خلاص هو كمان
هو خير من يعلم مدى الشعور بالألم والشقاء لفقد الأشقاء ، فهو سبق له تلقى نبأ جعله يشعر بأن لا أحد على وجه الأرض لن يستطيع أخذ تلك المكانة التى تركها أو أن أحد سيستطيع محو تلك الندبة التى تركت أثراً مازال محفوراً على جدران قلبه ، رغم أن من يراه يظنه صلباً صلداً بمشاعره تجاه الآخرين
رفع يده ومسح تلك الدمعة التى كادت تلحق بما سبقوها من دمعاتها الغزيرة ، فقال بإشفاق على حالتها :
– دا أمر الله يا حياء والموت علينا حق ، حاسس بوجعك دلوقتى ، بس عارف كمان أنك مؤمنة وعارفة أن لا رد لقضاء الله ، وديفيد ….
كف راسل عن الحديث عندما تذكر حديث الرجل معه عبر الهاتف وذكر أن ديفيد ترك رسالة من أجل زوجته ، فسألها وهو مقطب جبينه يفكر فى حيرة بشأن من تكون تلك زوجة ديفيد التى لا يعلمون عنها شيئاً :
– حياء هو أخوكى اتجوز أمتى ؟ أو مين هى مراته دى عندك علم بالحكاية دى ؟
رغم صدمتها بسماع خبر وفاة شقيقها ، إلا ما أن سمعت سؤال زوجها حملقت فى وجهه وقالت بدهشة :
– ديفيد كان متجوز ! أنا معرفش حاجة عن الموضوع ده ، بس أنت عرفت إزاى
قص عليها راسل ما ذكره ذلك الرجل من ترك ديفيد رسالتان على أقراص مدمجة احدهما خاصة بها والاخرى بزوجته ، وأن تلك الرسائل ستصل فى الغد أيضاً ترافق جثمانه المغدور
– ااااااااه يا راسل ، قلبى مبقاش قادر يتحمل كل اللى بيحصلى ده
صاحت حياء ولم تكف عن ذرف الدموع ، بل أنها سقطت جاثية على ركبتيها ، بعدما نهض راسل من مكانه وأرادها أن تقف على قدميها ، فهى لم تستطع تحمل كل تلك الأخبار الصادمة التى جاءتها تباعاً دون أن يمهلها الوقت فى إدراك ما يحدث حولها
– بس يا حبيبتى إهدى يا حياء
قالها راسل فور أن جلس بجوارها وأخذها بين ذراعيه ، لعله يفلح فى إنهاء ثورتها الباكية ألماً ونحيباً على رحيل شقيقها ، فالليلة يبدو أنها لن تنتهى ، وعليه أن يكون الداعم الأول لها حتى يمر الأمر والذى إذا حتى أنتهى بدفن شقيقها فالحزن سيظل ساكناً فى إحدى غرف القلب
ففى اليوم التالى ظهراً ، وصل ذلك التابوت الحامل للجثمان على متن تلك الطائرة القادمة من ايطاليا ، وقف كل من راسل وحياء وعاصم ووالده الذى أصر على الحضور ، و ما أن أبصرت حياء ذلك التابوت الخشبى ، حتى هرولت إليه وأنحنت عليه باكية بحرارة وقائلة بعتاب :
– كده يا ديفيد تسيبنى ، تسيب أختك من غير أخ ، ليه روحت ترمى نفسك فى النار يا حبيبى ، يا وجع قلبى عليك يا أخويا
مزقت قلب زوجها ببكاءها ونحيبها المتواصل ، فأغرورقت عيناه بالدموع على حالتها التى لم يفلح فى تسكينها سوى سويعات لتعاود وتبكى من جديد ، فأقترب منها وجذبها إليه لتترك الرجال يحملون التابوت لوضعه فى تلك السيارة التى ستحمله إلى المقابر الخاصة بعائلة النعمانى ، إذ أن حياء طلبت من والد زوجها أن تقوم بدفن شقيقها فى المقابر الخاصة بالعائلة لعلها تشعر بأنه مازال قريباً منها
أقترب أحد الرجلان المرافقان للتابوت وناول حياء الظرف قائلاً بتهذيب :
– ده الظرف اللى سابه علشان حضرتك
أخذته منه حياء وفتحته لعل هناك أمراً أوصى به ديفيد قبل رحيله ، ففتحت الرسالة الورقية وما أن علمت فحواها حتى شعرت برجفة إجتاحتها ، إذ علمت من خلالها أن زوجته ماهى إلا إبنة إمام المسجد وشقيقة بلال ، وتم توصيتها بأن تخبرها إذا حدث له مكروه وأن أبيها هو من يؤدى صلاة جنازته ، وأوصاها ايضاً بأن تعتنى بها
رفعت حياء عينيها عن الرسالة ونظرت لزوجها وقالت بصدمة :
– ديفيد كان متجوز ياسمين بنت إمام المسجد وأخت بلال ، إزاى ده حصل
ظل الرجال الثلاثة ينظرون لبعضهم البعض لايفقهون شيئاً مما قالته حياء ، إلا ما أن طلبت من والد زوجها تأخير دفن شقيقها لحين مجئ زوجته ووالدها ، وافقها بل حثها على أن تذهب هى وزوجها لمنزل إمام المسجد ليعلمون حقيقة الأمر
أخذ راسل زوجته مع فى سيارته وقادها ليصل إلى منزل والد زوجة ديفيد ، وطوال الطريق كانت حياء تحملق فى رسالة شقيقها ديفيد وهى متخذة الصمت ملاذها ، فلاشئ يقال يمكن أن يصف حالتها فى ذلك الوقت ، لذلك من الأفضل لها أن تظل صامتة
وما أن وصل راسل بسيارته أمام منزل الإمام ، نادها برفق لتخرج من السيارة ، فدلفا للداخل وطرقت حياء الباب وفتحت لها زوجة الإمام قائلة ببشاشة :
– أهلا بيكى يا حبيبتى اتفضلوا
ولجت حياء وتبعها زوجها ، فتعجبت زوجة الإمام من زيارتهما المفاجئة خاصة أن حياء تبدو بحالة مزرية من أثر البكاء وتلك الثياب السوداء التى ترتديها ، فرمقتهما بقلق وتساءلت :
– مالك يا بنتى خير ، أنتى كنتى بتعيطى ليه كده كفى الله الشر
أبتلعت حياء تلك الغصة الناتجة عن بكاءها وتساءلت بصوتها الخافت :
– هى فين ياسمين ؟ كنت عيزاها هى وباباها
دون أن تخوض زوجة الإمام فى أسباب مطلبها لرؤية إبنتها وزوجها ، ذهبت لغرفة ياسمين التى كانت تجلس برفقة أبيها وشقيقها بلال يتناقشون حول ما يمكن أن تفعله بشأن إثبات حقوق طفلها من والده ، خاصة أن الأمر فى غاية التعقيد ، فأخبرتهما بأن حياء تريدها هى وأبيها سوياً ، ورغم دهشتهم مما سمعاه إلا أنهما خرجوا من الغرفة
أقتربت حياء من ياسمين على مهل وأخذت يديها بين كفيها وقالت بدموع :
– أنتى فعلاً كنتى متجوزة ديفيد أخويا ، أنا مكنتش أعرف ، وهو مقاليش على حاجة ، أنا اتفاجئت النهاردة بأنك مراته ومش عارفة ده حصل إزاى
شهقوا جميعهم مما سمعوه منها ، فأقترب منها والد ياسمين قليلاً متسائلاً بدهشة :
– ديفيد أخوكى إزاى يعنى ؟
تركت حياء يديىّ ياسمين ومسحت وجنتيها بمحرمة ورقية ومن ثم بدأت فى إخبارهم الحقيقة كاملة من أن ديفيد شقيقها ، فهى سبق وأخبرت الإمام بأنها فتاة متبناة ولكنها لم تكن تعلم من هم والديها الحقيقين ، وأنها تعرفت إلى شقيقها ديفيد بعد زواجها ، ولكنه لم يخبرها بشأن ياسمين أو أنه تزوجها ، لذلك كان أمر إكتشافها لزواجهما صادماً لها
أرتفعا حاجبى بلال بتعبير الصدمة والدهشة وتمتم قائلاً وهو فى حالة أقرب للذهول :
– معقولة اللى بتقوليه ده ، يعنى أنتى وديفيد أخوات ، يعنى أنت من أصول يهودية يا مدام حياء
رغم أن الموقف لا يحتمل النقاش إلا أنها اجابته بخفوت :
– أيوة أنا اخته شقيقته بس بابا وماما الحقيقين ماتوا مسلمين اعلنوا إسلامهم قبل ما يموتوا ، يعنى لو كانوا عاشوا كنت هبقى أنا وديفيد مسلمين برضه ، وحتى هو أعلن إسلامه من فترة أنا كنت معاه وقتها يعنى هو كان مسلم ، بس كان لسه فى البداية
أبتلعت ياسمين لعابها وسألتها بحذر :
– هو فين ديفيد ؟
عادت حياء ببصرها إليها وأجهشت بالبكاء ومن ثم قالت بنبرة صوتها التعيسة :
– ديفيد مات
ضعفت ساقيها أمام حملها فأرتدت بخطواتها للخلف مأذنة بسقوطها الحتمى ، لولا أن أبيها أسرع فى إسنادها قبل أن يختل توازنها وتسقط أرضاً ، فنظرت فى وجه أبيها وهى مشدوهة مما سمعته ، فقالت بشعور عارم بالصدمة :
– ديفيد مات يا بابا ، وأنا السبب
أندهش الجميع من قولها ، فما الذى تهذى به ؟ ولما تلقى على عاتقها موت زوجها ، ولكن لا أحد من الواقفين يعلم أنه ربما بعد ما حدث بينهما فضل الإختفاء من حياتها حتى ولو كان سيلقى بنفسه وسط النيران وهذا ما كان ، فها هى تتلقى خبر وفاته بعد مرور عدة أيام من فراقهما
قالت حياء بشفقة :
– ليه بتقولى إنك السبب ، ده قدره اللى ربنا كتبهوله
أشفق عليها الجميع ظناً أن حالتها تلك ما هى إلا نتيجة لشعورها بالصدمة من تلقى خبر وفاة زوجها الذى لم يدم زواجهما سوى ليلة فعلية و أكثر من شهر وهما متخاصمان، أو بالأحرى هى من كانت رافضة إقترابه أو أن ترى له وجه ، فهى علمت الآن مدلول عبارة وداعه من أنه سيفتقدها كثيراً
جلست حياء وزوجها مع بلال وأبيه ليعلمان سر تلك الزيجة التى أخفاها عنها ديفيد ، لحين انتهاء ياسمين ووالدتها من ارتداء ثياب الحداد السوداء ، وعلمت حياء حقيقة الأمر منهما وإستطاعت فهم أسباب إمتناع شقيقها عن إخبارها من تكون زوجته ، فزفرت بقوة لعلها تتخلص من ذلك الشعور الذى سحق قلبها من أنها بعد دقائق ستودع شقيقها الوداع الأخير قبل أن يصبح ذكرى حية بداخل قلبها وعقلها ، فبعد خمسة عشر دقيقة كان راسل يصطحب أسرة ياسمين معه فى السيارة لتفيذ وصية ديفيد بأن يؤدى والدها صلاة الجنازة ، وياسمين لها الحق فى أن ترى زوجها للمرة الأخيرة قبل أن يواريه الثرى
وما ان وصلوا لذلك المسجد الكبير الذى أنتظر به رياض وعاصم ورجالهم فى انتظار عودتهم ، ولج كل من والد ياسمين وشقيقها وراسل المسجد فى الطابق الأول ، وجدوا عدد من الرجال فى إنتظار تأدية صلاة الجنازة ، بينما ذهبت النسوة للطابق الثانى الخاص بالنساء
بدأ الإمام بتأدية صلاة الجنازة ورغم عنه بكى بكاءًا شديدًا ولم يعلم لمن يبكى ، ايبكى من أجل زوج ابنته المغدور وهو مازال شاباً ، أم إبنته التى حملت لقب أرملة وهى التى لم تتزوج إلا من مدة قصيرة وهاهى الآن تحمل فى احشاءها ثمرة هذا الزواج ، وبعد الإنتهاء تم حمل الجثمان للخروج من المسجد ومنه إلى المقابر
خرجت بيرى من سيارتها وأقتربت من حياء تحتضنها وبكت بكاءًا مريراً من أجل إبن عمها ، فقالت بغصة :
– معقولة يا حياء ، ديفيد خلاص مبقاش موجود معانا
ربتت حياء على ظهرها وقالت بثبات رغم انهيارها الداخلى :
– دا أمر الله يا بيرى ، الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته
نظرت حياء خلف بيرى وجدت مارجريت ، فهى البارحة أخبرتها بمكان دفن ديفيد ، ولم تكن تريد لمارجريت الحضور ، فربما ستتشدد فى الرفض بأن يقوموا بدفن شقيقها فى مقابر غير تلك المقابر المملوكة لعائلتها الحقيقية ، وهذا ما كان إذ أقتربت من ياسمين التى ترجلت من إحدى السيارات ولم تمهلها فرصة لإلتقاط أنفاسها ، فقبضت على ذراعها بقسوة وهزتها بعنف رغم وهن عظامها وقالت بحقد :
– أنتى السبب فى ده كله ، لولا عشقك الملعون مكانش ديفيد مات ، هو مات بسببك أنتى ، ايوة بسببك أنتى
تألمت ياسمين من قبضة مارجريت على ذراعها وعادت تبكى إلا أن حياء حاولت أن تفض النقاش الحاد من مارجريت حتى لا تثير البلبلة خاصة فى مكان كهذا ، فناشدت مارجريت بصوتها المتعب :
– ارجوكى يا مارجريت ده مش وقته ، وهى ذنبها ايه ، ده نصيبه
رمقتها مارجريت بإمتعاض وصاحت فى وجهها غير عابئة بما سيحدث:
– اخوكى مات بسببها هى ، يأس من حياته بسبب كرهها ليه ، وراح جرى ورا الموت علشان بس يخلص من حياته
بدأو المشيعين يتهامسون حول ما يحدث ، فتكفلت بيرى بحل الأمر وأخذت مارجريت إلى سيارتها ، لحين إنتهاء الدفن ، ولاتدرى حياء كم من وقت استغرقهم فى دفن جثمان شقيقها ، إذ عادت تنتحب على صدر زوجها ، الذى منعها من الاقتراب أثناء وضع ديفيد بالقبر ، وبعد الانتهاء إنصرف المشيعين وظل الأقارب فقط ، وظلت ياسمين تحدق فى القبر وعينيها متسعتان حتى أنها غير قادرة على البكاء
لمست حياء ذراع ياسمين لتنتبه عليها ومن ثم مدت يدها لها بالقرص المدمج الحامل لرسالة ديفيد الخاصة بها ، فقالت وهى تطرق برأسها أرضاً لتخفى دموعها :
– ده كان ديفيد مسجلك عليه رسالة صوت وصورة ، ومكتوب فى رسالته إن اسلمهولك ، خديه يا ياسمين
اخذته منها بيد تملكتها الرجفة التى لم تعد تسيطر عليها بل إجتاحت جسدها بالكامل ، فنصحتها حياء بالعودة هو واسرتها إلى المنزل لحين أن يأتى المساء من أجل إقامة العزاء فى أحد القاعات الخاصة بذلك
وما أن عادت حياء مع زوجها للبيت لتنال قسط من الراحة ، صعدت لغرفتها وبحثت عن حاسوبها لتعلم فحوى تلك الرسالة التى تركها لها ديفيد ، فبعد وضعها للقرص المدمج فى مكانه داخل الحاسوب ، ثوانى ورآت شقيقها كأنه جالس أمامها ، فبكت وظلت شهقاتها تعلو شيئاً فشيئاً
أنحنى راسل إليها قائلاً برجاء :
– حياء لو مش قادرة تشوفى الفيديو بلاش دلوقتى يا حبيبتى
هزت رأسها رافضة وأصرت على أن تسمع ما جاء به ، فعادت تستمع لما يقوله شقيقها ، فوجدته يقول وهو يحاول أن يبتسم :
– حياء يا حبيبتى ، عارف إنك دلوقتى ممكن تكونى زعلانة منى ، بس سامحينى يا حبيبتى ، عارف أن قلبك طيب وبيسامح ، وصدقينى كانت احلى حاجة حصلت فى حياتى إن لقيتك وعشت معاكى إحساس الاخ واخته وإن ازاى يبقى فى حد بيحبنى وخايف على مصلحتى وده شوفته فيكى ، تقريباً يا حياء أنتى الوحيدة اللى حسيت بالحب منها حتى لو كان حب الأخوة ، فعايزك لو مت تدعيلى ربنا يسامحنى وخلى بالك من نفسك ومن ياسمين واللى فى بطنها ، واللى مقدرتيش تعمليه معايا اعمليه مع بنتى أو ابنى عايزه يعيش ويكبر زى ما أنتى كنتى عيزانى أعيش ، عارف إن غلطت كتير ، بس انتوا بتقولوا ربنا رحيم وبيسامح ، فأنا نفسى يسامحنى ، فأدعيلى أنه يسامحنى ، ومش عايزك تبقى زعلانة منى ولا تزعلى عليا ، خليكى دايماً قوية زى ما اتعودتى تبقى قوية ، وخلى بالك من نفسك
عند الجملة الأخيرة وأنتهى مقطع الفيديو ، فأنخرطت حياء فى بكاء مرير وأسرع راسل إليها وجعل من كتفه ملجأ وملاذ لرأسها المنهك بأفكار وأحداث يعلم أنها ستترك أثرًا بها إلى الأبد
فى منزل أسرة ياسمين وبعد عودتهم من المقابر ، ذهبت إلى غرفتها لمشاهدة رسالة زوجها ، ولكن تبعها والديها وشقيقها ليعلمون ماذا كان يريد أن يقول لها ، ومن جهة أخرى يقدمون لها الدعم إذا كانت فى حاجة إليه ، فوضعت ياسمين القرص المدمج في الحاسوب الموضوع على مكتبها وجلسوا جميعهم فى أماكن متفرقة بالغرفة
وما أن رأت ياسمين وجه زوجها ، وضعت يديها تلقائياً على عنقها لشعورها المميت بتلك الغصة التى سدت عليها مجرى الهواء ، وكم بدت صورته فى تلك اللحظة شاحبة مرهقة ، كأنه لم ينال من الراحة ما يجعله يبدو فى حال أفضل وقت تسجيل تلك الرسالة والتى صارت الذكرى الأخيرة منه ، فأرهفوا سمعهم وبدأ صوت ديفيد يرن فى آذانهم وهو يقول بنبرة صوت طغى عليها الشعور باليأس :
– ياسمين حبيبتى ، اللى مكنش ليا الحظ فى إن أعيش معاها قصة الحب اللى كنت بحلم بيها ، بس أنا مش بلومك ، أنا بلوم نفسى على إن أنا اللى ضحكت على نفسى وافتكرت إن اقدر اعيش حياة مزيفة ، بس صدقينى كان نفسى تكونى ليا طوق النجاة من اللى كنت فيه ، و صدقينى يوم فرحنا لما خلتينى اصلى وساعتها قولتلك إن خوفت ، كان خوفى وقتها إن يكون وقت التوبة عدا وفات ، أنا فعلاً أسلمت بس كنت مستنى الفرصة اللى اخد فيها تارى من اللى كانوا السبب فى موت أهلى واخواتى ، انا يا ياسمين مكنتش زعيم مافيا ولا بتاجر فى السلاح بمزاجي ، هم غصبوا عليا اشتغل معاهم وهددونى لو ما اشتغلتش معاهم هيأذوا كل اللى بحبهم ، فوافقت بس فى نفس الوقت كرهى وانتقامى بقوا يزيدوا ، بقيت كل ما اعمل صفقة ليهم ، بعد ما اخلصها ابلغ عنها البوليس ويتقبض على الناس اللى اخدت السلاح بس اكون انا خلصت دورى فى تسليمى ليهم ، هم شكوا فى الموضوع وبعتوا واحد يراقبنى ويراقب خطواتى ، بس قدرت اخدعهم ، جايز الجينات الوراثية اللى عندى كان لسه شغالة ، حتى عمك اللى كان السبب فى انه كشف حقيقتى قدامك وقدام أهلك ، بعد ما عملت الصفقة معاه اتقبض عليه ، بس وقتها قدرت اقنعهم إن السبب فى القبض عليه إن البوليس بيدور عليه من زمان وتلاقيهم قدروا يلاقوه ، انا اللى كان بيحركنى النار اللى كانت جوايا ، بسبب إن عاقبت ناس ابرياء على موت أهلى ، فقولت لازم اخد حقهم من اللى عملوا فيهم وفيا كده ، عارف إنك مقدرتيش تحبينى وشوفت فى عينيكى نظرة الكره وده اللى خلانى أبعد بالرغم من إن انا عارف إنك متخلصتيش من البيبى ، جايز أول ما قولتيلى صدقت بس لما فكرت إن واحدة بتربيتك وتدينك مستحيل تفكر تقتل روح جواها ، علشان كده خليتك ترجعى بيت اهلك لأن مكنش ينفع افرض حبى عليكى وتفضلى كرهانى ، نظرة الكره فى عينيكى كانت بتقتلنى كل ما اشوفك بتبصيلى كأن وحش ، حتى لما طلبت منك إنك متسبنيش وأنا مستعد أكون شخص تانى كويس ، أنتى رفضتينى ، فمكنش فى مجال إن إحنا نستمر مع بعض ، فلقيت إن اركز على إن اخد حقى ، حتى فكرت إن بعد اللى هعمله لو كنت عايش كنت هبعد عنك واديكى حريتك ، حتى لو حسيتى إن الامانة اللى سيبتهالك تقيلة عليكى أو لو مقدرتيش تحبى الطفل اللى هتخلفيه علشان هو ابنى أنا ، فخلى حياء اختى تاخده تربيه ، وهى هتربيه أحسن تربية ، ولو أنتى احتفظتى بيه ، ارجوكى يا ياسمين متبقيش تقوليله إن أنا كنت إنسان وحش أو مش كويس ، احكيله حكايات حلوة عنى ، علشان ميكبرش هو كمان ويكرهنى ، وعايز اقولك هتوحشينى أوى يا حبيبتى ، وجايز الحاجة اللى مخليانى افرح شوية إن لو مت هشوف بابا وماما واخواتى ، لأن من بعدهم ملقتش اللى يحبنى إلا أختى حياء وكان نفسى أنتى كمان تحبينى ، بس الظاهر أمنيتى ده مش هتتحقق ، سلام يا ياسمين
أنتهت الرسالة ولكن كأن سيل من الدموع تفجر داخل مقلتيها ، حتى صار صوت نحيبها مسموعاً لدى الجالسين ، الذين لم يمنعون دمعاتهم من أن تذرف لأجل ذلك الشاب الذى يبدو أنه كان فى حاجة ماسة إلى المساعدة ولكن دفعه اليأس لأن يلقى بنفسه وسط النيران التى لم تخمد إلا بموته ، ولكن تساءلت ياسمين فى قرارة نفسها لمن تبكى ألزوجها تميم الذى جعلها لأول مرة تعلم ماهو الحب ، أم ذلك المدعو ديفيد والذى جعلها تفيق من أحلامها على واقع مرير ، وترك لها ذكرى تمثلت فى جنين حاملة له ولا تعلم بما تخبره عندما تتوالى الأيام ويأتى الوقت ويسألها من هو أباه؟ وأين ذهب ؟ ولكن شعور قوى لم تستطع إنكاره أو التخلص منه بأنها ربما مذنبة مثله تماماً ، فلم لم تسمع له وأخذت بيده من ذلك العالم القمئ والمظلم الذى كان يحيا به ، لم أخذها الكبرياء كأنثى شعرت بالخداع وظلت على عنادها حتى تركها ، حتى وإن كان الآن راقداً تحت الثرى ، فهو قد إنتصر عليها ، إذ سيتركها تعانى من تأنيب ضميرها بأنها تركته منغمساً فى ذلك العالم ، الذى أودى بحياته فى الأخير ولم تفكر فى أن تمد له يد العون أو المساعدة
❈-❈-❈
مرت الأيام وظل الجميع على حالهم ، يقضون يومهم تاركين التفكير فيما سيحدث فى الغد إلى أن يحين وقته
عزف أدم مقطوعة موسيقية كسبيل للترويح عن نفسه ، خاصة أن بعد سفر عماد وساندرا وهو يشعر بوحدة قاتلة بدونه ، وتلك الحالة من الحزن التى خيمت على المنزل بعد فقدان حياء لشقيقها ، جعلت الجميع يشعورن بالحزن من أجلها ، لذلك أول ما لجأ إليه لنسيان ما يعتريه من فتور وملل وحزن هو أن يعزف الموسيقى ، وطوال عزفه كان يشعر بأن تلك الفتاة التى رآها مرة ومازال متذكراً إياها كأنها تجلس معه فى الغرفة ، فتاة يصعب نسيانها بسهولة ، فتلك الغرفة أصبح يتخذها ملاذاً له بعيداً عن روائح الغرام التى كانت تفوح من غرف ذلك القصر ، ففى هذه الغرفة يستطيع أن يكون على سجيته لينسج احلاماً بفتاة ربما لن يلتقى بها مرة أخرى ، فنظر أدم إلى صورته المنعكسة فى المرآة ، وبدا له كأنه ينظر لشبح يشبهه وليس ذلك الشاب الذى حفلت حياته بالموسيقى والغناء والفتيات ، وها هو جالساً وحيدًا إذ أنه لن يكون من المقبول لدى تلك العائلة أن يظل مغنياً ، ورغم أن لا أحد تحدث معه بهذا الأمر ، إلا أنه فطن إليه منذ أن سلمه والده مهام العمل وتحول من شاب مرح يقضى معظم أوقاته فى الملاهى الليلية والحانات ، إلى رجل مسئول عن إدارة مجموعة من الشركات ، فتوقف عن عزف الموسيقى بهدوء وترك الجيتار ومن ثم فكر فى الخروج من المنزل ولا يعلم إلى أين يذهب فى هذا الوقت المتأخر من الليل ، ولكنه لم يفكر طويلاً إذ ذهب لتبديل ثيابه
– طب أنا هروح فين دلوقتى ؟
طرح ذلك السؤال على نفسه ما أن وصل لسيارته المصفوفة فى المرآب الكبير ولكنه لم يتردد فى قيادتها ليخرج من البيت ، وما أن وصل للشارع ظل يقودها على غير هدى لا يعلم له وجهة محددة ليصل إليها ، ولكن جذب أنظاره أضواء مقهى صاخب ربما رواده من الشباب والمراهقين ، فصف السيارة وخرج منها ومن ثم ولج للداخل ، وتحققت ظنونه من أن من يرتاد هذا المقهى مجموعة من الشباب والمراهقين الذين ربما تسللوا لخارج منازلهم من أجل قضاء وقت ممتع برفقة أصدقاءهم
جلس أدم على مقعد طويل حول طاولة مستديرة ، وما أن جاءه النادل ليسأله عما يريده ، فكر فى البداية إحتساء تلك المشروبات الكحولية التى كان معتادًا عليها قبل مجيئه للإسكندرية ، ولكنه عدل عن الأمر وطلب منه أن يأتى له بمشروب من مخلوط الفواكهة الطازجة ، وما أن أتى له النادل بما أراده هتف أدم قائلاً بلطافة :
– شكراً
ما كاد يبدأ فى إحتساء مشروبه حتى سمع صوت صيحات لمجموعة من الشباب والبنات ويبدو عليهم أنهم يحتفلون بمناسبة خاصة أو ربما يلعبون، فصاح شاب قائلاً بصوت مرح :
– يلا بقى يا ليليان ده دورك وهنحكم عليكى أنك تغنيلنا أغنية
رفعت تلك المدعوة ليليان ذراعيها كأنها بصدد تحية الجمهور الغفير حولها ، ومن ثم قالت ضاحكة :
– أصدقائى الأعزاء لو أنا غنيت وخلصت أتمنى صاحب الكافيه ميرمناش برا أو يطلبلنا البوليس
ما أن أمعن أدم النظر فى وجه تلك الفتاة ، حتى سقطت يداه بجوار الكوب على الطاولة ، لا يصدق أنه عاد ورآها مرة أخرى ، تلك الفتاة التى أطلق عليها ” فتاة البروفة ” ولكن هذا ما لم يشعره بالصدمة والدهشة فقط ، بل ما ترتديه من ثياب لا تمت بصلة لتلك الثياب التى رآها بها أول مرة ، إذ أن بنطالها الجينز الضيق ملتصق بها على الرغم من أنها نحيلة القوام ، وترتدى بلوزة بدون أكمام تاركة ذراعيها عاريين ، وشعرها الأسود تلملمه بجديلة وضعتها على أحد كتفيها
فغمغم أدم بإندهاش ومازالت علامات الصدمة متجلية على قسمات وجهه :
– معقولة هى دى البنت اللى شوفتها ، ولا أنا اللى بقيت أتخيل كل بنت أشوفها إنها هى
بدأت ليليان بالعزف على الجيتار الذى ناولها إياه أحد أصدقاءها ، ومن ثم عم الصمت والسكون فى المقهى وبدأت الغناء ، وأرتفعا حاجبى أدم بدهشة إذ أنها أنتقت أحد أغانيه الشهيرة والتى لقت رواجاً واسعاً عندما غناها أول مرة ، ولم يكن يعلم أنه مازال صدى تلك الاغنية يتردد بين الجماهير وخاصة العرب
– صوتها حلو وهى جميلة
اسند أدم مرفقه للطاولة وأسند ذقنه لكفه المضموم وهو يستمع إليها بإنتباه ، وظل يحرك رأسه إعجاباً بمهارتها فى الغناء وأثنى عليها بقرارة نفسه من أنها حقاً ماهرة ولديها موهبة رائعة فى الغناء
أنتهت ليليان من العزف والغناء وأنهال عليها أصدقاءها بالثناء وظلوا يصفقون إعراباً لها عن مدى إستمتاعهم بغناءها وعزفها ، فوضعت الجيتار من يدها ورغبت فى الذهاب للمرحاض ، ولكن أثناء سيرها إصطدمت بذراع أدم وهو جالساً ولكن ما أن نظرت فى وجهه عرفته على الفور
فصاحت بدهشة وعدم تصديق لما تراه :
– معقولة إنت !
لم تكتفى بعبارتها القصيرة ، إذ إلتفتت خلفها وصاحت منادية لأصدقاءها :
– تعالوا تعالوا شوفوا مين هنا فى الكافيه
ظل أدم ينظر حوله وهو يرى الجميع ينظرون إليه كأنها قامت بضبط مجرم تبحث عنه الشرطة ، فالنظرات تحمل ألف سؤال وتخيل لصياح تلك الفتاة معلنة عن أنها وجدته
وما أن وصل إليها أصدقاءها ، راحوا جميعهم يسألونها عما وجدته ، فأشارت بيدها لأدم وقالت كأنها أحرزت نصراً :
– أنتوا مش عارفين مين ده ، ده أدم جوزيف اللى كنت بغنى أغنية ليه من شوية
قال أحد اصدقاءها كأن ما تقوله ما هو إلا محض توهم منها :
– شكل دماغك لسعت من كتر ما بتحبى أغاني المطرب ده ، سلامة عقلك ، هو إيه اللى هيخليه يجى هنا وهو أساساً عايش فى فرنسا
فتحت عينيها وأغلقتهما عدة مرات ، لكى تتأكد أنها لم تتوهم أنه هو مطربها المفضل ، ولكن وجدت صديقتها تجذب ذراعها وتنظر لأدم نظرة عابرة قائلة بإعتذار :
– إحنا اسفين يا أستاذ هى كده ساعات بتتخيل وبتتوهم
لا يعلم أدم لما أشفق عليها من أقوال أصدقاءها وهم يتهمونها بأنها تتوهم أشياء لا وجود لها ، ورغم أن ليس فى صالحه أن يعلم أحد بشأن أنه هو المطرب الشهير ، إلا أنه وضع حداً لسخرية أصدقاءها منها ، فقال أدم وهو ينظر فى وجوههم تباعاً:
– بس أنا فعلاً أدم جوزيف المغنى
ضحك شاب من الواقفين ووكز صديقه قائلاً بسخرية :
– شكله أدم جوزيف النسخة العربى ، هم مش بيقولوا المطرب ده فرنسى
يبدو أن تصريحه بهويته الحقيقية لن يجدى نفعاً مع هؤلاء الحمقى ، فعاد يحتسى مشروبه بعد أن دعا ليليان أن تجلس برفقته ، فقبلت دعوته على الفور ، وأشارت لأصدقاءها بأن يعودوا لأماكنهم
إبتسمت على نحو مفاجئ قائلة وعيناها تتفرس فى وجهه ، كأنها لا تصدق أنها حقاً قابلته وجهاً لوجه :
– أنا عارفة أنهم مش مصدقين إنك أدم جوزيف ، بس أنا مصدقة ، لأن أنا حافظة كل أغنية من أغانيك ، حتى لما كنت فى فرنسا مرة حضرت حفلة ليك
عندما أراد سؤالها عن سبب عدم معرفتها له أول مرة قابلها بها ، سمع صوت هاتفه ووجد رقم والده ، ففتح الهاتف على الفور ، وقال وهو مازال ينظر لتلك الفتاة التى يبدو عليها كأنها رآت شيئاً أعجبها :
– أيوة بابا فى إيه
قال عاصم وبدا فى نبرته شعور بالقلق :
– أدم أنت فين أنا مش لاقيك فى البيت روحت فين كده
ترك أدم مقعده وابتعد قليلاً عن الطاولة متسائلاً بإهتمام :
– فى إيه بابا ؟ مال صوتك كده
اجابه والده قائلاً بإرهاق :
– غزل فى المستشفى بتولد بس الولادة صعبة شوية وهى تعبانة ، وأنا دورت عليك ملقتكش فقولت اتصل اشوفك فين ، إحنا هنا فى مستشفى راسل
– تمام بابا جاى حالاً
نطق أدم بعبارته وهو يأخذ مفتاح سيارته واعتذر من الفتاة وهرول بسرعة حتى خرج من المقهى ووصل إلى سيارته التى قادها حتى وصل لمشفى راسل ، ومن ثم ركض للداخل حتى وصل إلى حيث ينتظر والده وعمته سوزانا وعمران ومعتصم وتغيبت حياء عن حضور ولادتها نظرا لسوء حالتها النفسية بعد موت شقيقها
فأقترب من أباه الذى جلس منحنياً واضعاً رأسه بين يديه ويشعر بالخوف على زوجته ، ربت على كتفه وقال محاولاً أن يبتسم له بتشجيع :
– متقلقش بابا هى والبيبى هيبقوا كويسين
شد عاصم على يد أدم قائلاً بتمنى :
– يارب يا أدم يارب ، الدكتورة بتقول الولادة صعبة وأنا خايف على غزل
ظل الترقب قائماً طوال الليل حتى وضعت غزل صغيرها فى تمام الساعة السادسة صباحاً ، ومثلما خرجت ميس حاملة إبن معتصم وولاء ، خرجت حاملة لإبن خالها والذى يشبه والدته كثيراً ، فوضعته بين ذراعىّ والده ، الذى اغرورقت عيناه بالدموع ، بل صارت نشيجاً ما أن سمح لها بأن تفر من بين أجفانه
قبل الصغير ومن ثم رمق ولده الكبير قائلاً بحنان :
– خد يا أدم ده أدهم أخوك مش هيبقى اخوك بس عايزك تبقى اخوه وأبوه كمان وتحبه وتخاف عليه
رق قلب أدم لقول والده ، فأخذ منه الصغير ، وظل يقبل وجنتيه وجبينه كأنه لا يصدق أن أباه منحه ذلك الإمتياز بأن يساهم فى تربية شقيقه ، فقال وهو يبتسم :
– هيبقى شاب وسيم
ما أن أنتهى جميع الحاضرين من تقبيل الصغير وتقديم عبارات التهنئة ، أخذ عاصم الصغير وولج لتلك الغرفة التى ترقد بها زوجته ، فوضعه بين ذراعيها قائلاً بحب:
– حمد الله على السلامة يا حبيبتى ، أنا كنت خايف عليكم أوى عليكى يا غزل
ضمت صغيرها إليها وقالت بوهن :
– الحمد لله عدت على خير يا حبيبى
إجتاحها شعور عارم بالحب والحنان تجاه صغيرها ، ذلك الشعور الذى لا يعادله أو يوازيه شعور أخر ، وما أن أنقضت تلك الأيام القلائل التى أقامتها فى المشفى نظراً لإرهاقها الناتج عن ولادة الصغير ، عادت غزل إلى المنزل ووجدت حياء فى إنتظارها ورحبت بعودتها ، بل أنها قامت بتزيين تلك الغرفة الخاصة به ، تعبيراً عن سعادتها وعن اعتذراها لعدم تمكنها من حضور ولادته ، ولكن غزل تفهمت حالتها النفسية ، وشكرتها على ما فعلته من أجل الصغير ، فأخذته حياء منها وتفرست فى وجهه الجميل وغامت عيناها بدموع الفرح والسرور من أجلها ، وعادت تتمنى لو أن يهبها الله طفلاً يشبه قطعة الحلوى ، كذلك الذى تحملها بين يديها ، فإبتهلت غزل لله بالدعاء أن يمن عليها هى الأخرى بالذرية الصالحة ، فأعادت حياء الصغير إليها ومن ثم ذهبت لتوصى الخادمة بأن تعد لها الطعام ، وما أن ولجت غزل لغرفتها أقترحت على زوجها أن يرجئ أمر إقامة حفل السبوع لصغيرهما بضعة أشهر مراعاة لشعور حياء والتى لم تتخلص بعد من حدادها على شقيقها ديفيد ، فوافق عاصم وفكر أن يقيم فى وقتها حفلاً ضخماً من أجل الصغير ، لعل ذلك الحفل يعيد السعادة للمنزل بعدما خيم الحزن على بعض ساكنيه نظراً لذلك الحدث المؤسف الذى حدث مؤخراً
❈-❈-❈
وقفت هند فى غرفة نومها وراحت تتطلع من النافذة وهى تقضم أظافرها بلا وعى ، فما أن بدأت بترك الفراش بعدما سمحت لها الطبيبة فى أن تتنقل فى الغرفة مثلما تريد مع بعض الحذر ، لأنها أصبحت على وشك وضع طفلها ، وهى لا تصدق أن أشهر حملها مرت بسرعة هكذا ولم يتبقى إلا القليل وترى صغيرها ، فوقفت قريباً من النافذة لعلها ترى زوجها عائداً من الخارج ، إذ أنه اليوم تأخر عن موعد عودته للمنزل أكثر من ساعتين ، ولا يجيب على إتصالاتها ، فأرادت أن تصرف عقلها عن التفكير بأى شئ سيعكر من صفو مزاجها ، فظلت تتأمل حديقة المنزل على أضواء الإنارة المنتشرة بها ، فهذا المنزل ولدت ونشأت وترعرت فيه ، وها هى ستنجب طفلها هنا أيضاً ، فدائماً ما كان لهذا المنزل مكانة خاصة لديها ، خاصة حجراته الواسعة والمريحة ، وتصميمه الجذاب ، وما أن أكتفت من تذكر ماضيها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، تطلعت إلى نقوش الزهور المتناثرة فى ثوبها ، فإبتسمت تلقائياً لأن من أهداها هذا الثوب هو زوجها كرم ، كهدية لها لبدأه العمل فى تلك المدرسة التى إشتراها له والدها ، فعادت إلى الفراش فى تراخ بدون أن تحدوها الرغبة فى أن تظل واقفة أمام النافذة ، وجلست هند صامتة على الفراش والحيرة تتجاذبها ، وتتساءل هل زوجها بخير أم حدث له شئ عرقل أمر عودته للمنزل ؟
– أنت فين كل ده يا كرم ؟
تساءلت فى قرارة نفسها ، محاولة إيجاد سبب لتأخره هكذا ، ولكن فى ذلك الوقت وصل إلى سمعها صوت والدتها وهى تضحك مع كرم أتياً من الطابق الأول ، فوضعت يدها على صدرها وتنفست براحة ، وماهى إلا لحظات حتى وجدته يلج الغرفة حاملاً العديد من الحقائب البلاستيكية
وضع ما بيده على الأريكة وأقترب منها يقدم لها اعتذاره عن عدم إجابته على اتصالاتها الهاتفية المتكررة ، فقبل جبينها قائلاً بوداعة دائماً ما تجعلها تغفر له :
– أسف يا حبيبتى إن أتأخرت عليكى ومعرفتش أرد على التليفون
نظرت هند للحقائب الموضوعة على الأريكة ومن ثم عادت ببصرها إليه وتساءلت :
– إيه الشنط دى كلها ، وفيها إيه
خلع كرم عنه سترته الأنيقة ووضعها على طرف الفراش ، ومن ثم بدأ بفتح الحقائب وأخرج منها ثياب للأطفال ، وقعت هند فى غرامها على الفور ، وأبتهجت نفسها بأن زوجها أشترى كل هذا من أجل طفلهما القادم إليهما في وقت ليس بالبعيد
فأخذت أحد الأثواب تتأمله قائلة بإبتسامة حب :
– الله يا كرم دى هدوم البيبى شكلها يجنن أنا حبيتها أوى أوى ، تعيش وتشترى يا حبيبى
أهداها قبلة على وجنتها ورد باسماً :
– تسلميلى يا حبيبتي ، بس مش ده بس اللى أخرنى ، فى مفاجأة كمان
أتسعت عينيها بحماس كبير فى إنتظاره أن يبوح لها بالمفاجأة الأخرى ، فوجدته يخرج من الغرفة ونادى خالته ، التى جاءت هى والخادمة التى حملت قالب حلوى تم الكتابة عليه ” عيد زواج سعيد ” فشهقت بسعادة فهى لم تكن تتذكر أن اليوم هو يوم ذكرى زواجهما
وضعت الخادمة قالب الحلوى من يدها وخرجت من الغرفة وأنضم إليهم والد هند بعد عودته من عمله ، ففتح ذراعيه وقال باسماً:
– كل سنة وأنتم طيبين يا حبيبة بابا وعيد جواز سعيد عقبال احتفالكم بالسنة الـ ١٠٠
قبلت أباها وطوقته بذراعيها وهى دامعة العينين من فرط شعورها بالسعادة ، ومن ثم نظرت لزوجها وهمست له ” كل سنة واحنا مع بعض يا حبيبى ”
قاما بتقطيع قالب الحلوى وبعد أن إستحسنوا مذاقها الطيب ، أخذ والدها والدتها وخرجا من الغرفة تاركين هند وكرم بمفردهما فالإحتفال خاص بهما كزوجين ، وربما كل منهما فى حاجة لأن يعرب عن سعادته لنصفه الأخر فى تلك المناسبة السعيدة
– عيد جواز سعيد يا حبيبتى
قالها كرم باسماً وكم بدا جذاباً فى تلك الثياب الأنيقة والثمينة التى أصبح يرتديها فى الأونة الأخيرة ، فهى من أوصت بشراءها من أجله معللة أنه الآن مديراً وصاحب مدرسة تعليمية لا يرتادها سوى أبناء صفوة المجتمع السكندرى ، لذلك لابد له من أن يكون على قدر كافِ من الأناقة والمظهر الحسن ، ولكنها أحياناً كثيرة تشتعل الغيرة بقلبها من علمها أن هناك نساء أخريات سيرونه بوسامته وأناقته ورماديتيه اللتان تسهمان فى جعل قلبها يخفق بقوة ما أن يقع بصرها عليه ، ولا ضمان لديها سوى علمها بأخلاقه الرفيعة وأنه ليس بالرجل الذى يستهوى رؤية النساء أو إصطحابهن
أخذ من قالب الحلوى وقربته منه لتطعمه قائلة بنبرة صوتها الحنون :
– وأنت طيب يا حبيبى وعيد جوازنا اللى جاى يبقى ابننا معانا إن شاء الله
بعد إنتهاءهما من تناول الحلوى ، ذهب كرم للمرحاض فسمعت هند صوت رنين هاتفه ، فأخذته لتعلم من المتصل به في هذا الوقت ، فوجدت رقماً دون إسم ، ففتحت الهاتف قائلة بصوت هادئ :
– ألو مين معايا
جاءتها الاجابة من صوت أنثوى جاد:
– حضرتك مش ده تليفون مستر كرم
اجابتها هند قائلة بضيق بعد سماع صوتها :
– أيوة ده تليفونه وأنا مراته مين حضرتك
ردت السيدة قائلة بهدوء :
– أنا ميس فريدة وكنت عايزة أكلمه بخصوص المشكلة اللى حصلت النهاردة بين أتنين من الطلبة ، أنا ملقتهوش فى مكتبه فقولت اتصل عليه علشان نحل الموضوع لأن الولدين اللى اتخانقوا مع بعض كل واحد فيهم متوعد للتانى وشكلهم ناويين يعملوا مشاكل تانى
فكرت هند فى حديثها ولا تعلم هل تقول الحقيقة أم أن ذلك لم يكن سوى حجة منها لتتحدث مع زوجها ، إلا أنها حافظت على هدوءها للأخير وردت قائلة بتجهم :
– هو حضرتك دلوقتى مش جمب التليفون انا هبلغه باللى قولتيه وهخليه يكلمك
أنهت المكالمة وخرج كرم يجفف وجهه بالمنشفة ، فبدأت هجومها مبكراً ، إذ أنتفضت من مكانها قائلة بغيرة عمياء :
– هى مين ميس فريدة دى كمان اللى بتكلمك على تليفونك
وضع كرم المنشفة من يده وقطب حاجبيه قائلاً بدهشة طفيفة :
– ميس فريدة ! هى كلمتنى على تليفونى دلوقتى ؟
– أيوة وبتقول أنها بتكلمك علشان مشكلة الولدين اللى اتخانقوا مع بعض فى المدرسة ، حجج فارغة
قالت هند بتبرم وإستياء وهى تعقد ذراعيها ، بل أنها أشاحت بوجهها عنه
ضحك كرم بصوت عالى وهو يرى علامات ودلائل الغيرة على محياها ، فإمتعضت من كونه يضحك ولا يأخذ الأمر بجدية ، فأقترب منها وقبض على كتفيها وهزها برفق قائلاً بلين :
– ملهاش لازمة غيرتك دى ، ميس فريدة هى وكيلة المدرسة دا غير أنها ست عمرها معدى الخمسين سنة وأصغر اولادها فى الكلية ، يعنى دى ست فى سن أمى تقريباً يا ست الغيرانة
أدركت حماقتها وسوء ظنها ، فإبتلعت لعابها وحاولت أن تقول شيئاً ، إلا أنه ضمها إليه مستطرداً:
– مش عايزك فى يوم تفكرى إن أنا ممكن أبص لواحدة غيرك ، ماشى ياهند
تنهدت وقالت باسمة :
– عيزاك على طول تقولى الكلام الحلو ده
ولكن قبل أن يفه زوجها بكلمة لم تعد تستطيع الوقوف أكثر بدون أن تضع يديها على مكان الألم في ظهرها ، والذى بدأت تشعر به منذ نهوضها من نومها ولكنها لم تعطى الأمر أهمية كبيرة إذ اخبرتها الطبيبة أن ميعاد وضعها ربما بعد أسبوع أو أكثر
شعرت هند بالتعب أكتر وقالت بألم :
– ااه
كان كرم يراقب حركاتها فتقدم منها أكثر وأزاح يدها من على ظهرها وسألها بقلق:
– مالك يا حبيبتى أنتى تعبانة ولا ايه
هزت رأسها وتسارع تنفسها قائلة وهى تنظر إليه :
– أنا مش عارفة ايه الوجع ده بس شكلى كده هولد يا كرم
شعر كرم بالجنون وهند شعرت برغبة قوية بالضحك وهى تراه يخرج من الغرفة ينادى خالته وزوجها وسرعان ما عاد إليها ، فأجلسها على طرف الفراش لحين أن يأتى بتلك الحقيبة التى أعدتها مسبقاً من أجل إذا داهمها ألم المخاض فى أى وقت ، ولكنها زاد ألمها وراحت تاخذ تنفساً قصيراً عدة مرات لتخفيف الألم ، ولكن شحب وجه كرم أكثر من وجهها ولكنها حاولت طمئنته بأن الأمر طبيعى ، وماهى إلا دقائق حتى ذهبوا جميعهم إلى المشفى ، ووضعت هند مولودها وشعرت بالفخر والإرتياح وهى تتلمس وجنتيه المزهرة وتتلمس شعره القاتم
رفعت رأسها ونظرت لزوجها وتمتمت بإبتسامة واهنة ممازحة :
– هو طالع شبهك ليه ؟ المهم هنسميه إيه ؟ إحنا مخترناش له اسم محدد
اجابها بلطف وقد انحنى يتطلع إلى الطفل قائلاً بسعادة :
– هنسميه كريم ، بس بجد هو شبهى ؟
ربتت خالته على كتفه ودمعت عيناها وهى ترى حفيدها الأول :
– ألف مبروك ويتربى فى عزكم ، حبيب قلب تيتة
أخذته من جوار هند ووضعت بين ذراعىّ زوجها ، الذى لم يستطع منع دمعاته التى تجمعت فى مقلتيه ، فقبل جبين الصغير :
– حبيب جدو ، حمد الله على السلامة يا حبيبة بابا ، دا أنا هعمله سبوع إسكندرية كلها هتتكلم عنه
طغى شعور عارم بالسعادة على وجوههم ، ولم يكن بإمكان هند نكران شعورها الجميل بالأمومة عندما ضمت الرضيع إلى صدرها ، وكان كرم يراقبها وعلى وجهه علائم الرضى ، وبعد يومين بدأت هند تنهض وتسير ، رغم أن كرم توقع أنها ستبقى فى الفراش بضعة أيام أخرى ، إلا أنه شعر بالطمأنينة ما أن رآها تسترد رونقها وبهاءها بعد تجربة الولادة التى حتماً أصابتها بالإنهاك والإرهاق ، وبعد أسبوع كان منزل والدها يضج بالصخب احتفالاً بالصغير ، وكانت هند وصغيرها بحالة جيدة ، وشعرت بالسعادة لوجود والدتها ومساعدتها لها ، فهناك الكثير من متطلبات الرضيع ، وهى ليس لديها الخبرة الكافية لاعتناءها به خاصة أنه طفلها الأول ، وكان الأمر مضنياً بعض الشئ ، خاصة أن الصغير يستيقظ فى أوقات متأخرة من الليل ولا يدعها تنال راحتها إلا أوقات قليلة ولا تنام أكثر من ثلاث ساعات متواصلة ، ولكن كرم لم يتردد فى أن يقترح عليها توظيف مربية لمساعدتها ، ولكن اشترطت هند أن تكون المربية إمرأة كهلة فهى لن تغامر ثانية فى أن تجلب خادمة أو مربية مازالت شابة ، فيكفى ماحدث من تلك الخادمة ، التى لولا أبيها لم تكن تعلم إلى أى مدى كان من الممكن أن يصل خطرها إليهما ، وما أن حصل زوجها على موافقتها بحث عن مربية بتلك المواصفات التى وضعتها زوجته حتى وجدها فى الأخير ، وشعرت هند ببعض الراحة من أنها صارت بإمكانها النوم فترات أطول ورغم ذلك هى لا تدع طفلها يفارقها وكم من مرة إبتسمت على تبرم زوجها الواهى فى أنها صارت تفضل الصغير عليه ، ولكنها كانت ماهرة وبارعة فى أن تجعله يتيقن من أن حبها له لن يخف حتى لو إمتلكا دزينة من الأطفال
❈-❈-❈
بعد بضعة أشهر من تلك الواقعة والتى تركت أثراً نفسياً عميقاً داخل قلبها ، إذ لم يكن ديفيد فقط إبن عمها بل بمثابة شقيقها ، كانت بيرى تهبط الدرج فى تلك البناية المملوكة لعائلة زوجها ، كانت الشمس تضئ تلك الأمسية ، وكانت تعلم أنها تبدو جميلة وخاصة فى ثوبها الطويل الأسود والذى حرصت أن يكون محتشماً لكى يخفى أثار حملها عن أقرب العيون ، والتى بدأت فى الظهور عليها فى وقت مبكر كأنها تحمل العديد من الأجنة ولكن يبدو أن تؤاميها سيأتيان بصحة وفيرة ، نظرت للأسفل وجدت زوجها ينتظرها عند مقدمة الدرج ، كان يبدو نحيفاً وجذاباً يرتدى سترة غامقة اللون ، نظر إليها نظرة نافذة ومد يده لها بإبتسامة ، فوضعت يدها فى كفه الدافئ وأكملت الباقى من الدرج ، حتى صارت تقف قبالته ، فمنذ ذلك اليوم الذى ذابت به الخلافات بينهما وهو عاد إليها ذلك العاشق الذى عرفته بماضيها ، ولم يعد يدخر جهداً فى أن يظهر لها حبه وتعلقه بها ، وها هى تحمل ثمرة ليالى عشقهما ، فبعد وفاة ديفيد عانت من حالة نفسية سيئة أصابتها بالإعياء ، لتكتشف بعد ذلك أنها حامل ، وربما علمها بأنها ستصبح أم بعد بضعة أشهر ، هذا ما خفف عنها حزنها العميق ، فخرجا من البيت ، وأشار عبد الرحمن لسيارة أجرة ، رغم أن سيارتها مصفوفة أمام المنزل ، ولكنه شدد أوامره لها بعدم قيادتها خاصة بحالتها تلك ، فأعطى السائق عنوان عيادة الطبيبة ، إذ أن اليوم هو يوم معاينتها الشهرية
تطلعت إليه بنظراتها الدافئة والوديعة وقالت باسمة :
– حبيبى بعد ما نخلص مشوار الدكتورة ، هروح مع حياء نزور ياسمين علشان نطمن عليها
أماء عبد الرحمن برأسه موافقاً وقال بعدما أسر يدها بين كفه :
– ماشى يا حبيبتى ولما ترجعى من مشوارك اتصلى عليا علشان عندى مشوار مع جوز أختى
بعدما تم الاتفاق بينهما على خططهما المسائية ، ظلا يتحدثان لحين تنتهى المسافة من المنزل لعيادة الطبيبة ، وما أن وصلا وترجلا من السيارة ، قالت بيرى بعفوية قبل أن تلج للداخل :
– نفسى ييجى الوقت اللى أعرف نوع التؤام إيه ، وأه لو يبقوا بنوتة وولد
إبتسم عبد الرحمن قائلاً بحب :
– بس أنا عايزهم بنوتين ويبقوا شبهك يا بيرى
ضيق عينيه ومن ثم قال مستطرداً:
– بس مش عايزيهم بأمور الجنان بتاعتك اللى خلتك فضحتينى فى القاعة وقولتى إنك حامل منى علشان تبوظى الجوازة
وضعت بيرى شعرها خلف أذنها قائلة بزهو وفخر :
– دى أول حاجة هعلمهالهم أنهم ميسبوش حقهم ، وأنت يا حبيبى كنت حقى إزاى كنت عايزنى أتنازل عنك لواحدة تانية
مال عبد الرحمن برأسه إليها هامساً :
– هو أنا النهاردة قولتلك إن أنا بحبك
هزت بيرى رأسها سلباً وقالت وهى تمط شفتيها ببراءة ممازحة:
– لاء مقولتليش خالص يا أبو قلب قاسى
فغر عبد الرحمن فاه قائلاً وهو متصنعاً الدهشة :
– يا خبر دا أنا فعلاً معنديش قلب
– شوفت بقى
نطقت بها بيرى وهى تحكم وضع يدها فى يده ومن ثم ضحكا حتى تذكرا أنهما مازالا أمام العيادة الطبية ، ولكن ربما حديثهما اللطيف والودى أنساهما ما جاءا من أجله ، وما أن تذكرا أكملا طريقهما للداخل
–أهلا بيكم أتفضلوا
رحبت الطبيبة بقدومهما ومن ثم دعتها لأن تستلقى على سرير الفحص لتبدأ عملها بالأشعة التلفزيونية ، وكلما تطلعت بيرى لتلك الشاشة والتى بدأت فى عرض طفليها تبتسم وتنظر لزوجها الواقف بمكان ليس ببعيد ولكن بإمكانه رؤيتهما بوضوح
أنهت الطبيبة فحصها لها ونهضت بيرى تزيل أثار تلك المادة اللزجة التى تم وضعها لها من أجل إجراء الفحص ، فقالت الطبيبة بإبتسامتها البشوشة :
– كل شئ تمام يا مدام بيرى وأنا هكتبلك على فيتامينات علشان تساعدك مع نظام الاكل بتاعك وإن شاء الله الحمل يتم بخير وتقومى بالسلامة
جلست بيرى على المقعد قبالة زوجها وسألت الطبيبة بلهفة :
– هو أمتى أعرف نوع التؤام إيه يا دكتورة
رآت الطبيبة لهفتها الواضحة ، فردت قائلة بهدوء :
– لسه شوية يا مدام بيرى على ما نعرف نوع الجنين ، هو لسه الحمل فى الشهور الأولانية ، بس من خبرتى ممكن أقولك أنك حامل فى تؤام ولدين
زادت إبتسامة بيرى اتساعاً بما قالته الطبيبة ، رغم أنها كانت تريد صبى وفتاة ولكن طالما ستتحقق نصف أمنيتها ، فهى ممتنة لذلك ، فرمقت زوجها بإبتسامة ، بادلها بأخرى أشد حلاوة ، على العلم أنه كان يتمنى أن يرزقه الله بفتاتين ولكن إذا كانت تلك إرادة الله فهو حامداً شاكراً لنعمته عليه
خرجا من عيادة الطبيبة ، فوجدت حياء فى انتظارهما فى الخارج جالسة فى سيارتها ، فاستأذن عبد الرحمن للذهاب وصعدت بيرى إلى السيارة التى قادتها حياء لتذهبان كالعادة إلى منزل ياسمين للإطمئنان عليها وتفقد أحوالها تنفيذا لوصية ديفيد
انتبهت بيرى على شرود وصمت حياء ، فربتت على ذراعها وسألتها باهتمام بالغ:
– مالك يا حياء فى إيه ؟
حاولت حياء أن تبتسم إلا أنها لم تفلح في فعل ذلك ، فردت قائلة بشفقة :
– النهاردة روحت أشوف مارجريت وأطمن عليها ، لقيت حالتها صعبة وعمالة تخطرف بكلام مفهمتش منه حاجة ، الظاهر موت ديفيد أثر على عقلها ، شكلها بقت محتاجة تروح مصح نفسى
قطبت بيرى حاجبيها وتساءلت:
– كانت بتخطرف بتقول ايه ؟
ركزت حياء بصرها على الطريق وقالت بعدما مطت شفتيها:
– أنا مفهمتش أوى معنى كلامها بس اللى فهمته إن فى واحد عيزاه يرجع ، وأن وقته خلاص جه ، بس هو مين ويرجع منين مفهمتش حاجة خالص
قضمت بيرى ظفرها وقالت بعدم فهم :
– هو مين ده ؟ بس جايز بتقول كده من صدمتها وأنها قصدها على ديفيد ، هو موته وجعنا كلنا ، وشكل مارجريت محتاجة دكتور فعلاً أنا هشوف الموضوع ده
ما أن وصلتا لذلك الحى الواقع به منزل أسرة ياسمين ، ترجلتا من السيارة وحملت حياء تلك الاشياء التي ابتاعتها من أجلها وأجل تلك الصغيرة الحاملة لها فى أحشاءها ، إذ علموا أنها حامل في فتاة ، ولم يتبقى الكثير حتى تأتى إلى هذا العالم
وما أن دقت الباب فتحت لهما والدة ياسمين ورحبت بقدومها ونادت إبنتها من غرفتها ، فخرجت منها وذهبت لغرفة المعيشة وإبتسمت لهما مرحبة بمجئ حياء وبيرى ، فقالت وهى تشير لتلك الأغراض الموضوعة على المنضدة :
– مكنش فى داعى تتعبوا نفسكم كده وتجيبوا كل الحاجات دى
ردت حياء باسمة وقالت بحنان :
– دى حاجة بسيطة يا ياسمين ، عقبال ما تقومى بالسلامة إن شاء الله
قالت بيرى هى الأخرى باسمة :
– أنتى بقيتى غالية عندنا ولسه كمان الصغنونة اللى جاية فى السكة دى هتبقى حبيبة عماتها ريا وسكينة
أشارت بيرى لنفسها ولحياء ، فرغماً عنهن ضحكن لمزحتها ، وجلبت لهن والدة ياسمين مشروبات مرطبة وظللن يتحدث عن أحوالها وعمل ياسمين كمهندسة ديكور ، إذ بعد شهر من وفاة زوجها أقترح أباها أن تعود لعملها لعلها تجد شئ يلهيها عن التفكير وتأنيب ضميرها ، ولكن نظراً لإقتراب موعد وضعها لطفلتها أخذت إجازة من عملها
ولكن سمعن صوت جرس الباب وهن جالسات فى غرفة المعيشة ، فخرج أباها من غرفته ليرى من الطارق ، ففتح الباب وجد رجلاً ذو شعر أسود حالك ويرتدى نظارة طبية ذات إطارات عريضة فقال بإبتسامة بشوشة كعادته :
– أيوة حضرتك خير
تسائل ذلك الزائر بإحترام :
– حضرتك ده بيت الباشمهندسة ياسمين مهندسة الديكور ؟
رد والدها قائلاً بهدوء :
– أيوة ده بيتها ، تبقى مين حضرتك ؟
❈-❈-❈
يتبع…
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
👈 الفصل التالي: رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني الفصل الاخير
👈 جمييع الفصول: رواية لا يليق بك إلا العشق كاملة بقلم سماح نجيب
👈 المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
👈 لتحميل المزيد من الروايات: تحميل روايات pdf
انتهت أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.