نستكمل أحداث رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الثامن عشر من روايات سماح نجيب ( سمسم ).
رواية لا يليق بك الا العشق الفصل 18
١٨–” حصاد سنوات عجاف”
تلك الصيحات العالية والشهقات التى شابها الصدمة ، لم تكن كافية للتعبير ، عن تلك الدهشة ، التى خلفها راسل بنفوسهم ، خاصة بعدما أطلق رصاصة آخرى من سلاحه النارى
فأتجهت أنظار الجميع صوب ذلك الثقب الصغير ، الذى أحدثته الرصاصة بالجدار ، فعاصم على الرغم من الألم الذى يشعر به فى ذراعه المصاب ، وغزارة الدماء النازفة منه ، جحظت عيناه بخوف ، بعدما استدار برأسه ونظر لأثر الرصاصة ، التى لم تبتعد عن رأسه سوى سنتيمترات قليلة ، فلو أخطأ راسل فى تصويبها بالجدار ، كانت أصابت جبهته لا محالة
فلم ينبس أحد ببنت شفة ، فمن لديه القدرة على الحديث ، بعدما كان سيخر عاصم صريعاً منذ وهلة
فبدأ راسل القول بصوت كالصقيع :
– الرصاصة التانية دى تحذير ليك على اللى ممكن يحصلك لو جرالها حاجة
سقطت العصا من يد رياض ، فأسرعت سوزانا وميس بإسناده ، فراسل ولا شك سيرسله إلى حتفه ، ظل صدره يعلو ويهبط ، وبالكاد خرج صوته وهو يقول :
– خلوه يمشى من هنا أمشى أمشى يلا
هل زاد بتهوره تلك المرة عن سابقيها ؟ فعلى الرغم من كرهه الشديد لعاصم ، إلا أنه لم يفكر مطلقاً بيوم من الأيام أن يفعل ما فعله ، فما الذى دهاه اليوم ؟
توافد الحرس من الخارج ، فمنهم من ساعد رياض على الخروج ، ومنهم من ساعد بأخذ عاصم ، من أجل ذهابه للمشفى ، فلم يتبقى بالغرفة سوى راسل وميس وصالحة وحياء الغائبة عن الوعى
تلك هى المرة الأولى ، التى تختبر بها ميس جنونه ، الذى طالما سمعت عنه ، فهى لم تصدق أحد من قبل ، بشأن إخبارها بأن راسل ، ربما يصل به الحال ، إلى عدم التريث والتروى بوزن الأمور ، ويمكن أن يقدم على إرتكاب أفظع الأمور ، كالتى فعلها منذ دقائق ، فهو كان على وشك قتل خالها عاصم ، ولم يكن سينتهى الأمر إلى هذا الحد ، بل ربما كان جدها سيتأذى هو الاخر ، لعلمه بمدى حبه لإبن شقيقه
فقالت ميس بصوت خرج بالكاد من حلقها :
– راسل أنت كنت هتقتل خالو عاصم معقولة للدرجة دى
وضع راسل سلاحه بغمده وهو يجيبها :
– مكنتش هقتله ولا حاجة أنا بس كنت بهدده
صاحت ميس ومدت ذراعها تشير للثقب بالجدار وهى تقول :
– بتهدده ! والرصاصة دى اللى لو كانت ايدك بس أرتعشت كانت جت فى دماغه قتلته
أغمض راسل عينيه بشئ من الإرهاق ، فهو يعلم مدى إستياءها وحنقها منه الآن ، إلا أنه حاول إنهاء هذا الجدل ، خشية إثارة المزيد من غضبها وغضبه
فأولاها ظهره وهو يهم بالإقتراب من حياء قائلاً بهدوء وصل حد البرود :
– متخافيش أنا متعلم ضرب نار كويس وأعرف أمتى أخلى رصاصتى تخيب وأمتى أخليها تصيب
قبل أن يضع يده ويحاول إفاقة حياء ، أسرعت ميس بجذبه من ذراعه ، وتطلعت إليه بعينان مشتعلتان من الغضب ، فصرخت بوجهه :
– أنت إيه برودك ده وعلشان إيه ده كله علشان دى وتبقالك إيه دى علشان تفكر تقتل حد علشانها ها رد عليا
نفض يدها عن ذراعه ، وقبض على كتفيها ، فشعرت بقسوة كفيه وهو يهز جسدها بين يديها قائلاً بحدة مماثلة :
– مش وقته الكلام ده يا ميس ومش هنتكلم فيه دلوقتى أنا مش فايقلك خلينى أخدها وأمشى من هنا
تركها وأقترب من الفراش ، وكل هذا يحدث تحت أنظار صالحة ، التى لا تفقه شئ مما يقولونه ، فما يهمها الآن أن تخرج حياء من كل هذا سالمة ، فبحيلة منه كطبيب إستطاع جعلها ، أن تفتح عيناها ببطئ ، ولكنها عاجزة عن الحركة من تلك الألام الشديدة ، التى تشعر بها بجميع أنحاء جسدها
_______________
ألام شديدة بالرأس داهمتها بقوة ، وهى تحاول فتح عينيها الناعستين ، فظلت تمسح بكفها الناعم على وجهها ، لعها تستطيع إزالة النعاس عن جفنيها ، فتأوهت بصوت منخفض ، وهى تحاول الإعتدال بجلستها فى الفراش
غرزت أصابعها بخصيلاتها السوداء ، وحكت فروة رأسها لتعاود النزول بيدها حتى وصلت لمؤخرة عنقها ، أنفرجت شفتيها ، وأنفلت من بينهما صوتها وهى تتثائب
جعدت جبينها وهى تتطلع للغرفة ، فتلك ليست غرفتها بمنزل والدها ، فخفضت بصرها لتنظر لنفسها ، بعد شعورها بتلك البرودة المفاجئة التى إجتاحتها
فأصدمت عيناها بما جعلها تلطم وجنتيها ، عندما فطنت بأى حال هى بالفراش ، ولم تنتهى الصدمة لهذا الحد ، بل سمعت باب المرحاض يفتح ، وخرج منه ذلك الشاب وهو يجفف رأسه بالمنشفة
فأزاحها عن وجهه وهو يقول بإبتسامة عريضة:
– صباح الخير يا هند يا حبيبتى
فلو ألتحفت بأغطية العالم أجمع ، لن تستطيع أن توارى تلك الفضيحة التى جلبتها لنفسها ، فدمعت عيناها ، وأنتحبت وهى تحاول سحب الغطاء لعنقها
فرمقته هند بصدمة ، أستطاعت تجميد أطرافها ، ولكن صوتها النائح خرج يخترق أذنيها قبل أذنيه:
– إيه اللى أنت عملته دى إزاى تعمل كده إزااااااى
لم تكف عن الصراخ والنحيب ، فترك المنشفة من يده وجلس بجانبها على الفراش ، مد يده ووضعها على وجنتها لعله يجعلها تكف عن الصراخ
فنظرت بعيناه الباردتان ، كإحدى أيام الشتاء ، فقال بعدم إكتراث :
– أنتى مكبرة الموضوع ليه كده يا هند يا حبيبتى ، ثم هو أنا اللى جبتك معايا غصب عنك ، أنتى جاية معايا بمزاجك ، ومتبقيش تفكيرك رجعى كده ، اللى حصل عادى
نفضت يده عن وجهها وهى تقول بغضب :
– عادى ! عادى إزاى أنت مجنون دى مصيبة عارف يعنى إيه مصيبة
ظلت تلتفت برأسها يميناً ويساراً ، لعلها تبحث عن حل ، فعادت بعينيها لوجه وهى تقول :
– إحنا لازم نتجوز بسرعة
ترك مكانه ووقف أمام المرآة يمشط شعره ، فرد قائلاً بلامبالاة :
– أنا مش بتاع جواز يا حبيبتى إحنا نتصاحب أه لكن نتجوز سورى يا بيبى
لفت الملأة حول جسدها ، وتركت الفراش واقتربت منه وجذبته من ذراعه فصاحت به بجماع صوتها الحانق :
– أنت مش كنت بتقول أنك بتحبنى وبتتمنى اليوم اللى تتجوزنى فيه دلوقتى غيرت رأيك
أزاح يدها من على ذراعه ، ومازال على هدوءه المميت ، فإبتسم ماكراً :
– وأنا ايه اللى يخلينى أتجوز واحدة سلمت نفسها بسهولة وهى مش واعية لنفسها بسبب شربها للخمرة ، أنتى يا روحى للتسلية وبس وصدقينى أنا فى خدمتك على طول
لطمته على وجهه بكف يدها ، فقبض على كفها ، كاد أن يسحق عظامه ، فسرعان ما دفعها عنه ، فترنحت بوقفتها وكادت تسقط ، لولا أنها حافظت على ثباتها
فلم يمهلها دقيقة أخرى ، بل أخذ ثيابها المنثورة بالغرفة ، وألقاها بوجهها وهو يقول :
– ألبسى هدومك ويلا أمشى من هنا مش عايز أشوف وشك تانى يلا
ظل يدفعها بيده ، وهى تتقهقر بخطواتها للخلف ، فعينيها لم تكف عن ذرف الدموع ، فسالت زينة عينيها ولطخت وجنتيها ، فتعالت أصوات شهقاتها ، وهى ترى مستقبلها المظلم ، إذا علم والدايها بما فعلته ، فدلالها الزائد جعلها تصل لطريق ، لم تظن يوماً أنها ستخطو به أولى خطواتها الحمقاء
لم تدرى كيف أرتدت ثيابها وحذاءها ، فحتى لم يمهلها الوقت لتصفف شعرها الأشعث ، بل أخذها من يدها ، وهو يجرها خلفه كأنها حقيبة من القمامة ، سيلقى بها خارج منزله
فتح باب المنزل ، ودفعها بعدما ألقى بمفتاح سيارتها على الأرض وهو يقول:
– مفتاح عربيتك أهو ويلا غورى من هنا وحسك عينك تحاولى تعملى حركة كده ولا كده أصل أه نسيت أقولك أن أنا صورت الليلة بتاعت إمبارح كلها ، هبقى أبعتلك نسخة منها علشان تبقى تفتكرينى
فهو لم يكتفى بسلبها حياتها وعفتها وطهارتها ، بل حرص على أن يجعل حياتها جحيماً ، فكيف كانت بكل هذا الغباء ؟ فما أرادت إثباته للجميع ، أتى بثمار الخيبة والحسرة ، بعدما أغلق الباب بوجهها ، أنحنت تلتقط مفتاح سيارتها ، التى رأتها مصفوفة أمام المنزل ، أستقلت السيارة ، فوضعت ذراعيها حول المقود ، ودفنت رأسها بينهما وهى تنوح ، فكل عالمها تهدم أمام عينيها ، ولا أحد ملام غيرها ، فهى من رفضت الإستماع لنصائح من حولها ، وها هى تجنى ثمار غرورها اللعين ، فبما تفرق هى الآن عن الفتيات صاحبات الخلق السيئ ، فهى لم تجد رادع لها ، فكان زهوها بجمالها ومالها ، يطمسان على قلبها وعقلها ، ومنعها التفكير السليم والخلق القويم
_______________
بخطوات حثيثة كان يقترب من الغرفة ، أدار مقبض الباب بصوت يكاد لا يسمع ، ولج للداخل يحمل صغيرته على ذراعه تتعلق بعنقه ، فألقى بصره على تلك التى تتوسط الفراش، غارقة بسبات عميق ، ملامحها هادئة لاتنم على شئ ، سوى الراحة والهدوء ، فبعد خروجهم من قصر النعمانى ، فضل المجئ بها لمنزله ، حتى لا يحاول عاصم أخذها ثانية ، خاصة بعدما حدث بينهما ، فهو يعلم أن عاصم ، إذا مرر الأمر ،يظل أثره عالق بنفسه ، ولا يعلم أحد بأى وقت يأخذ ثأره ، فإن كان له بذلك ، يجب عليه أن يتخطاه هو الأول ، حتى يستطيع الوصول إليها
تأملها كثيراً ، كأنه يراها لأول مرة ، حتى انتبه على تقبيل سجود له على وجنته وهى تسأله :
– بابى هى مين دى
تبسم راسل بوجهها وهو يجيبها بحب :
– دى تبقى مامتك يا سجود
فغرت الصغيرة فاها من قوله ، ولم يعى تأثير تلك الجملة ، التى لا يعلم كيف إستطاع قولها بثقة ، تجلت بكل حرف نطق به ، إلا بعدما رأى سجود تحاول الفرار من بين ذراعيه
فلبطت بقدميها لتجعله يفلتها من بين ساعديه وهى تصيح بسعادة :
– هاااااى مامى رجعت من السفر سيبنى يا بابى
تخبطها بين ذراعيه ، جعله يطلق سراحها ، فوطأت الصغيرة الأرض بقدميها ، وسرعان ما ركضت إلى الفراش المستلقية عليه حياء بوداعة ، صعدت بجوارها ، ووثبت عليها تقبلها على وجهها بكل مكان يستطيع فمها الصغير الوصول إليه ، تململت حياء بنومها من شعورها بشئ جاثم على جسدها ، ولكن مازلت غير قادرة على فتح جفنيها ، ويرجع ذلك لمفعول تلك العقاقير الطبية ، التى حقنها بها راسل من أجل جعلها تنام لفترة أطول ، لتمر الساعات الأولى من شعورها بذلك الألم بسبب تلك الكدمات التى غطت وجهها ، وأيضاً جسدها حسبما أخبرته وفاء وصالحة ، وهما يعملان على تبديل ثيابها وهى غير واعية لما يفعلانه
أقترب راسل من سجود ، التى بعدما أعطتها حصتها كاملة من القبل ، وضعت رأسها على كتفها ، تميل بنصف جسدها وذراعها النحيل يحتضن خصر حياء
أزاح راسل شعر الصغيرة عن عينيها ، فربت على ظهرها ، لبجعلها تستمع لما يقوله ، فنادها برفق :
– سيجو يا حبيبتى يلا تعالى معايا
حركت سجود رأسها بعنف رافضة قوله ، فدفنت وجهها بعنق حياء مغمغمة :
– لاء يا بابى أنا هنام فى حضن ماما هى مش بتصحى ليه
حاول جذبها بصعوبة ، فكلما سحب ذراعها ، تعود وتفلت من يده لتعود مكانها بجوار حياء ، فتعجب راسل من أن سجود لا تتذكر أنها رأت حياء من قبل ، ولكنه عاد وتذكر أن سجود مازالت صغيرة ، وهى لم تقابل حياء سوى مرة واحدة منذ بضعة أشهر ، ولكنه تذكر بحزن أيضاً أن حياء التى قابلتها سجود ، غير تلك الراقدة لا حول لها ولا قوة ، ووجهها به أثار لكدمات
فقبل أن يعود لأخذ الصغيرة ، وجدها ترمقه بتساؤل :
– بابى هى مامى متعورة فى وشها ليه مين اللى ضربها يا بابى أنا هضرب اللى عمل فى مامى كده
تبسم على قولها ، ومحاولتها لتبيان شجاعتها بالدفاع عن من ظنت أنها والدتها ، فأنحنى حاملاً إياها تلك المرة بإصرار وهو يقول :
– طب تعالى وإحنا هناخد حق ماما من اللى عمل فيها كده بس سيبيها تنام بقى يا سيجو ولما تصحى تعالى شوفيها
تعلقت الصغيرة بكتفى أبيها ، تنظر لحياء وهو يحملها يتجه صوب باب غرفته ، التى رغب أن تمكث حياء بها ، خرج من الغرفة ، وأغلق الباب خلفهما ، هبطا الدرج حتى وصلا لمجلس وفاء وصالحة ، فوضع راسل سجود بين ذراعى وفاء
فلم تكتم الصغيرة صيحتها ، وهى تقول بسعادة وتصفق بيدها :
– آنا وفاء مامى رجعت وهى نايمة فوق بابى خلانى روحت شوفتها
تلقائياً تحول بصر وفاء وصالحة لوجه راسل ، فحاول أن يزوغ بعينيه عن مرمى بصرهما المتفحص ، وأعينهما اللتان لم تخليان من سؤاله عن صحة أقوال الصغيرة
فأراد الإنصراف وهو يحمحم قائلاً بهدوء :
– ماما أنا رايح المستشفى ولو فى أى حاجة اتصلى عليا
لم ينتظر سماع رد وفاء على قوله ، بل أسرع فى الخروج من المنزل ، فعند وصوله لسيارته ، وضع يده على صدره يزفر براحة من كونه أستطاع الهرب منهما
تبسمت صالحة لوفاء وهى تقول بإستحياء :
– أنا مش عارفة أشكركم إزاى علشان اللى عملتوه علشان الست حياء أنتوا ولاد أصول
مدت وفاء يدها تربت على ساق صالحة وهى باسمة :
– متقوليش كده أنتوا منورينا ولما راسل حكالى حكايتها بجد صعبت عليا أوى الله يكون فى عونها
أطلقت صالحة نهدة عميقة وهى تقول:
– من ساعة موت عرفان بيه والست مديحة ، وحياتها أتشقلبت يا حبة عينى ، بقت الدنيا تشيلها وتحطها ، بنت الأكابر اللى عمر الحزن ما عرف لها طريق ، بقت عايشة حياتها حزن ودموع
– ربنا قادر يصلح حالها بطرفة عين بس الصبر مطلوب
قالت وفاء عبارتها وهى ترى سجود تجذب يدها ، من أجل شئ تريده
فنهضت صالحة وهى تقول :
– طب أنا هروح الشقة أجبلها هدوم وأجى على طول جايز على ما أرجع تكون فاقت
أماءت وفاء برأسها موافقة ، فخرجت صالحة من المنزل ، فعادت سجود بجذب يد وفاء وهى تقول بإلحاح :
– أنا وفاء تعالى ودينى لمامى فوق وأفتحيلى الباب علشان بابى قفله بالمفتاح قبل ما يمشى
تلاحم حاجبى وفاء وهى تقول بغرابة :
– هى إيه حكاية مامى دى يا سجود هو أبوكى عامل ايه من ورايا بالظبط مش مرتحاله ، أنا فوتله أنه دخل عليا بواحدة مضروبة وحالتها حالة ، وقولت جايز مساعدة إنسانية ، بس شكل الموضوع فى إن ، تفتكرى فى إيه يا بت يا سجود
رفعت الصغيرة شفتها العليا من قول وفاء ، على الرغم أنها لم تفقه شئ من قولها ، ولكنها لم تجد تعبير أخر للتعبير عن دهشتها سوى رفع شفتها ، وتضيق عينيها
فوضعت وفاء يدها على وجنتها قائلة بتساؤل :
– وده إسمه إيه بقى يا بنت أبوكى ، أنا لما أبوكى اللى هرب منى ده يرجع لأزم أعرف كل حاجة
لم يكن يعنى الصغيرة ، سوى تنفيذ مطلبها ، فبعد رجاءها الذى وصل حد الإلحاح ، فضلت وفاء تنفيذ ما أرادته ، فهى لا تريدها أن تبدأ بالبكاء ، وربما يتطور الأمر إلى صراخ ونواح ، فأخذتها وصعدت الدرج ، ووصلت غرفة راسل ، القابعة بها حياء ، فأدارت المفتاح بالمقبض ، فلم تنتظر الصغيرة أن تفتح الباب بل هى من أدارت المقبض وأقتحمت الغرفة ، وعادت لتستكين ثانية بجوار حياء ، ولكن تلك المرة براحة تامة ، فأبيها ليس هنا ليمنعها من فعل ذلك ، فلتنعم بتلك اللحظات ، التى طالما حُرمت منها ، فهى لم تختبر ذلك الشعور بأن تكون بين ذراعى والدتها ، فإن كان أبيها ووفاء والمحيطين بها ، يحرصون على دلالها ، فلم يكن هذا كافياً لها ، بل هى تريد دلال أخر ، ذلك الدلال الخاص بوالدتها ، مثلما ترى الصغيرات بمثل عمرها ، يتمتعن بحب ودفء أحضان أمهاتهن
________________
بعد خروجها من مركز التجميل ، الأشهر بذلك الحى الراقى ، وجدته يقف بجوار سيارته ، بل لم يكتفى بذلك ، بل هو يحمل بين يديه باقة كبيرة من الورود والزهور المفضلة لديها ، فبعد مجيئه أول مرة لقصرها ، توالت زيارته المتكررة لها ، فمرة يأتى إليها بالفندق ، ومرة أخرى لهنا ، مدت يدها تزيح خصيلاتها عن عينيها ، وهى تشعر بالحرج ، فهى لا تريد أن تثار الأقاويل حولهما ، خاصة أنه الآن شخصية مشهورة بالمجتمع ، ولا بد أن يتسأل الجميع ، عن من تكون تلك التى يركض خلفها من مكان لأخر
هبطت الدرجات الثلاث الرخامية ، فأسرع فواز بالإقتراب منها ومد يده لها بباقة الزهور متبسماً:
– الورد للورد أحلى ورد لست البنات
مدت يدها بتردد وأخذتها منه فتبسمت بحرج وتوتر وهى تقول :
– مكنش فى داعى تتعب نفسك يا فواز مش كل مرة هتشوفنى فيها هتجبلى ورد
– أنا لو أطول هجبلك حتة من السما يا ست البنات
قال فواز جملته ، فتوهج وجه غزل من إطراءه لها ، فهى لا تريد أن تتسبب له بإيذاء نفسى ، إذا أخبرته بأنها لا تريد إطراء أو مغازلة من أى رجل ، فهى شيدت أسوار وحصون حول قلبها ، فلم يعد لديها مقدرة على الحب ، غير محبة أبناء شقيقها ، ولكن كيف تصيغ له عبارة مناسبة لتجعله يكف عن حضوره المتكرر والتفوه بعبارات التودد لها
فقبل أن تفه بكلمة ، كان فواز يقول مستطرداً :
– لو معندكيش مانع ممكن نتغدا مع بعض
ضمت الباقة لصدرها لا إرادياً وهى تحاول أن تجد سبب أو مبرر لعدم موافقتها على إقتراحه ، فبفعلتها جعلته يظن أنها ترحب بدعوته ، فزادت إبتسامته إتساع ، ولكن سمعا صوت أنثوى قادم من مكان قريب
فألتفتت غزل لمصدر الصوت ، فأتسع بؤبؤ عينيها من رؤية سوزانا النعمانى ، فبخطوات قليلة ، كانت تقف سوزانا وجها لوجه معها
أنفرجت شفتيها لتقول شيئاً ، فكانت سوزانا الأسرع بقولها :
– معقولة أنتى غزل الزناتى أنا مش مصدقة عينيا طب إزاى أكيد أنا بحلم
قبضت غزل بيدها اليمنى على وريقات الورد ، فسحقتها بين أصابعها وهى تقول من بين أسنانها المطبقة بغضب مميت :
– وهى غريبة أنك تشوفينى يا سوزانا ، أصل أشتقت لإسكندرية وأشتقتلكم فجيت على ملا وشى زى ما أنتى شايفة
عقدت سوزانا ذراعيها أمام صدرها وهى تقول بتهكم واضح :
– أنا صدقت دلوقتى المثل اللى بيقول مسير الحي يتلاقى يا غزليا دى الدنيا طلعت صغيرة أوى فعلاً بس مقولتليش كنتى فين السنين دى كلها
– كنت فى أرض الله الواسعة ، عن إذنك وفرصة سعيدة إن شوفتك يا سوزانا
بعد أن أنتهت من قول عبارتها ، اتجهت صوب سيارتها ، وملامح وجهها ملأها التجهم والعبوس ، يتبعها فواز بسيارته ، ولم يمنع ضيقه هو الآخر من رؤية سوزانا وتسببها فى إفساد تلك الدقائق الحالمة ، التى كان يعيشها ، فهو كان قاب قوسين أو أدنى من الحصول على موافقتها بأن ترافقه لتناول طعام الغداء سوياً
قادت غزل السيارة ، ولم تنسى أن تضرب المقود بكفها من حين لأخر ، فمن أين ظهرت لها سوزانا ؟ فهى تعلم أنها لن تخفى الأمر عن شقيقها عاصم
عاصم !
إسم ظل ينخر بقلبها سنوات طوال ، فمن كانت تشعر بدقات قلبها تتلاحق من رؤيته وسماع إسمه ، صارت تشعر بنيران تتأجج بداخله ، أوقفت السيارة بغتة ، فكاد رأسها يصطدم بالمقود وهى تتذكر ذلك اليوم ، الذي غير حياتها للأبد
فأخذتها الذكريات وبدأت ترى كل شئ أمامها ، كمن شاهدت فيلماً ، وتستعيد أحداثه
عودة لوقت سابق
تجمعت عائلتها بأكملها بحديقة المنزل ، كما أعتادوا أن يفعلوا بيوم العطلة الأسبوعية ، يركض عمران ومعتصم بالحديقة ، ويجلس باقى أفراد عائلتها حول طاولة يتحدثون بشأن خطبتها المرتقبة
فناداها والدها بإلحاح :
– غزل غزل تعالى هنا يلا
عبست ملامحها وهى ترى إلحاح أبيها لها ، بأن تعطيه قرارها النهائى بشأن زواجها من شاب أخر ، خاصة بعد تلك الصدمة ، التى خلفها عاصم بنفسها من إقدامه على خيانتها ، قبل زواجهما بأسبوع واحد
فأقتربت غزل من أبيها وهى تقول بحدة خفيفة :
– بابا قولتلك مش عايزة أتجوز دلوقتى خلاص مليش نفس أتجوز
– ده كله يعنى علشان عاصم النعمانى ما خلاص خلصنا من الموضوع ده يا غزل من فترة ولا هتقضى بقية عمرك تعيطى على اللى راح ثم خلاص إحنا وعيلة النعمانى مبقاش ينفع نجتمع فى مكان واحد تانى ولا يبقى فى بينا صلة نهائى
تلك الكلمات التى صدرت من شقيقها مراد بوحشية ، جعلتها تجفل قليلاً ، فربما هى حقاً زادت بالأمر ، ولكن قلبها ليس عليه سلطان ، فكيف تستبدل خفقات نطقت بإسم حبيب غادر ، وتنطق بإسم أحد اخر
تجمعت الدموع بعينيها ، وركضت للداخل فسرعان ما لحق بها الصغيران ، اللذان اعتادا على اللعب معها ، وصلت لغرفتها ، وأرتمت على الفراش تبكى ، ولكنها شعرت بيد صغيرة تمسد على خصيلاتها الناعمة ، ولم يكن سوى عمران ، الذى بدأ بالبكاء لرؤيتها تبكى ، أما معتصم تمدد بجانبها ، وظل يقبلها على وجهها ، فتبسمت رغما عنها لافعالهما ، فهما يتركان والدتهما ، ويركضان خلفها هى
فأعتدلت بجلستها ومسحت عينيها :
– أنتى سيبتوا لعبكم تحت وجيتوا ورايا ليه
جلس عمران بجانبها قائلاً :
– علشان أنتى بتعيطى يا غزل تعالى يلا علشان ننزل الجنينة ومش هقول لجدو وبابا يزعلوكى تانى
قبلته غزل وإستدار لتقبيل معتصم ، وجدته يغط بنوم عميق ، فذلك الصغير يملك سرعة فائقة للغرق بالنوم ، فأدنت برأسها من وجهه وقبلته ، وأخذت عمران لتعود لمجلس عائلتها بالحديقة ، ولكن لم تمر دقائق وقبل عبورها من الباب الفاصل بين المنزل والحديقة ، رأت رجال ملثمون يقتحمون المنزل والحديقة ، ودوى صوت الطلقات النارية ، والقصف العشوائي للرصاص ، فصرخت غزل وأخذت عمران بين ذراعيها ، بعدما رأت عائلتها تصرع غدراً بالرصاص
فتلك الجملة أخترقت أذنيها تترافق مع صوت الرصاص ، وأحد الرجال الملثمون يقول :
– ده علشان تعرفوا أن رياض باشا النعمانى محدش يزعله ويفضل ساكت لا هو ولا ابن اخوهعاصم بيه
سالت دماء عائلتها ، وطفت أجسادهم بالمسبح ، فبتلك اللحظة كمن عجزت قدميها عن الحركة ، لم تفعل شئ ، سوى أنها أختبأت خلف المقاعد وهى تبكى وتحتضن عمران ، الذى لم يكف عن البكاء والنداء لوالديه ، بعدما رآى ما حدث لهما ، فقبل أن ترى أحد قادماً للداخل ، سحبت عمران وركضت للدور العلوى ، ولجت غرفتها وأخذت معتصم وعمران واختبأوا أسفل السرير ، حرصت على عدم إصدار أى صوت ، ووضعت يدها على أفواههما ، سمعت صوت الأقدام تقترب من الغرفة ، فسالت دموعها وهى تبتهل لله أن تنجو هى وأبناء شقيقها
فسمعت أصوات رجلان يتحدثان :
– الظاهر مفيش حد تانى هنا يلا بينا على تحت
– أستنى لسه فى البت بنت عمران الزناتى وولاد أخوها
قالها الرجل بإصرار ، فجذبه رفيقه من مرفقه قائلاً
– الباشا مش عايز يقتلها هو عايزها تعيش وتتحسر على أهلها فتعال ندور على العيلين يلا بينا
أبتعدت أصوات الأقدام ، وأطمأنت غزل لإبتعادهما ، فخرجت من أسفل السرير ، وحثت عمران ومعتصم على إطاعتها ، فهى تعلم خبايا ذلك القصر ، وتعلم كيف تنجو من هنا ، قبل أن يعثر عليها أحد ، فبأحد الممرات السرية للقصر ، كانت غزل تهرول وتجر معها عمران ومعتصم ، حتى خرجت من القصر ولم يكن خروجها ، إلا أعجوبة أنها إستطاعت الهرب ، قبل أن تلقى حتفها هى وأبناء شقيقها
عادت من ذكرياتها ، وهى تنتحبت ملأ فاها ، وتعالت أصوت شهقاتها ، وظلت تضرب بيدها على المقود ، حتى شعرت بالألم ، فلما فعلوا بها ذلك ، ولما سلبوها عائلتها ، فعاصم هو من بدأ بالغدر منذ البداية ، وكانت هى الأحق بتركه ، حتى لا تصبح حياتهما الزوجية مأساة ، إذا تزوجا بالفعل ، ولكن شاء القدر كشف خيانته لها ، قبل أن يتزوجا، لتتوالى بعد ذلك الصدامات والمشاجرات بين العائلتين ، حتى صار العداء على أشده بينهما ، وصار يعلم بخلافاتهما القاصى والدانى
_______________
منذ أن تم إستدعائه من أجل مقابلة رياض النعمانى ، وعقله يدور بكل إتجاه ، للتفكير بذلك الأمر الذى يريده من أجله ، فبعمله حرص على ألا تثار الأقاويل حوله من أحد ، لعلمه بأن من كان سينشب بينهما خلاف ، سينتهى أمره ماثلاً أمام رياض النعمانى ، فكل رجال الاعمال يلتجأون إليه عوضاً عن القانون ، لعلمهم بأنه قادر على حل الأمور بكلمة واحدة ، فالمجتمع السكندرى بأكمله يعلم مدى هيبة وسلطان رياض النعمانى ، حتى وإن أصابه الكبر ، فإبن شقيقه يسير على نهجه ومنواله ، فما حاجته لكثرة التفكير ، فالأن سيعلم بأى شأن يريده
جلس فؤاد ضامماً كفيه ، كولد صغير بإنتظار مجئ معلمه ، فبسماعه صوت نقرات العصا على الأرض ، هب واقفاً يبدى إحترامه لمجئ رياض
فجلس رياض على أريكته المفضلة ، وأشار له بالجلوس ، فعاد فؤاد لمجلسه بإرتباك ، فتساءل بحيرة :
– خير يا باشا بلغنى أن حضرتك عايزنى أؤمرنى
لف رياض عصاه بين يده وهو يقول بهدوء :
– الأمر لله ، أنا كنت عايزك بخصوص البنت اللى إسمها ولاء وأنت عايز تتجوزها ، فأنا جبتك هنا النهاردة علشان أقولك أصرف نظر عن الجوازة دى وأبعد عنها
أثار حديث رياض الإستياء بنفس فؤاد ، ولكنه لن يستطيع أن يبديه له ، فأكتفى بالقول :
– ليه يا باشا هو أنا طالبها فى حاجة وحشة لا سمح الله أنا طالبها فى الحلال وهتجوزها على سنة الله ورسوله
– وهى مش عيزاك مش طيقاك يا أخى إيه بالعافية
قالها رياض بتحذيز له من الإسهاب فى تلك الأقاويل التى لن تجديه نفعاً ، فهو علم عنه كل شئ ، بعد إخبار ولاء له بقصتها كاملة ، فهو لن يستطع البت بأى أمر ، إلا إذا كان يعلم كافة جوانبه من الطرفين فحاول فؤاد أن يثنيه عن قراره ، الذى رآه مجحفاً بحقه :
– أنا بحبها أوى يا باشا وعلشان خاطرها مستعد أعمل أى حاجة أنا حتى توبت عن الستات علشان خاطرها
لم يكن حديثه ووعده كافياً لإقناع رياض ، الذى طالعه ببسمة ساخرة وهو يقول :
– هو أنتى يا أبنى شايفى قدامك إيه ، شوف حد غيرى أضحك عليه بالكلمتين بتوعك دول ، طب طالما أنت وفى أوى كده ، كنت بتعمل إيه فى باريس من كام يوم ، دا انت كنت خاربها سهر وخمرة ونسوان ، تحب أجبلك الصور ، أصل أنا كان لازم أسأل واتحقق ، هل أنت فعلا ديلك يستاهل قطعه ، ولا فعلاً هى ظالماك ، واللى عرفته ميخلنيش بس أقولك أبعد عنها ، لاء دا أنا ممكن كمان أمحيك من على وش الدنيا لو رجعت وضايقتها ، فأخر كلام أبعد عنها زى ما قولتلها وخلاص المقابلة أنتهت
لم يرد له فؤاد كلمة ، بل خرج من القصر ، وهو يسرع بخطواته ، فهو يعلم ان رياض قادر على تنفيذ ما قاله بدون أدنى مجهود ، ولكن كيف له أن ينكث بذلك الوعد ، الذى أخذه على نفسه بأن يثأر لكرامته منها ، فربما يجب مسايرة حديث رياض الأن ، على أن يعمل لاحقاً على رد حقه منها
بعد إنتهاء ذلك المجلس ، ترك رياض مكانه قاصداً غرفة إبن شقيقه عاصم ، فولج الغرفة بعد طرقها عدة طرقات بطرف عصاه
رآه عاصم فأعتدل بفراشه ، يشعر بالألم فى ذراعه ، فبعد أن ذهب للمشفى ،وعمل الطبيب على إخراج الرصاصة ، أصر على عدم المكوث بالمشفى ، وأن يعود للمنزل
– عامل إيه دلوقتى يا عاصم
قالها رياض وهو يجلس على مقعد قريب من الفراش
فغرز عاصم يده بشعره وأغمض عيناه وهو يغمغم :
– الحمد لله عدت على خير من المجنون ده ، ده فعلا شكله اتجنن على الآخر
نقر رياض بعصاه وهو يقول :
– المرة دى جنانه زاد على الأخر ، ومش عارف إيه اللى بينه وبين البنت دى بالظبط علشان يتجنن الجنان بتاعه ده وكان هيموتنا كلنا فيها
فتح عاصم عيناه وقطب حاجبيه قائلاً بغرابة:
– مش عارف يا عمى حتى يوم الحفلة لما كان هنا حسيت بتصرفاته غريبة من ساعة ما شافها
رمقه رياض متسائلاً:
– بس أنت يا عاصم متأكد أن حياء دى هى اللى اخدت الملف بتاع الصفقة
تناول عاصم كوب الماء على الكومود ، فأحتسى منه بضع قطرات قبل أن يقول :
– تسجيل الكاميرا جاب حياء داخلة المكتب وبعد كده الكاميرا اتفصلت ، ولما أنا رجعت التسجيلات ماجبتش حد غير حياء
إستند رياض بظهره لمقعده قائلاً:
– بس ممكن يكون حد تانى ، وأن ده ملعوب من حد يا عاصم ، وممكن تكون ظلمت البت ، بس إزاى تضربها كده ، أنا افتكرت أنك جبتها علشان تخليها تعترف لكن أنك تضربها وتهينها بالشكل ده ، أنا أضايقت منك ، ولو مكنش راسل عمل اللى عمله كنت أنا اللى حاسبتك يا عاصم على عملتك دى
فضيقه وغضبه أعماه ، عندما علم بما حدث ، ولم يشعر بما يفعله من فرط حنقه الشديد من تلك الخسارة ، التى ستتكبدها الشركة من ضياع تلك الصفقة
فقبل أن يهم بالرد على عمه ، رآى سوزانا شقيقته تلج الغرفة ، بعد عودتها من الخارج ، فعلم من وجهها أن لديها ما تقوله
فكان هو الأسبق قائلاً:
– مالك يا سوزانا وشك كده بيقول فى حاجة عايزة تقولها
جلست سوزانا على مقعد بجوار عمها وفركت يديها بتوتر وهى تقول:
– النهاردة وأنا خارجة من البيوتى سنتر شوفت غزل الزناتى
كأن بذكرها للإسم ، أشعلت فتيل إحدى المفرقعات ، فعاصم أنتفض بفراشه ، وأجفل من ذلك الألم ، الذى شعر به من حركته المفاجئة ، ورياض أرتجفت يداه وسقطت العصا منها ، تصدر صوت رنين على الأرضية ، فثلاثتهم كأنهم ألقى عليهم حجراً أصاب رأس كل منهم
فهو لم يعد يشعر بألم ذراعه ، بقدر ما يشعر به بقلبه ، ففاتنته قد عادت ، فكيف سيكون حالهما إذا تلاقيا وجها لوجه بعد كل تلك السنوات العجاف
_______________
منذ علمه بأن زوج إبنته ، صار الآن يعلم من هو الفاعل الحقيقى ، لذلك الحادث الذى توفى على أثره عرفان وزوجته ، وهو لا يهدأ زارعاً غرفته ذهاباً وإياباً ، وقسمت جالسة تضع يدها على وجنتها تفكر هى الأخرى ، فهى تتمنى أن يكون وحيد صدق أن ليس لها يد بما حدث ،وأنها لم تكن تعلم بما فعل زوجها
رفعت رأسها عن يدها ترمق بتساؤل :
– هنعمل ايه دلوقتى يا شكرى بعد ما جوز بنتك عرف اللى فيها
جلس على حافة الفراش وهو يفرك يديه بتوتر وخوف قائلاً :
– مصيبة ليروح بجد يبلغ عنى يا قسمت هتبقى مصيبة وكل اللى مستخبى هيبان ونروح فى ستين داهية ، ومش بعيد نلاقى حبل المشنقة ملفوف حوالين رقبتنا احنا الاتنين
بسماع ما سيؤل إليه مصيرها صاحت به :
– حوالين رقبتى أنا ليه يا حبيبى وأنا مالى
انتفض شكرى من مكانه وقبض على ذراعها ، غارزاً أصابعه بلحمها ، فهز جسدها بقوة وهو يقول :
– نعم يا أختى على أساس أنك مش راسية على الحوار كله من الأول وأنتى وافقتى على قتلهم علشان كنتى متغاظة من أخوكى ومراته ، جاية دلوقتى تقولى وأنتى مالك
نفضت يده عن ذراعها ، تمسد عليه ، لعل الألم الذى تشعر به يهدأ ، فصرخت بوجهه بحدة :
– حسك عينك تمد ايدك عليا تانى يا شكرى وبدل ما وحيد هو اللى يبلغ عنك انا اللى هوصلك لحبل المشنقة وانا أساساً مفيش عليا دليل
لم يبدو عليه الخوف ، بل على النقيض ظل يضحك بقوة ، حتى دمعت عيناه ، فأثار غرابتها مما يفعله ، فمن بمثل حالته لابد أن يشعر بالخوف
فكف عن الضحك وقال :
– مفيش عليكى دليل أنتى فكرانى أهبل يا قسمت علشان أسيب رقبتى فى إيدك من غير ما أكون ضامن أن إحنا الاتنين نروح فى داهية سوا
– قصدك ايه يا شكرى
قالتها قسمت بصوت شابه الارتجاف ، فهى تعلم أنه ليس بالشخص الهين أو الساذج
فجلس شكرى واضعاً ساق على الأخرى وقال :
– قصدى يا قسمت يا حبيبتى أن أنا عندى تسجيل صوت وصورة لينا احنا التلانة أنا وأنتى والسواق اللى خبط عربية اخوكى علشان أبقى ضامن نفسى علشان لو كنتى حابة تلعبى بديلك وتغدرى عليا أتطربق الدنيا على دماغك ومخلكيش تلحقى تتهنى بقرش واحد من فلوس عرفان
أرتخت قدميها فجأة ، فجلست ساقطة على المقعد خلفها ، فهى لم تضع بحسبانها ، أن يكون أتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لتأمين جانبه
ملأ الصمت الأجواء ، فيخشى كل منهما ، أن تعلو أنفاسه فيسمعها الآخر ، ولكن لابد لهما أن يتحدثان بشأن تلك الكارثة ، التى تلوح لهما بالأفق
فأزدرد لعابها وهى تقول بخوف تستشعره لأول مرة:
– ططب هنعمل إيه يا شكرى دلوقتى
حك شكرى جبهته بتفكير ، لعل يجد حلاً بإمكانه أن ينقذه مما ربما سيحدث لهما ،إذا تفوه وحيد بالحقيقة
فرفع رأسه ونظر إليها مطولاً وهو يقول ببرود وجمود :
– يبقى مفيش حل غير إن إحنا نخلص من وحيد خالص
رمش بأهدابها ، كأنها لا تعى مغزى حديثه ، فقالت متسائلة :
– نخلص منه إزاى يعنى مش فاهمة
– يعنى نقتله هو كمان يا قسمت
قالها شكرى ببرود مغلف بحقد أسود ، غير أبه بإبنته وما يمكن أن يصيبها ، فكل ما يريده ، هو إخفاء كل الدلائل على قتله عرفان الطيب وزوجته
نزل عليها حديثه ، كحبات الحصى ، فهى لم تفكر مطلقاً بهذا الشأن ، فأزدردت لعابها وقالت بتلعثم ظاهر :
– ننقتله ، أنت اتجننت يا شكرى عايز بنتك تبقى أرملة فى عز شبابها
ضحك شكرى بعد سماع قولها ، فنظر إليها بسخرية :
– ماهو لو وحيد فضل عايش ، ممكن يودينا فى داهية فى أى وقت ثم يعنى هو هييجى عندك أعز من اخوكى إبن أمك وأبوكى يا قسمت ضحكتينى وأنا مضايق
ذكرها بتلك اللحظة ، التى أسلمت عقلها وأذنيها له ، يوسوس لها كالشيطان ، فجعلها تتخيل مصيرها ، إذا أتم عرفان مخططه ، وجعل حياء تتقاسمها الإرث ، فوافقت على إقتراحه بقتل أخيها ، كتلك اللحظة التى نسى بها قابيل أن هابيل شقيقه ويحمل دماءه ، وعوضاً عن أن يكون حانياً ، كان قاتلاً ، يشرع بذلك جريمة نكراء ، من أن الأشقاء ، ربما بغفلة منهم ، يستطيع الشيطان تحريك أهواءهم ، وتحدث الفاجعة
_______________
اليوم إستطاعت فتح عينيها ، بدون أن تشعر بذلك الخدر ، الذى كان يمنع عليها أن تشعر بما يجرى حولها ، فرفعت يدها بثقل ، لتتحس ماهو ذلك الشئ الجاثم على صدرها ، فأصطدمت يدها برأس صغير ، رمشت بعينيها عدة مرات ، وخفضت بصرها ، فرأت سجود دافنة رأسها بصدرها ، وتحتضن خصرها
فطافت عيناها بأركان الغرفة وهى تقول بصوت خافت متعب :
– أنا فين
وقع بصرها على صورته المعلقة على الجدار ، فعلمت أين تكون هى ؟ فربما هى بمنزله ، وتلك الصغيرة هى إبنته ، فهى مازالت متذكرة إياها
شعرت سجود بتململ حياء ، ففتحت عيناها ، ورأت حياء تنظر لها ، فصرخت بسعادة :
– هااااا مامى صحيت أنا هروح أنادى لبابى
تركت سجود الفراش ، وركضت خارج الغرفة ، فحاولت حياء أن تعتدل بجلستها ، فأضناها رفع جسدها ، كأن جميع أعضاءها توقفت فجأة
ولكن إستطاعت أن تقعد نصف جالسة ، فلم يعد بإمكانها أن تفعل أكثر من ذلك ، دقائق ووجدت راسل يلج الغرفة ويحمل سجود يتبعه صالحة وإمرأة أخرى إستطاعت التكهن بكونها والدته
تركت سجود ذراعى أبيها وعادت تجلس بجانبها ثانية وهى تقول:
– مامى وحشتينى أوى أنتى نمتى كتير
نظرت حياء لراسل بإنتظار تفسيره لما يحدث ، فوجدت صالحة تقترب منها تحتضنها وتقلبها بلهفة ودموعها تسيل على خديها
– ألف الحمد لله على السلامة يا حبيبتى
– الله يسلمك يا دادة هو أنا ايه اللى جابنى هنا
قالتها حياء بصوت خافت ، بإنتظار أن يخبرها أحد بما حدث
فكان راسل هو المجيب على سؤالها :
– أنا اللى جبتك هنا أنا والدادة بتاعتك علشان أنتى كان مغمى عليكى وكنتى تعبانة بسبب أثار الضرب والكدمات
تقدمت وفاء من الفراش وهى باسمة وقالت :
– ألف سلامة عليكى أنتى نورتى البيت
ردت حياء قائلة بخجل :
– شكرا لحضرتك وأسفة لو كنت سببتلكم إزعاج
أمتعضت سجود من إستئثار الجميع بالحديث مع حياء ، ولم يتركوا لها مجال لإظهار محبتها وإشتياقها وسعادتها بعودتها ، حسبما تعتقد أنها والدتها
فمدت سجود يدها وأدارت وجه حياء لها وهى تقول :
– مامى هو أنا مش وحشتك أنتى وحشتينى أوى جبتيلى هدية إيه معاكى
تكاد تجن حياء من التفكير بالسبب الذى جعل الصغيرة تناديها هكذا ؟ فمن لديه تفسير هو ، ولكنه يقف صامتاً ، كأنه غير راغب فى إخبارها بما يحدث
أشار راسل لوفاء وصالحة بالخروج ، وإستطاع إقناع سجود بالذهاب لغرفتها ، لجلب دميتها الجديدة ، لتجعل حياء تلهو بها معها
فبعد خروجهم ، تجولت يد حياء على الغطاء ، تضمن تغطية جسدها ، فحمدت الله أن شعيراتها تختبأ خلف وشاح معقود للخلف
جلس هو بمكان يستطيع رؤيتها بوضوح ، وأن يترك لها مساحة ومسافة أمنة بينهما ، فبدأ حديثه بهدوء :
– أنا عارف أنك مستغربة ليه سجود بنتى بتقولك يا مامى لأن هى فكراكى مامتها اللى رجعت من السفر زى ما كنت بقولها على طول ، وجايز غلطة منى أن أخليها تتعلق بأمل كداب ، بس مكنش عندى حل غير كده ، قولت جايز لما تكبر أقدر أقولها الحقيقة ، فلو أنتى أضايقتى منها أنا مش هخليها تدخل الأوضة تانى
– لاء متمنعهاش
خرجت صيحتها المحتجة بقوة ، لم تكن تعلم بأنها تملكها خاصة بحالتها تلك
فعودة الصغيرة هى ما منعته ، من معاودة الحديث معها ثانية ، فظل جالساً يراقب مداعباتها وملاطفتها للصغيرة ، قدر إستطاعتها
قضت وقتها بمنزله ، حتى تماثلت للشفاء ، فكم عشقت هى وجودها بالمنزل ، تقضى وقتها برفقة الصغيرة ووالدته ومربيتها صالحة ، فكم من مرة ظلت مسهدة تنتظر عودته للمنزل ، ولكنه كأنه فضل المكوث خارج المنزل ، أثناء إقامتها
فهى لم تراه سوى سويعات قليلة بالنهار ، عند عودته للإطمئنان عليها ، وليرى صغيرته ووالدته ، ويعود بعد ذلك لمشفاهاليوم جلست بحديقة المنزل ، والصغيرة جالسة على ساقيها ، تصر عليها بأن تطعمها بفمها ، فوضعت الملعقة بفمها وهى تقبل رأسها فقالت :
– ألف هنا وشفا يا سجود
– قوليلى يا سيجو يا مامى زى ما بابى بيقولى هو وولاء
قالتها الصغيرة ، وعادت فتح فمها لتطعمها
فداعبت حياء وجنتها وهى تقول:
– أنتى جميلة أوى يا سيجو ، بس على الرغم أن باباكى عينيه مش لون عينيكى بس حاسة كأن شيفاه فيكى
فنسيت حياء أنها تحدث الصغيرة ، فأسترسلت بحديثها معقبة بصوت هامس :
– أبوكى اللى ما قابلتش حد زيه ، يقدر يخلى اللى قدامه معندوش غير حل من إتنين يا يبقى نفسه يقتله ، يا يعشقه
– بتقولى إيه كده
قال راسل فجأة ، فأنتفضت حياء بعد سماع صوته ، فأرتعشت يدها وسقط الملعقة منها ، ظل صدرها يعلو ويهبط بخوف خشية أن يكون أستمع لما قالته ، ولكن لايبدو على وجهه أنه علم بقولها
فجلس على المقعد المقابل لها ، وهو يدعو صغيرته للمجئ إليه ، ولكنها رفضت مطلبه ، بأن تشبثت بعنق حياء ورفضت تركها ، فهو لا يلوم إبنته على تعلقها بحياء ، فمن بإمكانه مقاومة براءتها ، فلما يشعر هو بتزايد خفقات ذلك الراقد بشقه الأيسر ، فهو أرسله بسبات عميق منذ سنوات ، فلما عاد يخفق من جديد ؟
ربما طرح هذا السؤال على ذاته بوقت متأخر ، فهو لم يشعر بعمق المشاعر التى غرق بها ، إلا بعدما وصلت للحافة ، تغرق كل ماعداها من شعور بالكراهية أو المقت ، أو الرغبة بإكمال حياته مكتفياً بإبنته فقط
فتحاشى كل منهما النظر لوجه الآخر ، كأن النظرات ستفضخ خبايا النفوس ، وتلك المشاعر حديثة العهد بقلبين ، وجدا الراحة بعد عناء من المقاومة
وضعت أخر قطعة من ثيابها ، بتلك الحقيبة الصغيرة ، التى أتت بها صالحة ، فهى قضت هنا وقتاً ليس بالكثير ، ولكنها تشعر كأنها قضت عمراً بأكمله ، فكيف ستعود لرتابة حياتها ، بعدما أعتاد على أن تفيق على صوت الصغيرة بالصباح ، أو تراه جالساً على رأس المائدة ، يتناول إفطاره قبل رحيله ، ولا يغفل عن أن يهديها إبتسامة ، تجعل قلبها ينتفض بين أضلعها كالعصفور ، وتفقده أحوالها قبل خلودها للنوم ، ولكن يجب عليها الرحيل ، فكما أخبرتها صالحة بأنه لا يحق لها المكوث هنا أكثر من ذلك
رجفة سرت بقدميها ، بسبب كبتها دموعها ، جعلتها عاجزة عن الوقوف ، فجلست على الفراش بجوار الحقيبة ، ووضعت يدها على فمها ، حتى لا يستمع أحد لبكاءها ، فطافت عيناها بالغرفة ، وبالفراش أيضاً ، كأنها صارت تحفظ كل ركن بالغرفة ، فعلقت عيناها بصورته المعلقة على الجدار
فتركت مكانها ، ووقفت أمام الصورة ، تبسمت من بين دموعها وهى تقول :
– مين كان يصدق أن أنا أحبك كل الحب ده ، واللى كان يشوفنا يقول أن مش بعيد حد فينا يخلص على التانى
أفتر ثغرها عن إبتسامة وهى تتذكر كل المشادات الكلامية بينهما ، منذ أن قابلته أول مرة ، يأست من كتمان دموعها التى عادت وألحت عليها
فعادت للحقيبة تلملم ما تبقى لها من أغراض ، فكلما أسرعت بالخروج من هنا ، كان هذا أفضل لكليهما
سمعت طرقة خفيفة على باب الغرفة ، وصوته يناديها من الخارج ، فحملت الحقيبة ،وفتحت الباب بعدما عملت على محو دموعها حتى لا يراها
فتحت الباب وحاولت الإبتسام وهى تقول :
– كويس أنك جيت علشان أسلم عليك قبل ما أمشى
قطب جبينه من قولها ، فإلى أين هى ذاهبة ؟ فهو ليس له علم بما تنتوى فعله ، فنظر للحقيبة بيدها ، وتصاعدت نظرته لوجهها ثانية وهو يقول بغرابة :
– هتمشى تروحى فين يا حياء
خفضت وجهها أرضاً ، تحاول بلع تلك الغصة بحلقها فقالت :
– هرجع بيتى أنا خلاص دلوقتى بقيت كويسة وخفيت وأنا مش لاقية كلام اشكرك بيه على اللى عملته معايا ، وملوش لازمة أن أفضل هنا أكتر من كده ،فشكراً على كل حاجة
لا ينتظر منها كلمة شكر أو إمتنان ، فهو لم يفكر بأمر رحيلها مطلقاً ، و لا يريدها أن تذهب ، ويعود هو لما كان عليه سابقاً ، فلم يتفوه سوى بتلك الكلمات :
– حياء خليكى هنا
هزت رأسها نفياً وقالت:
– مش هقدر أقعد تانى أكتر من كده خلاص ، فأرجوك سيبنى أمشى ، عن إذنك
تقدمت خطوة للأمام ، لعله يتنحنى جانباً ويجعلها تخرج من الغرفة ، ولكنه ظل كالسد المنيع ، حاجباً عنها رؤية شئ خارج إطار الباب
همت بفتح فمها ثانية لتقول شيئاً ، ولكنها سمعته يقول :
– حياء تتجوزينى
_______________
يتبع…