نستكمل أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الجزء الثاني الفصل السابع من روايات سماح نجيب ( سمسم ).
لا يليق بك الا العشق2 الفصل 7
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الثالثة والخمسون
لم يتأثر بوابل ضربات قبضتيها على صـ ـدره ، بل تركها تفرغ به جام غضبها وثورتها ، على الرغم من أنه بدأ يشعر بالألم جراء ضرباتها المتلاحقة ، كأن يديها مطرقة تحاول بها تفتيت حجر صلب ، فلم يكن يعلم أنها باتت تملك تلك القوة الساحقة كالهررة المتوحشة والشرسة ، فما يتذكره منها رقة ونعومة أناملها عندما كانت تمررها على وجهه أو لحيته ، أو صـ ـدره عندما كانت تريد منه أمراً ، وتفعل ذلك لتضمن بقاءه هادئاً مستأنساً ليوافق على ما تريده ، انتفض قلبه بصـ ـدره عندما شعر بضربات قلبها المتلاحقة ، لشدة قربها وإلتصاقها به ، فلو ظلت على إنفعالها ستصاب حتماً بالإنهاك وربما ستسقط مغشياً عليها ، لذلك لم يجد مفر من أن يحكم ساعديه حولها أكثر ، وربما بدأت تشعر بالألم وهو كاد يسـ ـحق عظامها بساعديه
أسند ذقـ ـنه لرأ سها ، كأنها يفرض حصاره حولها من كل إتجاه ، حتى أصبحت محاصرة بين ذرا عيه وكبل حركاتها المفرطة ، فهتف بها بأمر حازم مُزج باللين والرجاء :
– إهدى يا حياء ، أنتى كده ممكن يجرالك حاجة ، هشش بس يا روحى كفاية
أما زال يملك الجـ ـرأة ليقترب منها هكذا أو أن يتوددها بتلك الكلمة التى طالما ناداها بها ، فإن كان بالماضى يحيرها ببروده ، فهو صار الآن أشد برودة ، ولكن لما العجب والدهشة ، فهذا هو راسل ، الذى تعلم كيف يجيد التسلح بالامبالاة ويتصرف على النحو الذى يجعل الطرف الأخر مذنباً ، حتى وإن كان هو المذنب من البداية
– سيبنى وأبعد عنى بقولك مش طايقة قربك منى
قالت حياء بحنق وتململت بين ذرا عيه لعله يفلتها ، إلا أنه رفض تركها تفعل ما رغبت به بأن يطلق سراحها من سجنه الدافئ ، الذى طالما حلمت بأن تعود إليه ، وما أن أيقنت من أنه لن يتركها ، رفعت قدمها اليمنى وضربت ساقه فهذا ما إستطاعت الوصول إليه ، كونه يضغط على جزعها العلوى ويمنعها الحركة
لم تكن ضربتها بالقوة الكافية ، التى تجعله يشعر بالألم ورغم ذلك أرخى ذرا عيه عنها ونظر إليها قائلاً بتقييم لأفعالها :
– بقيتى شرسة يا حياء أكتر من الأول
لم يكتفى بقوله ، بل مد أصـ ـابعه وقبض على فكها ، ومازالت عيـ ـناها تفيض بالغضب ، فاستأنف حديثه بصوت هامس:
– بس تصدقى تجننى بشراستك دى يا روحى
فغرت حياها فاها ، فالموقف بأكمله لا يحتمل ، فهو يتحدث معها ، كأنه تركها بالصباح وعاد إليها بالمساء ، وليس أنه رحل عنها منذ عامان ، فأتسعت طاقتى أنفها وردت قائلة بغضب :
– بجد أنا مشوفتش حد فى برودك يا راسل ، أنا بكرهك بكرهك
دمعت عيـ ـناها لعلمها بأن الحقيقة أقسى عليها من تلك الكلمة التى تفوهت بها ، إلا أنها أبت أن تذرف دمعة أخرى ، فإن كان فعل ما فعله وإمتلك زوجة أخرى وطفل ، فهو لا يستحق أن تهدر دموعها من أجله ، رفعت رأسها بإباء وشموخ شاخصة ببصرها إليه ، لربما ترى مردود كلمتها تلك على نفسه
فما كان منه سوى أنه لمس نظارته ، كأنها يعيدها لمكانها لتربض خلف زجاجها سوداوتيه ، يحجبهما عنها لكى لا ترى ما أرتسم بداخلهما ، فرد قائلاً بنبرة كالصقيع :
– عارف إنك أكيد كرهتينى وبتكرهينى ، بس قبل ما تحاسبينى حاسبى نفسك يا حياء ، أنتى اللى عملتى فينا كده من الأول ، أنتى السبب خبيتى عليا أسباب تصرفاتك معايا ، وكمان أسمع عمك وأخوكى بيعترفوا بحقيقة رجوعك ليا ، المفروض أنا اللى أكرهك
إبتسمت حياء إبتسامة مشوبة بالصدمة ورفعت يـ ـدها تشير لنفسها قائلة بدهشة :
– أنا السبب ! دلوقتى بقيت أنا السبب فى خراب علاقتنا ، والمفروض أنت اللى تكرهنى ، لابجد برافو يا راسل نظام قلب ترابيزة هايل ، صحيح خدوهم بالصوت قبل ما يغلبوكم ، دلوقتى بقيت أنت الملاك البرئ ، وأنا الشريرة ، أنا اللى كنت بخاف عليك من الهواء أنت وبنتك ، ضحيت علشان تفضلوا كويسين ومتتأذوش ، كان عندى استعداد أضحى بنفسى علشانكم قصاد أى حد عايز يأذيكم دلوقتى بقيت المذنبة
قبض على ذرا عيها وهز جـ ـسدها بشئ من القسـ ـوة فخرج صوته حاداً :
– ليه مقولتليش ، كنتى شيفانى عاجز أن أحميكى وأحمى نفسى وبنتى ، ليه محاولتيش تقوليلى الحقيقة ، إذا كان فى اصلاً حقيقة غير اللى سمعتها
أزاحت يـ ـديه عن ذرا عيها بحدة ، ولم تكتفى بذلك بل دفعته بصـ ـدره بالبدء وما لبثت أن قبضت على تلابيب ثيابه كأنها تريد خنقه وزهق أنفاسه فصرخت بوجهه وهى تقول بصوت حاولت إخفاء إرتجافه :
– بتدور على أى سبب علشان تبرر بيه اللى أنت عملته ، علشان أسكت وأرضى بأن حضرتك رجعت متجوز ومخلف ، بس مش أنا اللى هسيبك تعمل فيا كده ، وإن كنت مفكر أن هقبل اللى عملته فى حقى وأسكت تبقى غلطان يا راسل ، أنا مش هفضل على ذمتك ثانية كمان ، وطالما بقى عندك زوجة تانية وعايش حياتك ، يبقى كل واحد فينا يروح لحاله ، أنا خلاص مش هقعد فى بيت النعمانى دقيقة كمان ، طلقنى يا راسل
جذبها العنـ ـيف لثيابه ، جعله يشعر بياقة قميصه تكاد تطبق على أنفاسه ، كأنها على وشك خنقه ، فأسرع بإبعاد يـ ـديها عنه وفتح أزرار القميص الأولى ، ليلتقط أنفاسه ، التى شعر بتناقصها وهى قابضة على ثيابه ، كأنها لن تتركه إلا إذا أنتهت أنفاسه وتعلن عن أنه فارق الحياة ، ولكن عوضاً عن تعنـ ـيفها وتأنيبها ، أخذ كفها ووضعه على جانب عنقه ، حيث شعرت بذلك النبض العنـ ـيف أسفل يـ ـدها ، يضرب باطن كفها كالتيار الكهربائى
بُهتت من فعلته ، وفغرت فاها وهى تقول بعدم إستيعاب لما يفعله :
– أنت بتعمل إيه
لن يخبرها بأسبابه الحقيقية لفعلته لتلك ، من أنه أراد الشعور بملمس يـ ـدها مثلما كان معتاد ، وأن تلك الحرارة التى ربما باتت تشعر بها ، ماهى إلا نتاج تلك النيران ، التى ظلت تتأكل قلبه منذ عامين ، ولكنه لم يكتفى بذلك بل زاد بالأمر ووضع يـ ـدها الأخرى موضع قلبه الهادر بصخب داخل قفصه الصدرى
فقال وأنفاسه قد مزقها الشوق بعدما نجحت عيـ ـناه بآسر عيـ ـنيها :
– حاسة بالنبض السريع ده لقلبى ، ده دليل أن كان ممكن تخنقينى يا حياء وأنتى مش حاسة ، عايزة تقتـ ـلينى زى ما قتـ ـلتينى أول مرة شوفتك فيها وشوفت عيـ ـنيكى الحلوين دول ، نظرة واحدة من عيـ ـنيكى يا حياء قادرة أنها تقتـ ـلنى من غير ما تعملى مجهود
جذبت راحتيها بحزم ، فذلك اللعين الخافق بين أضلعها قاب قوسين أو أدنى من أن يعلن هزيمته أمام جيش كلماته التى بدأت مفعولها يسرى بحواسها ، ولكن لا ، لن تكون تلك الغبية ، التى ستقبل بهكذا إهانة منه ، فإن ظن أن حيلته تلك ستفلح وتأتى بثمارها ، وتقبل خضوعها له ، فهو واهم لا محالة
إبتسمت بسخرية وقالت بعدما عقدت ذرا عيها أمام صـ ـدرها:
– أمم ، هو أنت فاكر لما ترجع تقولى كلامك الحلو ده ، أنك كده هتضحك عليها وأقولك عادى يا بيبى يلا بينا نعيش حياتنا زى الأول ، لو كان ده تفكيرك عنى ، يبقى أنت محتاج تعرفنى كويس يا دكتور راسل وهعرفك مين هى حياء قصدى إينجيل دانيال إسكندر شمعون ، اللى شايلة فى دمها دم يهـ ـود
تصريحها بهويتها الحقيقة ما هو إلا وسيلة أرادت إتباعها من أجل أن يأخذ حذره منها ، من أنها زو جة مقهورة شعرت بطعنات الغدر منه ، حتى باتت كأنثى أسد جريحة ، أصيبت بجراح ثاخنة ولن تهدأ حتى تقتص لكرامتها وكبرياءها ، ولكنها لم تظن بيوم أنه هو أول من ستذيقه قسـ ـوتها المغلفة بكبرياء مهدور على أعتاب غدره لها ، وهو من كان تخشى أن يصيبه سوء أو مكروه ، وكانت تتخذ من نفسها حماية له من غدر عائلتها ، ولكن ضاعت تضحيتها هباء ولم تنال شئ سوى ذلك الشعور المميت ، كلما تتخيل أن هناك أنثى نعمت بكونها زو جته وأغدقها بكل ما أحله الله بين الزو جين حتى أنجبت له طفلاً لم تفلح هى فى إنجابه ، فعند تلك الخاطرة ، راحت دموعها تتدفق من عيـ ـنيها ، على الرغم من أنها تحاول جاهدة ألا تبكى ثانية وهو واقف أمامها ، إرتدت بخطواتها قليلاً للخلف ، لعلها تخلق مسافة أمنة بينهما ، عوضاً عن تشتتها ، وهى تشعر بأنفاسه تحيطها
تنفس راسل بعمق قدر حاجة رئتيه للهواء الذى يمكن أن يرطب من تلك النيران التى إستوطنت بداخله منذ أن وجدها فاقدة الوعى بين ذرا عيه ، فرد قائلاً بهدوء:
– اللى أنت عايزة تعمليه أعمليه يا حياء ، أنا رجعت وعارف أنك أكيد هتطلبى ننفصل وأنا معنديش مانع ، بس أخلص مهمتى اللى جيت علشانها وقبل ما أسافر تانى هخلص إجراءات الطلاق
إبتسمت حياء بمرارة ، فها هى تنال مكافئتها بالأخير من كونها وقعت بالعشق وعشقته بل وضعته بمنزلة لم يستطع أحد النيل منها أو أن طوال تلك المدة التى غاب بها عنها لم يحد أو يخف هذا العشق ، ها هو عاد إليها ملثماً بقناع البرود ، حاملاً معه دليل سخافتها وحماقتها من أنها فتاة عاطفية أرادت التضحية بنفسها لتفديه هو وابنته
ضمت شـ ـفتيها ليتسنى لها الوقت بأن تحاول إلجام دموعها ، وسرعان ما هزت رأسها وهى تقول بأنين وألم :
– أنت مخطط وعامل حسابك لكل حاجة ، ودلوقتى مبقاش ليا لازمة لا فى حياتك ولا حياة بنتك ، صحيح هتبقى محتاج ليا فى إيه وأنت دلوقتى عندك زو جة تانية وطفل وبتعمل أسرة حلوة زى ما أنت كنت بتحلم
سكتت لبرهة وعادت لتقول وهى بطريقها لغرفة الثياب :
– مبروك عليك حياتك الجديدة يا راسل ، أنا هاخد هدومى وهمشى
وصلت لغرفة الثياب وسحبت حقيبتها لتضع بها ثيابها ، فظهر راسل على عتبة الباب ، وهتف بها بصوت خرج من جوفه ممزقاً :
– هتروحى فين يا حياء دلوقتى
– دا على أساس أنك لم اتجـ ـوزتنى كنت قاعدة فى الشارع ومليش مكان أقعد فيه ، علشان تسألنى دلوقتى هروح فين ، متنساش أن أهلى الحقيقين أغنياء برضه زى عيلتك وأنا أخويا لسه عايش وعلى وش الدنيا ، متفتكرش أن علشان كنت بعتبرك أهلى وعزوتى وكل حياتى ، أن هضيع ولا أتشرد لما أسيبك و أبعد عنك
قالت حياء بأنفة وكبرياء ووضعت شعرها خلف أذنيها ليظهر وجــ ـهها بوضوح أمام عيـ ـناه ، فأنفها كساه الإحمرار وعيـ ـنيها منتفختان ووجنتيها رطبتين من أثر البكاء ، كأنها تلقت لتوها نبأ وفاة أحب الناس إليها ، نظرت إليه نظرة عابرة قبل أن توليه ظهرها وتسحب ثيابها المطوية على الأرفف الخشبية ، فتساقطت منها قطع الثياب بعد إرتجاف يـ ـديها كأنها فقدت السيطرة عليهما ، بل راح جـ ـسدها ينتفض بأكمله ، وحاولت الحد من ذلك الإرتجاف ولم تفلح
– حياء مالك فى إيه
قالها راسل ولم ينتظر دقيقة أخرى بعدما رآى تشنج جـ ـسدها الواضح بعدما أنحنت لتلملم الثياب التى سقطت على الأرض ، فجلس القرفصاء مقابلاً لها وأخذ يـ ـديها بين راحتيه، حتى بات يشعر بإهتزاز كفيه تزامناً مع إرتعاش يـ ـديها ، كأنها أصيبت بماس كهربائي ، فأحاطها بذرا عيه وضمها إليه ، حتى نجحت بنقل عدوى الإرتجاف إليه ، وجد نفسه يقـ ـبل رأسها بحنو ، وهو يرجوها بصوته المثقل بشعور من الذنب:
– حياء حبيبتى إهدى ، كتر إنفعالك ده غلط ، إهدى بس وأنا …..
لم يكن سعيد الحظ ليكمل حديثه ، إذ سمعا صوت ساندرا وهى تناديه ، بل أنها صارت تقف على عتبة باب غرفة الثياب وهى تقول بإستفسار :
– راسل فى حاجة ، قلقت عليك لما أتأخرت
بسماع حياء صوتها ، رفعت وجـ ـهها عن صـ ـدره وحدقت بها وتأملتها ملياً ، فتاة حسناء ، هيفاء القامة ورشيقة ، جمالها أخاذ بغمازتيها المحفورتان بوجنتيها ، وكأن تأملها لها ما زادها إلا أن تعود إليها نيران غضبها وغيظها أضعافاً مضاعفة ، فدفعته عنها وإستقامت بوقفتها وهى تقول بسخرية :
– قوم طمن المدام عليك ، أصلها قلقت يا حرام ، والله فعلاً أنا مغلطتش لما قولت عليك أن زى أى راجل عينه زايغة وميملاش عينك إلا التراب يا راسل ، صحيح ديل الكـ
أبتلعت باقى حروفها ما أن وجدته يرمقها بنظرة مغزاها إن زادت حرف أخر ، ربما ستلقى منه ما لا يرضيها ، فهدوءها الذى إكتسبته منذ لحظات بعدما إستكانت بين ذرا عيه لتستشعر دفئه ، لم يعد له وجود ، فتساءلت بقرارة نفسها بسخط ، لما تركت لأذنيها الحرية بسماع صوته والتأثر به ، فجاءتها الإجابة محمولة على أجنحة الضعف والخذلان من أنها كانت بشدة شوقها لسماعه مرة أخرى ، حتى وإن دلت حركتها المفرطة وشجارهما ، بأنها لم تعد تطيق رؤية وجهه أو إقترابه منها ، فقلبها ليس آلة لتضغط على الزر وتنطفئ جذوة الحب مرة واحدة ، بل تعلم أنها بحاجة لمزيد من الوقت لتبرأ من هذا الوهم ، ولكن عزاءها الوحيد أن كبرياءها كأنثى حاضراً ولن يجعل قلبها يلين أو يجبن أمامه
وقف راسل ونظر لساندرا قائلاً بهدوء :
– ساندرا روحى شوفى ساجد وأرتاحوا شوية وأنا جاى
ما أن خرجت ساندرا من الغرفة ، حتى عادت حياء تلملم ثيابها ، ولكن وجدت كفه يقبض على معصمها بحزم وهو يقول بما يشبه الأمر :
– خروج من البيت ده مش هتخرجى طول ما أنتى لسه على ذمتى ، لما نبقى نطلق أبقى إمشى ، لكن طول ما أنتى لسه مدام حياء راسل النعمانى هتفضلى هنا ومسمعكيش بتغلطى بكلمة يا حياء وإلا صدقينى هتشوفى منى اللى أكيد مش هيعجبك ، أنا حاولت أحل الأمور بينا بالحسنى من غير ما أغلط فيكى ، بس الظاهر أنك محتاجة تتعلمى الأدب وإزاى تتكلمى مع جوزك
نظرت إليه نظرة كره وإشمئزاز وقالت بعدما أقسمت على قلبها بأن تجعله يذوق ويلاتها :
– عايزنى أفضل هنا يبقى تستحمل اللى هيجرالك منى يا دكتور راسل
كلما حاولت سحب معصمها من بين براثن يـ ـده القابضة عليه كالسوار الحديدى ، يزيد هو من إحكام قبضته ، كأنه لن يتركها ولو بعد ألف عام ، بل أراد جعلها أن تكف عن محاولتها المستميتة بتخليص معصمها من يـ ـده ، فإلتفت أنامله حول عنقها ، بينما إبهامه إستقر قريباً من نحرها ، رابتاً به بدهاء حيث شعر بذلك النبض المتسارع من محاولتها إلتقاط أنفاسها اللاهثة جراء شعورها بالغضب ، ولكن ما أن ألتقت أعيـ ـنهما ، وألتقط نظراتها من فوره ، شعر بذلك الخطر المحدق به ، وهو من أن بندقيتيها قادرة على سلبه أنفاسه الواحد تلو الأخر ، بل قادرة على أن تشعل فتيل تلك الحرب الضارية بداخله ، فلو لم تكن الأمور سارت بينهما على هذا النحو السيئ ، لربما كان الآن يروى قلبه الظمآن من أنهار وصالها ، وسيشكو وجع الهوى بساحة قضاء العشق ، ليستصدر حُكماً بأن تكون عيـ ـنيها وشـ ـفتيها رهن إعتقاله ليقتص منهما كيفما يشاء ، ويأسر صبيته الحسناء التى إشتاقها وإشتاق لمرآها ، ولكن أفضت الأمور بينهما فى النهاية لتلك الحالة التى أصبحا عليها من زو جة تقسم بأن تذيقه العذاب وزو ج سيجد مشقة بإلجامها عما تنتوى فعله
❈-❈-❈
مثلما أحاط أمر إقلاعه عن الإدمان بالسرية ، كان حريصاً على جعل زيارة الطبيب المختص بالعلاج النفسي له بنطاق السرية أيضاً ، فالوحيد الذى يأمنه على تلك الأمور الخاصة به ، هو ذلك الرجل ، الذى كان فيما مضى ذراع أبيه الأيمن والرجل المخلص له بأعماله سواء كانت المشروعة أو غير المشروعة ، وبات الآن الحارس الأمين على أسراره حتى بعدما أعلن عمرو أنه لن يخوض بالأعمال الغير مشروعة ، فبموت أدريانو كأن جاءه الخلاص ، لكونه لم يكن سيستطيع إعلان تمرده على أدريانو إذا كان على قيد الحياة ، كأن بموته سكنت شياطين الإنس ولم يعد أحد يسمع شيئاً عن هؤلاء الرجال ، الذين كانوا يعملون تحت إمرته
سمع صوت طرقات على الباب ، تبعها ولوج ذلك الرجل وهو يقول بإحترام :
– عمرو بيه الدكتور وصل تحت
هز عمرو رأ سه قائلاً بصوت هادئ :
– قدموله حاجة يشربها وأنها هخلص لبس هدومى ونازل وراك
خرج الرجل من الغرفة ، وأغلق عمرو الزر الأخير من قميصه ، قبل أن يقوم بثنى أكمامه عن ساعديه المعضلين ، وكأن بتركه للإدمان وإتجاهه لممارسة الرياضة وإتباع نظام غذائي صحى ، أكسبه كل هذا من مظهراً بدنياً قوياً وملامح رجولية ، كأن لم يعد ذلك الشاب الذى كان عليه سابقاً ، فإن كان قبل عامان من هذا اليوم شاباً وسيماً ثرياً يتوارى خلف كل هذا شاب منغمس ببئر من المفاسد والموبقات ، فإنه اليوم صار قوى البنية مفتول العضلات ، وحملت وسامته طابع النضوج ، ولكن لم يكتسب كل هذا بسهولة ، بل يتذكر أيامه الأولى الذى إمتنع فيها عن تناول المخدرات ، أصابه الهزال وضعفت قوته ، حتى بات يظن أنه سيلقى حتفه لا محالة ، وكم من مرة أعلن بخضم شعوره بالألم من أعراض الإنسحاب ، أنه لا يريد أن يقلع عن إدمانه ، ولكن كلما كانت تشتد ألامه وتثبط عزيمته ، كان يتجدد الأمل بداخله من زيارة إمام المسجد له ليبث به الإيمان والثقة ، حتى نجح بالأخير فى إجتياز إختباره الأول وهو تركه للإدمان
خرج من غرفته حتى وصل لغرفة مكتبه ، التى يجرى بها العادة جلساته مع طبيبه النفسى ، وجد ذلك الطبيب الكهل بإنتظاره ، فإبتسم عمرو قائلاً وهو يجلس على المقعد المجاور لتلك الأريكة الجالس عليها الطبيب :
– أسف لو كنت أتأخرت عليك شوية
رد الطبيب إبتسامته بإبتسامة هادئة وهو يقول أثناء إرتداءه لنظارته الطبية:
– متأخرتش كتير ، يلا بينا نبدأ الجلسة ، إحنا المرة اللى فاتت وقفنا عند لما كنت فى الجامعة وأتعرفت على أول شاب كان صديق ليك ، قولى بقى ايه اللى حصل وقتها وليه أنجذبت له مع أنك قولت أن فى الجامعة كانوا معتقدين أنك شاب متعدد العلاقات بالفتيات ومكنش حد يعرف حاجة عن شذوذك ، مخفتش مثلاً أن الشاب ده يفشى سرك فى الجامعة
وضع عمرو ساق على الأخرى وأسند رأ سه لطرف مقعده بإرتياح ، فتذكر المرة الأولى التى أجرى بها تلك الجلسات مع الطبيب الكهل ، وكيف كان شعوره الساحق بالخجل والخوف من أن يبدأ سرد قصته منذ البداية ، أى منذ كان طفلاً صغيراً لا يتعدى عمره بضعة سنوات ، عندما بدأ رحلته مبكراً بعالم الفساد والآثام
أطلق عمرو نهدة عميقة ورد قائلاً بعدما فتش بذاكرته عن صورة ذلك الشاب :
–وقتها كنت خايف ومش خايف ، كأن فى إتنين جوايا بيتخانقوا مع بعض ، والشاب ده أوقات كتير كانوا بيتنمروا عليه ، ومكنش بيقدر يعمل حاجة للشباب اللى بيضايقوه ، لما دافعت عنه بدأ هو يقرب منى لحد ما فى يوم هو اللى جه وقالى أنه بيحبنى وساعات عرفت أنه عنده ميول شذوذ ، ساعاتها فرحت زى ما أكون لقيت فريستى اللى كنت مستنيها
هز الطبيب رأ سه ، وهو يحرك يـ ـده بالقلم على إحدى صفحات الدفتر الصغير الموضوع على ساقه ، فرفع وجـ ـهه عن الدفتر ، وخفض نظارته عن عيـ ـناه قائلاً بصوت رصين :
– فرحت علشان كنت هتبقى أنت المسيطر فى العلاقة ، يعنى تبقى الجانب الأقوى وتحاول تعمل فيه زى ما عمل فيك جوزك مامتك ، لأن كان بيبقى هو دايما المسيطر عليك ، كنت عايز تقلده ، لسه حاسس أنه مسيطر عليك
أهتز جـ ـسد عمرو بمشاعر عدة ، فإلتهبت أذنيه وصارت أكثر إحمراراً عن وجهه ، كأن إرتفعت حرارة جـ ـسده فجأة ، ولم يحسن إخفاء نبرة صوته الحادة وهو يقول برفض غير مقنع للطبيب :
– أنا مكنتش عايز أقلده وأنا مش ضعيف مش ضعيف ، أنا دلوقتى أقوى منه أقوى منه
رفع الطبيب يـ ـده يشير إليه بإلتزام الهدوء ، فثورته خير دليل على أنه مازال يعانى تبعات سيطرة زوج والدته ، حاول الطبيب أن يحد من غضبه وإستياء ، فإبتسم له وهو يقول بهدوء ولين :
– إهدى يا عمرو العصبية مش هتفيدك ، وأظن هاجس الخوف عندك من جوز مامتك مبقاش له وجود بعد خلاص ما مات
هذا ما يظنه الطبيب ، بل ويظنه الجميع حتى والدته ، من أن زو ج والدته توفى بذلك الحادث فى العام الماضى ، ولكن ليست تلك هى الحقيقة ، فهو إستطاع تزييف موت زو ج والدته ، حتى يأخذ حريته بتعذيبه كيفما يشاء ، حتى إن دنت تلك اللحظة لكى يتخلص منه ، لا يجد مشقة بذلك ، فكل الأوراق والدلائل تشير أن زو ج والدته ألقى حتفه منذ عام كامل
حركة عيـ ـنيه الزائغتين ، جعلت الطبيب يشك بأن هناك أمراً لا يعرفه ، فحملق به بقوة متسائلاً بشئ من الإلحاح :
– عمرو هو أنت فى حاجة مخبيها عليا ، حركة عيـ ـنيك وأنك مش مرتاح فى قعدتك بتدل على أن فى حاجة أنت مخبيها
أزدرد عمرو لعابه ورد قائلاً بإرتباك :
– هكون مخبى إيه يعنى مفيش حاجة ، أنا بس متوتر شوية علشان النهاردة هروح أزور خطيبتى بقالى فترة طويلة مشوفتهاش
يعلم الطبيب بأمر خطبته المزيفة ، ولكنه أرجئ الحديث عنها ، عندما يحين وقتها ، كونه أراد أن يبدأ معه منذ البداية مروراً بمراحل عمره المختلفة ، وما عاناه منذ الصغر ، فأغلق باب فضوله مؤقتاً ليستأنف معه الحديث ، ولكن أعلن عمرو عن رغبته فى عدم إكمال الجلسة لشعوره المفاجئ بالإرهاق ، فلم يلح عليه الطبيب بالأمر ، بل تركه وخرج من غرفة المكتب ، ووجد ذلك الرجل الذى سيقوم بتوصيله لسيارته
نظر عمرو من النافذة العريضة ، وبعدما تأكد من مغادرة الطبيب ، خرج من غرفة مكتبه ، وهو بنيته أن يذهب لذلك المنزل الذى يحتجز به زو ج والدته ، ولكن عاد وتذكر أمر سهى عندما هاتفته تخبره بأن أبيها يريده بأمر هام ، خرج لمرآب السيارات ، وإستقل إحدى سياراته المصفوفة بالمرآب الكبير ، وفكر بالذهاب إليها بالجامعة أولاً ليعلم أى أمر هذا الذى يريده منه أباها ، فقاد سيارته حتى وصل لداخل الحرم الجامعى وأوقف السيارة أمام تلك الكلية التى تدرس بها سهى وهى كلية ” طب الأسنان ”
أخرج هاتفه من جيبه واجرى إتصالاً بها ، ولكنها لم تجيبه إلا بالمرة الرابعة تقريباً ، فخرج صوته حاداً وهو يقول بإستياء :
– أنتى مبترديش عليا ليه على طول ، لازم أرن عليكى كذا مرة علشان تردى
وضعت سهى الهاتف أمام عيـ ـنيها لتتأكد أن من يتحدث معها هو عمرو بعينه ، فذلك الصياح الحاد ، جعلها تظن أن أحداً يحدث زوجته التى جعلته ينتظر وقتاً أكثر من اللازم وحان وقت عقابه لها بالصياح والصراخ وتأنيبها على عدم إجابتها على إتصاله
عقدت سهى حاجبيها وردت قائلة وهى تكز على أسنانها :
– فى إيه يا أستاذ عمرو ، إهدى شوية أنت بتزعق فيا ليه ، كنت فى المحاضرة ولسه خارجة
أدرك عمرو حماقته بأن إحتد عليها بحديثه وهى ليست مذنبة بتلك الحالة التى ألمت به بعد إنهاءه جلسة علاجه النفسى ، فأحياناً يأخذ قراره بأن لا يستمر بمقابلة الطبيب ، حتى لا ينكأ جراحه بيده ، خاصة أن الطبيب يتشدد بمعرفة تفاصيل حياته كاملة والأدق منها الخاصة بعلاقاته المحرمة ، ولكن يعود ويصرف تفكيره عن الرفض بمقابلته رغبة منه فى أن يشفى من تلك الآلام والجراح التى ألمت به منذ حداثة سنه
غمغم عمرو معتذراً :
– سورى مكانش قصدى يا سهى ، أنا هنا فى الجامعة جيت علشان أقابلك ، علشان أعرف باباكى عايز إيه ، أنا مستنيكى فى العربية بتاعتى قدام الكلية
نظرت سهى أمامها أثناء خروجها من مبنى الكلية ، وجدته جالساً بسيارته الفارهة ، أزدردت لعابها خشية أن يراها ، وتراه يترجل من سيارته فتثار الأقاويل حولها ، خاصة أن لا أحد من زملاءها يعلم بشأن خطبتها ، فذلك الخاتم الماسى ، الذى قدمه لها بيوم خطبتهما المزيفة ، لا ترتديه إلا بالمنزل أمام أبيها وزو جته وغير ذلك تضعه بحقيبتها ، ولا تعلم حتى الآن كيف أنطلت تلك الكذبة على عائلتها ، أو لما والدها ظل طوال هذان العامان صامتاً ولم يساوره القلق أو الشك من عدم مجئ عمرو لزيارتها إلا بضعة مرات تعد على أصابع اليد الواحدة ، ولكن ربما الآن صار مستاءاً من ذلك الوضع وأراد وضع حداً له ، لذلك طلب منها أن تخبره بشأن أن يأتى لمقابلته ، لكونه لا يراه بتلك الشركة التى يعمل بها ، والتى من المفترض أنه المالك لها
حدث ما كانت تخشاه ووجدت عمرو يترك سيارته ويرفع يده ملوحاً لها يناديها بصوت جهورى :
– سهى سهى
أسرعت بخطواتها تجاهه وهى تضرب بيـ ـدها على فمها كأنها تشير له بالصمت ، فهتفت به بغيظ :
– بس أسكت أنت بتنادى على واحدة تايهة ، الطلبة يقولوا عليا إيه
وضع يـ ـديه بجيبى بنطاله الجينز ، فإبتسم على نحو غير معتاد لها ورد قائلاً بحرج طفيف :
– أفتكرتك مش شيفانى فبنادى عليكى
– ما أشوفكش إزاى وأنت بسم الله ماشاء الله زى الحيطة وأطول من الطلبة الموجودين هنا ، طبيعى أى حد هيشوفك
يالها من فتاة سليطة اللسان ، تجعله أحياناً يريد أن يتخلى عن كل مظهر حضارى ويجلدها بلسانه هو الأخر ، فهو لم ينسى يوم خطبتهما المزيفة ، كيف كانت هادئة وأجادت تمثيل دورها ببراعة ، حتى ظن أنها خطبة رسمية وسيتزوجان بالقريب العاجل ، ولكن ما أن أنتهى الحفل العائلى ، عادت لما كانت عليه من سلاطة اللسان وحديثها اللاذع ،ولولا أنه بعد خطبتهما مباشرة بدأ خطة علاجه من الإدمان ، لكان تفنن فى رد كرامته المهدورة ، ولكنه عاد وتذكر أنها فتاة وليست شاب أو رجل ليقتص منه بالطريقة التى يراها عادلة ، فلا يردعه عنها سوى كونها بالنهاية أنثى ، ولا يحق له إستعراض قوته كرجل أو شاب فى مجابهتها
أدنى رأسه للأمام قائلاً بصوت منخفض :
– أنتى عارفة لسانك ده عايزة قطعه والله
زاغت عيـ ـنيها بكل إتجاه تستعرض تلك النظرات المنصبة عليهما من هؤلاء الفتيات ، اللواتى تركن كل شئ وجلسن يشاهدن ما يفعلانه ، كأنهما يؤديان فقرة تمثيلية أمام الجمهور ، فرأت أنه من الأنسب لهما أن يرحلان من هنا ، ولكن ما كادت تخبره بشأن عودتها للمنزل ، وجدت شاب يناديها ، ولم يكن سوى شاب يدرس معها بالكلية
ضمت سهى كتبها لصـ ـدرها وزحف الخجل لوجنتيها حتى صارتا بلون الورود الحمراء ، فردت قائلة بتهذيب :
– أفندم حضرتك بتنادى عليا
مد الشاب يـ ـده لها ببعض الأوراق وهو يقول بإبتسامة هادئة:
– دى المحاضرة اللى أنتى محضرتهاش الأسبوع اللى فات أنا صورتهالك علشان تذاكريها ولو فى أى محاضرات تانية محتجاها أنا تحت أمرك
أخذت سهى الأوراق من يـ ـده وإبتسمت وهى تقول بخجل :
– متشكرة جداً على ذوقك
غادر الشاب وأقترح عمرو بأن يقوم بإيصالها للمنزل ، فأخبرته سهى بأنها ستعود لمنزلها بسيارة أجرة على أن يوافيها هو بسيارته ، وما أن وصلت للمنزل وصعدت درج الطابق الأول لتصل لشقتهم بالطابق الثانى، أنتفضت من صوت عمرو وهو يهتف بها بضيق :
– هو كان مين الشاب اللى كلمك فى الكلية ده كمان وإيه الأدب والخجل اللى كنتى فيه ده فجأة ، هو أنتى زى البنات الطبيعيين بتتكسفى وكده ، مقولتليش باباكى كان عايزنى فى إيه
رحلت عن وجهها ملامح الهدوء والخجل ، التى بدت كأنها ضيف مؤقت ، لم يتبقى سوى لحظات معدودة ، وعادت لما كانت عليه من أمور الشراسة وإطلاق العنان للسانها السليط ، فرفعت شـ ـفتها العليا وردت قائلة بإمتعاض :
– معرفش بابا عايزك ليه ، ويارب يكون عايزك علشان يفسخ الخطوبة ، لأن بصراحة زهقت من التمثلية دى وأنا خلاص دلوقتى دخلت الجامعة وبابا شايف أن متفوقة فيها ، مظنش أنه لو فسخنا الخطوبة هيغصب عليا اتجوز إلا لما أخلص دراستى
قال عمرو بنبرة صوته المتهكمة :
– أه يعنى دلوقتى خلصت حاجتى من عند جارتى ، ضمنتى مستقبلك ومبقاش ليا لازمة ، بس لسا مجاوبتنيش مين الشاب ده اللى كلمك فى الكلية
نفخت سهى بضيق وردت قائلة بوجوم :
– هو أنت مبتشوفش ، يعنى أدانى ورق محاضرات أكيد يعنى زميلى فى الكلية سهلة أهى ولا أنت عندك الفهم بطئ ، ثم أنت بتسأل بصفتك إيه ، أنت فكرت نفسك خطيبى بجد علشان تسأل وتستفسر مين اللى كلمنى أو لاء
ربما اليوم هو يوم حظها السئ ، كونه أنه ليس بحالة مزاجية ، تسمح له بسماع هراءها وسبابها اللاذع ، فقبض على ذراعها حتى كادت أن تشعر بأنه أصابعه ستنفذ لعظامها ، وكانت الطامة الكبرى بمحاولته أن يعانقها رغماً عنها ، ولا يعلم لما أقدم على إرتكاب تلك الحماقة ، خاصة أنهما على الدرج وبإمكان أى أحد أن يراهما ، فهو لم يعانق فتاة بحياته ، ولا يعلم كيف يكون مذاق العناق بين شاب وفتاة ، وأراد أختبار ذلك الأمر معها ، دون أن يتروى بتفكيره ، ولكنه ساذج وأحمق إذا ظن بأنها ستسمح له بإرتكاب ذلك الأمر الذى لا يحل له حتى وإن كان خطيبها ، لذلك قبل أن يحقق مراده ويعانقها دوى صوت تلك الصفعة التى صفعته إياها على وجهه بأذنيهما ، ولم تكتفى بذلك بل دفعته عنها وهى تبكى وتلعنه على أنه فكر بفعل ذلك وهى ليست زو جته ولا تحل له بأى صورة ، فوضع يـ ـده على وجنته يتحسس مكان تلك الصفعة التى تلقاها منها ولم ينتظر دقيقة أخرى إذ هبط الدرج بخطوات سريعة حتى وصل لسيارته ، فإستقلها وأنطلق بها لتلك الوجهة الأولى التى كان يخطط لها منذ خروجه من المنزل ، من أن يذهب لذلك المنزل المحتجز به زو ج والدته ، ليصب عليه جام غضبه ونقمه وسخطه ، على ما لقاه بيومه
❈-❈-❈
وضعت هند أخر طبق من الطعام على المائدة ،التى عملت على تزيينها بوضع أطباق الطعام الشهى ، الذى أعدته من أجل تلك الليلة ، ولم تنسى وضع بعض الشموع الفواحة ، لتضفى مظهراً أكثر جاذبية ورومانسية على ليلتهما المميزة ، فاليوم الذكرى الثانية ليوم زفافهما ، لذلك أرادت أن يحتفلا سوياً كالعام الماضى ، الذى ما زالت متذكرة كيف كان يوماً لا ينسى بحياتها ، وربما الليلة ستعوض ما فاتها من أيام ، غاب عنها زو جها من إنغماسه بعمله وعودته بعدما يكون أدركها النعاس وهى بإنتظاره ، لذلك أصرت على إعداد تلك المائدة العامرة بأنواع الطعام الذى يحبه زو جها ، ولم تنسى أن تكون هى الأخرى على أتم الاستعداد لإستقباله بعد عودته ، فثوبها الأسود الحريرى ، الذى يماثل لون خصيلاتها الفحمية ، كان مسدلاً بنعومة على قوامها الرشيق ، وتضارب لونه مع صفاء ونقاء بشرتها الغضة الملساء ، ولم تكتفى بذلك بل نثرت ذلك العطر الذى فاح منها لتكتمل تلك الصورة الأنثوية الصارخة بمعالم الجمال والذى ستخلب عقل زوجها لا محالة
أضاءت الشموع وأطفأت الأنوار وقالت بصوت حالم :
– يارب ترجع من الشغل النهاردة بدرى يا كرم زى ما قولتلى علشان أنت وحشتنى أوى
أخذت هاتفها وأرسلت له رسالة تحثه على العودة باكراً ، فهى تريد مفاجئته بكل ما أعدته من أجله ، جلست تنتظره بشوق ، فمرت ساعة وإثنان وثلاثة حتى شب القلق بقلبها ، فأخذت هاتفها لكى تطمئن عليه ، ولكن لم يحالفها الحظ بالوصول إليه ، نظراً لأن هاتفه مغلق ، دارت حول نفسها بخوف من أن يكون أصابه مكروه فالوقت أقترب من منتصف الليل وهو لم يعود
إلتقطت أنفاسها وهى تراه يلج من الباب ، فها هو قد عاد للبيت سليماً ، ولكن كان غضبها منه وصل لذروته، ولم يعد بإمكانها السيطرة على صوتها الذى خرج حاداً وهى تقول بإنزعاج :
– كل ده تأخير يا كرم وكمان تليفونك مقفول حرام عليك حرقة أعصابى دى
تعجب كرم من هجومها المفاجئ بحديثها على غير عادتها معه من لين الحديث ولطافتها ودلالها ، فقطب حاجبيه قائلاً بدهشة طفيفة :
– مالك يا هند بتعلى صوتك ليه كده ، هى دى أول مرة أتأخر فى الشغل يعنى ، كان فى فوج سياحى وصل وصاحب شركة السياحة طلب منى أكون معاهم لحد ما رجعوا الفندق
تلك هى الإجابة الوحيدة التى تحصل عليها منه ، كلما سألته عن سبب تأخره فى العودة للمنزل ، فمنذ عمله مترجماً للغة الفرنسية بأحد شركات السياحة ، وهو يعود إليها بوقت متأخر من الليل معللاً ذلك بأنه رافق أحد الأفواج السياحية التابعة لتلك الشركة التى يعمل بها بجانب تدريسه بأحد المدارس الخاصة بالمرحلة الثانوية ، وكأن وقته أصبح محصوراً بين عمله نهاراً بالمدرسة ، ومساءاً بشركة السياحة ، ولا تحصل هى إلا على تلك السويعات القليلة الفاصلة بينهما
زفرت هند زفرة مطولة وأغمضت عيـ ـنيها ريثما تهدأ قليلاً ، ولكن سرعان ما فتحتهما وهى تقول بدون مقدمات :
– كرم أنت لازم تشوفلك حل فى الموضوع ده أنا مبقتش ألحق أقعد معاك ، حتى كمان مانعنى من أن أحمل وأجيب طفل يسلينى فى وحدتى دى ، كده كتير وحرام بصراحة ، خلاص خلينا نجيب بيبى على الأقل يشغلنى شوية ويعوضنى عن غيابك طول النهار
ما أن أتت على ذكر الإنجاب ، تغيرت ملامح وجهه ورد قائلاً بحدة :
– قولتلك يا هند موضوع الخلفة ده لازم نأجله شوية على ظروفى ما تتحسن ، مش عايزك تتكلمى فى الموضوع ده تانى دلوقتى ماشى
ساهمت نبرة صوته الحادة والرافضة لمطلبها بزيادة حنقها ، ألم يكفيه أنه لم ينتبه عليها وعلى ذلك الثوب الذى أرتدته ، أو على تلك المائدة التى أعدتها من أجله ، وأنصهرت تلك الشموع الفواحة بفعل لهيبها ، كإنصهار حلمها بأن تنعم بليلة حب دافئة وهى جالسة بإنتظاره أن يعود
فضمت طرفى رداءها وقالت بغيظ وهى تتجه صوب غرفة النوم:
– ماشى يا كرم لا هتكلم فى الموضوع ده ولا أى موضوع تانى تصبح على خير ، الأكل عندك على السفرة لو كنت عايز تاكل تصبح على خير
ولجت لغرفة نومهما وأغلقت الباب خلفها بحدة ، فعقد كرم حاجبيه بغرابة من ذلك التحول الذى طرأ عليها اليوم ، أو لما الليلة أحتدم النقاش بينهما هكذا ، على الرغم من أن حياتهما تسير على ذلك المنوال منذ عدة أشهر ، أقترب من المائدة ونظر للورود و الأطباق المتراصة بأناقة وبقايا الشموع ، ففطن أنها أعدتها من أجل ليلة مميزة ، وضع يده على جبهته ودلكها برفق ليتذكر تاريخ اليوم ، وما أن تذكر أن اليوم هو يوم ذكرى زواجهما ، علم مدى إنزعاجها لحرصها الدائم على أن يكون ذلك اليوم ذكرى لا تنسى بحياتهما
أسرع بخطواته تجاه غرفة نومهما وفتح الباب وهو بنيته أن يقدم إعتذاره لها ، فوجدها مستلقية على الفراش توليه ظهرها ، ويبدو أنها كانت تبكى ، فأقترب أكثر منها ، حتى باتت بإستطاعتها أن تراه وهو جالساً القرفصاء بجوار الفراش ، ولكن قبل أن يفه بكلمة ، رمقته بعينان دامعتان وهى تقول بصوت متحشرج :
– كرم بكرة أنا هسافر إسكندرية ، بابا وماما وحشونى وعايزة أشوفهم وهقعد هناك كام يوم
هذا ما كان يخشاه أن يصيبها السأم سريعاً منه ومن معيشتهما ، إلا أنه لم يبدي لها قلقه هذا ، فرد قائلاً بهدوء:
– زى ما أنتى عايزة يا هند ، عايزة تسافرى سافرى أنا مش مانعك ، جايز أعصابك ترتاح لما تشوفى باباكى ومامتك
لم يتكلف عناء زيادة كلمة أخرى ، بل نهض من مكانه وخرج من الغرفة ، ففغرت هند فاها لظنها بأنه سيستميت بأن لا يجعلها تذهب لمنزل أبيها بمفردها ، مثلما كان يفعل معها دائمًا ، فإن كانت قالت حديثها رغبة منها فى أن تسمعه يخبرها بأنه لن يجعلها تقضى أياماً بعيدة عنه ، فبالغد ستسافر للإسكندرية مثلما أخبرته ، أخذت الوسادة ووضعتها على رأسها لتكتم صوت بكاءها وحزنها على إنتهاء ليلتهما قبل أن تبدأ ، بل أنتهت نهاية غير مستحبة من جانبها ، ولن يقتصر الأمر على ذلك ، فغداً ستأخذ حقيبتها وتتجه صوب محطة القطار ، قبل أن يتفاقم غضبها أكثر وتثور أفكارها حول رغبتها بأن تنجب طفلاً ، فهى لا تعلم إلى متى ستستطيع إرجاء تفكيرها بهذا الأمر ؟ خاصة أن غريزة الأمومة بدأت تلح عليها منذ أن وضعت والدة سويلم حملها وأنجبت فتاة خلبت قلب هند منذ رؤيتها وتمنت أن يصبح لديها طفلة مثلها تدللها وتعتنى بها وكم تهوى لو أن ترث لون عينىّ زوجها ، حتى تسلبها قلبها وعقلها كما سلبهما كرم بعشقها له ، ولكن إستياءها الحالى منه جعلها ترغب فى أن تجعله يشعر بالذنب لتفكيره بأن يحرمها تلك العاطفة التى خلقها الله بقلب كل فتاة منذ لهوها بالدمى وهى صغيرة
❈-❈-❈
لم تكن قواه الخائرة ووهنه الظاهر للعيان أن يمنعانه من أن يتهلل وجهه وهو يرى ذلك الواقف بجوار فراشه بالمشفى ، وبالبدء ظن أنه يرى شبحاً أو طيفاً يشبه ولده الهارب ، وليس هذا وحسب بل يرافقه طيف أخر لحفيدته الصغيرة ، التى أختفت البهجة من حياته ومنزله منذ أن أخذها راسل وغادر من الإسكندرية ، ولكن كأنه إستعاد عافيته فجأة ، فأرتفعت رأسه عن الوسادة وملأت الإبتسامة وجهه ، وأراد أن يتأكد من أن ما يراه حقيقة وواقع بإمكانه لمسه ، لذلك رفع يـ ـديه يشير لسجود بالإقتراب ، فإستجابت له على الفور وتركت يـ ـد والدها وأقتربت من الفراش ، بل لم تكتفى بذلك بل صعدت بجوار جدها وأنحنت إليه تقـ ـبله برقة شـ ـفتيها الصغيرتين ، ووضعت يـ ـدها الصغيرة بكف رياض
قالت سجود بإبتسامة :
– وحشتنى يا جدو
عبارتها كترياق لداء كان يصعب عليه أن يجد له دواء ، ولكن ها هى قد عادت تحمل معها الأمل والإبتسامة له ، حتى وإن كان يعلم بدنو أجله ، وأن ربما الموت يحوم حوله بتلك الأيام ، ولكنه لم يكن يخشى الموت قدر حاجته لأن يراها ويرى إبنه قبل أن يأذن الله له بالرحيل
مسد بيـ ـده على رأسها ورد قائلاً وعيـ ـناه شبه دامعتان :
– حبيبة قلب جدو ، حمد الله على السلامة وأنتى كمان وحشتينى أوى يا سيجو
خطى راسل تلك الخطوات القليلة التى كانت تفصل بينه وبين أباه ، وكلما حاول فتح فمه ليعرب له عن مدى قلقه الشديد بعد علمه بما أصابه ، يعود ويضم شـ ـفتيه ، ولكن أسرع رياض ببدأ الحديث الذى لم يخلو من العتاب :
– حمد الله على السلامة يا دكتور راسل ، كان لازم تعرف أن أنا بموت علشان ترجع ، بس فيك الخير ، أنا قولت أنك هتنفذ كلامك اللى قولتهولى مرة أن لو حتى أنا مت مش هتيجى تاخد العزا
شعور ساحق بالذنب بدأ بسحق قلبه ورغم ذلك ظل ثابتاً جامداً ، لا تعترى ملامح وجهه سوى معالم الهدوء والسكون ، ربما ليخدع عيـ ـنى والده ، بأنه مازال كما هو قاسياً متحجراً بمشاعره تجاهه ، وألا يجعله يفطن الحقيقة ، من أنه حقاً يشعر بالخوف بل من داخله مرتعباً من فكرة رحيله عنهم بصورة نهائية
لمس راسل نظارته وحملق بأباه قائلاً بنبرة جامدة :
– أظن ده مش وقت العتاب دلوقتى ، أنا لما عرفت رجعت علشان أعملك العملية وجبتلك سجود تشوفها قبل ما ندخل أوضة العمليات لأن خلاص مبقاش فاضل غير نص ساعة قبل ما أبدأ العملية
نظر راسل بساعة معصمه ، هرباً من تحديق والده به ، وأراد الخروج من الغرفة قبل أن تخترقه نظرات أبيه وينهار ثباته المزيف ، الذى يحاول جاهداً الحفاظ عليه حتى يمر الأمر بسلام ، وإلا سيخفق فى إجراء تلك الجراحة
خرج من غرفة والده وجد الجميع بالخارج ، فكلهم جاءوا من أجل الإطمئنان على رياض ، ولا أحد منهم بنيته المغادرة قبل أن تنتهى الجراحة
– ميس يلا علشان هتدخلى معايا أوضة العمليات
هتف راسل بميس بشئ من الحزم ، فوجدها ترتد بخطواتها للخلف وهى تهز رأسها بالنفى ، رغم أنها رافقته عدة مرات بغرفة الجراحة ، إلا أن تلك المرة لن تستطع فعلها خاصة أن المريض جدها الحبيب
وجدته يرمقها بنظرة مستاءة وسرعان ما قال آمرًا إياها :
– اللى قولت عليه يتسمع يا دكتورة ميس ومش عايز نقاش أتفضلى جهزى نفسك ، فى دكتورة تتأخر عن تأدية واجبها ده مش وقت الدلع
أطاعته ميس على مضض ، خشية إثارة المزيد من إستياءه ، الذى لا تعلم له سبباً ، ولكن يبدو عليه أنه وجد بها كبش فداء لينفس بها جام خوفه وإستياءه وخشية إخفاقه بمهمته ، فبعد إستعدادهما لدخول غرفة الجراحة ، ألقى راسل نظرة أخيرة على حياء الجالسة بمقعد بعيد عن مكان جلوس ساندرا والصغير وتضع على ساقيها سجود ، التى رفضت تركها ، فمنذ تلك المواجهة بينهما بعد عودته وهما لم يتحدثان مرة أخرى ، بل فضل تركها بمعزلها عنه ، حتى لا يتفاقم الأمر بينهما أكثر ، ولكى يرى فيما بعد ما سيحدث بينهما خاصة أنه أخذ قراره بإطلاق سراحها ومنحها الطلاق قبل مغادرته البلاد
ولج لتلك الغرفة التى سيجرى بها الجراحة لوالده ، ووقف بجوار ذاك السرير الصغير ناظرًا لأباه الغافى بعدما تم حقنه بإبرة المخدر ، فتنفس بعمق هامساً لذاته :
– بسم الله الرحمن الرحيم ، يارب قوينى والعملية تتم على خير وأقدر أنقذه
تلك الأصوات الصادرة عن ذلك الجهاز المختص بتوضيح ضربات القلب من حيث إنتظامها ، جعل عيـ ـناه تصب كامل تركيزها وإنتباهها على ما تفعله يـ ـداه ، فبدقة وإحترافية ، بدأ بوضع المبضع بجـ ـسد أبيه ليشق ذلك الجزء اللازم ، الذى سيمكنه من إجراء تلك الجراحة التى عاد من أجلها ، وعلى الرغم أن ما يحدث الآن يستلزمه بذل مجهود هائل للحفاظ على رابطة جأشه وأن ينسى ولو مؤقتاً أن من يرقد أسفل يـ ـديه الآن هو والده ، إلا أنه متمرساً ومحترفاً بفصل عواطفه وقتما يريد ، فتلك الخبرة التى إكتسبها ساهمت بأن يبدأ عمله ، كأنه يجرى الجراحة لأحد المرضى العاديين ، فلو ترك عاطفته تغلبه ، سيجد جـ ـسده يرتجف بل ربما سيبدأ بالبكاء والنواح من أجل أباه ، ولا يعلم كيف شعر بكم تلك المشاعر والعواطف ، على الرغم من أن الأمور بينهما دائماً كانت تشوبها النفور والإحجام ، حتى تلك المدة القصيرة التي أقامها معه قبل سفره ، لم تشفع له عندما أخذ قراره بالمغادرة
جحظت عينى راسل بعدما رآى إنخفاض مؤشر ضربات القلب ، دليلاً على أن ربما والده يتهيئ لأن يرحل عن دنياهم ، ولكن عزيمته جعلته يأخذ قراره بأن تسرع ميس بتنفيذ أوامره بمساعدته من أجل إعادة ضربات القلب لمعدلها الطبيعى ، دون أن تثير مشهد عاطفى سيجعل زمام الأمور تفلت من أيـ ـديهما ، فدموعها التى تلألأت بعيـ ـنيها جعلته أكثر شدة وحزم معها حتى جعلها بالأخير تبدأ هى بإنجاز تلك المهمة التى أوكلها إليها
زفر راسل براحة وسحب قناعه الطبى بعد بضعة ساعات قضاها يصارع الوقت فى إنقاذ والده وتوجيه ميس بتنفيذ تعليماته ، فغمغم برضا :
– الحمد لله إنها عدت على خير الحمد والشكر لله
رمقهما الأطباء والممرضين المصاحبين لهما بغرفة الجراحة بإعجاب ، كونهما إستطاعا تحقيق هذا الإنجاز العظيم بإنقاذ أبيه وهو كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينتهى أمره
خرجا من غرفة الجراحة محاوطاً كتفىّ ميس بذراعه ، فهو أثنى عليها من كونها أظهرت مهاراتها اليوم رغم شعورها بالخوف والحزن ، فحدق بها قائلاً بإبتسامة :
– كنتى هايلة يا ميس ، عايزك لما تكونى فى أوضة الجراحة تفصلى عواطفك عن شغلك ، علشان تعرفى تنقذى المريض
ندت عنها زفرة مطولة وردت قائلة بإرهاق :
– أنا كنت حاسة أن هيجرالى حاجة وخصوصاً لما نبضات القلب معدلها أنخفض كنت هموت من الخوف ، وكمان أنت تقريباً بدأت أول خطوة فى العملية وخليتنى أنا كملتها للأخر ، كنت حاسة بمسؤلية كبيرة ، بس الحمد لله عدت على خير وجدو دلوقتى بقى كويس الحمد لله
ما أن وصلا لذلك الرواق المؤدى لغرفة المكتب وجدا أفراد العائلة يتدافعون عليهما لسؤالهما عما صار لكبيرهم ، فطمأنهم راسل بأنه هو وميس أتما الجراحة لوالده على نحو مشرف وتم نقله لغرفة العناية الفائقة لحين إفاقته ، فالوحيدة التى لم تنهض من مكانها هى حياء على الرغم من أن سجود تركتها وركضت إليه مع البقية
ظلت جالسة مكانها تنظر للجدار المقابل لمقعدها ، عاقدة ذرا عيها وتجلس بصمت رغم أنها أرهفت سمعها لتطمئن على أحوال والد زو جها ، لكنها لم تريد أن تقوم من مكانها وتراه ، وما أن أطمئن قلبها على أحوال رياض ، تركت مقعدها وتأهبت للمغادرة وما كادت تبتعد خطوتين حتى سمعت صوت شقيقها ديفيد يناديها ، وهو يتقدم منها بخطوات متلهفة
قطعت هى المسافة الفاصلة بينهما ومدت ذراعيها له ودمعت عيناها ،فتلقاها بين ذراعيه وإحتضنها هامساً لها بحنان :
– وحشتينى أوى يا حياء
– وأنت كمان وحشتنى أوى يا ديفيد كويس أنك رجعت أنا كنت محتجالك أوى
قالت حياء بصوت تخلله رنة حزن مختلطة بالبكاء ، ولم يخفى على ديفيد إستقبالها له من إلقاء نفسها بين ذراعيه ، كأنها تحتمى به ، على الرغم من أنهما أشقاء إلا أن الأمر أقتصر بينهما قبل سفره على عناق أشقاء هادئ ولم يكن مثلما حدث منها الآن
أبتعد عنها قليلاً ورفع وجـ ـهها له وقرأ بعينيها الألم المتسطر بوضوح على صفحات وجـ ـهها ، ولكن قبل أن يفه بكلمة ، رآى راسل يقف وسط أفراد عائلته ، فعاد يرمقها بدهشة وهو يقول متسائلاً:
– هو جوزك رجع أمتى ؟ هو لسه زعلان منك ولا إيه ، علشان كده كلمتينى أرجع إسكندرية ؟ أنا هروح أفهمه كل حاجة ، لازم يعرف أنك مظلومة
قبل أن تعترض حياء على إقتراب ديفيد من راسل ، كان شقيقها يهرول إليه ، ظناً منه أنه هو من سينهى ألم شقيقته بالإعتذار من زو جها عما بدر منه هو وعمه وأنه ما أن يصحح مفهومه الخاطئ عنها ستعود حياتهما لما كانت عليه قبل لقاءها به
ما أن رآى راسل شقيق زو جته يقترب منه ، حتى تغيرت ملامح وجـ ـهه ، وأراد الإنصراف قبل أن يصل إليه ، فترك مكانه وهو بنيته الدخول لمكتبه ، ولكن ديفيد قبض على ذراعه قائلاً بإستجداء :
– راسل إستنى أنا عايز أكلمك ضرورى
نفض راسل يـ ـد ديفيد عنه ورفع سبابته بوجـ ـهه وهو يقول من بين أسنانه محاولاً كظم غيظه:
– متحاولش تلمـ ـسنى مرة تانية أنت فاهم وأنا مش عايز أتكلم معاك ولا أشوف وشك لأن صدقنى ممكن ثانية كمان وأمسح بدمك بلاط المستشفى
ثارت ثائرة حياء بعد سماع قول راسل لديفيد ، فجذبت ذراع شقيقها قبل أن يسهب فى تقديم إعتذاره ، خاصة أن الإعتذار لن يفيد بتلك الحالة ، فقالت بكبرياء وهى تنظر بعينىٌ زو جها :
– ديفيد ملوش لازمة الكلام ولا تضيع وقتك فى الإعتذار ، خلاص راسل مبقاش يلزمنى ، كانت حكاية وخلصت زى اللعبة اللى أنتهت بالخسارة ، بس أنا روحى رياضية مبزعلش من الخسارة اللى بتبقى أحسن من المكسب ، خصوصاً لو خسرت حاجة متستاهلش الزعل ، ثم أنا لما كلمتك يا ديفيد علشان ترجع إسكندرية مش علشان تيجى تعتذر لحد ولا أنك تحاول تصلح الأمور بينى وبينه ، لاء أنا عيزاك ترفعلى قضية طلاق على جوزى دكتور راسليتبع…
لم يتأثر بوابل ضربات قبضتيها على صـ ـدره ، بل تركها تفرغ به جام غضبها وثورتها ، على الرغم من أنه بدأ يشعر بالألم جراء ضرباتها المتلاحقة ، كأن يديها مطرقة تحاول بها تفتيت حجر صلب ، فلم يكن يعلم أنها باتت تملك تلك القوة الساحقة كالهررة المتوحشة والشرسة ، فما يتذكره منها رقة ونعومة أناملها عندما كانت تمررها على وجهه أو لحيته ، أو صـ ـدره عندما كانت تريد منه أمراً ، وتفعل ذلك لتضمن بقاءه هادئاً مستأنساً ليوافق على ما تريده ، انتفض قلبه بصـ ـدره عندما شعر بضربات قلبها المتلاحقة ، لشدة قربها وإلتصاقها به ، فلو ظلت على إنفعالها ستصاب حتماً بالإنهاك وربما ستسقط مغشياً عليها ، لذلك لم يجد مفر من أن يحكم ساعديه حولها أكثر ، وربما بدأت تشعر بالألم وهو كاد يسـ ـحق عظامها بساعديه
أسند ذقـ ـنه لرأ سها ، كأنها يفرض حصاره حولها من كل إتجاه ، حتى أصبحت محاصرة بين ذرا عيه وكبل حركاتها المفرطة ، فهتف بها بأمر حازم مُزج باللين والرجاء :
– إهدى يا حياء ، أنتى كده ممكن يجرالك حاجة ، هشش بس يا روحى كفاية
أما زال يملك الجـ ـرأة ليقترب منها هكذا أو أن يتوددها بتلك الكلمة التى طالما ناداها بها ، فإن كان بالماضى يحيرها ببروده ، فهو صار الآن أشد برودة ، ولكن لما العجب والدهشة ، فهذا هو راسل ، الذى تعلم كيف يجيد التسلح بالامبالاة ويتصرف على النحو الذى يجعل الطرف الأخر مذنباً ، حتى وإن كان هو المذنب من البداية
– سيبنى وأبعد عنى بقولك مش طايقة قربك منى
قالت حياء بحنق وتململت بين ذرا عيه لعله يفلتها ، إلا أنه رفض تركها تفعل ما رغبت به بأن يطلق سراحها من سجنه الدافئ ، الذى طالما حلمت بأن تعود إليه ، وما أن أيقنت من أنه لن يتركها ، رفعت قدمها اليمنى وضربت ساقه فهذا ما إستطاعت الوصول إليه ، كونه يضغط على جزعها العلوى ويمنعها الحركة
لم تكن ضربتها بالقوة الكافية ، التى تجعله يشعر بالألم ورغم ذلك أرخى ذرا عيه عنها ونظر إليها قائلاً بتقييم لأفعالها :
– بقيتى شرسة يا حياء أكتر من الأول
لم يكتفى بقوله ، بل مد أصـ ـابعه وقبض على فكها ، ومازالت عيـ ـناها تفيض بالغضب ، فاستأنف حديثه بصوت هامس:
– بس تصدقى تجننى بشراستك دى يا روحى
فغرت حياها فاها ، فالموقف بأكمله لا يحتمل ، فهو يتحدث معها ، كأنه تركها بالصباح وعاد إليها بالمساء ، وليس أنه رحل عنها منذ عامان ، فأتسعت طاقتى أنفها وردت قائلة بغضب :
– بجد أنا مشوفتش حد فى برودك يا راسل ، أنا بكرهك بكرهك
دمعت عيـ ـناها لعلمها بأن الحقيقة أقسى عليها من تلك الكلمة التى تفوهت بها ، إلا أنها أبت أن تذرف دمعة أخرى ، فإن كان فعل ما فعله وإمتلك زوجة أخرى وطفل ، فهو لا يستحق أن تهدر دموعها من أجله ، رفعت رأسها بإباء وشموخ شاخصة ببصرها إليه ، لربما ترى مردود كلمتها تلك على نفسه
فما كان منه سوى أنه لمس نظارته ، كأنها يعيدها لمكانها لتربض خلف زجاجها سوداوتيه ، يحجبهما عنها لكى لا ترى ما أرتسم بداخلهما ، فرد قائلاً بنبرة كالصقيع :
– عارف إنك أكيد كرهتينى وبتكرهينى ، بس قبل ما تحاسبينى حاسبى نفسك يا حياء ، أنتى اللى عملتى فينا كده من الأول ، أنتى السبب خبيتى عليا أسباب تصرفاتك معايا ، وكمان أسمع عمك وأخوكى بيعترفوا بحقيقة رجوعك ليا ، المفروض أنا اللى أكرهك
إبتسمت حياء إبتسامة مشوبة بالصدمة ورفعت يـ ـدها تشير لنفسها قائلة بدهشة :
– أنا السبب ! دلوقتى بقيت أنا السبب فى خراب علاقتنا ، والمفروض أنت اللى تكرهنى ، لابجد برافو يا راسل نظام قلب ترابيزة هايل ، صحيح خدوهم بالصوت قبل ما يغلبوكم ، دلوقتى بقيت أنت الملاك البرئ ، وأنا الشريرة ، أنا اللى كنت بخاف عليك من الهواء أنت وبنتك ، ضحيت علشان تفضلوا كويسين ومتتأذوش ، كان عندى استعداد أضحى بنفسى علشانكم قصاد أى حد عايز يأذيكم دلوقتى بقيت المذنبة
قبض على ذرا عيها وهز جـ ـسدها بشئ من القسـ ـوة فخرج صوته حاداً :
– ليه مقولتليش ، كنتى شيفانى عاجز أن أحميكى وأحمى نفسى وبنتى ، ليه محاولتيش تقوليلى الحقيقة ، إذا كان فى اصلاً حقيقة غير اللى سمعتها
أزاحت يـ ـديه عن ذرا عيها بحدة ، ولم تكتفى بذلك بل دفعته بصـ ـدره بالبدء وما لبثت أن قبضت على تلابيب ثيابه كأنها تريد خنقه وزهق أنفاسه فصرخت بوجهه وهى تقول بصوت حاولت إخفاء إرتجافه :
– بتدور على أى سبب علشان تبرر بيه اللى أنت عملته ، علشان أسكت وأرضى بأن حضرتك رجعت متجوز ومخلف ، بس مش أنا اللى هسيبك تعمل فيا كده ، وإن كنت مفكر أن هقبل اللى عملته فى حقى وأسكت تبقى غلطان يا راسل ، أنا مش هفضل على ذمتك ثانية كمان ، وطالما بقى عندك زوجة تانية وعايش حياتك ، يبقى كل واحد فينا يروح لحاله ، أنا خلاص مش هقعد فى بيت النعمانى دقيقة كمان ، طلقنى يا راسل
جذبها العنـ ـيف لثيابه ، جعله يشعر بياقة قميصه تكاد تطبق على أنفاسه ، كأنها على وشك خنقه ، فأسرع بإبعاد يـ ـديها عنه وفتح أزرار القميص الأولى ، ليلتقط أنفاسه ، التى شعر بتناقصها وهى قابضة على ثيابه ، كأنها لن تتركه إلا إذا أنتهت أنفاسه وتعلن عن أنه فارق الحياة ، ولكن عوضاً عن تعنـ ـيفها وتأنيبها ، أخذ كفها ووضعه على جانب عنقه ، حيث شعرت بذلك النبض العنـ ـيف أسفل يـ ـدها ، يضرب باطن كفها كالتيار الكهربائى
بُهتت من فعلته ، وفغرت فاها وهى تقول بعدم إستيعاب لما يفعله :
– أنت بتعمل إيه
لن يخبرها بأسبابه الحقيقية لفعلته لتلك ، من أنه أراد الشعور بملمس يـ ـدها مثلما كان معتاد ، وأن تلك الحرارة التى ربما باتت تشعر بها ، ماهى إلا نتاج تلك النيران ، التى ظلت تتأكل قلبه منذ عامين ، ولكنه لم يكتفى بذلك بل زاد بالأمر ووضع يـ ـدها الأخرى موضع قلبه الهادر بصخب داخل قفصه الصدرى
فقال وأنفاسه قد مزقها الشوق بعدما نجحت عيـ ـناه بآسر عيـ ـنيها :
– حاسة بالنبض السريع ده لقلبى ، ده دليل أن كان ممكن تخنقينى يا حياء وأنتى مش حاسة ، عايزة تقتـ ـلينى زى ما قتـ ـلتينى أول مرة شوفتك فيها وشوفت عيـ ـنيكى الحلوين دول ، نظرة واحدة من عيـ ـنيكى يا حياء قادرة أنها تقتـ ـلنى من غير ما تعملى مجهود
جذبت راحتيها بحزم ، فذلك اللعين الخافق بين أضلعها قاب قوسين أو أدنى من أن يعلن هزيمته أمام جيش كلماته التى بدأت مفعولها يسرى بحواسها ، ولكن لا ، لن تكون تلك الغبية ، التى ستقبل بهكذا إهانة منه ، فإن ظن أن حيلته تلك ستفلح وتأتى بثمارها ، وتقبل خضوعها له ، فهو واهم لا محالة
إبتسمت بسخرية وقالت بعدما عقدت ذرا عيها أمام صـ ـدرها:
– أمم ، هو أنت فاكر لما ترجع تقولى كلامك الحلو ده ، أنك كده هتضحك عليها وأقولك عادى يا بيبى يلا بينا نعيش حياتنا زى الأول ، لو كان ده تفكيرك عنى ، يبقى أنت محتاج تعرفنى كويس يا دكتور راسل وهعرفك مين هى حياء قصدى إينجيل دانيال إسكندر شمعون ، اللى شايلة فى دمها دم يهـ ـود
تصريحها بهويتها الحقيقة ما هو إلا وسيلة أرادت إتباعها من أجل أن يأخذ حذره منها ، من أنها زو جة مقهورة شعرت بطعنات الغدر منه ، حتى باتت كأنثى أسد جريحة ، أصيبت بجراح ثاخنة ولن تهدأ حتى تقتص لكرامتها وكبرياءها ، ولكنها لم تظن بيوم أنه هو أول من ستذيقه قسـ ـوتها المغلفة بكبرياء مهدور على أعتاب غدره لها ، وهو من كان تخشى أن يصيبه سوء أو مكروه ، وكانت تتخذ من نفسها حماية له من غدر عائلتها ، ولكن ضاعت تضحيتها هباء ولم تنال شئ سوى ذلك الشعور المميت ، كلما تتخيل أن هناك أنثى نعمت بكونها زو جته وأغدقها بكل ما أحله الله بين الزو جين حتى أنجبت له طفلاً لم تفلح هى فى إنجابه ، فعند تلك الخاطرة ، راحت دموعها تتدفق من عيـ ـنيها ، على الرغم من أنها تحاول جاهدة ألا تبكى ثانية وهو واقف أمامها ، إرتدت بخطواتها قليلاً للخلف ، لعلها تخلق مسافة أمنة بينهما ، عوضاً عن تشتتها ، وهى تشعر بأنفاسه تحيطها
تنفس راسل بعمق قدر حاجة رئتيه للهواء الذى يمكن أن يرطب من تلك النيران التى إستوطنت بداخله منذ أن وجدها فاقدة الوعى بين ذرا عيه ، فرد قائلاً بهدوء:
– اللى أنت عايزة تعمليه أعمليه يا حياء ، أنا رجعت وعارف أنك أكيد هتطلبى ننفصل وأنا معنديش مانع ، بس أخلص مهمتى اللى جيت علشانها وقبل ما أسافر تانى هخلص إجراءات الطلاق
إبتسمت حياء بمرارة ، فها هى تنال مكافئتها بالأخير من كونها وقعت بالعشق وعشقته بل وضعته بمنزلة لم يستطع أحد النيل منها أو أن طوال تلك المدة التى غاب بها عنها لم يحد أو يخف هذا العشق ، ها هو عاد إليها ملثماً بقناع البرود ، حاملاً معه دليل سخافتها وحماقتها من أنها فتاة عاطفية أرادت التضحية بنفسها لتفديه هو وابنته
ضمت شـ ـفتيها ليتسنى لها الوقت بأن تحاول إلجام دموعها ، وسرعان ما هزت رأسها وهى تقول بأنين وألم :
– أنت مخطط وعامل حسابك لكل حاجة ، ودلوقتى مبقاش ليا لازمة لا فى حياتك ولا حياة بنتك ، صحيح هتبقى محتاج ليا فى إيه وأنت دلوقتى عندك زو جة تانية وطفل وبتعمل أسرة حلوة زى ما أنت كنت بتحلم
سكتت لبرهة وعادت لتقول وهى بطريقها لغرفة الثياب :
– مبروك عليك حياتك الجديدة يا راسل ، أنا هاخد هدومى وهمشى
وصلت لغرفة الثياب وسحبت حقيبتها لتضع بها ثيابها ، فظهر راسل على عتبة الباب ، وهتف بها بصوت خرج من جوفه ممزقاً :
– هتروحى فين يا حياء دلوقتى
– دا على أساس أنك لم اتجـ ـوزتنى كنت قاعدة فى الشارع ومليش مكان أقعد فيه ، علشان تسألنى دلوقتى هروح فين ، متنساش أن أهلى الحقيقين أغنياء برضه زى عيلتك وأنا أخويا لسه عايش وعلى وش الدنيا ، متفتكرش أن علشان كنت بعتبرك أهلى وعزوتى وكل حياتى ، أن هضيع ولا أتشرد لما أسيبك و أبعد عنك
قالت حياء بأنفة وكبرياء ووضعت شعرها خلف أذنيها ليظهر وجــ ـهها بوضوح أمام عيـ ـناه ، فأنفها كساه الإحمرار وعيـ ـنيها منتفختان ووجنتيها رطبتين من أثر البكاء ، كأنها تلقت لتوها نبأ وفاة أحب الناس إليها ، نظرت إليه نظرة عابرة قبل أن توليه ظهرها وتسحب ثيابها المطوية على الأرفف الخشبية ، فتساقطت منها قطع الثياب بعد إرتجاف يـ ـديها كأنها فقدت السيطرة عليهما ، بل راح جـ ـسدها ينتفض بأكمله ، وحاولت الحد من ذلك الإرتجاف ولم تفلح
– حياء مالك فى إيه
قالها راسل ولم ينتظر دقيقة أخرى بعدما رآى تشنج جـ ـسدها الواضح بعدما أنحنت لتلملم الثياب التى سقطت على الأرض ، فجلس القرفصاء مقابلاً لها وأخذ يـ ـديها بين راحتيه، حتى بات يشعر بإهتزاز كفيه تزامناً مع إرتعاش يـ ـديها ، كأنها أصيبت بماس كهربائي ، فأحاطها بذرا عيه وضمها إليه ، حتى نجحت بنقل عدوى الإرتجاف إليه ، وجد نفسه يقـ ـبل رأسها بحنو ، وهو يرجوها بصوته المثقل بشعور من الذنب:
– حياء حبيبتى إهدى ، كتر إنفعالك ده غلط ، إهدى بس وأنا …..
لم يكن سعيد الحظ ليكمل حديثه ، إذ سمعا صوت ساندرا وهى تناديه ، بل أنها صارت تقف على عتبة باب غرفة الثياب وهى تقول بإستفسار :
– راسل فى حاجة ، قلقت عليك لما أتأخرت
بسماع حياء صوتها ، رفعت وجـ ـهها عن صـ ـدره وحدقت بها وتأملتها ملياً ، فتاة حسناء ، هيفاء القامة ورشيقة ، جمالها أخاذ بغمازتيها المحفورتان بوجنتيها ، وكأن تأملها لها ما زادها إلا أن تعود إليها نيران غضبها وغيظها أضعافاً مضاعفة ، فدفعته عنها وإستقامت بوقفتها وهى تقول بسخرية :
– قوم طمن المدام عليك ، أصلها قلقت يا حرام ، والله فعلاً أنا مغلطتش لما قولت عليك أن زى أى راجل عينه زايغة وميملاش عينك إلا التراب يا راسل ، صحيح ديل الكـ
أبتلعت باقى حروفها ما أن وجدته يرمقها بنظرة مغزاها إن زادت حرف أخر ، ربما ستلقى منه ما لا يرضيها ، فهدوءها الذى إكتسبته منذ لحظات بعدما إستكانت بين ذرا عيه لتستشعر دفئه ، لم يعد له وجود ، فتساءلت بقرارة نفسها بسخط ، لما تركت لأذنيها الحرية بسماع صوته والتأثر به ، فجاءتها الإجابة محمولة على أجنحة الضعف والخذلان من أنها كانت بشدة شوقها لسماعه مرة أخرى ، حتى وإن دلت حركتها المفرطة وشجارهما ، بأنها لم تعد تطيق رؤية وجهه أو إقترابه منها ، فقلبها ليس آلة لتضغط على الزر وتنطفئ جذوة الحب مرة واحدة ، بل تعلم أنها بحاجة لمزيد من الوقت لتبرأ من هذا الوهم ، ولكن عزاءها الوحيد أن كبرياءها كأنثى حاضراً ولن يجعل قلبها يلين أو يجبن أمامه
وقف راسل ونظر لساندرا قائلاً بهدوء :
– ساندرا روحى شوفى ساجد وأرتاحوا شوية وأنا جاى
ما أن خرجت ساندرا من الغرفة ، حتى عادت حياء تلملم ثيابها ، ولكن وجدت كفه يقبض على معصمها بحزم وهو يقول بما يشبه الأمر :
– خروج من البيت ده مش هتخرجى طول ما أنتى لسه على ذمتى ، لما نبقى نطلق أبقى إمشى ، لكن طول ما أنتى لسه مدام حياء راسل النعمانى هتفضلى هنا ومسمعكيش بتغلطى بكلمة يا حياء وإلا صدقينى هتشوفى منى اللى أكيد مش هيعجبك ، أنا حاولت أحل الأمور بينا بالحسنى من غير ما أغلط فيكى ، بس الظاهر أنك محتاجة تتعلمى الأدب وإزاى تتكلمى مع جوزك
نظرت إليه نظرة كره وإشمئزاز وقالت بعدما أقسمت على قلبها بأن تجعله يذوق ويلاتها :
– عايزنى أفضل هنا يبقى تستحمل اللى هيجرالك منى يا دكتور راسل
كلما حاولت سحب معصمها من بين براثن يـ ـده القابضة عليه كالسوار الحديدى ، يزيد هو من إحكام قبضته ، كأنه لن يتركها ولو بعد ألف عام ، بل أراد جعلها أن تكف عن محاولتها المستميتة بتخليص معصمها من يـ ـده ، فإلتفت أنامله حول عنقها ، بينما إبهامه إستقر قريباً من نحرها ، رابتاً به بدهاء حيث شعر بذلك النبض المتسارع من محاولتها إلتقاط أنفاسها اللاهثة جراء شعورها بالغضب ، ولكن ما أن ألتقت أعيـ ـنهما ، وألتقط نظراتها من فوره ، شعر بذلك الخطر المحدق به ، وهو من أن بندقيتيها قادرة على سلبه أنفاسه الواحد تلو الأخر ، بل قادرة على أن تشعل فتيل تلك الحرب الضارية بداخله ، فلو لم تكن الأمور سارت بينهما على هذا النحو السيئ ، لربما كان الآن يروى قلبه الظمآن من أنهار وصالها ، وسيشكو وجع الهوى بساحة قضاء العشق ، ليستصدر حُكماً بأن تكون عيـ ـنيها وشـ ـفتيها رهن إعتقاله ليقتص منهما كيفما يشاء ، ويأسر صبيته الحسناء التى إشتاقها وإشتاق لمرآها ، ولكن أفضت الأمور بينهما فى النهاية لتلك الحالة التى أصبحا عليها من زو جة تقسم بأن تذيقه العذاب وزو ج سيجد مشقة بإلجامها عما تنتوى فعله
❈-❈-❈
مثلما أحاط أمر إقلاعه عن الإدمان بالسرية ، كان حريصاً على جعل زيارة الطبيب المختص بالعلاج النفسي له بنطاق السرية أيضاً ، فالوحيد الذى يأمنه على تلك الأمور الخاصة به ، هو ذلك الرجل ، الذى كان فيما مضى ذراع أبيه الأيمن والرجل المخلص له بأعماله سواء كانت المشروعة أو غير المشروعة ، وبات الآن الحارس الأمين على أسراره حتى بعدما أعلن عمرو أنه لن يخوض بالأعمال الغير مشروعة ، فبموت أدريانو كأن جاءه الخلاص ، لكونه لم يكن سيستطيع إعلان تمرده على أدريانو إذا كان على قيد الحياة ، كأن بموته سكنت شياطين الإنس ولم يعد أحد يسمع شيئاً عن هؤلاء الرجال ، الذين كانوا يعملون تحت إمرته
سمع صوت طرقات على الباب ، تبعها ولوج ذلك الرجل وهو يقول بإحترام :
– عمرو بيه الدكتور وصل تحت
هز عمرو رأ سه قائلاً بصوت هادئ :
– قدموله حاجة يشربها وأنها هخلص لبس هدومى ونازل وراك
خرج الرجل من الغرفة ، وأغلق عمرو الزر الأخير من قميصه ، قبل أن يقوم بثنى أكمامه عن ساعديه المعضلين ، وكأن بتركه للإدمان وإتجاهه لممارسة الرياضة وإتباع نظام غذائي صحى ، أكسبه كل هذا من مظهراً بدنياً قوياً وملامح رجولية ، كأن لم يعد ذلك الشاب الذى كان عليه سابقاً ، فإن كان قبل عامان من هذا اليوم شاباً وسيماً ثرياً يتوارى خلف كل هذا شاب منغمس ببئر من المفاسد والموبقات ، فإنه اليوم صار قوى البنية مفتول العضلات ، وحملت وسامته طابع النضوج ، ولكن لم يكتسب كل هذا بسهولة ، بل يتذكر أيامه الأولى الذى إمتنع فيها عن تناول المخدرات ، أصابه الهزال وضعفت قوته ، حتى بات يظن أنه سيلقى حتفه لا محالة ، وكم من مرة أعلن بخضم شعوره بالألم من أعراض الإنسحاب ، أنه لا يريد أن يقلع عن إدمانه ، ولكن كلما كانت تشتد ألامه وتثبط عزيمته ، كان يتجدد الأمل بداخله من زيارة إمام المسجد له ليبث به الإيمان والثقة ، حتى نجح بالأخير فى إجتياز إختباره الأول وهو تركه للإدمان
خرج من غرفته حتى وصل لغرفة مكتبه ، التى يجرى بها العادة جلساته مع طبيبه النفسى ، وجد ذلك الطبيب الكهل بإنتظاره ، فإبتسم عمرو قائلاً وهو يجلس على المقعد المجاور لتلك الأريكة الجالس عليها الطبيب :
– أسف لو كنت أتأخرت عليك شوية
رد الطبيب إبتسامته بإبتسامة هادئة وهو يقول أثناء إرتداءه لنظارته الطبية:
– متأخرتش كتير ، يلا بينا نبدأ الجلسة ، إحنا المرة اللى فاتت وقفنا عند لما كنت فى الجامعة وأتعرفت على أول شاب كان صديق ليك ، قولى بقى ايه اللى حصل وقتها وليه أنجذبت له مع أنك قولت أن فى الجامعة كانوا معتقدين أنك شاب متعدد العلاقات بالفتيات ومكنش حد يعرف حاجة عن شذوذك ، مخفتش مثلاً أن الشاب ده يفشى سرك فى الجامعة
وضع عمرو ساق على الأخرى وأسند رأ سه لطرف مقعده بإرتياح ، فتذكر المرة الأولى التى أجرى بها تلك الجلسات مع الطبيب الكهل ، وكيف كان شعوره الساحق بالخجل والخوف من أن يبدأ سرد قصته منذ البداية ، أى منذ كان طفلاً صغيراً لا يتعدى عمره بضعة سنوات ، عندما بدأ رحلته مبكراً بعالم الفساد والآثام
أطلق عمرو نهدة عميقة ورد قائلاً بعدما فتش بذاكرته عن صورة ذلك الشاب :
–وقتها كنت خايف ومش خايف ، كأن فى إتنين جوايا بيتخانقوا مع بعض ، والشاب ده أوقات كتير كانوا بيتنمروا عليه ، ومكنش بيقدر يعمل حاجة للشباب اللى بيضايقوه ، لما دافعت عنه بدأ هو يقرب منى لحد ما فى يوم هو اللى جه وقالى أنه بيحبنى وساعات عرفت أنه عنده ميول شذوذ ، ساعاتها فرحت زى ما أكون لقيت فريستى اللى كنت مستنيها
هز الطبيب رأ سه ، وهو يحرك يـ ـده بالقلم على إحدى صفحات الدفتر الصغير الموضوع على ساقه ، فرفع وجـ ـهه عن الدفتر ، وخفض نظارته عن عيـ ـناه قائلاً بصوت رصين :
– فرحت علشان كنت هتبقى أنت المسيطر فى العلاقة ، يعنى تبقى الجانب الأقوى وتحاول تعمل فيه زى ما عمل فيك جوزك مامتك ، لأن كان بيبقى هو دايما المسيطر عليك ، كنت عايز تقلده ، لسه حاسس أنه مسيطر عليك
أهتز جـ ـسد عمرو بمشاعر عدة ، فإلتهبت أذنيه وصارت أكثر إحمراراً عن وجهه ، كأن إرتفعت حرارة جـ ـسده فجأة ، ولم يحسن إخفاء نبرة صوته الحادة وهو يقول برفض غير مقنع للطبيب :
– أنا مكنتش عايز أقلده وأنا مش ضعيف مش ضعيف ، أنا دلوقتى أقوى منه أقوى منه
رفع الطبيب يـ ـده يشير إليه بإلتزام الهدوء ، فثورته خير دليل على أنه مازال يعانى تبعات سيطرة زوج والدته ، حاول الطبيب أن يحد من غضبه وإستياء ، فإبتسم له وهو يقول بهدوء ولين :
– إهدى يا عمرو العصبية مش هتفيدك ، وأظن هاجس الخوف عندك من جوز مامتك مبقاش له وجود بعد خلاص ما مات
هذا ما يظنه الطبيب ، بل ويظنه الجميع حتى والدته ، من أن زو ج والدته توفى بذلك الحادث فى العام الماضى ، ولكن ليست تلك هى الحقيقة ، فهو إستطاع تزييف موت زو ج والدته ، حتى يأخذ حريته بتعذيبه كيفما يشاء ، حتى إن دنت تلك اللحظة لكى يتخلص منه ، لا يجد مشقة بذلك ، فكل الأوراق والدلائل تشير أن زو ج والدته ألقى حتفه منذ عام كامل
حركة عيـ ـنيه الزائغتين ، جعلت الطبيب يشك بأن هناك أمراً لا يعرفه ، فحملق به بقوة متسائلاً بشئ من الإلحاح :
– عمرو هو أنت فى حاجة مخبيها عليا ، حركة عيـ ـنيك وأنك مش مرتاح فى قعدتك بتدل على أن فى حاجة أنت مخبيها
أزدرد عمرو لعابه ورد قائلاً بإرتباك :
– هكون مخبى إيه يعنى مفيش حاجة ، أنا بس متوتر شوية علشان النهاردة هروح أزور خطيبتى بقالى فترة طويلة مشوفتهاش
يعلم الطبيب بأمر خطبته المزيفة ، ولكنه أرجئ الحديث عنها ، عندما يحين وقتها ، كونه أراد أن يبدأ معه منذ البداية مروراً بمراحل عمره المختلفة ، وما عاناه منذ الصغر ، فأغلق باب فضوله مؤقتاً ليستأنف معه الحديث ، ولكن أعلن عمرو عن رغبته فى عدم إكمال الجلسة لشعوره المفاجئ بالإرهاق ، فلم يلح عليه الطبيب بالأمر ، بل تركه وخرج من غرفة المكتب ، ووجد ذلك الرجل الذى سيقوم بتوصيله لسيارته
نظر عمرو من النافذة العريضة ، وبعدما تأكد من مغادرة الطبيب ، خرج من غرفة مكتبه ، وهو بنيته أن يذهب لذلك المنزل الذى يحتجز به زو ج والدته ، ولكن عاد وتذكر أمر سهى عندما هاتفته تخبره بأن أبيها يريده بأمر هام ، خرج لمرآب السيارات ، وإستقل إحدى سياراته المصفوفة بالمرآب الكبير ، وفكر بالذهاب إليها بالجامعة أولاً ليعلم أى أمر هذا الذى يريده منه أباها ، فقاد سيارته حتى وصل لداخل الحرم الجامعى وأوقف السيارة أمام تلك الكلية التى تدرس بها سهى وهى كلية ” طب الأسنان ”
أخرج هاتفه من جيبه واجرى إتصالاً بها ، ولكنها لم تجيبه إلا بالمرة الرابعة تقريباً ، فخرج صوته حاداً وهو يقول بإستياء :
– أنتى مبترديش عليا ليه على طول ، لازم أرن عليكى كذا مرة علشان تردى
وضعت سهى الهاتف أمام عيـ ـنيها لتتأكد أن من يتحدث معها هو عمرو بعينه ، فذلك الصياح الحاد ، جعلها تظن أن أحداً يحدث زوجته التى جعلته ينتظر وقتاً أكثر من اللازم وحان وقت عقابه لها بالصياح والصراخ وتأنيبها على عدم إجابتها على إتصاله
عقدت سهى حاجبيها وردت قائلة وهى تكز على أسنانها :
– فى إيه يا أستاذ عمرو ، إهدى شوية أنت بتزعق فيا ليه ، كنت فى المحاضرة ولسه خارجة
أدرك عمرو حماقته بأن إحتد عليها بحديثه وهى ليست مذنبة بتلك الحالة التى ألمت به بعد إنهاءه جلسة علاجه النفسى ، فأحياناً يأخذ قراره بأن لا يستمر بمقابلة الطبيب ، حتى لا ينكأ جراحه بيده ، خاصة أن الطبيب يتشدد بمعرفة تفاصيل حياته كاملة والأدق منها الخاصة بعلاقاته المحرمة ، ولكن يعود ويصرف تفكيره عن الرفض بمقابلته رغبة منه فى أن يشفى من تلك الآلام والجراح التى ألمت به منذ حداثة سنه
غمغم عمرو معتذراً :
– سورى مكانش قصدى يا سهى ، أنا هنا فى الجامعة جيت علشان أقابلك ، علشان أعرف باباكى عايز إيه ، أنا مستنيكى فى العربية بتاعتى قدام الكلية
نظرت سهى أمامها أثناء خروجها من مبنى الكلية ، وجدته جالساً بسيارته الفارهة ، أزدردت لعابها خشية أن يراها ، وتراه يترجل من سيارته فتثار الأقاويل حولها ، خاصة أن لا أحد من زملاءها يعلم بشأن خطبتها ، فذلك الخاتم الماسى ، الذى قدمه لها بيوم خطبتهما المزيفة ، لا ترتديه إلا بالمنزل أمام أبيها وزو جته وغير ذلك تضعه بحقيبتها ، ولا تعلم حتى الآن كيف أنطلت تلك الكذبة على عائلتها ، أو لما والدها ظل طوال هذان العامان صامتاً ولم يساوره القلق أو الشك من عدم مجئ عمرو لزيارتها إلا بضعة مرات تعد على أصابع اليد الواحدة ، ولكن ربما الآن صار مستاءاً من ذلك الوضع وأراد وضع حداً له ، لذلك طلب منها أن تخبره بشأن أن يأتى لمقابلته ، لكونه لا يراه بتلك الشركة التى يعمل بها ، والتى من المفترض أنه المالك لها
حدث ما كانت تخشاه ووجدت عمرو يترك سيارته ويرفع يده ملوحاً لها يناديها بصوت جهورى :
– سهى سهى
أسرعت بخطواتها تجاهه وهى تضرب بيـ ـدها على فمها كأنها تشير له بالصمت ، فهتفت به بغيظ :
– بس أسكت أنت بتنادى على واحدة تايهة ، الطلبة يقولوا عليا إيه
وضع يـ ـديه بجيبى بنطاله الجينز ، فإبتسم على نحو غير معتاد لها ورد قائلاً بحرج طفيف :
– أفتكرتك مش شيفانى فبنادى عليكى
– ما أشوفكش إزاى وأنت بسم الله ماشاء الله زى الحيطة وأطول من الطلبة الموجودين هنا ، طبيعى أى حد هيشوفك
يالها من فتاة سليطة اللسان ، تجعله أحياناً يريد أن يتخلى عن كل مظهر حضارى ويجلدها بلسانه هو الأخر ، فهو لم ينسى يوم خطبتهما المزيفة ، كيف كانت هادئة وأجادت تمثيل دورها ببراعة ، حتى ظن أنها خطبة رسمية وسيتزوجان بالقريب العاجل ، ولكن ما أن أنتهى الحفل العائلى ، عادت لما كانت عليه من سلاطة اللسان وحديثها اللاذع ،ولولا أنه بعد خطبتهما مباشرة بدأ خطة علاجه من الإدمان ، لكان تفنن فى رد كرامته المهدورة ، ولكنه عاد وتذكر أنها فتاة وليست شاب أو رجل ليقتص منه بالطريقة التى يراها عادلة ، فلا يردعه عنها سوى كونها بالنهاية أنثى ، ولا يحق له إستعراض قوته كرجل أو شاب فى مجابهتها
أدنى رأسه للأمام قائلاً بصوت منخفض :
– أنتى عارفة لسانك ده عايزة قطعه والله
زاغت عيـ ـنيها بكل إتجاه تستعرض تلك النظرات المنصبة عليهما من هؤلاء الفتيات ، اللواتى تركن كل شئ وجلسن يشاهدن ما يفعلانه ، كأنهما يؤديان فقرة تمثيلية أمام الجمهور ، فرأت أنه من الأنسب لهما أن يرحلان من هنا ، ولكن ما كادت تخبره بشأن عودتها للمنزل ، وجدت شاب يناديها ، ولم يكن سوى شاب يدرس معها بالكلية
ضمت سهى كتبها لصـ ـدرها وزحف الخجل لوجنتيها حتى صارتا بلون الورود الحمراء ، فردت قائلة بتهذيب :
– أفندم حضرتك بتنادى عليا
مد الشاب يـ ـده لها ببعض الأوراق وهو يقول بإبتسامة هادئة:
– دى المحاضرة اللى أنتى محضرتهاش الأسبوع اللى فات أنا صورتهالك علشان تذاكريها ولو فى أى محاضرات تانية محتجاها أنا تحت أمرك
أخذت سهى الأوراق من يـ ـده وإبتسمت وهى تقول بخجل :
– متشكرة جداً على ذوقك
غادر الشاب وأقترح عمرو بأن يقوم بإيصالها للمنزل ، فأخبرته سهى بأنها ستعود لمنزلها بسيارة أجرة على أن يوافيها هو بسيارته ، وما أن وصلت للمنزل وصعدت درج الطابق الأول لتصل لشقتهم بالطابق الثانى، أنتفضت من صوت عمرو وهو يهتف بها بضيق :
– هو كان مين الشاب اللى كلمك فى الكلية ده كمان وإيه الأدب والخجل اللى كنتى فيه ده فجأة ، هو أنتى زى البنات الطبيعيين بتتكسفى وكده ، مقولتليش باباكى كان عايزنى فى إيه
رحلت عن وجهها ملامح الهدوء والخجل ، التى بدت كأنها ضيف مؤقت ، لم يتبقى سوى لحظات معدودة ، وعادت لما كانت عليه من أمور الشراسة وإطلاق العنان للسانها السليط ، فرفعت شـ ـفتها العليا وردت قائلة بإمتعاض :
– معرفش بابا عايزك ليه ، ويارب يكون عايزك علشان يفسخ الخطوبة ، لأن بصراحة زهقت من التمثلية دى وأنا خلاص دلوقتى دخلت الجامعة وبابا شايف أن متفوقة فيها ، مظنش أنه لو فسخنا الخطوبة هيغصب عليا اتجوز إلا لما أخلص دراستى
قال عمرو بنبرة صوته المتهكمة :
– أه يعنى دلوقتى خلصت حاجتى من عند جارتى ، ضمنتى مستقبلك ومبقاش ليا لازمة ، بس لسا مجاوبتنيش مين الشاب ده اللى كلمك فى الكلية
نفخت سهى بضيق وردت قائلة بوجوم :
– هو أنت مبتشوفش ، يعنى أدانى ورق محاضرات أكيد يعنى زميلى فى الكلية سهلة أهى ولا أنت عندك الفهم بطئ ، ثم أنت بتسأل بصفتك إيه ، أنت فكرت نفسك خطيبى بجد علشان تسأل وتستفسر مين اللى كلمنى أو لاء
ربما اليوم هو يوم حظها السئ ، كونه أنه ليس بحالة مزاجية ، تسمح له بسماع هراءها وسبابها اللاذع ، فقبض على ذراعها حتى كادت أن تشعر بأنه أصابعه ستنفذ لعظامها ، وكانت الطامة الكبرى بمحاولته أن يعانقها رغماً عنها ، ولا يعلم لما أقدم على إرتكاب تلك الحماقة ، خاصة أنهما على الدرج وبإمكان أى أحد أن يراهما ، فهو لم يعانق فتاة بحياته ، ولا يعلم كيف يكون مذاق العناق بين شاب وفتاة ، وأراد أختبار ذلك الأمر معها ، دون أن يتروى بتفكيره ، ولكنه ساذج وأحمق إذا ظن بأنها ستسمح له بإرتكاب ذلك الأمر الذى لا يحل له حتى وإن كان خطيبها ، لذلك قبل أن يحقق مراده ويعانقها دوى صوت تلك الصفعة التى صفعته إياها على وجهه بأذنيهما ، ولم تكتفى بذلك بل دفعته عنها وهى تبكى وتلعنه على أنه فكر بفعل ذلك وهى ليست زو جته ولا تحل له بأى صورة ، فوضع يـ ـده على وجنته يتحسس مكان تلك الصفعة التى تلقاها منها ولم ينتظر دقيقة أخرى إذ هبط الدرج بخطوات سريعة حتى وصل لسيارته ، فإستقلها وأنطلق بها لتلك الوجهة الأولى التى كان يخطط لها منذ خروجه من المنزل ، من أن يذهب لذلك المنزل المحتجز به زو ج والدته ، ليصب عليه جام غضبه ونقمه وسخطه ، على ما لقاه بيومه
❈-❈-❈
وضعت هند أخر طبق من الطعام على المائدة ،التى عملت على تزيينها بوضع أطباق الطعام الشهى ، الذى أعدته من أجل تلك الليلة ، ولم تنسى وضع بعض الشموع الفواحة ، لتضفى مظهراً أكثر جاذبية ورومانسية على ليلتهما المميزة ، فاليوم الذكرى الثانية ليوم زفافهما ، لذلك أرادت أن يحتفلا سوياً كالعام الماضى ، الذى ما زالت متذكرة كيف كان يوماً لا ينسى بحياتها ، وربما الليلة ستعوض ما فاتها من أيام ، غاب عنها زو جها من إنغماسه بعمله وعودته بعدما يكون أدركها النعاس وهى بإنتظاره ، لذلك أصرت على إعداد تلك المائدة العامرة بأنواع الطعام الذى يحبه زو جها ، ولم تنسى أن تكون هى الأخرى على أتم الاستعداد لإستقباله بعد عودته ، فثوبها الأسود الحريرى ، الذى يماثل لون خصيلاتها الفحمية ، كان مسدلاً بنعومة على قوامها الرشيق ، وتضارب لونه مع صفاء ونقاء بشرتها الغضة الملساء ، ولم تكتفى بذلك بل نثرت ذلك العطر الذى فاح منها لتكتمل تلك الصورة الأنثوية الصارخة بمعالم الجمال والذى ستخلب عقل زوجها لا محالة
أضاءت الشموع وأطفأت الأنوار وقالت بصوت حالم :
– يارب ترجع من الشغل النهاردة بدرى يا كرم زى ما قولتلى علشان أنت وحشتنى أوى
أخذت هاتفها وأرسلت له رسالة تحثه على العودة باكراً ، فهى تريد مفاجئته بكل ما أعدته من أجله ، جلست تنتظره بشوق ، فمرت ساعة وإثنان وثلاثة حتى شب القلق بقلبها ، فأخذت هاتفها لكى تطمئن عليه ، ولكن لم يحالفها الحظ بالوصول إليه ، نظراً لأن هاتفه مغلق ، دارت حول نفسها بخوف من أن يكون أصابه مكروه فالوقت أقترب من منتصف الليل وهو لم يعود
إلتقطت أنفاسها وهى تراه يلج من الباب ، فها هو قد عاد للبيت سليماً ، ولكن كان غضبها منه وصل لذروته، ولم يعد بإمكانها السيطرة على صوتها الذى خرج حاداً وهى تقول بإنزعاج :
– كل ده تأخير يا كرم وكمان تليفونك مقفول حرام عليك حرقة أعصابى دى
تعجب كرم من هجومها المفاجئ بحديثها على غير عادتها معه من لين الحديث ولطافتها ودلالها ، فقطب حاجبيه قائلاً بدهشة طفيفة :
– مالك يا هند بتعلى صوتك ليه كده ، هى دى أول مرة أتأخر فى الشغل يعنى ، كان فى فوج سياحى وصل وصاحب شركة السياحة طلب منى أكون معاهم لحد ما رجعوا الفندق
تلك هى الإجابة الوحيدة التى تحصل عليها منه ، كلما سألته عن سبب تأخره فى العودة للمنزل ، فمنذ عمله مترجماً للغة الفرنسية بأحد شركات السياحة ، وهو يعود إليها بوقت متأخر من الليل معللاً ذلك بأنه رافق أحد الأفواج السياحية التابعة لتلك الشركة التى يعمل بها بجانب تدريسه بأحد المدارس الخاصة بالمرحلة الثانوية ، وكأن وقته أصبح محصوراً بين عمله نهاراً بالمدرسة ، ومساءاً بشركة السياحة ، ولا تحصل هى إلا على تلك السويعات القليلة الفاصلة بينهما
زفرت هند زفرة مطولة وأغمضت عيـ ـنيها ريثما تهدأ قليلاً ، ولكن سرعان ما فتحتهما وهى تقول بدون مقدمات :
– كرم أنت لازم تشوفلك حل فى الموضوع ده أنا مبقتش ألحق أقعد معاك ، حتى كمان مانعنى من أن أحمل وأجيب طفل يسلينى فى وحدتى دى ، كده كتير وحرام بصراحة ، خلاص خلينا نجيب بيبى على الأقل يشغلنى شوية ويعوضنى عن غيابك طول النهار
ما أن أتت على ذكر الإنجاب ، تغيرت ملامح وجهه ورد قائلاً بحدة :
– قولتلك يا هند موضوع الخلفة ده لازم نأجله شوية على ظروفى ما تتحسن ، مش عايزك تتكلمى فى الموضوع ده تانى دلوقتى ماشى
ساهمت نبرة صوته الحادة والرافضة لمطلبها بزيادة حنقها ، ألم يكفيه أنه لم ينتبه عليها وعلى ذلك الثوب الذى أرتدته ، أو على تلك المائدة التى أعدتها من أجله ، وأنصهرت تلك الشموع الفواحة بفعل لهيبها ، كإنصهار حلمها بأن تنعم بليلة حب دافئة وهى جالسة بإنتظاره أن يعود
فضمت طرفى رداءها وقالت بغيظ وهى تتجه صوب غرفة النوم:
– ماشى يا كرم لا هتكلم فى الموضوع ده ولا أى موضوع تانى تصبح على خير ، الأكل عندك على السفرة لو كنت عايز تاكل تصبح على خير
ولجت لغرفة نومهما وأغلقت الباب خلفها بحدة ، فعقد كرم حاجبيه بغرابة من ذلك التحول الذى طرأ عليها اليوم ، أو لما الليلة أحتدم النقاش بينهما هكذا ، على الرغم من أن حياتهما تسير على ذلك المنوال منذ عدة أشهر ، أقترب من المائدة ونظر للورود و الأطباق المتراصة بأناقة وبقايا الشموع ، ففطن أنها أعدتها من أجل ليلة مميزة ، وضع يده على جبهته ودلكها برفق ليتذكر تاريخ اليوم ، وما أن تذكر أن اليوم هو يوم ذكرى زواجهما ، علم مدى إنزعاجها لحرصها الدائم على أن يكون ذلك اليوم ذكرى لا تنسى بحياتهما
أسرع بخطواته تجاه غرفة نومهما وفتح الباب وهو بنيته أن يقدم إعتذاره لها ، فوجدها مستلقية على الفراش توليه ظهرها ، ويبدو أنها كانت تبكى ، فأقترب أكثر منها ، حتى باتت بإستطاعتها أن تراه وهو جالساً القرفصاء بجوار الفراش ، ولكن قبل أن يفه بكلمة ، رمقته بعينان دامعتان وهى تقول بصوت متحشرج :
– كرم بكرة أنا هسافر إسكندرية ، بابا وماما وحشونى وعايزة أشوفهم وهقعد هناك كام يوم
هذا ما كان يخشاه أن يصيبها السأم سريعاً منه ومن معيشتهما ، إلا أنه لم يبدي لها قلقه هذا ، فرد قائلاً بهدوء:
– زى ما أنتى عايزة يا هند ، عايزة تسافرى سافرى أنا مش مانعك ، جايز أعصابك ترتاح لما تشوفى باباكى ومامتك
لم يتكلف عناء زيادة كلمة أخرى ، بل نهض من مكانه وخرج من الغرفة ، ففغرت هند فاها لظنها بأنه سيستميت بأن لا يجعلها تذهب لمنزل أبيها بمفردها ، مثلما كان يفعل معها دائمًا ، فإن كانت قالت حديثها رغبة منها فى أن تسمعه يخبرها بأنه لن يجعلها تقضى أياماً بعيدة عنه ، فبالغد ستسافر للإسكندرية مثلما أخبرته ، أخذت الوسادة ووضعتها على رأسها لتكتم صوت بكاءها وحزنها على إنتهاء ليلتهما قبل أن تبدأ ، بل أنتهت نهاية غير مستحبة من جانبها ، ولن يقتصر الأمر على ذلك ، فغداً ستأخذ حقيبتها وتتجه صوب محطة القطار ، قبل أن يتفاقم غضبها أكثر وتثور أفكارها حول رغبتها بأن تنجب طفلاً ، فهى لا تعلم إلى متى ستستطيع إرجاء تفكيرها بهذا الأمر ؟ خاصة أن غريزة الأمومة بدأت تلح عليها منذ أن وضعت والدة سويلم حملها وأنجبت فتاة خلبت قلب هند منذ رؤيتها وتمنت أن يصبح لديها طفلة مثلها تدللها وتعتنى بها وكم تهوى لو أن ترث لون عينىّ زوجها ، حتى تسلبها قلبها وعقلها كما سلبهما كرم بعشقها له ، ولكن إستياءها الحالى منه جعلها ترغب فى أن تجعله يشعر بالذنب لتفكيره بأن يحرمها تلك العاطفة التى خلقها الله بقلب كل فتاة منذ لهوها بالدمى وهى صغيرة
❈-❈-❈
لم تكن قواه الخائرة ووهنه الظاهر للعيان أن يمنعانه من أن يتهلل وجهه وهو يرى ذلك الواقف بجوار فراشه بالمشفى ، وبالبدء ظن أنه يرى شبحاً أو طيفاً يشبه ولده الهارب ، وليس هذا وحسب بل يرافقه طيف أخر لحفيدته الصغيرة ، التى أختفت البهجة من حياته ومنزله منذ أن أخذها راسل وغادر من الإسكندرية ، ولكن كأنه إستعاد عافيته فجأة ، فأرتفعت رأسه عن الوسادة وملأت الإبتسامة وجهه ، وأراد أن يتأكد من أن ما يراه حقيقة وواقع بإمكانه لمسه ، لذلك رفع يـ ـديه يشير لسجود بالإقتراب ، فإستجابت له على الفور وتركت يـ ـد والدها وأقتربت من الفراش ، بل لم تكتفى بذلك بل صعدت بجوار جدها وأنحنت إليه تقـ ـبله برقة شـ ـفتيها الصغيرتين ، ووضعت يـ ـدها الصغيرة بكف رياض
قالت سجود بإبتسامة :
– وحشتنى يا جدو
عبارتها كترياق لداء كان يصعب عليه أن يجد له دواء ، ولكن ها هى قد عادت تحمل معها الأمل والإبتسامة له ، حتى وإن كان يعلم بدنو أجله ، وأن ربما الموت يحوم حوله بتلك الأيام ، ولكنه لم يكن يخشى الموت قدر حاجته لأن يراها ويرى إبنه قبل أن يأذن الله له بالرحيل
مسد بيـ ـده على رأسها ورد قائلاً وعيـ ـناه شبه دامعتان :
– حبيبة قلب جدو ، حمد الله على السلامة وأنتى كمان وحشتينى أوى يا سيجو
خطى راسل تلك الخطوات القليلة التى كانت تفصل بينه وبين أباه ، وكلما حاول فتح فمه ليعرب له عن مدى قلقه الشديد بعد علمه بما أصابه ، يعود ويضم شـ ـفتيه ، ولكن أسرع رياض ببدأ الحديث الذى لم يخلو من العتاب :
– حمد الله على السلامة يا دكتور راسل ، كان لازم تعرف أن أنا بموت علشان ترجع ، بس فيك الخير ، أنا قولت أنك هتنفذ كلامك اللى قولتهولى مرة أن لو حتى أنا مت مش هتيجى تاخد العزا
شعور ساحق بالذنب بدأ بسحق قلبه ورغم ذلك ظل ثابتاً جامداً ، لا تعترى ملامح وجهه سوى معالم الهدوء والسكون ، ربما ليخدع عيـ ـنى والده ، بأنه مازال كما هو قاسياً متحجراً بمشاعره تجاهه ، وألا يجعله يفطن الحقيقة ، من أنه حقاً يشعر بالخوف بل من داخله مرتعباً من فكرة رحيله عنهم بصورة نهائية
لمس راسل نظارته وحملق بأباه قائلاً بنبرة جامدة :
– أظن ده مش وقت العتاب دلوقتى ، أنا لما عرفت رجعت علشان أعملك العملية وجبتلك سجود تشوفها قبل ما ندخل أوضة العمليات لأن خلاص مبقاش فاضل غير نص ساعة قبل ما أبدأ العملية
نظر راسل بساعة معصمه ، هرباً من تحديق والده به ، وأراد الخروج من الغرفة قبل أن تخترقه نظرات أبيه وينهار ثباته المزيف ، الذى يحاول جاهداً الحفاظ عليه حتى يمر الأمر بسلام ، وإلا سيخفق فى إجراء تلك الجراحة
خرج من غرفة والده وجد الجميع بالخارج ، فكلهم جاءوا من أجل الإطمئنان على رياض ، ولا أحد منهم بنيته المغادرة قبل أن تنتهى الجراحة
– ميس يلا علشان هتدخلى معايا أوضة العمليات
هتف راسل بميس بشئ من الحزم ، فوجدها ترتد بخطواتها للخلف وهى تهز رأسها بالنفى ، رغم أنها رافقته عدة مرات بغرفة الجراحة ، إلا أن تلك المرة لن تستطع فعلها خاصة أن المريض جدها الحبيب
وجدته يرمقها بنظرة مستاءة وسرعان ما قال آمرًا إياها :
– اللى قولت عليه يتسمع يا دكتورة ميس ومش عايز نقاش أتفضلى جهزى نفسك ، فى دكتورة تتأخر عن تأدية واجبها ده مش وقت الدلع
أطاعته ميس على مضض ، خشية إثارة المزيد من إستياءه ، الذى لا تعلم له سبباً ، ولكن يبدو عليه أنه وجد بها كبش فداء لينفس بها جام خوفه وإستياءه وخشية إخفاقه بمهمته ، فبعد إستعدادهما لدخول غرفة الجراحة ، ألقى راسل نظرة أخيرة على حياء الجالسة بمقعد بعيد عن مكان جلوس ساندرا والصغير وتضع على ساقيها سجود ، التى رفضت تركها ، فمنذ تلك المواجهة بينهما بعد عودته وهما لم يتحدثان مرة أخرى ، بل فضل تركها بمعزلها عنه ، حتى لا يتفاقم الأمر بينهما أكثر ، ولكى يرى فيما بعد ما سيحدث بينهما خاصة أنه أخذ قراره بإطلاق سراحها ومنحها الطلاق قبل مغادرته البلاد
ولج لتلك الغرفة التى سيجرى بها الجراحة لوالده ، ووقف بجوار ذاك السرير الصغير ناظرًا لأباه الغافى بعدما تم حقنه بإبرة المخدر ، فتنفس بعمق هامساً لذاته :
– بسم الله الرحمن الرحيم ، يارب قوينى والعملية تتم على خير وأقدر أنقذه
تلك الأصوات الصادرة عن ذلك الجهاز المختص بتوضيح ضربات القلب من حيث إنتظامها ، جعل عيـ ـناه تصب كامل تركيزها وإنتباهها على ما تفعله يـ ـداه ، فبدقة وإحترافية ، بدأ بوضع المبضع بجـ ـسد أبيه ليشق ذلك الجزء اللازم ، الذى سيمكنه من إجراء تلك الجراحة التى عاد من أجلها ، وعلى الرغم أن ما يحدث الآن يستلزمه بذل مجهود هائل للحفاظ على رابطة جأشه وأن ينسى ولو مؤقتاً أن من يرقد أسفل يـ ـديه الآن هو والده ، إلا أنه متمرساً ومحترفاً بفصل عواطفه وقتما يريد ، فتلك الخبرة التى إكتسبها ساهمت بأن يبدأ عمله ، كأنه يجرى الجراحة لأحد المرضى العاديين ، فلو ترك عاطفته تغلبه ، سيجد جـ ـسده يرتجف بل ربما سيبدأ بالبكاء والنواح من أجل أباه ، ولا يعلم كيف شعر بكم تلك المشاعر والعواطف ، على الرغم من أن الأمور بينهما دائماً كانت تشوبها النفور والإحجام ، حتى تلك المدة القصيرة التي أقامها معه قبل سفره ، لم تشفع له عندما أخذ قراره بالمغادرة
جحظت عينى راسل بعدما رآى إنخفاض مؤشر ضربات القلب ، دليلاً على أن ربما والده يتهيئ لأن يرحل عن دنياهم ، ولكن عزيمته جعلته يأخذ قراره بأن تسرع ميس بتنفيذ أوامره بمساعدته من أجل إعادة ضربات القلب لمعدلها الطبيعى ، دون أن تثير مشهد عاطفى سيجعل زمام الأمور تفلت من أيـ ـديهما ، فدموعها التى تلألأت بعيـ ـنيها جعلته أكثر شدة وحزم معها حتى جعلها بالأخير تبدأ هى بإنجاز تلك المهمة التى أوكلها إليها
زفر راسل براحة وسحب قناعه الطبى بعد بضعة ساعات قضاها يصارع الوقت فى إنقاذ والده وتوجيه ميس بتنفيذ تعليماته ، فغمغم برضا :
– الحمد لله إنها عدت على خير الحمد والشكر لله
رمقهما الأطباء والممرضين المصاحبين لهما بغرفة الجراحة بإعجاب ، كونهما إستطاعا تحقيق هذا الإنجاز العظيم بإنقاذ أبيه وهو كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينتهى أمره
خرجا من غرفة الجراحة محاوطاً كتفىّ ميس بذراعه ، فهو أثنى عليها من كونها أظهرت مهاراتها اليوم رغم شعورها بالخوف والحزن ، فحدق بها قائلاً بإبتسامة :
– كنتى هايلة يا ميس ، عايزك لما تكونى فى أوضة الجراحة تفصلى عواطفك عن شغلك ، علشان تعرفى تنقذى المريض
ندت عنها زفرة مطولة وردت قائلة بإرهاق :
– أنا كنت حاسة أن هيجرالى حاجة وخصوصاً لما نبضات القلب معدلها أنخفض كنت هموت من الخوف ، وكمان أنت تقريباً بدأت أول خطوة فى العملية وخليتنى أنا كملتها للأخر ، كنت حاسة بمسؤلية كبيرة ، بس الحمد لله عدت على خير وجدو دلوقتى بقى كويس الحمد لله
ما أن وصلا لذلك الرواق المؤدى لغرفة المكتب وجدا أفراد العائلة يتدافعون عليهما لسؤالهما عما صار لكبيرهم ، فطمأنهم راسل بأنه هو وميس أتما الجراحة لوالده على نحو مشرف وتم نقله لغرفة العناية الفائقة لحين إفاقته ، فالوحيدة التى لم تنهض من مكانها هى حياء على الرغم من أن سجود تركتها وركضت إليه مع البقية
ظلت جالسة مكانها تنظر للجدار المقابل لمقعدها ، عاقدة ذرا عيها وتجلس بصمت رغم أنها أرهفت سمعها لتطمئن على أحوال والد زو جها ، لكنها لم تريد أن تقوم من مكانها وتراه ، وما أن أطمئن قلبها على أحوال رياض ، تركت مقعدها وتأهبت للمغادرة وما كادت تبتعد خطوتين حتى سمعت صوت شقيقها ديفيد يناديها ، وهو يتقدم منها بخطوات متلهفة
قطعت هى المسافة الفاصلة بينهما ومدت ذراعيها له ودمعت عيناها ،فتلقاها بين ذراعيه وإحتضنها هامساً لها بحنان :
– وحشتينى أوى يا حياء
– وأنت كمان وحشتنى أوى يا ديفيد كويس أنك رجعت أنا كنت محتجالك أوى
قالت حياء بصوت تخلله رنة حزن مختلطة بالبكاء ، ولم يخفى على ديفيد إستقبالها له من إلقاء نفسها بين ذراعيه ، كأنها تحتمى به ، على الرغم من أنهما أشقاء إلا أن الأمر أقتصر بينهما قبل سفره على عناق أشقاء هادئ ولم يكن مثلما حدث منها الآن
أبتعد عنها قليلاً ورفع وجـ ـهها له وقرأ بعينيها الألم المتسطر بوضوح على صفحات وجـ ـهها ، ولكن قبل أن يفه بكلمة ، رآى راسل يقف وسط أفراد عائلته ، فعاد يرمقها بدهشة وهو يقول متسائلاً:
– هو جوزك رجع أمتى ؟ هو لسه زعلان منك ولا إيه ، علشان كده كلمتينى أرجع إسكندرية ؟ أنا هروح أفهمه كل حاجة ، لازم يعرف أنك مظلومة
قبل أن تعترض حياء على إقتراب ديفيد من راسل ، كان شقيقها يهرول إليه ، ظناً منه أنه هو من سينهى ألم شقيقته بالإعتذار من زو جها عما بدر منه هو وعمه وأنه ما أن يصحح مفهومه الخاطئ عنها ستعود حياتهما لما كانت عليه قبل لقاءها به
ما أن رآى راسل شقيق زو جته يقترب منه ، حتى تغيرت ملامح وجـ ـهه ، وأراد الإنصراف قبل أن يصل إليه ، فترك مكانه وهو بنيته الدخول لمكتبه ، ولكن ديفيد قبض على ذراعه قائلاً بإستجداء :
– راسل إستنى أنا عايز أكلمك ضرورى
نفض راسل يـ ـد ديفيد عنه ورفع سبابته بوجـ ـهه وهو يقول من بين أسنانه محاولاً كظم غيظه:
– متحاولش تلمـ ـسنى مرة تانية أنت فاهم وأنا مش عايز أتكلم معاك ولا أشوف وشك لأن صدقنى ممكن ثانية كمان وأمسح بدمك بلاط المستشفى
ثارت ثائرة حياء بعد سماع قول راسل لديفيد ، فجذبت ذراع شقيقها قبل أن يسهب فى تقديم إعتذاره ، خاصة أن الإعتذار لن يفيد بتلك الحالة ، فقالت بكبرياء وهى تنظر بعينىٌ زو جها :
– ديفيد ملوش لازمة الكلام ولا تضيع وقتك فى الإعتذار ، خلاص راسل مبقاش يلزمنى ، كانت حكاية وخلصت زى اللعبة اللى أنتهت بالخسارة ، بس أنا روحى رياضية مبزعلش من الخسارة اللى بتبقى أحسن من المكسب ، خصوصاً لو خسرت حاجة متستاهلش الزعل ، ثم أنا لما كلمتك يا ديفيد علشان ترجع إسكندرية مش علشان تيجى تعتذر لحد ولا أنك تحاول تصلح الأمور بينى وبينه ، لاء أنا عيزاك ترفعلى قضية طلاق على جوزى دكتور راسل
يتبع…
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
👈 الفصل التالي: رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني الفصل الثامن
👈 جمييع الفصول: رواية لا يليق بك إلا العشق كاملة بقلم سماح نجيب
👈 المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
👈 لتحميل المزيد من الروايات: تحميل روايات pdf
انتهت أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.