نستكمل أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الجزء الثاني الفصل السادس من روايات سماح نجيب ( سمسم ).
لا يليق بك الا العشق2 الفصل 6
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الثانية والخمسون
ج٢-٦-” لقاء على الشاطئ ”
لم يستلزمه التفكير بالأمر مرتين ، إذ أخذ قراره بالعودة للإسكندرية على وجه السرعة ، ونبع ذلك القرار من خوفه أن يرحل أبيه عن هذا العالم قبل أن يراه ، فحتى وإن كان غادر المنزل والبلاد غير آبه بما يمكن أن يصيبه من حزنه لفراقه أو فراق صغيرته ، إلا أنه منذ علمه بما أصابه من مرض ، وكأن ذلك الطفل الصغير السجين بداخله ، أراد التحرر من سجن البرود وأن يرى والده ، حتى وإن لم يكن له أباً مثلما أراده إلا بأيام معدودات وسرعان مارحل هو عنه ، لكونه سأم أمور الخداع ، فعلاقته بوالده علاقة معقدة شأنها شأن باقى علاقاته ، فلا شئ بحياته صار مثلما تمنى ، كأنه جمع تعاسة العالم وسوء الحظ وحده ، ولكن كانت بدأت أموره بالعامين الماضيين تسير على نحو لا بأس به ، خاصة بوجود الصغير ، الذى أضفى على حياته البهجة ، وساهم بأن يتحلى بالقوة والصمود فى أوقاته الحالكة التى لم يحسب لها حساباً ، ولم يكن يعلم أن التعاسة ستعود وتسكن فؤاده هكذا بوقت مبكر بعدما ظن أنه أعاد ترتيب حياته على النحو الذى يرضيه، لذلك أراد منح الصغير ومنح سجود ما تم حرمانه منه وهو صغير ، ألا وهى عاطفة الأبوة
أخرجه من إستغراقه بتفكيره صوت ميس وهى تصيح عبر الهاتف بنبرة تخللها الفرح لعودته :
– بجد يا راسل هترجع خلاص ، أنت متعرفش أنت وحشتنى قد إيه وحشتنا كلنا وخصوصاً مراتك ، دا حياء روحها هترجعلها لما تعرف أنك هترجع تانى
أسرع راسل قائلاً بنبرة مفعمة بالفزع :
– متقوليلهاش يا ميس ولا تقولى لأى حد إن أنا راجع ، مش عايز حد يعرف
لم تلفظ ميس بكلمة واحدة ، حتى ظن أنه فقد الإتصال بها ، فناداها أكثر من مرة ، حتى عاد إليه صوتها وهى تقول بدهشة من إصراره أن لا تخبر أحد بشأن عودته :
– مش عايزنى أقول لحد ليه يا راسل فى إيه بالظبط أنا مش فاهمة إيه سر إصرارك ده
دلك راسل جبهته وندت عنه زفرة مرهقة ، ورد قائلاً بصوت خافت :
– لما أرجع هتعرفى يا ميس ، سلام دلوقتى علشان أعمل ترتيباتى وأشوف أول طيارة راجعة مصر ، وزى ما قولتلك متقوليش لحد
بالدقيقة التالية كان مغلقاً هاتفه وعائداً للداخل بخطوات شبه مهرولة ، ذلك الأمر الذى جعل ساندرا تعقد حـ ـاجبيها بدهشة من تصرفه ، ولكن لم يكن لديها الوقت الكافى لسؤاله ، إذ وجدته يركض على الدرج حتى وصل غرفة وفاء ، ودق الباب وولج بسرعة ، فتبعته لتعلم ما أصابه جعله يتصرف على هذا النحو ، وبعد وصولها لغرفة وفاء وقفت على عتبة الباب ونظرت إليهما
نظر إليها راسل نظرة عابرة ومن ثم وجه بصره لوفاء وهو يقول بنبرة مشوبة بالقلق :
– ماما إحنا لازم نرجع إسكندرية رياض النعمانى تعبان وفى المستشفى ، أنا كلمت ميس وعرفت أنه محتاج يعمل عملية ضرورى ، علشان كده لازم نرجع
أنتفضت وفاء من مكانها بعدما كانت جالسة فى فراشها بإرتياح ، ووزعت نظراتها بينه وبين ساندرا ،التى مازالت تقف مكانها ولا يبدو عليها أن بنيتها أن تقول شئ ، فشدت بيـ ـدها على يـ ـد راسل وهى تقول برصانة :
– اللى تشوفه يا حبيبى ، وألف سلامة عليه ، كنت عارفة أن قلبك طيب ومش هيطاوعك أنك تسيبه فى ظرف زى ده ، بس هتعمل إيه مع ساندرا وساجد
أطرق راسل برأسه أرضاً ورد قائلاً بهدوء:
– هناخدهم معانا يا ماما مش هينفع أسيبهم هنا لوحدهم ، هاخدهم علشان الكل يعرف أن خلاص بقى ليا حياتى هنا ، وان مش هرجع أعيش فى إسكندرية تانى
رفع وجهه ونظر لساندرا وأضاف :
– ساندرا جهزى نفسك أنتى وساجد علشان هتيجوا معانا على إسكندرية ، أنا هحجز على أول طيارة ، لأن مفيش وقت
ترك مكانه من جوار وفاء ، وإستقام بوقفته ولم ينتظر سماع كلمة أخرى منهما ، بل ما أن رآته ساندرا يقترب من الباب ، تنحت جانباً لتسمح بمروره ، وظلت تتبادل النظرات مع وفاء ، حتى إستطاعت بالأخير أن تخرج عن صمتها ، وتشابكت يـ ـديها وهى تقول بحيرة :
– تفتكرى ده قرار صح ماما وفاء أن أنا وساجد نقابل عيلتكم فى إسكندرية ، خصوصاً أن عارفة أن هناك فى زو جة لراسل
لم تستطع وفاء إنكار خوفها وحيرتها بالتفكير مما سيحدث بعد عودتهم خاصة إذا رافقهم ساندرا والصغير ، وهى تعلم مدى حب وغيرة حياء ، فربما ستندلع حرب لن يستطيع أحد إخمادها ، ولكنها لم تشأ أن ترهبها أو تثـ ـير بنفسها الخوف ، وربتت على ذر اعها بحنان ، وأحثتها على إطاعة قول راسل ، وأن تذهب لإعداد حقيبتها وحقيبة الصغير ، بينما هى تركت مكانها على الفور تبحث عن حقيبة ثيابها ، وقد بلغ شوقها منتهاه لأن تعود لمسقط رآسها ، وأن ترى منزلها وصديقتها وكل أحباءها
فبعد أن أنتهى راسل من حجز مقاعد الطائرة التى ستقلع بالغد عائدة إلى وطنه ، أخذ يلملم ثيابه ليضعها بالحقيبة ، ولم يخرجه من تلك الحالة التى ألمت به من ترقبه لعودته لمنزل أبيه ، إلا صوت صيحة الصغير وتصفيقه بيديه الصغيرتين ، فإلتفت خلفه على الفور ، وجد ساندرا تقف على مقربة منه وهى تحمل الصغير ، الذى سرعان ما مد ذرا عيه ، رغـ ـبة منه فى أن يحمله راسل
إستجاب راسل لمطلبه وأخذه منها وإحتـ ـضنه وقبـ ـله على رآ سه ، بينما عيـ ـناه ترصد وقفة ساندرا المتململة ، كأنها تريد قول شئ ولكنها تفتقر إلى الشجاعة لتقول ما لديها
فحدق بها متسائلاً:
– مالك يا ساندرا ، كأنك عايزة تقولى حاجة ، لو فى حاجة قولى
فركت ساندرا يـ ـديها وردت قائلة بإرتباك :
– راسل مش لازم أسافر معاك أنا وساجد ، خايفة أقابل أهلك وتحصل مشاكل
أسرع راسل بسحب يـ ـد الصغير ، التى كانت على وشك جذب نظارته وإسقاطها أرضاً ، وعاد يربت عليه بعدما رآى بوادر تململه وأنزعاجه بأنه أحبط مزحته ، فقـ ـبل رآ سه ورمق ساندرا قائلاً بهدوء:
– أنا عارف أن أكيد هيحصل مشاكل حتى لو مكنتوش أنتوا معايا ، بس مش عايزك تقلقى أحنا هنسافر أطمن على والدى وأشوف لو قدرت أعمله العملية ولما الأمور تتحسن هنرجع هنا تانى ، أنا مش عايزك تخافى ، حتى مراتى ممكن هى اللى تطلب إن أنا وهى ننفصل ، على العموم مش عايزك تفكرى كتير ، ويلا علشان تخلصى ترتيب حاجتك لأن مفيش وقت ، وأنتى عارفة أن لازم أرجع هنا تانى لأن حياتى فى إسكندرية خلاص أنتهت
حركت ساندرا رأ سها ببطئ ، وأخذت تضع هى ثيابه بالحقيبة ، بينما هو أخذ الصغير وولج لشرفة الغرفة ، ظل يهدهد الصغير بين ذرا عيه ، حتى سمع صوت أنفاسه التى أنبأته بأنه غط بنوم عميق ، فأدنى بوجـ ـهه منه ببطئ وحرص وقبـ ـل وجنته المشربة بحمرة خفيفة ، أرتعد الصغير بخفة بين ذرا عيه ولكن سرعان ما عاد لنومه الهادئ ، فأخذه وخرج من الشرفة ، وجد ساندرا أنهت ترتيب ثيابه بالحقيبة ، وما أن اقتربت منه لتأخذ الصغير لتذهب به لغرفته ، أشار إليها برأ سه دلاله على رفضه ، وأخبرها أنه هو من سيذهب ليضعه بفراشه ، بتلك الحجرة التى يتقاسمها مع سجود
فهو ما أن وصل لغرفة إبنته وجدها تضع ثيابها بعشوائية داخل حقيبة سفرها ولم يخفى عليه حماسها وحركتها المفرطة بالغرفة بعد علمها بأنها ستعود للإسكندرية
فقال بصوت خافت لكى لا يفزع الصغير :
– بتعملى إيه يا سيجو ، أنتى بترمى هدومك كده ليه فى الشنطة
صفقت سجود بيـ ـديها وقالت بحماس كعادتها :
– عايزة أخلص يا بابى خلاص هنرجع وأشوف مامى تانى
لن يقتصر الأمر على العودة فقط ، بل أنها سترى حياء وجدها وستعود لتلهو من جديد بحظيرة الخيول ، فكم تتمنى رؤية كيف أصبحت تلك المهرة الصغيرة ، التى أطلق عليها جدها إسم “سيجو” تيمناً باللفظ التحببى لها ، رآت أبيها يضع الصغير بالمهد المتأرجح ، وبعد أن إستقام بوقفته ركضت إليه وأرتمت بين ذرا عيه تقبـ ـله على وجنتيه بنهم ، كأنها تقدم شكرها وعرفانها له بأن سيعوض نزهتهما هنا بنزهة أخرى تاقت إليها منذ أن جاءوا لهنا ، ألا وهى أن تعود بين ذراةعى والدتها وتنعم بدلال جدها لها ، وبعد أن منحته العديد من قبـ ـلاتها الممتنة ، عادت لتكمل لملمة أغراضها خاصة الدمى المحببة إليها ، وزاد شعورها بالسعادة ، بعدما رآت أبيها يجلس على طرف الفراش ، ليعيد ترتيب ثيابها بالحقيبة ، وبعد أن أنتهيا ، إستلقت على الفراش ونظرت لأبيها بحب وهو ينحنى إليها يقبـ ـل جبينها بعدما دثرها بالغطاء ، فأغمضت عيـ ـنيها تحدوها رغبتها بأن تغفو سريعاً وما أن تستيقظ تجد أن اليوم التالى قد جاء وحان لقاءها بوالدتها
❈-❈-❈
بعد إنتهاء جولته بزيارة الأماكن السياحية والأثرية بالإسكندرية، فكر أدم بأن يذهب للشاطئ ، على الرغم من أن مدير أعماله بات يشعر بالتعب والإرهاق ، وألح عليه بأن يعودا للفندق ، ولكن أدم قابل طلبه بالرفض ، وأصر على إكمال جولته السياحية ، فضحك بعد سماعه عبارات التبرم والتذمر من ذلك الشاب الذى يرافقه ، فهما صديقان منذ إحترافه الغناء ، فهو ليس مدير أعماله فقط ، بل صديقه المقرب أيضاً ، وهو من ساعده بتعلم اللغة العربية ، كونه من أصل عربى ولكنه مقيم مع عائلته بفرنسا منذ سنوات طويلة ، وأدم هو من ألح عليه بأن يعلمه النطق بالعربية ، على الرغم من أنه وجد صعوبة بتعلمها فى البداية ، إلا أنه الآن إستطاع التحدث بها بلكنة جذابة ، بإمكانها جذب الفتيات المولعات بالمطربين ، خاصة إذا غازلها باللغة العربية ، التى تحمل من التشبيهات البلاغية ما يستميل به عقول وقلوب الفتيات
فصاح صديقه قائلاً بإمتعاض:
– كفاية بقى يا أدم أنا مبقتش قادر أمشى تانى ، هو أنت ناوى تزور إسكندرية كلها النهاردة
أولاه أدم ظهـ ـره ووضع يـ ـديه بجيبه ونظر للبحر ، فظل الهواء يضرب ثيابه ووجـ ـهه ، ولكن إلتفت إليه برأ سه قائلاً بشجن :
– سمعت كتير عن إسكندرية وجمالها ، فحبيت أشوف ده كله ، مش ينفع أكون هنا ومش أزور كل مكان فيها ، وجايز أشوفها تانى
أقترب منه صديقه وقبض على كتـ ـفه وهو عاقدًا حاجـ ـبيه متسائلاً بدهشة:
– هى مين دى اللى جايز تشوفها تانى
– حياء
قال أدم بصراحة ، فهو منذ أن رآها بالحفل الغنائى وهو يتمنى أن يراها ثانية ، وكأنه يبحث عنها بكل مكان يذهب إليه
ترك صديقه كتـ ـفه وقبض على ذرا عه بشئ من الحدة ، وجعله وجـ ـها لوجـ ـه معه ، فتغضن جبينه بإمتعاض ، فقال وعيناه تحذره من الإنجراف خلف جنونه :
– أدم متبقاش مجنون ، أنت من ساعة ما شوفتها ومبطلتش كلام عنها ، مع أنها اصلاً متكلمتش معاك كلمتين على بعض ، ثم مش أنت عرفت أنها ست متجـ ـوزة ومش متجـ ـوزة أى حد دى متجـ ـوزة إبن أغنى راجل فى البلد دى وراجل له مكانته ، متعملش مشاكل بسبب نزواتك وجريك ورا البنات
زفر أدم أنفاسه الحائرة ، وجذب ذرا عه من قبضة يـ ـد صديقه ، فعاد يحدق بأمواج البحر ، وكأن ما سمعه من تحذيرات ، ليس له أهمية ولن يضعه موضع إعتبار ، فخلع حذاءه وثنى طرفى بنطاله وركض على طول الشاطئ ، لم يعلم طول المسافة التى ركضها ، إلا بعدما نظر خلفه ولم يعد يرى مكان صديقه بوضوح ، ولكن لن يكون العودة لذلك المكان الذى أنطلق منه راكضاً قراراً صائباً الآن ، خاصة بعدما رآى من كان يتمنى رؤياها منذ قليل
فعوضًا عن أن يعيد أدراجه ، أكمل ركضه حتى وصل إليها بذلك المكان الذى وقفت به ، فرفع يـ ـده وألقى عليها التحية بوجه طليق :
– أهلاً حياء
أرتعدت حياء بعد سماع صوته ، وتساءلت من أين ظهر لها فجأة ؟ وربما ساهمت دهشتها برؤيته ، أن تأخذ وقتاً كافياً لأن تجد رداً مناسباً ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تقول بالأخير بشعور من الضيق :
– أهلاً بيك ، هو أنت ماشى ورايا ولا إيه
أحـ ـس أدم بمدى أنزعاجها من رؤيته ، خاصة أنها عادت تنظر للبحر ، كأنها بإنتظاره أن يتركها وشأنها ، ورغم ذلك ظل مكانه ولم يكن بنيته أن يترك مكانه حتى لو كانت منزعجة ، فوضع يـ ـديه بجيبى بنطاله وغرز أصا بعه فى الرمال الرطبة وهو يقول بهدوء مميت :
– أنا كنت بتمشى وشوفتك قولت أسلمك عليكى ، شكلك مضايقة بعد ما شوفتينى ، ومش عارف ليه من أول ما اتقابلنا وأنتى زى ما تكونى عايزة نتخانق سوا
شل الحرج صوتها ، خاصة أنها بدأت هجومها مبكراً ، ولا تعلم لما صارت بتلك الفظاظة كلما تحدث إليها رجلاً أو شاباً ، كأنها تريد أن تصب جام غضبها على كل من يقابلها ، خاصة أن أدم منذ أن قابلها وهو لم يخفى نواياه بأنه يريد مغازلتها ، وربما إمتناعها عن إعطاءه أى فرصة ليزيد من أقواله ، جعله يشعر بالتحدى
قبضت على طرف حجابها ، الذى ساهم الهواء بأن يرفعه حتى كاد يغطى وجهها ، فردت قائلة بنبرة حملت بين طياتها الكثير من الحزن :
– سورى يا أستاذ أدم ، بس أنا قولتك أنا واحدة متجوزة ، ولو حد شافك معايا بنتكلم هيألف علينا حكايات ، إحنا فى مجتمع شرقى وكل خطوة محسوبة عليا فهمت
أخرج أدم إحدى يـ ـديه وراح يعيد ترتيب خصيلات شعره ، التى عاث بها الهواء القادم من البحر فساداً وبعثرة ، فزفر قائلاً بإعجاب :
– أنا بحسد جو زك أن عنده زو جة زيك حياء
إبتسمت حياء بدون مرح ، بل علقت غصة بحلقها وهى تهمس لذاتها بشئ من التفكه الساخر:
– صحيح اللى ميعرفش يقول عدس
لم ترغب فى المكوث طويلاً بهذا المكان ،ولا تريد أن تثار حولها أقاويل كاذبة ، وهى من تحمل كنية عائلة ذائعة الصيت بالمجتمع السكندري ، وأحياناً يتتبع الصحفيين أخبار كل فرد من العائلة ، لتضج الجرائد أو مواقع التواصل الإجتماعي بأخبار ربما تنافى الحقيقة
فقالت وهى تهم بالمغادرة:
– عن أذنك يا أستاذ أدم
إستدار أدم ونظر لأثرها وهى تخطو تجاه سيارتها التى صفتها بمكان ليس ببعيد ، ولم تكلف نفسها أن تنظر إليه قبل أن تستقل السيارة ، إنتفض جـ ـسده فجأة وهو يشعر بتلك اليـ ـد التى حطت على كتـ ـفه
رمق صديقه بحاجبين معقودين دلالة على أنه يشعر بالامتعاض منه ، وخرج صوته حاداً:
– أنت رعبتنى ، مش تتكلم علشان أعرف أنك قريب منى
لوى صديقه ثغره قائلاً بسخرية :
– أترعبت ، دا على أساس أنك نسيت أن أنا معاك ولا علشان شوفتها خلاص توهت ومبقتش مركز فى حاجة ، بس عايز أقولك أنت بالنظام ده ، هتحط رجلك على أول طريق أخرتك إن شاء الله ، ويلا أهو نبقى أرتاحنا منك يا أبو عين زايغة ومش عاتق حد لا متجـ ـوزة ولا غير متجـ ـوزة
وكزه أدم بصدره وهو يضحك ، لعلمه بأن صديقه يحذره من مغبة الاستمرار فى تفكيره ، وربما هو محق ولكنه يأبى الإعتراف بذلك ، فأشار إليه أن يتبعه وهو يقول بصوت حازم :
– يلا نرجع الفندق ، عايز أرتاح شوية ، وممكن تسكت عن كلامك ده ، أنا عارف بعمل إيه
رفض صديقه أن يتحرك قيد أنملة قبل أن يخبره بما ينوى فعله ، إلا أن جذب أدم لذرا عه جعله بالأخير يسير بجانبه ، وكلما نظر لمحيا أدم الهادئ ، يعلم أن خلف هدوءه هذا ، عقل لا يكف عن التفكير ، ولكن ربما تلك المرة ستكون الخسائر فادحة ، فأدم كونه شاب غربى ، يرى كل أموره من منظور الحرية ، و لا يأخذ بمنطق أن هناك ضوابط تحكم المجتمع الشرقى ، حتى وإن حاول البعض التنصل من التمسك بتلك العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، فهناك الكثير مازال محافظاً على تلك الأعراف خاصة تلك العائلة التى ينحدر منها زو ج تلك الفتاة ، التى منذ أن قابلها وهو لم يكف عن الحديث عنها ، بل باتت لديه رغـ ـبة قوية فى التقرب منها ، ويتمنى رؤيتها بكل مكان يذهب إليه ، ولكن هناك شئ يحيره بتصرف أدم ، وهو لما يريد تلك الفتاة عن غيرها ، رغم أن حياته حافلة بالكثير من الحسناوات ،اللواتى كن أكثر جمالاً وجاذبية عن حياء ، فظل يسأل نفسه ما المميز بها عن غيرها ، لتجعل أدم يركض خلفها هكذا ؟
❈-❈-❈
بعد قضاءه عدة ساعات بإجتماع مع مدراء الفنادق الخاصة به ، أشار إليهم بالإنصراف ، فهو لم يعد لديه طاقة على الحديث أو أن يسمع شئ أخر عن أرباح الفنادق والتى زاد معدلها بالأونة الأخيرة ، ولما لا وهو يدير أعماله بقبضة من حديد ، ولا يقبل بأنصاف الحلول ، فإما أن تتم الأعمال على أكمل وجـ ـه ، أو لا يشرع فيها من البداية ، لذلك حرص مدراء الفنادق على تنفيذ أوامره خشية خسارة أحدهم لوظيفته التى تدر عليه ربحًا وفيرًا نظراً لسخاء عمران بمكافأة من يؤدى وظيفته على النحو المطلوب منه ، فإن كان إشتهر عنه سخاءه فى تقديم المكافأت ، فأشتهر عنه أيضاً كونه لا يرحم من يخطئ ، فهو لا يجادل أحد ، بل من يقدم على إرتكاب الخطأ ، من الأفضل له أن يترك وظيفته دون مجادلة
– الحمد لله إن الإجتماع خلص ، دقيقتين كمان وكانت دماغى هتنفجر
قالها عمران وهو يمازح شقيقه معتصم ، وأرخى رابطة عنقه وزفر بإرهاق ، فمـ ـسح على وجـ ـهه وأسند ظهـ ـره لمقعده ، ولكن ما لبث أن مد يـ ـده وألتقط هاتفه بعد سماعه صوت وصول رسائل له ، فربما غزل أرسلت له اليوم صورة ميس ، مثلما اعتادت أن تفعل يومياً ، فهو من أوصاها بفعل ذلك
أسند معتصم رأسه ليـ ـده وقال وهو يتنهد بعمق :
– وبعدين يا عمران أنت هتفضل مقضى حياتك تحب مراتك من بعيد لبعيد ، أظن كفاية كده
مرر عمران يـ ـده على شاشة الهاتف ، فرد قائلاً وهو يمعن النظر بصورة زو جته :
– وهو أنا كنت قصرت يا معتصم ، ما هى اللى راكبة دماغها ، وأنا حاولت كام مرة أصالحها وهى بتزيد فى عنادها ، فخلاص أنا مش هذل نفسى ليها أكتر من كده حتى لو كنت لسه بحبها
تغيرت ملامح وجه عمران على الفور ، بعد تذكره صد ميس المتكرر لمحاولاته لتصفية الخلافات بينهما ، فهو يقسم أنها لو كانت فتاة أو إمرأة أخرى ، لكان من أول محاولة تركها ولن يعود ليخطب ودها مرة أخرى ، ولكن هى ليست أى إمرأة ، بل هى ماسته ،والتى حاول من أجلها أن يتخلى عن القليل من كبرياءه ، ولكنه وصل لحد الإكتفاء من أمور دلالها ، كأنه أفسدها هو بمحاولاته بالعاميين الماضيين ، فمنذ أخر مرة ذهب بها لبيت جدها من أجل إعادتها منذ بضعة شهور ، ووجدها مازالت متمسكة بعنادها ومطلبها بأن يمنحها الطلاق ، أقسم على أنه لن يعيد الكرة مرة أخرى ، إلا إذا رآى منها ما يوحى برغـ ـبتها فى أن تعود إليه ولمنزله ، وكل هذا لم يمنعه بأن يوصى غزل بنقل كل تحركاتها داخل قصر النعمانى ، وهو يتكفل بأمر المشفى ، أو أى مكان تذهب إليه
نقر معتصم بالقلم على سطح الطاولة وهو يقول بتفكه :
– خليكوا أنتوا الاتنين راكبين دماغكم لحد العمر ما يجرى ، وأبقوا اتقابلو فى الخمسينات ولا الستينات كده
رفع عمران ملف به بعض الأوراق وألقاه بوجـ ـه شقيقه وهو يقول بغيظ :
– ليك نفس تهزر كمان يا أخويا ، قوم يلا علشان أنا دلوقتى هروح أطمن على جدها فى المستشفى ومفيش مانع أفور دمها بالمرة بنت النعمانى
قال شق عبارته الأخير بمكر ودهاء ، خاصة أنه مازال متذكراً كيف تغيرت ملامح وجـ ـهها عندما ذهب للمشفى لزيارة جدها بعد علمه بما حدث ، وعلى الرغم من أنهما لم يتحدثان سوياً ، إلا أنه شعر بمدى أنزعاجها برؤيته يتحدث مع إحدى الممرضات
ما أن إستقام معتصم بوقفته ليرافقه للمشفى ، وجدا السكرتيرة تطرق الباب وتلج منه وهى تخبر عمران بشأن أن هناك ضيفة تريد مقابلته ، نظرا عمران ومعتصم للسكرتيرة ، فأخبر عمران شقيقه بأن ينتظره بمكتبه ، حتى يرى من تكون تلك الضيفة التى تريد رؤيته ، فخرجا من غرفة الإجتماعات وذهب عمران لغرفة مكتبه
وجد إمرأة تقف أمام النافذة وتوليه ظهـ ـرها ، فحمحم قائلاً بهدوء:
– أهلاً بحضرتك أنا عمران الزناتى خير كنتى عيزانى فى إيه
إستدارت إليه المرأة وما أن رآها إتسعت حدقتيه ورمقها بذهول وصدمة ، فقال بصوت خرج خافتاً من دهشته برؤيتها :
– ليالى معقولة أنتى
إبتسمت ليالى وأزاحت شعرها خلف أذنيها بسعادة لم تنكرها قسمات وجـ ـهها بأنهما تقابلا مرة أخرى ، حتى أنه لم ينساها أو ينسى إسمها ، فتقدمت بخطواتها منه ومدت يـ ـدها لتصافحه وهى تقول بإبتسامة عفوية صادقة:
– أزيك يا عمران ، متتخيلش أنا سعيدة قد إيه أن أنا شوفتك تانى
أربكته الصدفة بأنه عاد وألتقى بها مرة أخرى بعد إختفاءها المفاجئ ، فصافحها بهدوء ودعاها للجلوس متسائلاً بإلحاح طفيف :
– ليالى أنتى كنتى فين ده كله بعد ما سابتى الشقة
جلست ليالى على المقعد المقابل له وضعت ساق على الأخرى ، ولم يمنع عمران نفسه من تأمل هيئتها الجديدة عليه كلياً ، فهى صارت أشد أناقة بثيابها الثمينة وتلك الحُلى الماسية التى تزين عنقها وأناملها ومعصمها الأيسر
غامت عيناها وهى تسرد له كل ما حدث لها مؤخراً:
– أنا بعد ما سبت الشقة مكنتش عارفة أروح فين ، بس لقيت مطعم إشتغلت فيه ، كان فى راجل سويدى من أصل مصرى بيتردد على المطعم ، عجبته فعرض عليا الجو از وافقت قولت أتجـ ـوز بدل ما أتمرمط ، اتجـ ـوزنا وسافرت معاه على السويد ، كان راجل غنى بس أكتشفنا أن عنده مرض خطير وللأسف أتوفى بعد كام شهر من دخوله المستشفى ، وورثت أنا كل أملاكه ، بس بعت كل الأملاك دى ورجعت إسكندرية مكنتش حابة أقعد فى بلد غريب ، فحولت كل الفلوس على هنا وفكرت إن أفتح مشروع سلسلة مطاعم وقولت إن أنت أكتر واحد هتقدر تساعدنى وخصوصاً أن عندك فنادق ومطاعم وعارف فى شغل البيزنس ده كويس
أنهت حديثها وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ومدت يـ ـدها له بها ، ولكنه رفض دعوتها بتهذيب ، فسحبت هى سيجارة وأشعلتها بقداحتها ومن ثم وضعتها بالحقيبة ، لكى تمنح نفسها وقت كافى قبل سماع رده ، فلا شئ دفعها للمجئ سوى أنها كانت تريد رؤيته ، وتلك المكانة التى تركها بقلبها ، لم يستطع أحد المساس بها حتى زو جها الراحل ، والذى لم تجعله يشعر بيوم بأن هناك رجل غيره يملك قلبها ، ولكن عمران مازال مهيمناً ومسيطراً على ذلك الجانب الأنثوى الضعيف منها ، والذى لم تكن تعلم بوجوده إلا بعدما رآت أفعاله معها
رد عمران قائلاً بهدوء كأنه يتحدث مع أحد عملاءه :
– الموضوع عايز تفكير كويس يا ليالى وعايز حد يكون بيفهم فى البيزنس اللى من النوع ده ، علشان تتجنبى الخسارة وتقدرى تحققى أرباح من المشروع ، يعنى مش مجرد فكرة وفلوس بس
دعست سيجارتها بمنفضة السجائر ، وهزت رأسها بالموافقة وقالت بعدما أسندت ظهـ ـرها للمقعد :
– أنا مش طالبة منك موافقة دلوقتى ، يعنى فكر براحتك وهنتظر ردك ، أنا مقدرش أامن حد على فلوسى غيرك أنت ، أنا همشى دلوقتى وأتمنى أسمع ردك فى اقرب وقت ودى الكارت بتاعى فيه نمرة تليفونى وعنوانى ، سلام يا عمران
ناولته بطاقتها التعريفية وتركت مقعدها تتأهب للمغادرة ، بعدما شددت على نطق إسمه بصوت أنثوى رقيق ، مما جعله يزدرد لعابه ، كونه يعلم كيف كان هوسها به ، بل أنها تجرأت مرة وطلبت منه أن يتزو جها ، ولا يعلم هل سيكون من الحكمة أن تعود ليالى لساحة حياته مرة أخرى ، خاصة أن الوقت الحالى صارت الأمور بينه وبين زو جته متأزمة للغاية ، ولكنه عاد وتذكر أنه قادراً على الفصل بين عمله وحياته الخاصة ، وإن كان من قبل إستطاع ردع رغـ ـبة ليالى به ، فلن يجد مشقة بفعل ذلك ، إذا عادت وفكرت به بشكل يتنافى مع كونها تريد مساعدته بشأن العمل
– مع السلامة يا ليالى
قالها عمران وهو يرافقها إلى باب غرفة مكتبه ، وبعد أن خرجا ووقفا أمام الباب ، دقق معتصم النظر بها بحاجبين معقودين بعدما صافحت شقيقه ، فهو لم يرى تلك المرأة من قبل ، وهو يعلم خير العلم بأن عمران ليس ذلك الرجل الذى تربطه صداقة بأى إمرأة كانت ، بل دائماً كان جافاً بمعاملة النساء قبل زو اجه ، حتى بعدما تزو ج ، أقتصرت عواطفه ومشاعره على زو جته فقط ، وبعدما حدث ما حدث بينهما ظل عمران وفياً لهذا الحب الذى يكنه لميس ، ولم يدع أى إمرأة أخرى تستميله إليها ، فبعدما تركت المكان ، عاد ينظر لشقيقه ينتظر تفسيره لوجود تلك المرأة هنا ، أو ماذا تريد منه ؟ ولكن عمران أرجئ الحديث معه بهذا الأمر ، لحين عودتهما من المشفى بعد أن ينتهيا من زيارة رياض النعمانى ، ومن داخله يعلم أن تلك الزيارة لن تقتصر على الإطمئنان على الأحوال الصحية لكبير عائلة النعمانى ، بل لكى يمتع عيـ ـناه برؤية تلك الشقراء ، ولن يجد ما يمنعه من أن يثير غضبها قليلاً ، فكم تبدو شهية وهى ثائرة
خرجت ميس من غرفة جدها تشعر بالإنهاك ، بعدما أنتهت من فحصه اليوم ، وتناول أدويته وخلد للنوم ، إستندت بظهرها على الجدار ، كأن قدميها لن تستطيع حملها للذهاب لغرفة مكتبها ، والتى كانت سابقاً لراسل ، فبعد أن إلتقطت أنفاسها تحركت من أمام الغرفة ، تتثاقل مشيتها فى رواق المشفى المؤدى لغرفة المكتب ، وضعت يديها بجيبىّ رداءها الطبى ، تومئ برأسها بخفة لكل من يلقى عليها التحية من الأطباء والعاملين بالمشفى ، وصلت إلى وجهتها ، ففتحت الباب وولجت للداخل ، ولكن ما كادت تمر دقيقتان حتى سمعت طرق على باب الغرفة ، فأذنت للطارق بالدخول ، بعدما هتفت بصوتها المرهق ، ولكن ذلك لم يمنعها بأن تجلس بشموخ معتاد على مقعدها ، تنتظر دخول الطارق
أنفتح الباب وولجت منه ولاء وصغيرها ، فهبت ميس من مقعدها وهى تصيح باسمة :
– إيه ده ولاء ومراد إيه المفاجئة الجميلة دى
أقتربت منها ولاء وقبـ ـلتها على وجنتيها وقالت بإبتسامة وهى تداعب رأس صغيرها :
– كنا فى مشوار قريب هنا ، قولنا نيجى نسلم عليكى وكمان عرفت أن جدك تعبان وهنا فى المستشفى فقولت أجى ازوره ، هو لسه هنا ولا رجع البيت
أنحنت ميس وحملت الصغير وقبـ ـلته على وجنته بحب ، فدعت ولاء للجلوس وجلست على المقعد المقابل لها ووضعت الصغير على ساقيها ، فداعبت وجنته المكتنزة وقالت بصوت غلب عليه التأثر والحزن :
– لاء جدو لسه هنا ، علشان محتاج يعمل عملية
أنحنت ولاء قليلاً للأمام وربتت على سا قها وهى تقول بمواساة :
– إن شاء الله هيبقى كويس وهيقوم بالسلامة يا ميس ، باين عليكى الإرهاق جامد
دمعت عيني ميس رغماً عنها وقالت بصوت متحشرج من الخوف :
– خايفة على جدو أوى يا ولاء ، دا لو جراله حاجة أنا ممكن أموت فيها دا مش بس جدى دا كل دنيتى ، فتحت عينى فى الدنيا عليه هو وراسل وخالو عاصم ، مقدرش أتصور حياتى من غير حد منهم
على ذكر إسم راسل ، تغشى الحزن عين ولاء هى الأخرى ، فكم كانت تتمنى وجوده عندما وضعت صغيرها ، ربتت على ساق ميس وحاولت الإبتسام لعلها تردع تلك الدمعات التى باتت تحرق جفنيها ، فقالت بتفاؤل وأمل :
– إن شاء الله يا ميس جدك هيقوم بالسلامة ، وأبيه راسل يرجع هو كمان ، أنا مش عارف قلبه طاوعه يسيب حبايبه كل الوقت ده إزاى
جففت ميس دموعها ، ونظرت لولاء قائلة بحذر :
– ولاء أنا هقولك على حاجة بس بالله عليكى ما تقولى لحد ، أبيه راسل هيرجع قريب لما عرف أن جدو تعبان كلمنى وقال أنه راجع على أول طيارة ، بس كان موصينى مقولش لحد ولا حتى حياء
رنين هاتف ولاء ، ساهم بإخراجها من تلك الحالة التى تغشتها فجأة بعد سماع ما قالته ميس ، حتى أنها لم يكن لديها الوقت لمنحها رداً على ما سمعته منها ، إذ وجدت إتصال مُلح من زو جها معتصم ، ففتحت الهاتف على الفور ، وحاولت أن يخرج صوتها طبيعياً :
– أيوة يا معتصم ، أنا هنا فى المستشفى فى أوضة المكتب بتاعة ميس ، تمام تعالوا مستنياكم
صيغة الجمع التى قالتها ولاء تنافت مع فكرة أن معتصم جاء بمفرده ، لذلك فطنت ميس على الفور بأن ربما يرافقه عمران ، فسحبت محرمة ورقية وراحت تجفف عينيها ، لتمحى عنها أثر البكاء ، وقبل أن تفه أى منهما بكلمة كانتا تسمعان طرق على باب الغرفة ، فولج معتصم وتباطئ عنه عمران قليلاً ، ولكن ترك الصغير مجلسه على ساقىّ ميس ، وهرول تجاه عمه ، الذى أنحنى إليه وحمله عن الأرض يقبـ ـله وهو يقول باسماً:
– البطل بتاعى عامل إيه النهاردة
بعدما ألقى معتصم التحية على ميس ، أشار لصغيره وهو يقول ممازحاً :
– شوفوا الواد عدا من جمبى ولا كأنه شايفنى وجرى على عمه ، هو أنا شفاف للدرجة دى
ضحكت ولاء على قول زو جها ، لعلمها بأن صغيرها ربما بات يميل لعمه عمران أكثر من أبيه ، فعمران يزيد بتدليله لمراد ، حتى أنه يشاركه غرفته ، فقالت ولاء وهى تشير لبطنها بإستحياء :
– خلاص يا حبيبى ، التانى لما ييجى إن شاء الله هييجرى عليك أنت
أتجهت أنظار الجميع إليها ، وحملق بها زو جها وهو فاغرًا فاه يكاد فكه السفلى يصل للأرض قائلاً بدهشة :
– أنتى حامل يا ولاء ، بتتكلمى جد
فهو لا يعلم بشأن أنها حامل مرة أخرى ،ولم يعلم بالأمر إلا الآن ، فقالت ميس بإبتسامة :
– ألف مبروك يا ولاء تقومى بالسلامة إن شاء الله
ردت ولاء قائلة بإبتسامة بشوشة :
– الله يبارك فيكى يا حبيبتى ، وأنا والله ما عرفت إلا النهاردة الصبح ولما جيت المستشفى أطمن على جدك قولت أعمل تحليل دم يعنى لسه مش متأكدة من الموضوع أوى
تابع معتصم نظرات شقيقه لزو جته ، فجذب يـ ـد ولاء قائلاً :
– طب تعالى بقى نتأكد يا أم العيال
وأقترب من شقيقه وحمل صغيره يقبـ ـله وأستطرد قائلاً وهو يقضم وجنة الصغير :
– وتعال أنت كمان علشان أفكرك أن أنا أبوك
أخذ معتصم زو جته وطفله وخرج من الغرفة ، فجلست ميس على مقعدها خلف المكتب وإنتظرت أن ترى عمران يرافقهم ، وضعت رأ سها بين راحتيها وخفضت وجهها وأغلقت عيـ ـنيها كأنها غير قادرة على فتحهما ، وبسماعها صوت إغلاق الباب ، ظنت أن عمران خرج هو الأخر ، فأسندت ظهرها للمقعد وهى مازالت على حالها من إغلاق خضراوتيها ، كأنها ستتأذى من الضوء إذا عملت على فتحهما ، ولكن بداخل عقلها كانت تسترجع تلك اللحظات منذ رؤيتها لعمران وهو يلج الغرفة ، وكيف كان يحتضن إبن شقيقه ، فمما لا شك فيه أن عمران كان سيكون أب حنون ورائع ، وعلى الرغم من شعورها بالسعادة من أجل ولاء ، إلا أنها شعرت بالحزن ، ما أن طاف بعقلها تلك الذكرى المُرة التى خسرت بها جنينها الأول ، فإنسابت دموعها وهى تمسد بيـ ـدها على بطنها ، تشعر بالحيرة من كونها لم تقوى حتى الآن على مسامحة عمران لفعلته ، ولكن وجدت دفء مفاجئ يغمر وجنتها ، فإرتعبت وفتحت عيـ ـنيها على الفور ، وجدت عمران منحنياً إليها ، يكاد لا يفصل بينهما سوى تلك المسافة التى تسمح بأن يرى كل منهما الأخر بوضوح
إتسعت حدقتيها وهى تنظر إليه نظرات مرتبكة لم تحسن إخفاء خوفها من شعورها بأنه قريباً منها لهذا الحد وبذات الوقت كأنها بعيدة عنه ألاف الأميال ، فمدت يـ ـدها وأزاحت كفه بشئ من الجفاء وهى تقول بهدوء مدروس :
– أنت مخرجتش معاهم ليه
جلس على حافة المكتب بالقرب منها ، وقال ببرود متعمداً إغاظتها :
– قولت أقعد معاكى نتكلم شوية على معتصم وولاء ومراد يرجعوا ، محبتش أسيبك لوحدك
عاد يكمل حديثه ، بعدما سكت لبرهة ، فقال بصوت تخلله الحزن :
– مش عايز أبقى متطفل على حياة أخويا ، بالرغم من أن إبنه متعلق بيا ، أنتى عارفة أنا اللى سميته مراد وحبيته أوى ، لأن كنت دايما أحلم أن إسم مراد الزناتى يرجع للحياة تانى ، وكنت أتمنى أن يكون مراد ده إبنى أنا
إلتوى ثغر ميس بإبتسامة ساخرة و مقهورة بالوقت ذاته وقالت بعتاب قاسٍ :
– وهو كان مين السبب فى ضياع حلمك ده يا عمران مش أنت برضه ، وأنا قولتلك بالنسبة ليا خلاص حياتنا أنتهت مع بعض ، فياريت تشوف حياتك ولسه بإمكانك تخلف ويبقى عندك أولاد بس أنا مش هكون أمهم
أخذ رأ سها بين راحتيه بعدما جن جنونه من تكرار حديثها بأنها لن تعود إليه ، فهزها بشئ من القهر ، وهو يكبح جمـ ـاح نفسه بأن ينقض عليها ويثأر لقلبه الملتاع ،
فهتف بها بشئ من الحدة :
– لسه مزهقتيش من الإسطوانة دى بقى ، هفضل مستنيكى لحد أمتى علشان تسامحينى ، غلطت وأعترفت بغلطى عايزة إيه تااانى
صاح بأخر كلماته مما جعلها ترتعد بين يـ ـديه ، فكلما مارس الهدوء ، تعود وتسلبه إياه بعنادها ، ولم تفلح محاولتها بالتملص من بين يـ ـديه ، لذلك إستقامت بوقفتها لعله يفلتها ، ولكن كانت له الغلبة كالعادة ، بل صار الموقف بينهما أكثر سوءاً ، إذ راحت تقذفه بكل ما تطاله يـ ـدها من تلك الأشياء الموجودة على سطح مكتبها ، كأنها تريد إفراغ كامل غضبها ويأسها وخوفها وكل ما تشعر به بتلك الآونة ، ولم تجد غيره يتلقى ثورتها العارمة ، ولكنه أحكم سيطرته على يـ ـديها ، وقبض عليهما من خلف ظهرها بأحد كفيه ، لعل ذلك يسهل أمر إنقيادها إليه
تصاعدت دقات قلبها بسخط وقالت بأمر :
– سيب إيدى يا عمران وأطلع برا أنا مش عايزة أشوف وشك ، أنا بس أطمن على جدو وهرفع عليك قضية طلاق ، أو هخلعك يا ابن الزناتى
كلمتها الأخيرة ، كانت كفيلة بالقضاء على ما تبقى من هدوءه ، فرفع حاجبه قائلاً بذهول :
– تخلعينى أنا يا ميس ، لو تقدرى أعمليها يا بنت النعمانى علشان يبقى أخر يوم فى عمرك
تركها فجأة بشئ من القسوة ، فرفعت ذرا عيها تدلك معصميها وقالت بغضب :
– هتفضل طول عمرك همجى و…
رآى أنها ثرثرت للحد الذى يأمن سلامتها ، لذلك وضع حداً لذلك السيل من الشتائم والسباب ، الذى علم أنه بطريقه إليه ، فكم كان الأمر ممتعاً له وهو يجعلها تبتلع تلك الإهانات التى كانت على وشك قذفها بوجـ ـهه ، بل تخبطها بين ذرا عيه بذلك العناق المحمـ ـوم المشوب بالجنون ، جعل عناقه لها يحمل طابع الهيمنة ، لعلها تعلم مع من تريد العبث ، ولكن لم تدوم هيمنته وسيطرته طويلاً ، خاصة بعدما سمعها تلفظ إسمه برجاء من أن يتركها ، فإن كان فصل العناق بينهما وأعطاها الحرية بأن تلتقط أنفاسها ، إلا أنه مازال فارضاً حصاره حولها .ولكن بدأ يلعن نفسه ما أن رآها تنخرط بالبكاء ، بل أن قدميها بدأتا تتهاوى ، حتى كادت تسقط ، لولا ذراعاه الممتدتان لها ، فضمها إليه ضمة قوية دون إيلام ، وردد على أذنها عبارات الأسف والندم ، التى يعلم أنها لن تزيدها سوى شعور بالنفور منه ، خاصة بعد عناقه القاسى لها ، الذى جاءها ليرسخ بذهنها أنه مازال قادراً على إيذاءها بخضم شعوره بالغضب منها
❈-❈-❈
مرت الدقائق كأنها دهر بأكمله ، فمنذ أن وطأت قدميه أرض الإسكندرية ، وكأن الوقت يمارس عليه إحدى الألعاب المنهكة للأعصاب ، وجاء ذلك ضمن أن تلك السيارة التى ستقلهم لقصر النعمانى ، أصيب أحد إطارتها بثقب ، إستلزم إستبداله ، علاوة على أن خزان الوقود نفذ ، لذلك توقفوا ثانية بإحدى محطات الوقود ، فلم تفيد حيلته بنقر أصابعه ببعضهما البعض ، لكى يلجم لسانه عن أن يصبح بوجه السائق ، الذى لم يتأكد من قدرة سيارته على نقلهم لوجهتهم ، ولكن حاول هو الإستفادة من ذلك التأخير ، بأن يمنح ذاته فرصة للسيطرة على تلك الأفكار التى راحت تعصف بعقله ، بل عصفت بكيانه بأكمله ، من تفكيره فى كيفية إستقبال قاطنى قصر النعمانى له بعد غيابه كل تلك المدة ، ولكن لم يكن يعنيه إستقبال أحد منهم ، قدر إهتمامه بالتفكير فى رد فعل زو جته حياء بعد رؤيته ، إذا كانت ما تزال تقطن بمنزل والده ولم ترحل منه ، فساهم الصغير الجالس بالمقعد الخلفى على ساق والدته ، أن يخلق جو من المرح بعدما شب واقفاً على ساقىّ ساندرا وجذب شعر راسل الجالس بالمقعد المجاور للسائق
إلتفت راسل له ونظر إليه باسماً:
– أنت وبعدين معاك أنت فى شقاوتك دى
لبط الصغير بيـ ـديه كأنه يمنحه الأمر بأن يأخذه ويجلسه على ساقيه ، فإستجاب له على الفور ، وبعد عدة دقائق قضاها بجذب إنتباه راسل له بأفعاله ، داهم النعاس عينيه الصغيرتين ، فنام هانئاً مطمئناً قرير العين ، وماهى إلا دقائق معدودة حتى وجد السيارة تقف أمام ذلك القصر المنيف ، والذى راح أحد حارسى البوابة الكبيرة يقترب منها ليعلم لمن تعود ، وما أن رآى إبن سيده يجلس بالمقعد الأمامى ، حتى تهلل وجه وصاح للحارس الأخر بأن يفتح البوابة ، فأكملت السيارة طريقها حتى وقفت أمام الباب الداخلى للمنزل
فترجل راسل من السيارة وهو يحمل الصغير الغافى بين ذراعيه ، بعدما أعطى للسائق نقوده ، وتوافد عدد من الحراس بعد علمهم بعودته ، فهتف بهم قائلاً بهدوء:
– دخلوا الشنط اللى فى العربية على جوا
لم يستطع أحداً منهم من أن ينبس ببنت شفة ، خاصة بعدما رآوا راسل يحمل طفل صغير ويرافقه إمرأة لم يراها أحد منهم من قبل ، فهم ليس لديهم الصلاحية بأن يعلق أحدهم منهم على تصرفات أحد من أصحاب المنزل ، لذلك أسرعوا بتفيذ ما قاله
توقفت قدماه على عتبة الباب لهنيهة ، كأن يخشى أن يطأ للداخل بقدميه وتتخطفه ملائكة العذاب ، ورغم ذلك ما أن أمر ساقيه بالتحرك أطاعته على الفور وولج للداخل بخطوات ثابتة هادئة لا يفسد هدوءها سوى صوت حذاء ساندرا ذو الكعب العالى الذى راح يصدر رنيناً على الأرضية اللامعة التى تشبه قوارير الزجاج ، فأكملوا سيرهم حتى وصلوا لغرفة المعيشة الكبيرة
وجد سجود تمر من جواره وهى تصيح بسعادة :
– مااامى
ساعدت سجود بصيحتها المنادية لحياء ، بأن تجعله يعى بأى موقف سئ سيصبح هو الآن ، خاصة أنه رآها جالسة بغرفة المعيشة مع باقى أفراد العائلة ، فجميعهم موجودون كأنهم كانوا بإنتظاره ولا ينقص سوى وجود والده ، فإن لم يكن رآى تلك الملامح المشدوهة ، لكان ظن أن ميس أفشت أمر عودته
إرتجفت شفتىّ حياء وهى تهمس بإسم الصغيرة بنبرة مفعمة بالحب لم تخلو من الخوف خشية أن ما تراه سراباً أو وهماً كتلك الأمنيات التى لم تكف عن نسجها طوال الشهور الماضية ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تخطو نحو الصغيرة بلهفة وتلقتها بين ذراعيها وهى دامعة العينين :
– سجود حبيبة ماما وحشتينى أوى
طوقت سجود عنقها وقاسمتها سعادة اللقاء بأن هتفت بها بصدق :
– وأنتى كمان وحشتينى أوى يا مامى ، أنا كنت بعيط كل يوم علشان كنت عايزة أشوفك
ظنت حياء أن ما تراه وتسمعه حلماً ، فعلى الرغم من أنها إستقبلت الصغيرة بين ذراعيها وراحت تقبلها بنهم ودموع سخية ، إلا أنها تشعر بأن بالدقيقة التالية سيأتى أحد ويوقظها وتعلم أن ما تراه ما هو إلا حلم مجنون ومستحيل بالوقت ذاته ، ولكن حتى وإن كان هذا حلماً جميلاً ، فهى لا تريد أن تستيقظ ، ويكفيها أن قلبها عاد ينبض بتلك اللهفة من ضم جـ ـسد الصغيرة المتعلقة بعنقها ، لعلمها بأن إذا كانت سجود بين يـ ـديها الآن ، فإنه هو الآخر هنا ، قريباً منها ، وربما ستحين اللحظة من أن تكون بين ذرا عيه وتسمع خفقات قلبه أسفل أذ نيها ، بل سيحتويها بين ساعـ ـديه القويتين وتنعم بدفئهما ، ستخبره بما عانته منذ أن تركها ورحل ، حتى وإن كان سيأتى كل هذا من باب عتاب المغرمين ، ولكن يكفى أنه قد عاد
ولكن ما أن حانت منها إلتفاتة إليه ورآته يحمل طفل صغير وتقف بجواره إمرأة لا تعلم من تكون ، حتى تكونت الدهشة على وجهها من عقدها لحاجبيها ، ومن تنقلها ببصرها بينهما ، بإنتظاره أن يقول شيئاً ، ولكن ظل الصمت سيد الموقف حتى إستطاعت سجود كسر حاجزه ببراءتها وهى تقول بعفوية:
– ماما إحنا رجعنا خلاص شوفتى ساجد أخويا هيقعد معانا هنا
شهق الجميع بصدمة إلا هى ، كون أن دماءها التى جفت من مجراها ، أختطفت معها صوتها ، بل كأن أحدهم سحب أنفاسها وتركها شاحبة باردة أقرب للموتى منها للأحياء
وما أن عاد إليها صوتها تمتمت بصدمة :
– ساجد أخوكى ! راسل أنت أتجوزت عليا وخلفت كمان
لم تزد كلمة أخرى ، ولم تسمع شيئاً سوى صيحته الخائفة بإسمها بعدما سقطت على الأرض :
– حياااء
ولكنها قد فقدت وعيها بشكل تام ، ولم يعد بإمكانها سماع صوت أحد ، كأنها منحت كامل موافقتها بأن تسحبها تلك الهوة السوداء وتغرق بحالة من فقدان الوعى ، تتمنى أن لا تستيقظ منها وتجد ذلك الواقع المرير ، الذى حاولت الهرب منه بإغماءها
تأرجح رأ سها المثقل بهول تلك المفاجئة ، التى أستقطتها بتلك الحالة من الإغماء ، بين رغبـ ـتها فى أن تفيق وترى من صاحب تلك الأنفاس ، التى كادت تذيب بشرتها اللدنة ، وبين أن تظل بتلك الحالة من اللاوعى ، حتى لا ترى تلك الحقيقة ، التى مزقت روحها وقلبها مما سمعته فور وصوله للبيت ، فكلما شعرت بذلك الملمـ ـس الخشن لتلك اليـ ـد ، التى تجرى على قسمات وجـ ـهها بلهفة لا تخلو من الخوف ، تقطب حاجبيها كأنها لا تشعر بالراحة ، وتريد إزاحة جفنيها ، لترى من يهمس لها بهذا الصوت القوى
ولكن هل هى حقاً لا تعلم لمن يكون ملمـ ـس تلك اليـ ـد وذلك الصوت ؟ أم أنها تتدعى الجهل ، حتى لا تفتح عيناها وتراه أمامها ، فهى لم تراه إلا بلمحة خاطفة ، قبـ ـل سقوطها مغشياً عليها ، ولكن كأنه لا يشبه زو جها راسل ، الذى تعرفه عن ظهر قلب ، أم أن صدمتها بما سمعته ، جعلتها تحاول الإنكار بين ذلك الرجل الذى رآته فور وصوله ، وبين حبيبها الغائب
– حياء فوقى أنتى سمعانى
خرج إسمها من بين شـ ـفتيه بلوعة كادت تحرق جنبات فؤاده، بعدما كان حريصاً على عدم نطقه أمام أحد إلا بخلوته مع ذكرياته بالعامين الماضيين ، إستقرت أنا مله قريباً من ثغـ ـرها ، بعد جولة تفقدية لقسماتها ، التى نهش الشوق قلبه لرؤيتها ، فأزاح تلك النظارة الطبية من على وجـ ـهه ، كأنه لا يريد عائقاً يمنعه من أن يدنو منها ، ولكن قبل أن يحصل على مراده من لهفته بأن يشعر بدفء أنفاسها إزاء وجـ ـهه ، كانت حياء تنتفض من مكانها ، مسببة بذلك صدام بينهما ، أدى لإرتداده عنها ، وربما كان أختل توازنه وسقط أرضاً ، لولا تداركه نفسه وقبض على ذرا عيها ، كمن يتخذها مرساة من الغرق
– أبعد إيـ ـدك عنى
صرخت حياء فى وجـ ـهه بجماع صوتها الحانق ، بل ضمت ذرا عيها وزحفت بجـ ـسدها حتى انكمشت على ذاتها بجوار الوسائد ، وعادت الدموع تغرق وجـ ـهها من جديد ، أغمضت عيـ ـنيها وأطلقت العنان لشهقاتها وصوت أنينها ونواحها ، فهذا ما لم تكن بإنتظاره ، من أنه يعود إليها وهو يحمل بين ذرا عيه طفل من إمرأة أخرى ، ولم يشفق عليها من هول تلك الصدمة ، من أن تراه برفقتها وتشهد على سعادته وأنه لم يتأثر بفراقه عنها ، بل أسرع فى البحث عن من أخذت مكانها وأنجبت له طفل ، ولم يكتفى فى قسـ ـوة عقابه لهذا الحد ، بل إنه أسماه ” ساجد ” وهى من كانت تريد أن تنجب طفلاً يحمل هذا الإسم
توقفت عن البكاء فجأة وتركت الفراش ، وبنيتها الخروج من الغرفة ولكنه قبض على ذرا عها ومنع تحركها فهتف بها أمراً إياها بإلتزام الهدوء :
– إهدى وبطلى حركة كتير ، لأن ممكن يجرالك حاجة
نفضت يـ ـده عنها بحدة وقالت بصوت مقهور وهى تضرب صـ ـدره بكفيها :
– متحاولش تلمـ ـسنى تانى أنت فاااهم ، حققت إنتقامك منى يا راسل ، رجعت دلوقتى وأنت متجـ ـوز ، وكمان عندك إبن و سميته ساجد ، وده الإسم اللى كان نفسى أسميه لإبننا ، قدرت تعمل كده فيا إزااااى
تتابعت أنفاسها المتلاحقة كأنها خارجة من عراك دامى ، بعدما أمتلأ قلبها من ذلك الشعور بأنها حمقاء وسخيفة لمنحه قلبها وعشقها طوال تلك المدة ، فعادت تضرب صـ ـدره من جديد تود لو كان بإمكانها تحطيم ضلوعه لترى إذا كان يحمل بداخلها قلبًا كباقى البشر أم أن هناك تجويف فارغ مكان قلبه
حملقت به بعينان متسعتان وهى تقول بنبرة صوتها التى بدت غريبة على مسامعها :
-بس أنا بعتب عليك ليه ماهو أنت راسل ، اللى بيحب يقهر اللى حواليه بتصرفاته ، إنسان بارد وقلبك زى الحجر ، بس على قد الحب اللى أنا حبتهولك حاسة دلوقتى أن بكرهك زى ما كرهتك زمان من أول مرة شوفتك فيها ، أنا بكرهك يا دكتور راسل
❈-❈-❈يتبع…
ج٢-٦-” لقاء على الشاطئ ”
لم يستلزمه التفكير بالأمر مرتين ، إذ أخذ قراره بالعودة للإسكندرية على وجه السرعة ، ونبع ذلك القرار من خوفه أن يرحل أبيه عن هذا العالم قبل أن يراه ، فحتى وإن كان غادر المنزل والبلاد غير آبه بما يمكن أن يصيبه من حزنه لفراقه أو فراق صغيرته ، إلا أنه منذ علمه بما أصابه من مرض ، وكأن ذلك الطفل الصغير السجين بداخله ، أراد التحرر من سجن البرود وأن يرى والده ، حتى وإن لم يكن له أباً مثلما أراده إلا بأيام معدودات وسرعان مارحل هو عنه ، لكونه سأم أمور الخداع ، فعلاقته بوالده علاقة معقدة شأنها شأن باقى علاقاته ، فلا شئ بحياته صار مثلما تمنى ، كأنه جمع تعاسة العالم وسوء الحظ وحده ، ولكن كانت بدأت أموره بالعامين الماضيين تسير على نحو لا بأس به ، خاصة بوجود الصغير ، الذى أضفى على حياته البهجة ، وساهم بأن يتحلى بالقوة والصمود فى أوقاته الحالكة التى لم يحسب لها حساباً ، ولم يكن يعلم أن التعاسة ستعود وتسكن فؤاده هكذا بوقت مبكر بعدما ظن أنه أعاد ترتيب حياته على النحو الذى يرضيه، لذلك أراد منح الصغير ومنح سجود ما تم حرمانه منه وهو صغير ، ألا وهى عاطفة الأبوة
أخرجه من إستغراقه بتفكيره صوت ميس وهى تصيح عبر الهاتف بنبرة تخللها الفرح لعودته :
– بجد يا راسل هترجع خلاص ، أنت متعرفش أنت وحشتنى قد إيه وحشتنا كلنا وخصوصاً مراتك ، دا حياء روحها هترجعلها لما تعرف أنك هترجع تانى
أسرع راسل قائلاً بنبرة مفعمة بالفزع :
– متقوليلهاش يا ميس ولا تقولى لأى حد إن أنا راجع ، مش عايز حد يعرف
لم تلفظ ميس بكلمة واحدة ، حتى ظن أنه فقد الإتصال بها ، فناداها أكثر من مرة ، حتى عاد إليه صوتها وهى تقول بدهشة من إصراره أن لا تخبر أحد بشأن عودته :
– مش عايزنى أقول لحد ليه يا راسل فى إيه بالظبط أنا مش فاهمة إيه سر إصرارك ده
دلك راسل جبهته وندت عنه زفرة مرهقة ، ورد قائلاً بصوت خافت :
– لما أرجع هتعرفى يا ميس ، سلام دلوقتى علشان أعمل ترتيباتى وأشوف أول طيارة راجعة مصر ، وزى ما قولتلك متقوليش لحد
بالدقيقة التالية كان مغلقاً هاتفه وعائداً للداخل بخطوات شبه مهرولة ، ذلك الأمر الذى جعل ساندرا تعقد حـ ـاجبيها بدهشة من تصرفه ، ولكن لم يكن لديها الوقت الكافى لسؤاله ، إذ وجدته يركض على الدرج حتى وصل غرفة وفاء ، ودق الباب وولج بسرعة ، فتبعته لتعلم ما أصابه جعله يتصرف على هذا النحو ، وبعد وصولها لغرفة وفاء وقفت على عتبة الباب ونظرت إليهما
نظر إليها راسل نظرة عابرة ومن ثم وجه بصره لوفاء وهو يقول بنبرة مشوبة بالقلق :
– ماما إحنا لازم نرجع إسكندرية رياض النعمانى تعبان وفى المستشفى ، أنا كلمت ميس وعرفت أنه محتاج يعمل عملية ضرورى ، علشان كده لازم نرجع
أنتفضت وفاء من مكانها بعدما كانت جالسة فى فراشها بإرتياح ، ووزعت نظراتها بينه وبين ساندرا ،التى مازالت تقف مكانها ولا يبدو عليها أن بنيتها أن تقول شئ ، فشدت بيـ ـدها على يـ ـد راسل وهى تقول برصانة :
– اللى تشوفه يا حبيبى ، وألف سلامة عليه ، كنت عارفة أن قلبك طيب ومش هيطاوعك أنك تسيبه فى ظرف زى ده ، بس هتعمل إيه مع ساندرا وساجد
أطرق راسل برأسه أرضاً ورد قائلاً بهدوء:
– هناخدهم معانا يا ماما مش هينفع أسيبهم هنا لوحدهم ، هاخدهم علشان الكل يعرف أن خلاص بقى ليا حياتى هنا ، وان مش هرجع أعيش فى إسكندرية تانى
رفع وجهه ونظر لساندرا وأضاف :
– ساندرا جهزى نفسك أنتى وساجد علشان هتيجوا معانا على إسكندرية ، أنا هحجز على أول طيارة ، لأن مفيش وقت
ترك مكانه من جوار وفاء ، وإستقام بوقفته ولم ينتظر سماع كلمة أخرى منهما ، بل ما أن رآته ساندرا يقترب من الباب ، تنحت جانباً لتسمح بمروره ، وظلت تتبادل النظرات مع وفاء ، حتى إستطاعت بالأخير أن تخرج عن صمتها ، وتشابكت يـ ـديها وهى تقول بحيرة :
– تفتكرى ده قرار صح ماما وفاء أن أنا وساجد نقابل عيلتكم فى إسكندرية ، خصوصاً أن عارفة أن هناك فى زو جة لراسل
لم تستطع وفاء إنكار خوفها وحيرتها بالتفكير مما سيحدث بعد عودتهم خاصة إذا رافقهم ساندرا والصغير ، وهى تعلم مدى حب وغيرة حياء ، فربما ستندلع حرب لن يستطيع أحد إخمادها ، ولكنها لم تشأ أن ترهبها أو تثـ ـير بنفسها الخوف ، وربتت على ذر اعها بحنان ، وأحثتها على إطاعة قول راسل ، وأن تذهب لإعداد حقيبتها وحقيبة الصغير ، بينما هى تركت مكانها على الفور تبحث عن حقيبة ثيابها ، وقد بلغ شوقها منتهاه لأن تعود لمسقط رآسها ، وأن ترى منزلها وصديقتها وكل أحباءها
فبعد أن أنتهى راسل من حجز مقاعد الطائرة التى ستقلع بالغد عائدة إلى وطنه ، أخذ يلملم ثيابه ليضعها بالحقيبة ، ولم يخرجه من تلك الحالة التى ألمت به من ترقبه لعودته لمنزل أبيه ، إلا صوت صيحة الصغير وتصفيقه بيديه الصغيرتين ، فإلتفت خلفه على الفور ، وجد ساندرا تقف على مقربة منه وهى تحمل الصغير ، الذى سرعان ما مد ذرا عيه ، رغـ ـبة منه فى أن يحمله راسل
إستجاب راسل لمطلبه وأخذه منها وإحتـ ـضنه وقبـ ـله على رآ سه ، بينما عيـ ـناه ترصد وقفة ساندرا المتململة ، كأنها تريد قول شئ ولكنها تفتقر إلى الشجاعة لتقول ما لديها
فحدق بها متسائلاً:
– مالك يا ساندرا ، كأنك عايزة تقولى حاجة ، لو فى حاجة قولى
فركت ساندرا يـ ـديها وردت قائلة بإرتباك :
– راسل مش لازم أسافر معاك أنا وساجد ، خايفة أقابل أهلك وتحصل مشاكل
أسرع راسل بسحب يـ ـد الصغير ، التى كانت على وشك جذب نظارته وإسقاطها أرضاً ، وعاد يربت عليه بعدما رآى بوادر تململه وأنزعاجه بأنه أحبط مزحته ، فقـ ـبل رآ سه ورمق ساندرا قائلاً بهدوء:
– أنا عارف أن أكيد هيحصل مشاكل حتى لو مكنتوش أنتوا معايا ، بس مش عايزك تقلقى أحنا هنسافر أطمن على والدى وأشوف لو قدرت أعمله العملية ولما الأمور تتحسن هنرجع هنا تانى ، أنا مش عايزك تخافى ، حتى مراتى ممكن هى اللى تطلب إن أنا وهى ننفصل ، على العموم مش عايزك تفكرى كتير ، ويلا علشان تخلصى ترتيب حاجتك لأن مفيش وقت ، وأنتى عارفة أن لازم أرجع هنا تانى لأن حياتى فى إسكندرية خلاص أنتهت
حركت ساندرا رأ سها ببطئ ، وأخذت تضع هى ثيابه بالحقيبة ، بينما هو أخذ الصغير وولج لشرفة الغرفة ، ظل يهدهد الصغير بين ذرا عيه ، حتى سمع صوت أنفاسه التى أنبأته بأنه غط بنوم عميق ، فأدنى بوجـ ـهه منه ببطئ وحرص وقبـ ـل وجنته المشربة بحمرة خفيفة ، أرتعد الصغير بخفة بين ذرا عيه ولكن سرعان ما عاد لنومه الهادئ ، فأخذه وخرج من الشرفة ، وجد ساندرا أنهت ترتيب ثيابه بالحقيبة ، وما أن اقتربت منه لتأخذ الصغير لتذهب به لغرفته ، أشار إليها برأ سه دلاله على رفضه ، وأخبرها أنه هو من سيذهب ليضعه بفراشه ، بتلك الحجرة التى يتقاسمها مع سجود
فهو ما أن وصل لغرفة إبنته وجدها تضع ثيابها بعشوائية داخل حقيبة سفرها ولم يخفى عليه حماسها وحركتها المفرطة بالغرفة بعد علمها بأنها ستعود للإسكندرية
فقال بصوت خافت لكى لا يفزع الصغير :
– بتعملى إيه يا سيجو ، أنتى بترمى هدومك كده ليه فى الشنطة
صفقت سجود بيـ ـديها وقالت بحماس كعادتها :
– عايزة أخلص يا بابى خلاص هنرجع وأشوف مامى تانى
لن يقتصر الأمر على العودة فقط ، بل أنها سترى حياء وجدها وستعود لتلهو من جديد بحظيرة الخيول ، فكم تتمنى رؤية كيف أصبحت تلك المهرة الصغيرة ، التى أطلق عليها جدها إسم “سيجو” تيمناً باللفظ التحببى لها ، رآت أبيها يضع الصغير بالمهد المتأرجح ، وبعد أن إستقام بوقفته ركضت إليه وأرتمت بين ذرا عيه تقبـ ـله على وجنتيه بنهم ، كأنها تقدم شكرها وعرفانها له بأن سيعوض نزهتهما هنا بنزهة أخرى تاقت إليها منذ أن جاءوا لهنا ، ألا وهى أن تعود بين ذراةعى والدتها وتنعم بدلال جدها لها ، وبعد أن منحته العديد من قبـ ـلاتها الممتنة ، عادت لتكمل لملمة أغراضها خاصة الدمى المحببة إليها ، وزاد شعورها بالسعادة ، بعدما رآت أبيها يجلس على طرف الفراش ، ليعيد ترتيب ثيابها بالحقيبة ، وبعد أن أنتهيا ، إستلقت على الفراش ونظرت لأبيها بحب وهو ينحنى إليها يقبـ ـل جبينها بعدما دثرها بالغطاء ، فأغمضت عيـ ـنيها تحدوها رغبتها بأن تغفو سريعاً وما أن تستيقظ تجد أن اليوم التالى قد جاء وحان لقاءها بوالدتها
❈-❈-❈
بعد إنتهاء جولته بزيارة الأماكن السياحية والأثرية بالإسكندرية، فكر أدم بأن يذهب للشاطئ ، على الرغم من أن مدير أعماله بات يشعر بالتعب والإرهاق ، وألح عليه بأن يعودا للفندق ، ولكن أدم قابل طلبه بالرفض ، وأصر على إكمال جولته السياحية ، فضحك بعد سماعه عبارات التبرم والتذمر من ذلك الشاب الذى يرافقه ، فهما صديقان منذ إحترافه الغناء ، فهو ليس مدير أعماله فقط ، بل صديقه المقرب أيضاً ، وهو من ساعده بتعلم اللغة العربية ، كونه من أصل عربى ولكنه مقيم مع عائلته بفرنسا منذ سنوات طويلة ، وأدم هو من ألح عليه بأن يعلمه النطق بالعربية ، على الرغم من أنه وجد صعوبة بتعلمها فى البداية ، إلا أنه الآن إستطاع التحدث بها بلكنة جذابة ، بإمكانها جذب الفتيات المولعات بالمطربين ، خاصة إذا غازلها باللغة العربية ، التى تحمل من التشبيهات البلاغية ما يستميل به عقول وقلوب الفتيات
فصاح صديقه قائلاً بإمتعاض:
– كفاية بقى يا أدم أنا مبقتش قادر أمشى تانى ، هو أنت ناوى تزور إسكندرية كلها النهاردة
أولاه أدم ظهـ ـره ووضع يـ ـديه بجيبه ونظر للبحر ، فظل الهواء يضرب ثيابه ووجـ ـهه ، ولكن إلتفت إليه برأ سه قائلاً بشجن :
– سمعت كتير عن إسكندرية وجمالها ، فحبيت أشوف ده كله ، مش ينفع أكون هنا ومش أزور كل مكان فيها ، وجايز أشوفها تانى
أقترب منه صديقه وقبض على كتـ ـفه وهو عاقدًا حاجـ ـبيه متسائلاً بدهشة:
– هى مين دى اللى جايز تشوفها تانى
– حياء
قال أدم بصراحة ، فهو منذ أن رآها بالحفل الغنائى وهو يتمنى أن يراها ثانية ، وكأنه يبحث عنها بكل مكان يذهب إليه
ترك صديقه كتـ ـفه وقبض على ذرا عه بشئ من الحدة ، وجعله وجـ ـها لوجـ ـه معه ، فتغضن جبينه بإمتعاض ، فقال وعيناه تحذره من الإنجراف خلف جنونه :
– أدم متبقاش مجنون ، أنت من ساعة ما شوفتها ومبطلتش كلام عنها ، مع أنها اصلاً متكلمتش معاك كلمتين على بعض ، ثم مش أنت عرفت أنها ست متجـ ـوزة ومش متجـ ـوزة أى حد دى متجـ ـوزة إبن أغنى راجل فى البلد دى وراجل له مكانته ، متعملش مشاكل بسبب نزواتك وجريك ورا البنات
زفر أدم أنفاسه الحائرة ، وجذب ذرا عه من قبضة يـ ـد صديقه ، فعاد يحدق بأمواج البحر ، وكأن ما سمعه من تحذيرات ، ليس له أهمية ولن يضعه موضع إعتبار ، فخلع حذاءه وثنى طرفى بنطاله وركض على طول الشاطئ ، لم يعلم طول المسافة التى ركضها ، إلا بعدما نظر خلفه ولم يعد يرى مكان صديقه بوضوح ، ولكن لن يكون العودة لذلك المكان الذى أنطلق منه راكضاً قراراً صائباً الآن ، خاصة بعدما رآى من كان يتمنى رؤياها منذ قليل
فعوضًا عن أن يعيد أدراجه ، أكمل ركضه حتى وصل إليها بذلك المكان الذى وقفت به ، فرفع يـ ـده وألقى عليها التحية بوجه طليق :
– أهلاً حياء
أرتعدت حياء بعد سماع صوته ، وتساءلت من أين ظهر لها فجأة ؟ وربما ساهمت دهشتها برؤيته ، أن تأخذ وقتاً كافياً لأن تجد رداً مناسباً ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تقول بالأخير بشعور من الضيق :
– أهلاً بيك ، هو أنت ماشى ورايا ولا إيه
أحـ ـس أدم بمدى أنزعاجها من رؤيته ، خاصة أنها عادت تنظر للبحر ، كأنها بإنتظاره أن يتركها وشأنها ، ورغم ذلك ظل مكانه ولم يكن بنيته أن يترك مكانه حتى لو كانت منزعجة ، فوضع يـ ـديه بجيبى بنطاله وغرز أصا بعه فى الرمال الرطبة وهو يقول بهدوء مميت :
– أنا كنت بتمشى وشوفتك قولت أسلمك عليكى ، شكلك مضايقة بعد ما شوفتينى ، ومش عارف ليه من أول ما اتقابلنا وأنتى زى ما تكونى عايزة نتخانق سوا
شل الحرج صوتها ، خاصة أنها بدأت هجومها مبكراً ، ولا تعلم لما صارت بتلك الفظاظة كلما تحدث إليها رجلاً أو شاباً ، كأنها تريد أن تصب جام غضبها على كل من يقابلها ، خاصة أن أدم منذ أن قابلها وهو لم يخفى نواياه بأنه يريد مغازلتها ، وربما إمتناعها عن إعطاءه أى فرصة ليزيد من أقواله ، جعله يشعر بالتحدى
قبضت على طرف حجابها ، الذى ساهم الهواء بأن يرفعه حتى كاد يغطى وجهها ، فردت قائلة بنبرة حملت بين طياتها الكثير من الحزن :
– سورى يا أستاذ أدم ، بس أنا قولتك أنا واحدة متجوزة ، ولو حد شافك معايا بنتكلم هيألف علينا حكايات ، إحنا فى مجتمع شرقى وكل خطوة محسوبة عليا فهمت
أخرج أدم إحدى يـ ـديه وراح يعيد ترتيب خصيلات شعره ، التى عاث بها الهواء القادم من البحر فساداً وبعثرة ، فزفر قائلاً بإعجاب :
– أنا بحسد جو زك أن عنده زو جة زيك حياء
إبتسمت حياء بدون مرح ، بل علقت غصة بحلقها وهى تهمس لذاتها بشئ من التفكه الساخر:
– صحيح اللى ميعرفش يقول عدس
لم ترغب فى المكوث طويلاً بهذا المكان ،ولا تريد أن تثار حولها أقاويل كاذبة ، وهى من تحمل كنية عائلة ذائعة الصيت بالمجتمع السكندري ، وأحياناً يتتبع الصحفيين أخبار كل فرد من العائلة ، لتضج الجرائد أو مواقع التواصل الإجتماعي بأخبار ربما تنافى الحقيقة
فقالت وهى تهم بالمغادرة:
– عن أذنك يا أستاذ أدم
إستدار أدم ونظر لأثرها وهى تخطو تجاه سيارتها التى صفتها بمكان ليس ببعيد ، ولم تكلف نفسها أن تنظر إليه قبل أن تستقل السيارة ، إنتفض جـ ـسده فجأة وهو يشعر بتلك اليـ ـد التى حطت على كتـ ـفه
رمق صديقه بحاجبين معقودين دلالة على أنه يشعر بالامتعاض منه ، وخرج صوته حاداً:
– أنت رعبتنى ، مش تتكلم علشان أعرف أنك قريب منى
لوى صديقه ثغره قائلاً بسخرية :
– أترعبت ، دا على أساس أنك نسيت أن أنا معاك ولا علشان شوفتها خلاص توهت ومبقتش مركز فى حاجة ، بس عايز أقولك أنت بالنظام ده ، هتحط رجلك على أول طريق أخرتك إن شاء الله ، ويلا أهو نبقى أرتاحنا منك يا أبو عين زايغة ومش عاتق حد لا متجـ ـوزة ولا غير متجـ ـوزة
وكزه أدم بصدره وهو يضحك ، لعلمه بأن صديقه يحذره من مغبة الاستمرار فى تفكيره ، وربما هو محق ولكنه يأبى الإعتراف بذلك ، فأشار إليه أن يتبعه وهو يقول بصوت حازم :
– يلا نرجع الفندق ، عايز أرتاح شوية ، وممكن تسكت عن كلامك ده ، أنا عارف بعمل إيه
رفض صديقه أن يتحرك قيد أنملة قبل أن يخبره بما ينوى فعله ، إلا أن جذب أدم لذرا عه جعله بالأخير يسير بجانبه ، وكلما نظر لمحيا أدم الهادئ ، يعلم أن خلف هدوءه هذا ، عقل لا يكف عن التفكير ، ولكن ربما تلك المرة ستكون الخسائر فادحة ، فأدم كونه شاب غربى ، يرى كل أموره من منظور الحرية ، و لا يأخذ بمنطق أن هناك ضوابط تحكم المجتمع الشرقى ، حتى وإن حاول البعض التنصل من التمسك بتلك العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، فهناك الكثير مازال محافظاً على تلك الأعراف خاصة تلك العائلة التى ينحدر منها زو ج تلك الفتاة ، التى منذ أن قابلها وهو لم يكف عن الحديث عنها ، بل باتت لديه رغـ ـبة قوية فى التقرب منها ، ويتمنى رؤيتها بكل مكان يذهب إليه ، ولكن هناك شئ يحيره بتصرف أدم ، وهو لما يريد تلك الفتاة عن غيرها ، رغم أن حياته حافلة بالكثير من الحسناوات ،اللواتى كن أكثر جمالاً وجاذبية عن حياء ، فظل يسأل نفسه ما المميز بها عن غيرها ، لتجعل أدم يركض خلفها هكذا ؟
❈-❈-❈
بعد قضاءه عدة ساعات بإجتماع مع مدراء الفنادق الخاصة به ، أشار إليهم بالإنصراف ، فهو لم يعد لديه طاقة على الحديث أو أن يسمع شئ أخر عن أرباح الفنادق والتى زاد معدلها بالأونة الأخيرة ، ولما لا وهو يدير أعماله بقبضة من حديد ، ولا يقبل بأنصاف الحلول ، فإما أن تتم الأعمال على أكمل وجـ ـه ، أو لا يشرع فيها من البداية ، لذلك حرص مدراء الفنادق على تنفيذ أوامره خشية خسارة أحدهم لوظيفته التى تدر عليه ربحًا وفيرًا نظراً لسخاء عمران بمكافأة من يؤدى وظيفته على النحو المطلوب منه ، فإن كان إشتهر عنه سخاءه فى تقديم المكافأت ، فأشتهر عنه أيضاً كونه لا يرحم من يخطئ ، فهو لا يجادل أحد ، بل من يقدم على إرتكاب الخطأ ، من الأفضل له أن يترك وظيفته دون مجادلة
– الحمد لله إن الإجتماع خلص ، دقيقتين كمان وكانت دماغى هتنفجر
قالها عمران وهو يمازح شقيقه معتصم ، وأرخى رابطة عنقه وزفر بإرهاق ، فمـ ـسح على وجـ ـهه وأسند ظهـ ـره لمقعده ، ولكن ما لبث أن مد يـ ـده وألتقط هاتفه بعد سماعه صوت وصول رسائل له ، فربما غزل أرسلت له اليوم صورة ميس ، مثلما اعتادت أن تفعل يومياً ، فهو من أوصاها بفعل ذلك
أسند معتصم رأسه ليـ ـده وقال وهو يتنهد بعمق :
– وبعدين يا عمران أنت هتفضل مقضى حياتك تحب مراتك من بعيد لبعيد ، أظن كفاية كده
مرر عمران يـ ـده على شاشة الهاتف ، فرد قائلاً وهو يمعن النظر بصورة زو جته :
– وهو أنا كنت قصرت يا معتصم ، ما هى اللى راكبة دماغها ، وأنا حاولت كام مرة أصالحها وهى بتزيد فى عنادها ، فخلاص أنا مش هذل نفسى ليها أكتر من كده حتى لو كنت لسه بحبها
تغيرت ملامح وجه عمران على الفور ، بعد تذكره صد ميس المتكرر لمحاولاته لتصفية الخلافات بينهما ، فهو يقسم أنها لو كانت فتاة أو إمرأة أخرى ، لكان من أول محاولة تركها ولن يعود ليخطب ودها مرة أخرى ، ولكن هى ليست أى إمرأة ، بل هى ماسته ،والتى حاول من أجلها أن يتخلى عن القليل من كبرياءه ، ولكنه وصل لحد الإكتفاء من أمور دلالها ، كأنه أفسدها هو بمحاولاته بالعاميين الماضيين ، فمنذ أخر مرة ذهب بها لبيت جدها من أجل إعادتها منذ بضعة شهور ، ووجدها مازالت متمسكة بعنادها ومطلبها بأن يمنحها الطلاق ، أقسم على أنه لن يعيد الكرة مرة أخرى ، إلا إذا رآى منها ما يوحى برغـ ـبتها فى أن تعود إليه ولمنزله ، وكل هذا لم يمنعه بأن يوصى غزل بنقل كل تحركاتها داخل قصر النعمانى ، وهو يتكفل بأمر المشفى ، أو أى مكان تذهب إليه
نقر معتصم بالقلم على سطح الطاولة وهو يقول بتفكه :
– خليكوا أنتوا الاتنين راكبين دماغكم لحد العمر ما يجرى ، وأبقوا اتقابلو فى الخمسينات ولا الستينات كده
رفع عمران ملف به بعض الأوراق وألقاه بوجـ ـه شقيقه وهو يقول بغيظ :
– ليك نفس تهزر كمان يا أخويا ، قوم يلا علشان أنا دلوقتى هروح أطمن على جدها فى المستشفى ومفيش مانع أفور دمها بالمرة بنت النعمانى
قال شق عبارته الأخير بمكر ودهاء ، خاصة أنه مازال متذكراً كيف تغيرت ملامح وجـ ـهها عندما ذهب للمشفى لزيارة جدها بعد علمه بما حدث ، وعلى الرغم من أنهما لم يتحدثان سوياً ، إلا أنه شعر بمدى أنزعاجها برؤيته يتحدث مع إحدى الممرضات
ما أن إستقام معتصم بوقفته ليرافقه للمشفى ، وجدا السكرتيرة تطرق الباب وتلج منه وهى تخبر عمران بشأن أن هناك ضيفة تريد مقابلته ، نظرا عمران ومعتصم للسكرتيرة ، فأخبر عمران شقيقه بأن ينتظره بمكتبه ، حتى يرى من تكون تلك الضيفة التى تريد رؤيته ، فخرجا من غرفة الإجتماعات وذهب عمران لغرفة مكتبه
وجد إمرأة تقف أمام النافذة وتوليه ظهـ ـرها ، فحمحم قائلاً بهدوء:
– أهلاً بحضرتك أنا عمران الزناتى خير كنتى عيزانى فى إيه
إستدارت إليه المرأة وما أن رآها إتسعت حدقتيه ورمقها بذهول وصدمة ، فقال بصوت خرج خافتاً من دهشته برؤيتها :
– ليالى معقولة أنتى
إبتسمت ليالى وأزاحت شعرها خلف أذنيها بسعادة لم تنكرها قسمات وجـ ـهها بأنهما تقابلا مرة أخرى ، حتى أنه لم ينساها أو ينسى إسمها ، فتقدمت بخطواتها منه ومدت يـ ـدها لتصافحه وهى تقول بإبتسامة عفوية صادقة:
– أزيك يا عمران ، متتخيلش أنا سعيدة قد إيه أن أنا شوفتك تانى
أربكته الصدفة بأنه عاد وألتقى بها مرة أخرى بعد إختفاءها المفاجئ ، فصافحها بهدوء ودعاها للجلوس متسائلاً بإلحاح طفيف :
– ليالى أنتى كنتى فين ده كله بعد ما سابتى الشقة
جلست ليالى على المقعد المقابل له وضعت ساق على الأخرى ، ولم يمنع عمران نفسه من تأمل هيئتها الجديدة عليه كلياً ، فهى صارت أشد أناقة بثيابها الثمينة وتلك الحُلى الماسية التى تزين عنقها وأناملها ومعصمها الأيسر
غامت عيناها وهى تسرد له كل ما حدث لها مؤخراً:
– أنا بعد ما سبت الشقة مكنتش عارفة أروح فين ، بس لقيت مطعم إشتغلت فيه ، كان فى راجل سويدى من أصل مصرى بيتردد على المطعم ، عجبته فعرض عليا الجو از وافقت قولت أتجـ ـوز بدل ما أتمرمط ، اتجـ ـوزنا وسافرت معاه على السويد ، كان راجل غنى بس أكتشفنا أن عنده مرض خطير وللأسف أتوفى بعد كام شهر من دخوله المستشفى ، وورثت أنا كل أملاكه ، بس بعت كل الأملاك دى ورجعت إسكندرية مكنتش حابة أقعد فى بلد غريب ، فحولت كل الفلوس على هنا وفكرت إن أفتح مشروع سلسلة مطاعم وقولت إن أنت أكتر واحد هتقدر تساعدنى وخصوصاً أن عندك فنادق ومطاعم وعارف فى شغل البيزنس ده كويس
أنهت حديثها وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ومدت يـ ـدها له بها ، ولكنه رفض دعوتها بتهذيب ، فسحبت هى سيجارة وأشعلتها بقداحتها ومن ثم وضعتها بالحقيبة ، لكى تمنح نفسها وقت كافى قبل سماع رده ، فلا شئ دفعها للمجئ سوى أنها كانت تريد رؤيته ، وتلك المكانة التى تركها بقلبها ، لم يستطع أحد المساس بها حتى زو جها الراحل ، والذى لم تجعله يشعر بيوم بأن هناك رجل غيره يملك قلبها ، ولكن عمران مازال مهيمناً ومسيطراً على ذلك الجانب الأنثوى الضعيف منها ، والذى لم تكن تعلم بوجوده إلا بعدما رآت أفعاله معها
رد عمران قائلاً بهدوء كأنه يتحدث مع أحد عملاءه :
– الموضوع عايز تفكير كويس يا ليالى وعايز حد يكون بيفهم فى البيزنس اللى من النوع ده ، علشان تتجنبى الخسارة وتقدرى تحققى أرباح من المشروع ، يعنى مش مجرد فكرة وفلوس بس
دعست سيجارتها بمنفضة السجائر ، وهزت رأسها بالموافقة وقالت بعدما أسندت ظهـ ـرها للمقعد :
– أنا مش طالبة منك موافقة دلوقتى ، يعنى فكر براحتك وهنتظر ردك ، أنا مقدرش أامن حد على فلوسى غيرك أنت ، أنا همشى دلوقتى وأتمنى أسمع ردك فى اقرب وقت ودى الكارت بتاعى فيه نمرة تليفونى وعنوانى ، سلام يا عمران
ناولته بطاقتها التعريفية وتركت مقعدها تتأهب للمغادرة ، بعدما شددت على نطق إسمه بصوت أنثوى رقيق ، مما جعله يزدرد لعابه ، كونه يعلم كيف كان هوسها به ، بل أنها تجرأت مرة وطلبت منه أن يتزو جها ، ولا يعلم هل سيكون من الحكمة أن تعود ليالى لساحة حياته مرة أخرى ، خاصة أن الوقت الحالى صارت الأمور بينه وبين زو جته متأزمة للغاية ، ولكنه عاد وتذكر أنه قادراً على الفصل بين عمله وحياته الخاصة ، وإن كان من قبل إستطاع ردع رغـ ـبة ليالى به ، فلن يجد مشقة بفعل ذلك ، إذا عادت وفكرت به بشكل يتنافى مع كونها تريد مساعدته بشأن العمل
– مع السلامة يا ليالى
قالها عمران وهو يرافقها إلى باب غرفة مكتبه ، وبعد أن خرجا ووقفا أمام الباب ، دقق معتصم النظر بها بحاجبين معقودين بعدما صافحت شقيقه ، فهو لم يرى تلك المرأة من قبل ، وهو يعلم خير العلم بأن عمران ليس ذلك الرجل الذى تربطه صداقة بأى إمرأة كانت ، بل دائماً كان جافاً بمعاملة النساء قبل زو اجه ، حتى بعدما تزو ج ، أقتصرت عواطفه ومشاعره على زو جته فقط ، وبعدما حدث ما حدث بينهما ظل عمران وفياً لهذا الحب الذى يكنه لميس ، ولم يدع أى إمرأة أخرى تستميله إليها ، فبعدما تركت المكان ، عاد ينظر لشقيقه ينتظر تفسيره لوجود تلك المرأة هنا ، أو ماذا تريد منه ؟ ولكن عمران أرجئ الحديث معه بهذا الأمر ، لحين عودتهما من المشفى بعد أن ينتهيا من زيارة رياض النعمانى ، ومن داخله يعلم أن تلك الزيارة لن تقتصر على الإطمئنان على الأحوال الصحية لكبير عائلة النعمانى ، بل لكى يمتع عيـ ـناه برؤية تلك الشقراء ، ولن يجد ما يمنعه من أن يثير غضبها قليلاً ، فكم تبدو شهية وهى ثائرة
خرجت ميس من غرفة جدها تشعر بالإنهاك ، بعدما أنتهت من فحصه اليوم ، وتناول أدويته وخلد للنوم ، إستندت بظهرها على الجدار ، كأن قدميها لن تستطيع حملها للذهاب لغرفة مكتبها ، والتى كانت سابقاً لراسل ، فبعد أن إلتقطت أنفاسها تحركت من أمام الغرفة ، تتثاقل مشيتها فى رواق المشفى المؤدى لغرفة المكتب ، وضعت يديها بجيبىّ رداءها الطبى ، تومئ برأسها بخفة لكل من يلقى عليها التحية من الأطباء والعاملين بالمشفى ، وصلت إلى وجهتها ، ففتحت الباب وولجت للداخل ، ولكن ما كادت تمر دقيقتان حتى سمعت طرق على باب الغرفة ، فأذنت للطارق بالدخول ، بعدما هتفت بصوتها المرهق ، ولكن ذلك لم يمنعها بأن تجلس بشموخ معتاد على مقعدها ، تنتظر دخول الطارق
أنفتح الباب وولجت منه ولاء وصغيرها ، فهبت ميس من مقعدها وهى تصيح باسمة :
– إيه ده ولاء ومراد إيه المفاجئة الجميلة دى
أقتربت منها ولاء وقبـ ـلتها على وجنتيها وقالت بإبتسامة وهى تداعب رأس صغيرها :
– كنا فى مشوار قريب هنا ، قولنا نيجى نسلم عليكى وكمان عرفت أن جدك تعبان وهنا فى المستشفى فقولت أجى ازوره ، هو لسه هنا ولا رجع البيت
أنحنت ميس وحملت الصغير وقبـ ـلته على وجنته بحب ، فدعت ولاء للجلوس وجلست على المقعد المقابل لها ووضعت الصغير على ساقيها ، فداعبت وجنته المكتنزة وقالت بصوت غلب عليه التأثر والحزن :
– لاء جدو لسه هنا ، علشان محتاج يعمل عملية
أنحنت ولاء قليلاً للأمام وربتت على سا قها وهى تقول بمواساة :
– إن شاء الله هيبقى كويس وهيقوم بالسلامة يا ميس ، باين عليكى الإرهاق جامد
دمعت عيني ميس رغماً عنها وقالت بصوت متحشرج من الخوف :
– خايفة على جدو أوى يا ولاء ، دا لو جراله حاجة أنا ممكن أموت فيها دا مش بس جدى دا كل دنيتى ، فتحت عينى فى الدنيا عليه هو وراسل وخالو عاصم ، مقدرش أتصور حياتى من غير حد منهم
على ذكر إسم راسل ، تغشى الحزن عين ولاء هى الأخرى ، فكم كانت تتمنى وجوده عندما وضعت صغيرها ، ربتت على ساق ميس وحاولت الإبتسام لعلها تردع تلك الدمعات التى باتت تحرق جفنيها ، فقالت بتفاؤل وأمل :
– إن شاء الله يا ميس جدك هيقوم بالسلامة ، وأبيه راسل يرجع هو كمان ، أنا مش عارف قلبه طاوعه يسيب حبايبه كل الوقت ده إزاى
جففت ميس دموعها ، ونظرت لولاء قائلة بحذر :
– ولاء أنا هقولك على حاجة بس بالله عليكى ما تقولى لحد ، أبيه راسل هيرجع قريب لما عرف أن جدو تعبان كلمنى وقال أنه راجع على أول طيارة ، بس كان موصينى مقولش لحد ولا حتى حياء
رنين هاتف ولاء ، ساهم بإخراجها من تلك الحالة التى تغشتها فجأة بعد سماع ما قالته ميس ، حتى أنها لم يكن لديها الوقت لمنحها رداً على ما سمعته منها ، إذ وجدت إتصال مُلح من زو جها معتصم ، ففتحت الهاتف على الفور ، وحاولت أن يخرج صوتها طبيعياً :
– أيوة يا معتصم ، أنا هنا فى المستشفى فى أوضة المكتب بتاعة ميس ، تمام تعالوا مستنياكم
صيغة الجمع التى قالتها ولاء تنافت مع فكرة أن معتصم جاء بمفرده ، لذلك فطنت ميس على الفور بأن ربما يرافقه عمران ، فسحبت محرمة ورقية وراحت تجفف عينيها ، لتمحى عنها أثر البكاء ، وقبل أن تفه أى منهما بكلمة كانتا تسمعان طرق على باب الغرفة ، فولج معتصم وتباطئ عنه عمران قليلاً ، ولكن ترك الصغير مجلسه على ساقىّ ميس ، وهرول تجاه عمه ، الذى أنحنى إليه وحمله عن الأرض يقبـ ـله وهو يقول باسماً:
– البطل بتاعى عامل إيه النهاردة
بعدما ألقى معتصم التحية على ميس ، أشار لصغيره وهو يقول ممازحاً :
– شوفوا الواد عدا من جمبى ولا كأنه شايفنى وجرى على عمه ، هو أنا شفاف للدرجة دى
ضحكت ولاء على قول زو جها ، لعلمها بأن صغيرها ربما بات يميل لعمه عمران أكثر من أبيه ، فعمران يزيد بتدليله لمراد ، حتى أنه يشاركه غرفته ، فقالت ولاء وهى تشير لبطنها بإستحياء :
– خلاص يا حبيبى ، التانى لما ييجى إن شاء الله هييجرى عليك أنت
أتجهت أنظار الجميع إليها ، وحملق بها زو جها وهو فاغرًا فاه يكاد فكه السفلى يصل للأرض قائلاً بدهشة :
– أنتى حامل يا ولاء ، بتتكلمى جد
فهو لا يعلم بشأن أنها حامل مرة أخرى ،ولم يعلم بالأمر إلا الآن ، فقالت ميس بإبتسامة :
– ألف مبروك يا ولاء تقومى بالسلامة إن شاء الله
ردت ولاء قائلة بإبتسامة بشوشة :
– الله يبارك فيكى يا حبيبتى ، وأنا والله ما عرفت إلا النهاردة الصبح ولما جيت المستشفى أطمن على جدك قولت أعمل تحليل دم يعنى لسه مش متأكدة من الموضوع أوى
تابع معتصم نظرات شقيقه لزو جته ، فجذب يـ ـد ولاء قائلاً :
– طب تعالى بقى نتأكد يا أم العيال
وأقترب من شقيقه وحمل صغيره يقبـ ـله وأستطرد قائلاً وهو يقضم وجنة الصغير :
– وتعال أنت كمان علشان أفكرك أن أنا أبوك
أخذ معتصم زو جته وطفله وخرج من الغرفة ، فجلست ميس على مقعدها خلف المكتب وإنتظرت أن ترى عمران يرافقهم ، وضعت رأ سها بين راحتيها وخفضت وجهها وأغلقت عيـ ـنيها كأنها غير قادرة على فتحهما ، وبسماعها صوت إغلاق الباب ، ظنت أن عمران خرج هو الأخر ، فأسندت ظهرها للمقعد وهى مازالت على حالها من إغلاق خضراوتيها ، كأنها ستتأذى من الضوء إذا عملت على فتحهما ، ولكن بداخل عقلها كانت تسترجع تلك اللحظات منذ رؤيتها لعمران وهو يلج الغرفة ، وكيف كان يحتضن إبن شقيقه ، فمما لا شك فيه أن عمران كان سيكون أب حنون ورائع ، وعلى الرغم من شعورها بالسعادة من أجل ولاء ، إلا أنها شعرت بالحزن ، ما أن طاف بعقلها تلك الذكرى المُرة التى خسرت بها جنينها الأول ، فإنسابت دموعها وهى تمسد بيـ ـدها على بطنها ، تشعر بالحيرة من كونها لم تقوى حتى الآن على مسامحة عمران لفعلته ، ولكن وجدت دفء مفاجئ يغمر وجنتها ، فإرتعبت وفتحت عيـ ـنيها على الفور ، وجدت عمران منحنياً إليها ، يكاد لا يفصل بينهما سوى تلك المسافة التى تسمح بأن يرى كل منهما الأخر بوضوح
إتسعت حدقتيها وهى تنظر إليه نظرات مرتبكة لم تحسن إخفاء خوفها من شعورها بأنه قريباً منها لهذا الحد وبذات الوقت كأنها بعيدة عنه ألاف الأميال ، فمدت يـ ـدها وأزاحت كفه بشئ من الجفاء وهى تقول بهدوء مدروس :
– أنت مخرجتش معاهم ليه
جلس على حافة المكتب بالقرب منها ، وقال ببرود متعمداً إغاظتها :
– قولت أقعد معاكى نتكلم شوية على معتصم وولاء ومراد يرجعوا ، محبتش أسيبك لوحدك
عاد يكمل حديثه ، بعدما سكت لبرهة ، فقال بصوت تخلله الحزن :
– مش عايز أبقى متطفل على حياة أخويا ، بالرغم من أن إبنه متعلق بيا ، أنتى عارفة أنا اللى سميته مراد وحبيته أوى ، لأن كنت دايما أحلم أن إسم مراد الزناتى يرجع للحياة تانى ، وكنت أتمنى أن يكون مراد ده إبنى أنا
إلتوى ثغر ميس بإبتسامة ساخرة و مقهورة بالوقت ذاته وقالت بعتاب قاسٍ :
– وهو كان مين السبب فى ضياع حلمك ده يا عمران مش أنت برضه ، وأنا قولتلك بالنسبة ليا خلاص حياتنا أنتهت مع بعض ، فياريت تشوف حياتك ولسه بإمكانك تخلف ويبقى عندك أولاد بس أنا مش هكون أمهم
أخذ رأ سها بين راحتيه بعدما جن جنونه من تكرار حديثها بأنها لن تعود إليه ، فهزها بشئ من القهر ، وهو يكبح جمـ ـاح نفسه بأن ينقض عليها ويثأر لقلبه الملتاع ،
فهتف بها بشئ من الحدة :
– لسه مزهقتيش من الإسطوانة دى بقى ، هفضل مستنيكى لحد أمتى علشان تسامحينى ، غلطت وأعترفت بغلطى عايزة إيه تااانى
صاح بأخر كلماته مما جعلها ترتعد بين يـ ـديه ، فكلما مارس الهدوء ، تعود وتسلبه إياه بعنادها ، ولم تفلح محاولتها بالتملص من بين يـ ـديه ، لذلك إستقامت بوقفتها لعله يفلتها ، ولكن كانت له الغلبة كالعادة ، بل صار الموقف بينهما أكثر سوءاً ، إذ راحت تقذفه بكل ما تطاله يـ ـدها من تلك الأشياء الموجودة على سطح مكتبها ، كأنها تريد إفراغ كامل غضبها ويأسها وخوفها وكل ما تشعر به بتلك الآونة ، ولم تجد غيره يتلقى ثورتها العارمة ، ولكنه أحكم سيطرته على يـ ـديها ، وقبض عليهما من خلف ظهرها بأحد كفيه ، لعل ذلك يسهل أمر إنقيادها إليه
تصاعدت دقات قلبها بسخط وقالت بأمر :
– سيب إيدى يا عمران وأطلع برا أنا مش عايزة أشوف وشك ، أنا بس أطمن على جدو وهرفع عليك قضية طلاق ، أو هخلعك يا ابن الزناتى
كلمتها الأخيرة ، كانت كفيلة بالقضاء على ما تبقى من هدوءه ، فرفع حاجبه قائلاً بذهول :
– تخلعينى أنا يا ميس ، لو تقدرى أعمليها يا بنت النعمانى علشان يبقى أخر يوم فى عمرك
تركها فجأة بشئ من القسوة ، فرفعت ذرا عيها تدلك معصميها وقالت بغضب :
– هتفضل طول عمرك همجى و…
رآى أنها ثرثرت للحد الذى يأمن سلامتها ، لذلك وضع حداً لذلك السيل من الشتائم والسباب ، الذى علم أنه بطريقه إليه ، فكم كان الأمر ممتعاً له وهو يجعلها تبتلع تلك الإهانات التى كانت على وشك قذفها بوجـ ـهه ، بل تخبطها بين ذرا عيه بذلك العناق المحمـ ـوم المشوب بالجنون ، جعل عناقه لها يحمل طابع الهيمنة ، لعلها تعلم مع من تريد العبث ، ولكن لم تدوم هيمنته وسيطرته طويلاً ، خاصة بعدما سمعها تلفظ إسمه برجاء من أن يتركها ، فإن كان فصل العناق بينهما وأعطاها الحرية بأن تلتقط أنفاسها ، إلا أنه مازال فارضاً حصاره حولها .ولكن بدأ يلعن نفسه ما أن رآها تنخرط بالبكاء ، بل أن قدميها بدأتا تتهاوى ، حتى كادت تسقط ، لولا ذراعاه الممتدتان لها ، فضمها إليه ضمة قوية دون إيلام ، وردد على أذنها عبارات الأسف والندم ، التى يعلم أنها لن تزيدها سوى شعور بالنفور منه ، خاصة بعد عناقه القاسى لها ، الذى جاءها ليرسخ بذهنها أنه مازال قادراً على إيذاءها بخضم شعوره بالغضب منها
❈-❈-❈
مرت الدقائق كأنها دهر بأكمله ، فمنذ أن وطأت قدميه أرض الإسكندرية ، وكأن الوقت يمارس عليه إحدى الألعاب المنهكة للأعصاب ، وجاء ذلك ضمن أن تلك السيارة التى ستقلهم لقصر النعمانى ، أصيب أحد إطارتها بثقب ، إستلزم إستبداله ، علاوة على أن خزان الوقود نفذ ، لذلك توقفوا ثانية بإحدى محطات الوقود ، فلم تفيد حيلته بنقر أصابعه ببعضهما البعض ، لكى يلجم لسانه عن أن يصبح بوجه السائق ، الذى لم يتأكد من قدرة سيارته على نقلهم لوجهتهم ، ولكن حاول هو الإستفادة من ذلك التأخير ، بأن يمنح ذاته فرصة للسيطرة على تلك الأفكار التى راحت تعصف بعقله ، بل عصفت بكيانه بأكمله ، من تفكيره فى كيفية إستقبال قاطنى قصر النعمانى له بعد غيابه كل تلك المدة ، ولكن لم يكن يعنيه إستقبال أحد منهم ، قدر إهتمامه بالتفكير فى رد فعل زو جته حياء بعد رؤيته ، إذا كانت ما تزال تقطن بمنزل والده ولم ترحل منه ، فساهم الصغير الجالس بالمقعد الخلفى على ساق والدته ، أن يخلق جو من المرح بعدما شب واقفاً على ساقىّ ساندرا وجذب شعر راسل الجالس بالمقعد المجاور للسائق
إلتفت راسل له ونظر إليه باسماً:
– أنت وبعدين معاك أنت فى شقاوتك دى
لبط الصغير بيـ ـديه كأنه يمنحه الأمر بأن يأخذه ويجلسه على ساقيه ، فإستجاب له على الفور ، وبعد عدة دقائق قضاها بجذب إنتباه راسل له بأفعاله ، داهم النعاس عينيه الصغيرتين ، فنام هانئاً مطمئناً قرير العين ، وماهى إلا دقائق معدودة حتى وجد السيارة تقف أمام ذلك القصر المنيف ، والذى راح أحد حارسى البوابة الكبيرة يقترب منها ليعلم لمن تعود ، وما أن رآى إبن سيده يجلس بالمقعد الأمامى ، حتى تهلل وجه وصاح للحارس الأخر بأن يفتح البوابة ، فأكملت السيارة طريقها حتى وقفت أمام الباب الداخلى للمنزل
فترجل راسل من السيارة وهو يحمل الصغير الغافى بين ذراعيه ، بعدما أعطى للسائق نقوده ، وتوافد عدد من الحراس بعد علمهم بعودته ، فهتف بهم قائلاً بهدوء:
– دخلوا الشنط اللى فى العربية على جوا
لم يستطع أحداً منهم من أن ينبس ببنت شفة ، خاصة بعدما رآوا راسل يحمل طفل صغير ويرافقه إمرأة لم يراها أحد منهم من قبل ، فهم ليس لديهم الصلاحية بأن يعلق أحدهم منهم على تصرفات أحد من أصحاب المنزل ، لذلك أسرعوا بتفيذ ما قاله
توقفت قدماه على عتبة الباب لهنيهة ، كأن يخشى أن يطأ للداخل بقدميه وتتخطفه ملائكة العذاب ، ورغم ذلك ما أن أمر ساقيه بالتحرك أطاعته على الفور وولج للداخل بخطوات ثابتة هادئة لا يفسد هدوءها سوى صوت حذاء ساندرا ذو الكعب العالى الذى راح يصدر رنيناً على الأرضية اللامعة التى تشبه قوارير الزجاج ، فأكملوا سيرهم حتى وصلوا لغرفة المعيشة الكبيرة
وجد سجود تمر من جواره وهى تصيح بسعادة :
– مااامى
ساعدت سجود بصيحتها المنادية لحياء ، بأن تجعله يعى بأى موقف سئ سيصبح هو الآن ، خاصة أنه رآها جالسة بغرفة المعيشة مع باقى أفراد العائلة ، فجميعهم موجودون كأنهم كانوا بإنتظاره ولا ينقص سوى وجود والده ، فإن لم يكن رآى تلك الملامح المشدوهة ، لكان ظن أن ميس أفشت أمر عودته
إرتجفت شفتىّ حياء وهى تهمس بإسم الصغيرة بنبرة مفعمة بالحب لم تخلو من الخوف خشية أن ما تراه سراباً أو وهماً كتلك الأمنيات التى لم تكف عن نسجها طوال الشهور الماضية ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تخطو نحو الصغيرة بلهفة وتلقتها بين ذراعيها وهى دامعة العينين :
– سجود حبيبة ماما وحشتينى أوى
طوقت سجود عنقها وقاسمتها سعادة اللقاء بأن هتفت بها بصدق :
– وأنتى كمان وحشتينى أوى يا مامى ، أنا كنت بعيط كل يوم علشان كنت عايزة أشوفك
ظنت حياء أن ما تراه وتسمعه حلماً ، فعلى الرغم من أنها إستقبلت الصغيرة بين ذراعيها وراحت تقبلها بنهم ودموع سخية ، إلا أنها تشعر بأن بالدقيقة التالية سيأتى أحد ويوقظها وتعلم أن ما تراه ما هو إلا حلم مجنون ومستحيل بالوقت ذاته ، ولكن حتى وإن كان هذا حلماً جميلاً ، فهى لا تريد أن تستيقظ ، ويكفيها أن قلبها عاد ينبض بتلك اللهفة من ضم جـ ـسد الصغيرة المتعلقة بعنقها ، لعلمها بأن إذا كانت سجود بين يـ ـديها الآن ، فإنه هو الآخر هنا ، قريباً منها ، وربما ستحين اللحظة من أن تكون بين ذرا عيه وتسمع خفقات قلبه أسفل أذ نيها ، بل سيحتويها بين ساعـ ـديه القويتين وتنعم بدفئهما ، ستخبره بما عانته منذ أن تركها ورحل ، حتى وإن كان سيأتى كل هذا من باب عتاب المغرمين ، ولكن يكفى أنه قد عاد
ولكن ما أن حانت منها إلتفاتة إليه ورآته يحمل طفل صغير وتقف بجواره إمرأة لا تعلم من تكون ، حتى تكونت الدهشة على وجهها من عقدها لحاجبيها ، ومن تنقلها ببصرها بينهما ، بإنتظاره أن يقول شيئاً ، ولكن ظل الصمت سيد الموقف حتى إستطاعت سجود كسر حاجزه ببراءتها وهى تقول بعفوية:
– ماما إحنا رجعنا خلاص شوفتى ساجد أخويا هيقعد معانا هنا
شهق الجميع بصدمة إلا هى ، كون أن دماءها التى جفت من مجراها ، أختطفت معها صوتها ، بل كأن أحدهم سحب أنفاسها وتركها شاحبة باردة أقرب للموتى منها للأحياء
وما أن عاد إليها صوتها تمتمت بصدمة :
– ساجد أخوكى ! راسل أنت أتجوزت عليا وخلفت كمان
لم تزد كلمة أخرى ، ولم تسمع شيئاً سوى صيحته الخائفة بإسمها بعدما سقطت على الأرض :
– حياااء
ولكنها قد فقدت وعيها بشكل تام ، ولم يعد بإمكانها سماع صوت أحد ، كأنها منحت كامل موافقتها بأن تسحبها تلك الهوة السوداء وتغرق بحالة من فقدان الوعى ، تتمنى أن لا تستيقظ منها وتجد ذلك الواقع المرير ، الذى حاولت الهرب منه بإغماءها
تأرجح رأ سها المثقل بهول تلك المفاجئة ، التى أستقطتها بتلك الحالة من الإغماء ، بين رغبـ ـتها فى أن تفيق وترى من صاحب تلك الأنفاس ، التى كادت تذيب بشرتها اللدنة ، وبين أن تظل بتلك الحالة من اللاوعى ، حتى لا ترى تلك الحقيقة ، التى مزقت روحها وقلبها مما سمعته فور وصوله للبيت ، فكلما شعرت بذلك الملمـ ـس الخشن لتلك اليـ ـد ، التى تجرى على قسمات وجـ ـهها بلهفة لا تخلو من الخوف ، تقطب حاجبيها كأنها لا تشعر بالراحة ، وتريد إزاحة جفنيها ، لترى من يهمس لها بهذا الصوت القوى
ولكن هل هى حقاً لا تعلم لمن يكون ملمـ ـس تلك اليـ ـد وذلك الصوت ؟ أم أنها تتدعى الجهل ، حتى لا تفتح عيناها وتراه أمامها ، فهى لم تراه إلا بلمحة خاطفة ، قبـ ـل سقوطها مغشياً عليها ، ولكن كأنه لا يشبه زو جها راسل ، الذى تعرفه عن ظهر قلب ، أم أن صدمتها بما سمعته ، جعلتها تحاول الإنكار بين ذلك الرجل الذى رآته فور وصوله ، وبين حبيبها الغائب
– حياء فوقى أنتى سمعانى
خرج إسمها من بين شـ ـفتيه بلوعة كادت تحرق جنبات فؤاده، بعدما كان حريصاً على عدم نطقه أمام أحد إلا بخلوته مع ذكرياته بالعامين الماضيين ، إستقرت أنا مله قريباً من ثغـ ـرها ، بعد جولة تفقدية لقسماتها ، التى نهش الشوق قلبه لرؤيتها ، فأزاح تلك النظارة الطبية من على وجـ ـهه ، كأنه لا يريد عائقاً يمنعه من أن يدنو منها ، ولكن قبل أن يحصل على مراده من لهفته بأن يشعر بدفء أنفاسها إزاء وجـ ـهه ، كانت حياء تنتفض من مكانها ، مسببة بذلك صدام بينهما ، أدى لإرتداده عنها ، وربما كان أختل توازنه وسقط أرضاً ، لولا تداركه نفسه وقبض على ذرا عيها ، كمن يتخذها مرساة من الغرق
– أبعد إيـ ـدك عنى
صرخت حياء فى وجـ ـهه بجماع صوتها الحانق ، بل ضمت ذرا عيها وزحفت بجـ ـسدها حتى انكمشت على ذاتها بجوار الوسائد ، وعادت الدموع تغرق وجـ ـهها من جديد ، أغمضت عيـ ـنيها وأطلقت العنان لشهقاتها وصوت أنينها ونواحها ، فهذا ما لم تكن بإنتظاره ، من أنه يعود إليها وهو يحمل بين ذرا عيه طفل من إمرأة أخرى ، ولم يشفق عليها من هول تلك الصدمة ، من أن تراه برفقتها وتشهد على سعادته وأنه لم يتأثر بفراقه عنها ، بل أسرع فى البحث عن من أخذت مكانها وأنجبت له طفل ، ولم يكتفى فى قسـ ـوة عقابه لهذا الحد ، بل إنه أسماه ” ساجد ” وهى من كانت تريد أن تنجب طفلاً يحمل هذا الإسم
توقفت عن البكاء فجأة وتركت الفراش ، وبنيتها الخروج من الغرفة ولكنه قبض على ذرا عها ومنع تحركها فهتف بها أمراً إياها بإلتزام الهدوء :
– إهدى وبطلى حركة كتير ، لأن ممكن يجرالك حاجة
نفضت يـ ـده عنها بحدة وقالت بصوت مقهور وهى تضرب صـ ـدره بكفيها :
– متحاولش تلمـ ـسنى تانى أنت فاااهم ، حققت إنتقامك منى يا راسل ، رجعت دلوقتى وأنت متجـ ـوز ، وكمان عندك إبن و سميته ساجد ، وده الإسم اللى كان نفسى أسميه لإبننا ، قدرت تعمل كده فيا إزااااى
تتابعت أنفاسها المتلاحقة كأنها خارجة من عراك دامى ، بعدما أمتلأ قلبها من ذلك الشعور بأنها حمقاء وسخيفة لمنحه قلبها وعشقها طوال تلك المدة ، فعادت تضرب صـ ـدره من جديد تود لو كان بإمكانها تحطيم ضلوعه لترى إذا كان يحمل بداخلها قلبًا كباقى البشر أم أن هناك تجويف فارغ مكان قلبه
حملقت به بعينان متسعتان وهى تقول بنبرة صوتها التى بدت غريبة على مسامعها :
-بس أنا بعتب عليك ليه ماهو أنت راسل ، اللى بيحب يقهر اللى حواليه بتصرفاته ، إنسان بارد وقلبك زى الحجر ، بس على قد الحب اللى أنا حبتهولك حاسة دلوقتى أن بكرهك زى ما كرهتك زمان من أول مرة شوفتك فيها ، أنا بكرهك يا دكتور راسل
❈-❈-❈
لم يستلزمه التفكير بالأمر مرتين ، إذ أخذ قراره بالعودة للإسكندرية على وجه السرعة ، ونبع ذلك القرار من خوفه أن يرحل أبيه عن هذا العالم قبل أن يراه ، فحتى وإن كان غادر المنزل والبلاد غير آبه بما يمكن أن يصيبه من حزنه لفراقه أو فراق صغيرته ، إلا أنه منذ علمه بما أصابه من مرض ، وكأن ذلك الطفل الصغير السجين بداخله ، أراد التحرر من سجن البرود وأن يرى والده ، حتى وإن لم يكن له أباً مثلما أراده إلا بأيام معدودات وسرعان مارحل هو عنه ، لكونه سأم أمور الخداع ، فعلاقته بوالده علاقة معقدة شأنها شأن باقى علاقاته ، فلا شئ بحياته صار مثلما تمنى ، كأنه جمع تعاسة العالم وسوء الحظ وحده ، ولكن كانت بدأت أموره بالعامين الماضيين تسير على نحو لا بأس به ، خاصة بوجود الصغير ، الذى أضفى على حياته البهجة ، وساهم بأن يتحلى بالقوة والصمود فى أوقاته الحالكة التى لم يحسب لها حساباً ، ولم يكن يعلم أن التعاسة ستعود وتسكن فؤاده هكذا بوقت مبكر بعدما ظن أنه أعاد ترتيب حياته على النحو الذى يرضيه، لذلك أراد منح الصغير ومنح سجود ما تم حرمانه منه وهو صغير ، ألا وهى عاطفة الأبوة
أخرجه من إستغراقه بتفكيره صوت ميس وهى تصيح عبر الهاتف بنبرة تخللها الفرح لعودته :
– بجد يا راسل هترجع خلاص ، أنت متعرفش أنت وحشتنى قد إيه وحشتنا كلنا وخصوصاً مراتك ، دا حياء روحها هترجعلها لما تعرف أنك هترجع تانى
أسرع راسل قائلاً بنبرة مفعمة بالفزع :
– متقوليلهاش يا ميس ولا تقولى لأى حد إن أنا راجع ، مش عايز حد يعرف
لم تلفظ ميس بكلمة واحدة ، حتى ظن أنه فقد الإتصال بها ، فناداها أكثر من مرة ، حتى عاد إليه صوتها وهى تقول بدهشة من إصراره أن لا تخبر أحد بشأن عودته :
– مش عايزنى أقول لحد ليه يا راسل فى إيه بالظبط أنا مش فاهمة إيه سر إصرارك ده
دلك راسل جبهته وندت عنه زفرة مرهقة ، ورد قائلاً بصوت خافت :
– لما أرجع هتعرفى يا ميس ، سلام دلوقتى علشان أعمل ترتيباتى وأشوف أول طيارة راجعة مصر ، وزى ما قولتلك متقوليش لحد
بالدقيقة التالية كان مغلقاً هاتفه وعائداً للداخل بخطوات شبه مهرولة ، ذلك الأمر الذى جعل ساندرا تعقد حـ ـاجبيها بدهشة من تصرفه ، ولكن لم يكن لديها الوقت الكافى لسؤاله ، إذ وجدته يركض على الدرج حتى وصل غرفة وفاء ، ودق الباب وولج بسرعة ، فتبعته لتعلم ما أصابه جعله يتصرف على هذا النحو ، وبعد وصولها لغرفة وفاء وقفت على عتبة الباب ونظرت إليهما
نظر إليها راسل نظرة عابرة ومن ثم وجه بصره لوفاء وهو يقول بنبرة مشوبة بالقلق :
– ماما إحنا لازم نرجع إسكندرية رياض النعمانى تعبان وفى المستشفى ، أنا كلمت ميس وعرفت أنه محتاج يعمل عملية ضرورى ، علشان كده لازم نرجع
أنتفضت وفاء من مكانها بعدما كانت جالسة فى فراشها بإرتياح ، ووزعت نظراتها بينه وبين ساندرا ،التى مازالت تقف مكانها ولا يبدو عليها أن بنيتها أن تقول شئ ، فشدت بيـ ـدها على يـ ـد راسل وهى تقول برصانة :
– اللى تشوفه يا حبيبى ، وألف سلامة عليه ، كنت عارفة أن قلبك طيب ومش هيطاوعك أنك تسيبه فى ظرف زى ده ، بس هتعمل إيه مع ساندرا وساجد
أطرق راسل برأسه أرضاً ورد قائلاً بهدوء:
– هناخدهم معانا يا ماما مش هينفع أسيبهم هنا لوحدهم ، هاخدهم علشان الكل يعرف أن خلاص بقى ليا حياتى هنا ، وان مش هرجع أعيش فى إسكندرية تانى
رفع وجهه ونظر لساندرا وأضاف :
– ساندرا جهزى نفسك أنتى وساجد علشان هتيجوا معانا على إسكندرية ، أنا هحجز على أول طيارة ، لأن مفيش وقت
ترك مكانه من جوار وفاء ، وإستقام بوقفته ولم ينتظر سماع كلمة أخرى منهما ، بل ما أن رآته ساندرا يقترب من الباب ، تنحت جانباً لتسمح بمروره ، وظلت تتبادل النظرات مع وفاء ، حتى إستطاعت بالأخير أن تخرج عن صمتها ، وتشابكت يـ ـديها وهى تقول بحيرة :
– تفتكرى ده قرار صح ماما وفاء أن أنا وساجد نقابل عيلتكم فى إسكندرية ، خصوصاً أن عارفة أن هناك فى زو جة لراسل
لم تستطع وفاء إنكار خوفها وحيرتها بالتفكير مما سيحدث بعد عودتهم خاصة إذا رافقهم ساندرا والصغير ، وهى تعلم مدى حب وغيرة حياء ، فربما ستندلع حرب لن يستطيع أحد إخمادها ، ولكنها لم تشأ أن ترهبها أو تثـ ـير بنفسها الخوف ، وربتت على ذر اعها بحنان ، وأحثتها على إطاعة قول راسل ، وأن تذهب لإعداد حقيبتها وحقيبة الصغير ، بينما هى تركت مكانها على الفور تبحث عن حقيبة ثيابها ، وقد بلغ شوقها منتهاه لأن تعود لمسقط رآسها ، وأن ترى منزلها وصديقتها وكل أحباءها
فبعد أن أنتهى راسل من حجز مقاعد الطائرة التى ستقلع بالغد عائدة إلى وطنه ، أخذ يلملم ثيابه ليضعها بالحقيبة ، ولم يخرجه من تلك الحالة التى ألمت به من ترقبه لعودته لمنزل أبيه ، إلا صوت صيحة الصغير وتصفيقه بيديه الصغيرتين ، فإلتفت خلفه على الفور ، وجد ساندرا تقف على مقربة منه وهى تحمل الصغير ، الذى سرعان ما مد ذرا عيه ، رغـ ـبة منه فى أن يحمله راسل
إستجاب راسل لمطلبه وأخذه منها وإحتـ ـضنه وقبـ ـله على رآ سه ، بينما عيـ ـناه ترصد وقفة ساندرا المتململة ، كأنها تريد قول شئ ولكنها تفتقر إلى الشجاعة لتقول ما لديها
فحدق بها متسائلاً:
– مالك يا ساندرا ، كأنك عايزة تقولى حاجة ، لو فى حاجة قولى
فركت ساندرا يـ ـديها وردت قائلة بإرتباك :
– راسل مش لازم أسافر معاك أنا وساجد ، خايفة أقابل أهلك وتحصل مشاكل
أسرع راسل بسحب يـ ـد الصغير ، التى كانت على وشك جذب نظارته وإسقاطها أرضاً ، وعاد يربت عليه بعدما رآى بوادر تململه وأنزعاجه بأنه أحبط مزحته ، فقـ ـبل رآ سه ورمق ساندرا قائلاً بهدوء:
– أنا عارف أن أكيد هيحصل مشاكل حتى لو مكنتوش أنتوا معايا ، بس مش عايزك تقلقى أحنا هنسافر أطمن على والدى وأشوف لو قدرت أعمله العملية ولما الأمور تتحسن هنرجع هنا تانى ، أنا مش عايزك تخافى ، حتى مراتى ممكن هى اللى تطلب إن أنا وهى ننفصل ، على العموم مش عايزك تفكرى كتير ، ويلا علشان تخلصى ترتيب حاجتك لأن مفيش وقت ، وأنتى عارفة أن لازم أرجع هنا تانى لأن حياتى فى إسكندرية خلاص أنتهت
حركت ساندرا رأ سها ببطئ ، وأخذت تضع هى ثيابه بالحقيبة ، بينما هو أخذ الصغير وولج لشرفة الغرفة ، ظل يهدهد الصغير بين ذرا عيه ، حتى سمع صوت أنفاسه التى أنبأته بأنه غط بنوم عميق ، فأدنى بوجـ ـهه منه ببطئ وحرص وقبـ ـل وجنته المشربة بحمرة خفيفة ، أرتعد الصغير بخفة بين ذرا عيه ولكن سرعان ما عاد لنومه الهادئ ، فأخذه وخرج من الشرفة ، وجد ساندرا أنهت ترتيب ثيابه بالحقيبة ، وما أن اقتربت منه لتأخذ الصغير لتذهب به لغرفته ، أشار إليها برأ سه دلاله على رفضه ، وأخبرها أنه هو من سيذهب ليضعه بفراشه ، بتلك الحجرة التى يتقاسمها مع سجود
فهو ما أن وصل لغرفة إبنته وجدها تضع ثيابها بعشوائية داخل حقيبة سفرها ولم يخفى عليه حماسها وحركتها المفرطة بالغرفة بعد علمها بأنها ستعود للإسكندرية
فقال بصوت خافت لكى لا يفزع الصغير :
– بتعملى إيه يا سيجو ، أنتى بترمى هدومك كده ليه فى الشنطة
صفقت سجود بيـ ـديها وقالت بحماس كعادتها :
– عايزة أخلص يا بابى خلاص هنرجع وأشوف مامى تانى
لن يقتصر الأمر على العودة فقط ، بل أنها سترى حياء وجدها وستعود لتلهو من جديد بحظيرة الخيول ، فكم تتمنى رؤية كيف أصبحت تلك المهرة الصغيرة ، التى أطلق عليها جدها إسم “سيجو” تيمناً باللفظ التحببى لها ، رآت أبيها يضع الصغير بالمهد المتأرجح ، وبعد أن إستقام بوقفته ركضت إليه وأرتمت بين ذرا عيه تقبـ ـله على وجنتيه بنهم ، كأنها تقدم شكرها وعرفانها له بأن سيعوض نزهتهما هنا بنزهة أخرى تاقت إليها منذ أن جاءوا لهنا ، ألا وهى أن تعود بين ذراةعى والدتها وتنعم بدلال جدها لها ، وبعد أن منحته العديد من قبـ ـلاتها الممتنة ، عادت لتكمل لملمة أغراضها خاصة الدمى المحببة إليها ، وزاد شعورها بالسعادة ، بعدما رآت أبيها يجلس على طرف الفراش ، ليعيد ترتيب ثيابها بالحقيبة ، وبعد أن أنتهيا ، إستلقت على الفراش ونظرت لأبيها بحب وهو ينحنى إليها يقبـ ـل جبينها بعدما دثرها بالغطاء ، فأغمضت عيـ ـنيها تحدوها رغبتها بأن تغفو سريعاً وما أن تستيقظ تجد أن اليوم التالى قد جاء وحان لقاءها بوالدتها
❈-❈-❈
بعد إنتهاء جولته بزيارة الأماكن السياحية والأثرية بالإسكندرية، فكر أدم بأن يذهب للشاطئ ، على الرغم من أن مدير أعماله بات يشعر بالتعب والإرهاق ، وألح عليه بأن يعودا للفندق ، ولكن أدم قابل طلبه بالرفض ، وأصر على إكمال جولته السياحية ، فضحك بعد سماعه عبارات التبرم والتذمر من ذلك الشاب الذى يرافقه ، فهما صديقان منذ إحترافه الغناء ، فهو ليس مدير أعماله فقط ، بل صديقه المقرب أيضاً ، وهو من ساعده بتعلم اللغة العربية ، كونه من أصل عربى ولكنه مقيم مع عائلته بفرنسا منذ سنوات طويلة ، وأدم هو من ألح عليه بأن يعلمه النطق بالعربية ، على الرغم من أنه وجد صعوبة بتعلمها فى البداية ، إلا أنه الآن إستطاع التحدث بها بلكنة جذابة ، بإمكانها جذب الفتيات المولعات بالمطربين ، خاصة إذا غازلها باللغة العربية ، التى تحمل من التشبيهات البلاغية ما يستميل به عقول وقلوب الفتيات
فصاح صديقه قائلاً بإمتعاض:
– كفاية بقى يا أدم أنا مبقتش قادر أمشى تانى ، هو أنت ناوى تزور إسكندرية كلها النهاردة
أولاه أدم ظهـ ـره ووضع يـ ـديه بجيبه ونظر للبحر ، فظل الهواء يضرب ثيابه ووجـ ـهه ، ولكن إلتفت إليه برأ سه قائلاً بشجن :
– سمعت كتير عن إسكندرية وجمالها ، فحبيت أشوف ده كله ، مش ينفع أكون هنا ومش أزور كل مكان فيها ، وجايز أشوفها تانى
أقترب منه صديقه وقبض على كتـ ـفه وهو عاقدًا حاجـ ـبيه متسائلاً بدهشة:
– هى مين دى اللى جايز تشوفها تانى
– حياء
قال أدم بصراحة ، فهو منذ أن رآها بالحفل الغنائى وهو يتمنى أن يراها ثانية ، وكأنه يبحث عنها بكل مكان يذهب إليه
ترك صديقه كتـ ـفه وقبض على ذرا عه بشئ من الحدة ، وجعله وجـ ـها لوجـ ـه معه ، فتغضن جبينه بإمتعاض ، فقال وعيناه تحذره من الإنجراف خلف جنونه :
– أدم متبقاش مجنون ، أنت من ساعة ما شوفتها ومبطلتش كلام عنها ، مع أنها اصلاً متكلمتش معاك كلمتين على بعض ، ثم مش أنت عرفت أنها ست متجـ ـوزة ومش متجـ ـوزة أى حد دى متجـ ـوزة إبن أغنى راجل فى البلد دى وراجل له مكانته ، متعملش مشاكل بسبب نزواتك وجريك ورا البنات
زفر أدم أنفاسه الحائرة ، وجذب ذرا عه من قبضة يـ ـد صديقه ، فعاد يحدق بأمواج البحر ، وكأن ما سمعه من تحذيرات ، ليس له أهمية ولن يضعه موضع إعتبار ، فخلع حذاءه وثنى طرفى بنطاله وركض على طول الشاطئ ، لم يعلم طول المسافة التى ركضها ، إلا بعدما نظر خلفه ولم يعد يرى مكان صديقه بوضوح ، ولكن لن يكون العودة لذلك المكان الذى أنطلق منه راكضاً قراراً صائباً الآن ، خاصة بعدما رآى من كان يتمنى رؤياها منذ قليل
فعوضًا عن أن يعيد أدراجه ، أكمل ركضه حتى وصل إليها بذلك المكان الذى وقفت به ، فرفع يـ ـده وألقى عليها التحية بوجه طليق :
– أهلاً حياء
أرتعدت حياء بعد سماع صوته ، وتساءلت من أين ظهر لها فجأة ؟ وربما ساهمت دهشتها برؤيته ، أن تأخذ وقتاً كافياً لأن تجد رداً مناسباً ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تقول بالأخير بشعور من الضيق :
– أهلاً بيك ، هو أنت ماشى ورايا ولا إيه
أحـ ـس أدم بمدى أنزعاجها من رؤيته ، خاصة أنها عادت تنظر للبحر ، كأنها بإنتظاره أن يتركها وشأنها ، ورغم ذلك ظل مكانه ولم يكن بنيته أن يترك مكانه حتى لو كانت منزعجة ، فوضع يـ ـديه بجيبى بنطاله وغرز أصا بعه فى الرمال الرطبة وهو يقول بهدوء مميت :
– أنا كنت بتمشى وشوفتك قولت أسلمك عليكى ، شكلك مضايقة بعد ما شوفتينى ، ومش عارف ليه من أول ما اتقابلنا وأنتى زى ما تكونى عايزة نتخانق سوا
شل الحرج صوتها ، خاصة أنها بدأت هجومها مبكراً ، ولا تعلم لما صارت بتلك الفظاظة كلما تحدث إليها رجلاً أو شاباً ، كأنها تريد أن تصب جام غضبها على كل من يقابلها ، خاصة أن أدم منذ أن قابلها وهو لم يخفى نواياه بأنه يريد مغازلتها ، وربما إمتناعها عن إعطاءه أى فرصة ليزيد من أقواله ، جعله يشعر بالتحدى
قبضت على طرف حجابها ، الذى ساهم الهواء بأن يرفعه حتى كاد يغطى وجهها ، فردت قائلة بنبرة حملت بين طياتها الكثير من الحزن :
– سورى يا أستاذ أدم ، بس أنا قولتك أنا واحدة متجوزة ، ولو حد شافك معايا بنتكلم هيألف علينا حكايات ، إحنا فى مجتمع شرقى وكل خطوة محسوبة عليا فهمت
أخرج أدم إحدى يـ ـديه وراح يعيد ترتيب خصيلات شعره ، التى عاث بها الهواء القادم من البحر فساداً وبعثرة ، فزفر قائلاً بإعجاب :
– أنا بحسد جو زك أن عنده زو جة زيك حياء
إبتسمت حياء بدون مرح ، بل علقت غصة بحلقها وهى تهمس لذاتها بشئ من التفكه الساخر:
– صحيح اللى ميعرفش يقول عدس
لم ترغب فى المكوث طويلاً بهذا المكان ،ولا تريد أن تثار حولها أقاويل كاذبة ، وهى من تحمل كنية عائلة ذائعة الصيت بالمجتمع السكندري ، وأحياناً يتتبع الصحفيين أخبار كل فرد من العائلة ، لتضج الجرائد أو مواقع التواصل الإجتماعي بأخبار ربما تنافى الحقيقة
فقالت وهى تهم بالمغادرة:
– عن أذنك يا أستاذ أدم
إستدار أدم ونظر لأثرها وهى تخطو تجاه سيارتها التى صفتها بمكان ليس ببعيد ، ولم تكلف نفسها أن تنظر إليه قبل أن تستقل السيارة ، إنتفض جـ ـسده فجأة وهو يشعر بتلك اليـ ـد التى حطت على كتـ ـفه
رمق صديقه بحاجبين معقودين دلالة على أنه يشعر بالامتعاض منه ، وخرج صوته حاداً:
– أنت رعبتنى ، مش تتكلم علشان أعرف أنك قريب منى
لوى صديقه ثغره قائلاً بسخرية :
– أترعبت ، دا على أساس أنك نسيت أن أنا معاك ولا علشان شوفتها خلاص توهت ومبقتش مركز فى حاجة ، بس عايز أقولك أنت بالنظام ده ، هتحط رجلك على أول طريق أخرتك إن شاء الله ، ويلا أهو نبقى أرتاحنا منك يا أبو عين زايغة ومش عاتق حد لا متجـ ـوزة ولا غير متجـ ـوزة
وكزه أدم بصدره وهو يضحك ، لعلمه بأن صديقه يحذره من مغبة الاستمرار فى تفكيره ، وربما هو محق ولكنه يأبى الإعتراف بذلك ، فأشار إليه أن يتبعه وهو يقول بصوت حازم :
– يلا نرجع الفندق ، عايز أرتاح شوية ، وممكن تسكت عن كلامك ده ، أنا عارف بعمل إيه
رفض صديقه أن يتحرك قيد أنملة قبل أن يخبره بما ينوى فعله ، إلا أن جذب أدم لذرا عه جعله بالأخير يسير بجانبه ، وكلما نظر لمحيا أدم الهادئ ، يعلم أن خلف هدوءه هذا ، عقل لا يكف عن التفكير ، ولكن ربما تلك المرة ستكون الخسائر فادحة ، فأدم كونه شاب غربى ، يرى كل أموره من منظور الحرية ، و لا يأخذ بمنطق أن هناك ضوابط تحكم المجتمع الشرقى ، حتى وإن حاول البعض التنصل من التمسك بتلك العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، فهناك الكثير مازال محافظاً على تلك الأعراف خاصة تلك العائلة التى ينحدر منها زو ج تلك الفتاة ، التى منذ أن قابلها وهو لم يكف عن الحديث عنها ، بل باتت لديه رغـ ـبة قوية فى التقرب منها ، ويتمنى رؤيتها بكل مكان يذهب إليه ، ولكن هناك شئ يحيره بتصرف أدم ، وهو لما يريد تلك الفتاة عن غيرها ، رغم أن حياته حافلة بالكثير من الحسناوات ،اللواتى كن أكثر جمالاً وجاذبية عن حياء ، فظل يسأل نفسه ما المميز بها عن غيرها ، لتجعل أدم يركض خلفها هكذا ؟
❈-❈-❈
بعد قضاءه عدة ساعات بإجتماع مع مدراء الفنادق الخاصة به ، أشار إليهم بالإنصراف ، فهو لم يعد لديه طاقة على الحديث أو أن يسمع شئ أخر عن أرباح الفنادق والتى زاد معدلها بالأونة الأخيرة ، ولما لا وهو يدير أعماله بقبضة من حديد ، ولا يقبل بأنصاف الحلول ، فإما أن تتم الأعمال على أكمل وجـ ـه ، أو لا يشرع فيها من البداية ، لذلك حرص مدراء الفنادق على تنفيذ أوامره خشية خسارة أحدهم لوظيفته التى تدر عليه ربحًا وفيرًا نظراً لسخاء عمران بمكافأة من يؤدى وظيفته على النحو المطلوب منه ، فإن كان إشتهر عنه سخاءه فى تقديم المكافأت ، فأشتهر عنه أيضاً كونه لا يرحم من يخطئ ، فهو لا يجادل أحد ، بل من يقدم على إرتكاب الخطأ ، من الأفضل له أن يترك وظيفته دون مجادلة
– الحمد لله إن الإجتماع خلص ، دقيقتين كمان وكانت دماغى هتنفجر
قالها عمران وهو يمازح شقيقه معتصم ، وأرخى رابطة عنقه وزفر بإرهاق ، فمـ ـسح على وجـ ـهه وأسند ظهـ ـره لمقعده ، ولكن ما لبث أن مد يـ ـده وألتقط هاتفه بعد سماعه صوت وصول رسائل له ، فربما غزل أرسلت له اليوم صورة ميس ، مثلما اعتادت أن تفعل يومياً ، فهو من أوصاها بفعل ذلك
أسند معتصم رأسه ليـ ـده وقال وهو يتنهد بعمق :
– وبعدين يا عمران أنت هتفضل مقضى حياتك تحب مراتك من بعيد لبعيد ، أظن كفاية كده
مرر عمران يـ ـده على شاشة الهاتف ، فرد قائلاً وهو يمعن النظر بصورة زو جته :
– وهو أنا كنت قصرت يا معتصم ، ما هى اللى راكبة دماغها ، وأنا حاولت كام مرة أصالحها وهى بتزيد فى عنادها ، فخلاص أنا مش هذل نفسى ليها أكتر من كده حتى لو كنت لسه بحبها
تغيرت ملامح وجه عمران على الفور ، بعد تذكره صد ميس المتكرر لمحاولاته لتصفية الخلافات بينهما ، فهو يقسم أنها لو كانت فتاة أو إمرأة أخرى ، لكان من أول محاولة تركها ولن يعود ليخطب ودها مرة أخرى ، ولكن هى ليست أى إمرأة ، بل هى ماسته ،والتى حاول من أجلها أن يتخلى عن القليل من كبرياءه ، ولكنه وصل لحد الإكتفاء من أمور دلالها ، كأنه أفسدها هو بمحاولاته بالعاميين الماضيين ، فمنذ أخر مرة ذهب بها لبيت جدها من أجل إعادتها منذ بضعة شهور ، ووجدها مازالت متمسكة بعنادها ومطلبها بأن يمنحها الطلاق ، أقسم على أنه لن يعيد الكرة مرة أخرى ، إلا إذا رآى منها ما يوحى برغـ ـبتها فى أن تعود إليه ولمنزله ، وكل هذا لم يمنعه بأن يوصى غزل بنقل كل تحركاتها داخل قصر النعمانى ، وهو يتكفل بأمر المشفى ، أو أى مكان تذهب إليه
نقر معتصم بالقلم على سطح الطاولة وهو يقول بتفكه :
– خليكوا أنتوا الاتنين راكبين دماغكم لحد العمر ما يجرى ، وأبقوا اتقابلو فى الخمسينات ولا الستينات كده
رفع عمران ملف به بعض الأوراق وألقاه بوجـ ـه شقيقه وهو يقول بغيظ :
– ليك نفس تهزر كمان يا أخويا ، قوم يلا علشان أنا دلوقتى هروح أطمن على جدها فى المستشفى ومفيش مانع أفور دمها بالمرة بنت النعمانى
قال شق عبارته الأخير بمكر ودهاء ، خاصة أنه مازال متذكراً كيف تغيرت ملامح وجـ ـهها عندما ذهب للمشفى لزيارة جدها بعد علمه بما حدث ، وعلى الرغم من أنهما لم يتحدثان سوياً ، إلا أنه شعر بمدى أنزعاجها برؤيته يتحدث مع إحدى الممرضات
ما أن إستقام معتصم بوقفته ليرافقه للمشفى ، وجدا السكرتيرة تطرق الباب وتلج منه وهى تخبر عمران بشأن أن هناك ضيفة تريد مقابلته ، نظرا عمران ومعتصم للسكرتيرة ، فأخبر عمران شقيقه بأن ينتظره بمكتبه ، حتى يرى من تكون تلك الضيفة التى تريد رؤيته ، فخرجا من غرفة الإجتماعات وذهب عمران لغرفة مكتبه
وجد إمرأة تقف أمام النافذة وتوليه ظهـ ـرها ، فحمحم قائلاً بهدوء:
– أهلاً بحضرتك أنا عمران الزناتى خير كنتى عيزانى فى إيه
إستدارت إليه المرأة وما أن رآها إتسعت حدقتيه ورمقها بذهول وصدمة ، فقال بصوت خرج خافتاً من دهشته برؤيتها :
– ليالى معقولة أنتى
إبتسمت ليالى وأزاحت شعرها خلف أذنيها بسعادة لم تنكرها قسمات وجـ ـهها بأنهما تقابلا مرة أخرى ، حتى أنه لم ينساها أو ينسى إسمها ، فتقدمت بخطواتها منه ومدت يـ ـدها لتصافحه وهى تقول بإبتسامة عفوية صادقة:
– أزيك يا عمران ، متتخيلش أنا سعيدة قد إيه أن أنا شوفتك تانى
أربكته الصدفة بأنه عاد وألتقى بها مرة أخرى بعد إختفاءها المفاجئ ، فصافحها بهدوء ودعاها للجلوس متسائلاً بإلحاح طفيف :
– ليالى أنتى كنتى فين ده كله بعد ما سابتى الشقة
جلست ليالى على المقعد المقابل له وضعت ساق على الأخرى ، ولم يمنع عمران نفسه من تأمل هيئتها الجديدة عليه كلياً ، فهى صارت أشد أناقة بثيابها الثمينة وتلك الحُلى الماسية التى تزين عنقها وأناملها ومعصمها الأيسر
غامت عيناها وهى تسرد له كل ما حدث لها مؤخراً:
– أنا بعد ما سبت الشقة مكنتش عارفة أروح فين ، بس لقيت مطعم إشتغلت فيه ، كان فى راجل سويدى من أصل مصرى بيتردد على المطعم ، عجبته فعرض عليا الجو از وافقت قولت أتجـ ـوز بدل ما أتمرمط ، اتجـ ـوزنا وسافرت معاه على السويد ، كان راجل غنى بس أكتشفنا أن عنده مرض خطير وللأسف أتوفى بعد كام شهر من دخوله المستشفى ، وورثت أنا كل أملاكه ، بس بعت كل الأملاك دى ورجعت إسكندرية مكنتش حابة أقعد فى بلد غريب ، فحولت كل الفلوس على هنا وفكرت إن أفتح مشروع سلسلة مطاعم وقولت إن أنت أكتر واحد هتقدر تساعدنى وخصوصاً أن عندك فنادق ومطاعم وعارف فى شغل البيزنس ده كويس
أنهت حديثها وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ومدت يـ ـدها له بها ، ولكنه رفض دعوتها بتهذيب ، فسحبت هى سيجارة وأشعلتها بقداحتها ومن ثم وضعتها بالحقيبة ، لكى تمنح نفسها وقت كافى قبل سماع رده ، فلا شئ دفعها للمجئ سوى أنها كانت تريد رؤيته ، وتلك المكانة التى تركها بقلبها ، لم يستطع أحد المساس بها حتى زو جها الراحل ، والذى لم تجعله يشعر بيوم بأن هناك رجل غيره يملك قلبها ، ولكن عمران مازال مهيمناً ومسيطراً على ذلك الجانب الأنثوى الضعيف منها ، والذى لم تكن تعلم بوجوده إلا بعدما رآت أفعاله معها
رد عمران قائلاً بهدوء كأنه يتحدث مع أحد عملاءه :
– الموضوع عايز تفكير كويس يا ليالى وعايز حد يكون بيفهم فى البيزنس اللى من النوع ده ، علشان تتجنبى الخسارة وتقدرى تحققى أرباح من المشروع ، يعنى مش مجرد فكرة وفلوس بس
دعست سيجارتها بمنفضة السجائر ، وهزت رأسها بالموافقة وقالت بعدما أسندت ظهـ ـرها للمقعد :
– أنا مش طالبة منك موافقة دلوقتى ، يعنى فكر براحتك وهنتظر ردك ، أنا مقدرش أامن حد على فلوسى غيرك أنت ، أنا همشى دلوقتى وأتمنى أسمع ردك فى اقرب وقت ودى الكارت بتاعى فيه نمرة تليفونى وعنوانى ، سلام يا عمران
ناولته بطاقتها التعريفية وتركت مقعدها تتأهب للمغادرة ، بعدما شددت على نطق إسمه بصوت أنثوى رقيق ، مما جعله يزدرد لعابه ، كونه يعلم كيف كان هوسها به ، بل أنها تجرأت مرة وطلبت منه أن يتزو جها ، ولا يعلم هل سيكون من الحكمة أن تعود ليالى لساحة حياته مرة أخرى ، خاصة أن الوقت الحالى صارت الأمور بينه وبين زو جته متأزمة للغاية ، ولكنه عاد وتذكر أنه قادراً على الفصل بين عمله وحياته الخاصة ، وإن كان من قبل إستطاع ردع رغـ ـبة ليالى به ، فلن يجد مشقة بفعل ذلك ، إذا عادت وفكرت به بشكل يتنافى مع كونها تريد مساعدته بشأن العمل
– مع السلامة يا ليالى
قالها عمران وهو يرافقها إلى باب غرفة مكتبه ، وبعد أن خرجا ووقفا أمام الباب ، دقق معتصم النظر بها بحاجبين معقودين بعدما صافحت شقيقه ، فهو لم يرى تلك المرأة من قبل ، وهو يعلم خير العلم بأن عمران ليس ذلك الرجل الذى تربطه صداقة بأى إمرأة كانت ، بل دائماً كان جافاً بمعاملة النساء قبل زو اجه ، حتى بعدما تزو ج ، أقتصرت عواطفه ومشاعره على زو جته فقط ، وبعدما حدث ما حدث بينهما ظل عمران وفياً لهذا الحب الذى يكنه لميس ، ولم يدع أى إمرأة أخرى تستميله إليها ، فبعدما تركت المكان ، عاد ينظر لشقيقه ينتظر تفسيره لوجود تلك المرأة هنا ، أو ماذا تريد منه ؟ ولكن عمران أرجئ الحديث معه بهذا الأمر ، لحين عودتهما من المشفى بعد أن ينتهيا من زيارة رياض النعمانى ، ومن داخله يعلم أن تلك الزيارة لن تقتصر على الإطمئنان على الأحوال الصحية لكبير عائلة النعمانى ، بل لكى يمتع عيـ ـناه برؤية تلك الشقراء ، ولن يجد ما يمنعه من أن يثير غضبها قليلاً ، فكم تبدو شهية وهى ثائرة
خرجت ميس من غرفة جدها تشعر بالإنهاك ، بعدما أنتهت من فحصه اليوم ، وتناول أدويته وخلد للنوم ، إستندت بظهرها على الجدار ، كأن قدميها لن تستطيع حملها للذهاب لغرفة مكتبها ، والتى كانت سابقاً لراسل ، فبعد أن إلتقطت أنفاسها تحركت من أمام الغرفة ، تتثاقل مشيتها فى رواق المشفى المؤدى لغرفة المكتب ، وضعت يديها بجيبىّ رداءها الطبى ، تومئ برأسها بخفة لكل من يلقى عليها التحية من الأطباء والعاملين بالمشفى ، وصلت إلى وجهتها ، ففتحت الباب وولجت للداخل ، ولكن ما كادت تمر دقيقتان حتى سمعت طرق على باب الغرفة ، فأذنت للطارق بالدخول ، بعدما هتفت بصوتها المرهق ، ولكن ذلك لم يمنعها بأن تجلس بشموخ معتاد على مقعدها ، تنتظر دخول الطارق
أنفتح الباب وولجت منه ولاء وصغيرها ، فهبت ميس من مقعدها وهى تصيح باسمة :
– إيه ده ولاء ومراد إيه المفاجئة الجميلة دى
أقتربت منها ولاء وقبـ ـلتها على وجنتيها وقالت بإبتسامة وهى تداعب رأس صغيرها :
– كنا فى مشوار قريب هنا ، قولنا نيجى نسلم عليكى وكمان عرفت أن جدك تعبان وهنا فى المستشفى فقولت أجى ازوره ، هو لسه هنا ولا رجع البيت
أنحنت ميس وحملت الصغير وقبـ ـلته على وجنته بحب ، فدعت ولاء للجلوس وجلست على المقعد المقابل لها ووضعت الصغير على ساقيها ، فداعبت وجنته المكتنزة وقالت بصوت غلب عليه التأثر والحزن :
– لاء جدو لسه هنا ، علشان محتاج يعمل عملية
أنحنت ولاء قليلاً للأمام وربتت على سا قها وهى تقول بمواساة :
– إن شاء الله هيبقى كويس وهيقوم بالسلامة يا ميس ، باين عليكى الإرهاق جامد
دمعت عيني ميس رغماً عنها وقالت بصوت متحشرج من الخوف :
– خايفة على جدو أوى يا ولاء ، دا لو جراله حاجة أنا ممكن أموت فيها دا مش بس جدى دا كل دنيتى ، فتحت عينى فى الدنيا عليه هو وراسل وخالو عاصم ، مقدرش أتصور حياتى من غير حد منهم
على ذكر إسم راسل ، تغشى الحزن عين ولاء هى الأخرى ، فكم كانت تتمنى وجوده عندما وضعت صغيرها ، ربتت على ساق ميس وحاولت الإبتسام لعلها تردع تلك الدمعات التى باتت تحرق جفنيها ، فقالت بتفاؤل وأمل :
– إن شاء الله يا ميس جدك هيقوم بالسلامة ، وأبيه راسل يرجع هو كمان ، أنا مش عارف قلبه طاوعه يسيب حبايبه كل الوقت ده إزاى
جففت ميس دموعها ، ونظرت لولاء قائلة بحذر :
– ولاء أنا هقولك على حاجة بس بالله عليكى ما تقولى لحد ، أبيه راسل هيرجع قريب لما عرف أن جدو تعبان كلمنى وقال أنه راجع على أول طيارة ، بس كان موصينى مقولش لحد ولا حتى حياء
رنين هاتف ولاء ، ساهم بإخراجها من تلك الحالة التى تغشتها فجأة بعد سماع ما قالته ميس ، حتى أنها لم يكن لديها الوقت لمنحها رداً على ما سمعته منها ، إذ وجدت إتصال مُلح من زو جها معتصم ، ففتحت الهاتف على الفور ، وحاولت أن يخرج صوتها طبيعياً :
– أيوة يا معتصم ، أنا هنا فى المستشفى فى أوضة المكتب بتاعة ميس ، تمام تعالوا مستنياكم
صيغة الجمع التى قالتها ولاء تنافت مع فكرة أن معتصم جاء بمفرده ، لذلك فطنت ميس على الفور بأن ربما يرافقه عمران ، فسحبت محرمة ورقية وراحت تجفف عينيها ، لتمحى عنها أثر البكاء ، وقبل أن تفه أى منهما بكلمة كانتا تسمعان طرق على باب الغرفة ، فولج معتصم وتباطئ عنه عمران قليلاً ، ولكن ترك الصغير مجلسه على ساقىّ ميس ، وهرول تجاه عمه ، الذى أنحنى إليه وحمله عن الأرض يقبـ ـله وهو يقول باسماً:
– البطل بتاعى عامل إيه النهاردة
بعدما ألقى معتصم التحية على ميس ، أشار لصغيره وهو يقول ممازحاً :
– شوفوا الواد عدا من جمبى ولا كأنه شايفنى وجرى على عمه ، هو أنا شفاف للدرجة دى
ضحكت ولاء على قول زو جها ، لعلمها بأن صغيرها ربما بات يميل لعمه عمران أكثر من أبيه ، فعمران يزيد بتدليله لمراد ، حتى أنه يشاركه غرفته ، فقالت ولاء وهى تشير لبطنها بإستحياء :
– خلاص يا حبيبى ، التانى لما ييجى إن شاء الله هييجرى عليك أنت
أتجهت أنظار الجميع إليها ، وحملق بها زو جها وهو فاغرًا فاه يكاد فكه السفلى يصل للأرض قائلاً بدهشة :
– أنتى حامل يا ولاء ، بتتكلمى جد
فهو لا يعلم بشأن أنها حامل مرة أخرى ،ولم يعلم بالأمر إلا الآن ، فقالت ميس بإبتسامة :
– ألف مبروك يا ولاء تقومى بالسلامة إن شاء الله
ردت ولاء قائلة بإبتسامة بشوشة :
– الله يبارك فيكى يا حبيبتى ، وأنا والله ما عرفت إلا النهاردة الصبح ولما جيت المستشفى أطمن على جدك قولت أعمل تحليل دم يعنى لسه مش متأكدة من الموضوع أوى
تابع معتصم نظرات شقيقه لزو جته ، فجذب يـ ـد ولاء قائلاً :
– طب تعالى بقى نتأكد يا أم العيال
وأقترب من شقيقه وحمل صغيره يقبـ ـله وأستطرد قائلاً وهو يقضم وجنة الصغير :
– وتعال أنت كمان علشان أفكرك أن أنا أبوك
أخذ معتصم زو جته وطفله وخرج من الغرفة ، فجلست ميس على مقعدها خلف المكتب وإنتظرت أن ترى عمران يرافقهم ، وضعت رأ سها بين راحتيها وخفضت وجهها وأغلقت عيـ ـنيها كأنها غير قادرة على فتحهما ، وبسماعها صوت إغلاق الباب ، ظنت أن عمران خرج هو الأخر ، فأسندت ظهرها للمقعد وهى مازالت على حالها من إغلاق خضراوتيها ، كأنها ستتأذى من الضوء إذا عملت على فتحهما ، ولكن بداخل عقلها كانت تسترجع تلك اللحظات منذ رؤيتها لعمران وهو يلج الغرفة ، وكيف كان يحتضن إبن شقيقه ، فمما لا شك فيه أن عمران كان سيكون أب حنون ورائع ، وعلى الرغم من شعورها بالسعادة من أجل ولاء ، إلا أنها شعرت بالحزن ، ما أن طاف بعقلها تلك الذكرى المُرة التى خسرت بها جنينها الأول ، فإنسابت دموعها وهى تمسد بيـ ـدها على بطنها ، تشعر بالحيرة من كونها لم تقوى حتى الآن على مسامحة عمران لفعلته ، ولكن وجدت دفء مفاجئ يغمر وجنتها ، فإرتعبت وفتحت عيـ ـنيها على الفور ، وجدت عمران منحنياً إليها ، يكاد لا يفصل بينهما سوى تلك المسافة التى تسمح بأن يرى كل منهما الأخر بوضوح
إتسعت حدقتيها وهى تنظر إليه نظرات مرتبكة لم تحسن إخفاء خوفها من شعورها بأنه قريباً منها لهذا الحد وبذات الوقت كأنها بعيدة عنه ألاف الأميال ، فمدت يـ ـدها وأزاحت كفه بشئ من الجفاء وهى تقول بهدوء مدروس :
– أنت مخرجتش معاهم ليه
جلس على حافة المكتب بالقرب منها ، وقال ببرود متعمداً إغاظتها :
– قولت أقعد معاكى نتكلم شوية على معتصم وولاء ومراد يرجعوا ، محبتش أسيبك لوحدك
عاد يكمل حديثه ، بعدما سكت لبرهة ، فقال بصوت تخلله الحزن :
– مش عايز أبقى متطفل على حياة أخويا ، بالرغم من أن إبنه متعلق بيا ، أنتى عارفة أنا اللى سميته مراد وحبيته أوى ، لأن كنت دايما أحلم أن إسم مراد الزناتى يرجع للحياة تانى ، وكنت أتمنى أن يكون مراد ده إبنى أنا
إلتوى ثغر ميس بإبتسامة ساخرة و مقهورة بالوقت ذاته وقالت بعتاب قاسٍ :
– وهو كان مين السبب فى ضياع حلمك ده يا عمران مش أنت برضه ، وأنا قولتلك بالنسبة ليا خلاص حياتنا أنتهت مع بعض ، فياريت تشوف حياتك ولسه بإمكانك تخلف ويبقى عندك أولاد بس أنا مش هكون أمهم
أخذ رأ سها بين راحتيه بعدما جن جنونه من تكرار حديثها بأنها لن تعود إليه ، فهزها بشئ من القهر ، وهو يكبح جمـ ـاح نفسه بأن ينقض عليها ويثأر لقلبه الملتاع ،
فهتف بها بشئ من الحدة :
– لسه مزهقتيش من الإسطوانة دى بقى ، هفضل مستنيكى لحد أمتى علشان تسامحينى ، غلطت وأعترفت بغلطى عايزة إيه تااانى
صاح بأخر كلماته مما جعلها ترتعد بين يـ ـديه ، فكلما مارس الهدوء ، تعود وتسلبه إياه بعنادها ، ولم تفلح محاولتها بالتملص من بين يـ ـديه ، لذلك إستقامت بوقفتها لعله يفلتها ، ولكن كانت له الغلبة كالعادة ، بل صار الموقف بينهما أكثر سوءاً ، إذ راحت تقذفه بكل ما تطاله يـ ـدها من تلك الأشياء الموجودة على سطح مكتبها ، كأنها تريد إفراغ كامل غضبها ويأسها وخوفها وكل ما تشعر به بتلك الآونة ، ولم تجد غيره يتلقى ثورتها العارمة ، ولكنه أحكم سيطرته على يـ ـديها ، وقبض عليهما من خلف ظهرها بأحد كفيه ، لعل ذلك يسهل أمر إنقيادها إليه
تصاعدت دقات قلبها بسخط وقالت بأمر :
– سيب إيدى يا عمران وأطلع برا أنا مش عايزة أشوف وشك ، أنا بس أطمن على جدو وهرفع عليك قضية طلاق ، أو هخلعك يا ابن الزناتى
كلمتها الأخيرة ، كانت كفيلة بالقضاء على ما تبقى من هدوءه ، فرفع حاجبه قائلاً بذهول :
– تخلعينى أنا يا ميس ، لو تقدرى أعمليها يا بنت النعمانى علشان يبقى أخر يوم فى عمرك
تركها فجأة بشئ من القسوة ، فرفعت ذرا عيها تدلك معصميها وقالت بغضب :
– هتفضل طول عمرك همجى و…
رآى أنها ثرثرت للحد الذى يأمن سلامتها ، لذلك وضع حداً لذلك السيل من الشتائم والسباب ، الذى علم أنه بطريقه إليه ، فكم كان الأمر ممتعاً له وهو يجعلها تبتلع تلك الإهانات التى كانت على وشك قذفها بوجـ ـهه ، بل تخبطها بين ذرا عيه بذلك العناق المحمـ ـوم المشوب بالجنون ، جعل عناقه لها يحمل طابع الهيمنة ، لعلها تعلم مع من تريد العبث ، ولكن لم تدوم هيمنته وسيطرته طويلاً ، خاصة بعدما سمعها تلفظ إسمه برجاء من أن يتركها ، فإن كان فصل العناق بينهما وأعطاها الحرية بأن تلتقط أنفاسها ، إلا أنه مازال فارضاً حصاره حولها .ولكن بدأ يلعن نفسه ما أن رآها تنخرط بالبكاء ، بل أن قدميها بدأتا تتهاوى ، حتى كادت تسقط ، لولا ذراعاه الممتدتان لها ، فضمها إليه ضمة قوية دون إيلام ، وردد على أذنها عبارات الأسف والندم ، التى يعلم أنها لن تزيدها سوى شعور بالنفور منه ، خاصة بعد عناقه القاسى لها ، الذى جاءها ليرسخ بذهنها أنه مازال قادراً على إيذاءها بخضم شعوره بالغضب منها
❈-❈-❈
مرت الدقائق كأنها دهر بأكمله ، فمنذ أن وطأت قدميه أرض الإسكندرية ، وكأن الوقت يمارس عليه إحدى الألعاب المنهكة للأعصاب ، وجاء ذلك ضمن أن تلك السيارة التى ستقلهم لقصر النعمانى ، أصيب أحد إطارتها بثقب ، إستلزم إستبداله ، علاوة على أن خزان الوقود نفذ ، لذلك توقفوا ثانية بإحدى محطات الوقود ، فلم تفيد حيلته بنقر أصابعه ببعضهما البعض ، لكى يلجم لسانه عن أن يصبح بوجه السائق ، الذى لم يتأكد من قدرة سيارته على نقلهم لوجهتهم ، ولكن حاول هو الإستفادة من ذلك التأخير ، بأن يمنح ذاته فرصة للسيطرة على تلك الأفكار التى راحت تعصف بعقله ، بل عصفت بكيانه بأكمله ، من تفكيره فى كيفية إستقبال قاطنى قصر النعمانى له بعد غيابه كل تلك المدة ، ولكن لم يكن يعنيه إستقبال أحد منهم ، قدر إهتمامه بالتفكير فى رد فعل زو جته حياء بعد رؤيته ، إذا كانت ما تزال تقطن بمنزل والده ولم ترحل منه ، فساهم الصغير الجالس بالمقعد الخلفى على ساق والدته ، أن يخلق جو من المرح بعدما شب واقفاً على ساقىّ ساندرا وجذب شعر راسل الجالس بالمقعد المجاور للسائق
إلتفت راسل له ونظر إليه باسماً:
– أنت وبعدين معاك أنت فى شقاوتك دى
لبط الصغير بيـ ـديه كأنه يمنحه الأمر بأن يأخذه ويجلسه على ساقيه ، فإستجاب له على الفور ، وبعد عدة دقائق قضاها بجذب إنتباه راسل له بأفعاله ، داهم النعاس عينيه الصغيرتين ، فنام هانئاً مطمئناً قرير العين ، وماهى إلا دقائق معدودة حتى وجد السيارة تقف أمام ذلك القصر المنيف ، والذى راح أحد حارسى البوابة الكبيرة يقترب منها ليعلم لمن تعود ، وما أن رآى إبن سيده يجلس بالمقعد الأمامى ، حتى تهلل وجه وصاح للحارس الأخر بأن يفتح البوابة ، فأكملت السيارة طريقها حتى وقفت أمام الباب الداخلى للمنزل
فترجل راسل من السيارة وهو يحمل الصغير الغافى بين ذراعيه ، بعدما أعطى للسائق نقوده ، وتوافد عدد من الحراس بعد علمهم بعودته ، فهتف بهم قائلاً بهدوء:
– دخلوا الشنط اللى فى العربية على جوا
لم يستطع أحداً منهم من أن ينبس ببنت شفة ، خاصة بعدما رآوا راسل يحمل طفل صغير ويرافقه إمرأة لم يراها أحد منهم من قبل ، فهم ليس لديهم الصلاحية بأن يعلق أحدهم منهم على تصرفات أحد من أصحاب المنزل ، لذلك أسرعوا بتفيذ ما قاله
توقفت قدماه على عتبة الباب لهنيهة ، كأن يخشى أن يطأ للداخل بقدميه وتتخطفه ملائكة العذاب ، ورغم ذلك ما أن أمر ساقيه بالتحرك أطاعته على الفور وولج للداخل بخطوات ثابتة هادئة لا يفسد هدوءها سوى صوت حذاء ساندرا ذو الكعب العالى الذى راح يصدر رنيناً على الأرضية اللامعة التى تشبه قوارير الزجاج ، فأكملوا سيرهم حتى وصلوا لغرفة المعيشة الكبيرة
وجد سجود تمر من جواره وهى تصيح بسعادة :
– مااامى
ساعدت سجود بصيحتها المنادية لحياء ، بأن تجعله يعى بأى موقف سئ سيصبح هو الآن ، خاصة أنه رآها جالسة بغرفة المعيشة مع باقى أفراد العائلة ، فجميعهم موجودون كأنهم كانوا بإنتظاره ولا ينقص سوى وجود والده ، فإن لم يكن رآى تلك الملامح المشدوهة ، لكان ظن أن ميس أفشت أمر عودته
إرتجفت شفتىّ حياء وهى تهمس بإسم الصغيرة بنبرة مفعمة بالحب لم تخلو من الخوف خشية أن ما تراه سراباً أو وهماً كتلك الأمنيات التى لم تكف عن نسجها طوال الشهور الماضية ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تخطو نحو الصغيرة بلهفة وتلقتها بين ذراعيها وهى دامعة العينين :
– سجود حبيبة ماما وحشتينى أوى
طوقت سجود عنقها وقاسمتها سعادة اللقاء بأن هتفت بها بصدق :
– وأنتى كمان وحشتينى أوى يا مامى ، أنا كنت بعيط كل يوم علشان كنت عايزة أشوفك
ظنت حياء أن ما تراه وتسمعه حلماً ، فعلى الرغم من أنها إستقبلت الصغيرة بين ذراعيها وراحت تقبلها بنهم ودموع سخية ، إلا أنها تشعر بأن بالدقيقة التالية سيأتى أحد ويوقظها وتعلم أن ما تراه ما هو إلا حلم مجنون ومستحيل بالوقت ذاته ، ولكن حتى وإن كان هذا حلماً جميلاً ، فهى لا تريد أن تستيقظ ، ويكفيها أن قلبها عاد ينبض بتلك اللهفة من ضم جـ ـسد الصغيرة المتعلقة بعنقها ، لعلمها بأن إذا كانت سجود بين يـ ـديها الآن ، فإنه هو الآخر هنا ، قريباً منها ، وربما ستحين اللحظة من أن تكون بين ذرا عيه وتسمع خفقات قلبه أسفل أذ نيها ، بل سيحتويها بين ساعـ ـديه القويتين وتنعم بدفئهما ، ستخبره بما عانته منذ أن تركها ورحل ، حتى وإن كان سيأتى كل هذا من باب عتاب المغرمين ، ولكن يكفى أنه قد عاد
ولكن ما أن حانت منها إلتفاتة إليه ورآته يحمل طفل صغير وتقف بجواره إمرأة لا تعلم من تكون ، حتى تكونت الدهشة على وجهها من عقدها لحاجبيها ، ومن تنقلها ببصرها بينهما ، بإنتظاره أن يقول شيئاً ، ولكن ظل الصمت سيد الموقف حتى إستطاعت سجود كسر حاجزه ببراءتها وهى تقول بعفوية:
– ماما إحنا رجعنا خلاص شوفتى ساجد أخويا هيقعد معانا هنا
شهق الجميع بصدمة إلا هى ، كون أن دماءها التى جفت من مجراها ، أختطفت معها صوتها ، بل كأن أحدهم سحب أنفاسها وتركها شاحبة باردة أقرب للموتى منها للأحياء
وما أن عاد إليها صوتها تمتمت بصدمة :
– ساجد أخوكى ! راسل أنت أتجوزت عليا وخلفت كمان
لم تزد كلمة أخرى ، ولم تسمع شيئاً سوى صيحته الخائفة بإسمها بعدما سقطت على الأرض :
– حياااء
ولكنها قد فقدت وعيها بشكل تام ، ولم يعد بإمكانها سماع صوت أحد ، كأنها منحت كامل موافقتها بأن تسحبها تلك الهوة السوداء وتغرق بحالة من فقدان الوعى ، تتمنى أن لا تستيقظ منها وتجد ذلك الواقع المرير ، الذى حاولت الهرب منه بإغماءها
تأرجح رأ سها المثقل بهول تلك المفاجئة ، التى أستقطتها بتلك الحالة من الإغماء ، بين رغبـ ـتها فى أن تفيق وترى من صاحب تلك الأنفاس ، التى كادت تذيب بشرتها اللدنة ، وبين أن تظل بتلك الحالة من اللاوعى ، حتى لا ترى تلك الحقيقة ، التى مزقت روحها وقلبها مما سمعته فور وصوله للبيت ، فكلما شعرت بذلك الملمـ ـس الخشن لتلك اليـ ـد ، التى تجرى على قسمات وجـ ـهها بلهفة لا تخلو من الخوف ، تقطب حاجبيها كأنها لا تشعر بالراحة ، وتريد إزاحة جفنيها ، لترى من يهمس لها بهذا الصوت القوى
ولكن هل هى حقاً لا تعلم لمن يكون ملمـ ـس تلك اليـ ـد وذلك الصوت ؟ أم أنها تتدعى الجهل ، حتى لا تفتح عيناها وتراه أمامها ، فهى لم تراه إلا بلمحة خاطفة ، قبـ ـل سقوطها مغشياً عليها ، ولكن كأنه لا يشبه زو جها راسل ، الذى تعرفه عن ظهر قلب ، أم أن صدمتها بما سمعته ، جعلتها تحاول الإنكار بين ذلك الرجل الذى رآته فور وصوله ، وبين حبيبها الغائب
– حياء فوقى أنتى سمعانى
خرج إسمها من بين شـ ـفتيه بلوعة كادت تحرق جنبات فؤاده، بعدما كان حريصاً على عدم نطقه أمام أحد إلا بخلوته مع ذكرياته بالعامين الماضيين ، إستقرت أنا مله قريباً من ثغـ ـرها ، بعد جولة تفقدية لقسماتها ، التى نهش الشوق قلبه لرؤيتها ، فأزاح تلك النظارة الطبية من على وجـ ـهه ، كأنه لا يريد عائقاً يمنعه من أن يدنو منها ، ولكن قبل أن يحصل على مراده من لهفته بأن يشعر بدفء أنفاسها إزاء وجـ ـهه ، كانت حياء تنتفض من مكانها ، مسببة بذلك صدام بينهما ، أدى لإرتداده عنها ، وربما كان أختل توازنه وسقط أرضاً ، لولا تداركه نفسه وقبض على ذرا عيها ، كمن يتخذها مرساة من الغرق
– أبعد إيـ ـدك عنى
صرخت حياء فى وجـ ـهه بجماع صوتها الحانق ، بل ضمت ذرا عيها وزحفت بجـ ـسدها حتى انكمشت على ذاتها بجوار الوسائد ، وعادت الدموع تغرق وجـ ـهها من جديد ، أغمضت عيـ ـنيها وأطلقت العنان لشهقاتها وصوت أنينها ونواحها ، فهذا ما لم تكن بإنتظاره ، من أنه يعود إليها وهو يحمل بين ذرا عيه طفل من إمرأة أخرى ، ولم يشفق عليها من هول تلك الصدمة ، من أن تراه برفقتها وتشهد على سعادته وأنه لم يتأثر بفراقه عنها ، بل أسرع فى البحث عن من أخذت مكانها وأنجبت له طفل ، ولم يكتفى فى قسـ ـوة عقابه لهذا الحد ، بل إنه أسماه ” ساجد ” وهى من كانت تريد أن تنجب طفلاً يحمل هذا الإسم
توقفت عن البكاء فجأة وتركت الفراش ، وبنيتها الخروج من الغرفة ولكنه قبض على ذرا عها ومنع تحركها فهتف بها أمراً إياها بإلتزام الهدوء :
– إهدى وبطلى حركة كتير ، لأن ممكن يجرالك حاجة
نفضت يـ ـده عنها بحدة وقالت بصوت مقهور وهى تضرب صـ ـدره بكفيها :
– متحاولش تلمـ ـسنى تانى أنت فاااهم ، حققت إنتقامك منى يا راسل ، رجعت دلوقتى وأنت متجـ ـوز ، وكمان عندك إبن و سميته ساجد ، وده الإسم اللى كان نفسى أسميه لإبننا ، قدرت تعمل كده فيا إزااااى
تتابعت أنفاسها المتلاحقة كأنها خارجة من عراك دامى ، بعدما أمتلأ قلبها من ذلك الشعور بأنها حمقاء وسخيفة لمنحه قلبها وعشقها طوال تلك المدة ، فعادت تضرب صـ ـدره من جديد تود لو كان بإمكانها تحطيم ضلوعه لترى إذا كان يحمل بداخلها قلبًا كباقى البشر أم أن هناك تجويف فارغ مكان قلبه
حملقت به بعينان متسعتان وهى تقول بنبرة صوتها التى بدت غريبة على مسامعها :
-بس أنا بعتب عليك ليه ماهو أنت راسل ، اللى بيحب يقهر اللى حواليه بتصرفاته ، إنسان بارد وقلبك زى الحجر ، بس على قد الحب اللى أنا حبتهولك حاسة دلوقتى أن بكرهك زى ما كرهتك زمان من أول مرة شوفتك فيها ، أنا بكرهك يا دكتور راسل
❈-❈-❈
يتبع…
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
👈 الفصل التالي: رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني الفصل السابع
👈 جمييع الفصول: رواية لا يليق بك إلا العشق كاملة بقلم سماح نجيب
👈 المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
👈 لتحميل المزيد من الروايات: تحميل روايات pdf
انتهت أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.