رواية والتقينا الفصل الواحد والعشرون والاخير 21 | روايات ندي ممدوح

   نستكمل أحداث رواية والتقينا الفصل العشرون من روايات ندي ممدوح 

رواية والتقينا الفصل 21 | روايات ندي ممدوح

رواية والتقينا الفصل الاخير

21_وأخيرًا التقينا

ما بالُ فؤادي منذُ التقينا وهو يرفرف خجلًا؛ كأنما وجد محرابه الضائع.

جالسٌ وراء مكتبه، غائر العينين، فارغ القلب إلا من تلك الحبيبة التي هجرته ولا يعرف أراضيها، أشياءٌ كثيرة قد تغيرت في تلك الفترة من حياته، نال خلالها عملٌ بشهادته في شركة صديقه محمود، لم تكن شركة في البداية بالمعنى الحرفي، إلا أنها مع مرور الأيام باتت كذلك، لقد عمل وجد هو وصديقه يدًا بيد حتى وصلا لما هما عليه، تزوجت أخته سهير من سعيد، ومن كان يصدق أن سعيد وسهير سيتزوجا، لكنه قد حصل وهي الآن تحيا حياةً طيبة مع الأبله سعيد الذي كان يظن لإنه هو وأخته اخوات في الرضاعة فحرام أن يتزوجها، لكن ما أن بدت له الأشياء على حقيقتها حتى هرع لخطبتها.
لقد كان العوض لأخته وهذا يكفي.
تنبه من شروده، على دق خفيف على الباب، أدبر ذلك بدخول سكرتيرته، قائلة:
_أستاذ بلال السكرتيرة الجديدة جت، ادخلها؟
فأشار لها بلال بإيماءة من رأسة، قائلًا بصوت عملي:
_أيوه، دخليها.
رن هاتفه في تلك اللحظة بينما تشير السكرتيرة للفتاة بالدخول، فرد بلال على هاتفه وهو يدور بكرسيه موليًا ظهره للباب، مجيبًا على محمود الذي بعث له بتلك السكرتيرة الجديدة لتحل محل الأخرة الراحلة.
واستمع إلى خطوات أنثوية تدب أرضية مكتبه، فرفع يده مشيرًا لها بالجلوس دون أن يوليها اهتمامًا، ودار مرة أخرى بمقعده، سرعان ما حدق في الجالسة امامه بدهشة وعدم تصديق، وهو يهتف وقد اكتست وجهه مسحة حنان:
_إسراء.
وحدقت إسراء فيه بدورها في صدمة وقلبٍ خافق، وهمست بغير تصديق:
_بلال.
واسرعت عينا بلال تفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها في تمعن شديد، لا تزل كما هي لم تغيرها الأيام، ولم تزيدها إلا جمالًا في نظره، وذاك الفستان الأبيض الفضفاض ذو حزام يضم خصرها جعلها كما الملاك الذي هبط بغتةً من السماء، وعادت عيناه مجددًا إلى وجهها الجميل الساحر، ورأى نظرة مرتبكة مصدومة تطل من عينيها الحبيبتين، وتأمل ملامحها برِفق كأنه يحفرها مجددًا على جدار قلبه، وعلى أجفان العينين كلا ترَ غيرها، ملامحها الآن تشبعت بقوة لم تخف على عيناه التي تحفظانها، وصرامة تشبعت بها كل خلية من خلاياها، وبدت أقوى منه عندما استعادت ثباتها من وقع لقاءه المدمر لمشاعرها، وازدردت لعابها في ارهاق، وظهر التردد والكثير من الكلام بين شفتيها اللتين انفرجتا لوهلة، ثم أطبقتا في هدوء، ورفعت كفيها تعدل من خمارها، ثم توليه ظهرها وأسرعت خطواتها كأنها تعدو نحو الباب، وهب بلال من مقعده لاحقًا به، وأغلق الباب الذي فتحته وترك لكفه مهمة إحكامه مخافةً أن تهرب منه، وصوته ينبعث قائلًا بحنين، وبنظرة لا تزل تستقر على وجهها:
_المرة دي مش هسيبك تمشي.
واقترب خطوة تراجعتها هي بظهرها، وهو يقول بهمس:
_كنتِ فين كل ده؟
فرفرفت أهدابها لوهلة، وهي تجيبه في صرامة:
_أستاذ بلال لو سمحت مش من حقك تسألني أي سؤال، أنا كنت جاية للوظيفة ومعرفش إن أنت، فعشان كده همشي.
لكنه لم يسمع ترهاتها وما لفظته بصرامة لم يعهدها فيها، وقد اختفت نظرة الحب من عينيها، فكرر متسائلًا بدهشة:
_أستاذ بلال؟! دلوقتي أنا بقيت استاذ يا إسراء؟! من أمتى بتعامليني بالجفاء ده؟!
فتحاشت النظر له خشية أن يدرك وقع صوته على قلبها، وهي تجيب بقسوة:
_من زمان يا أستاذ بلال.
ثم أردفت وهي تحاول العبور نحو الباب:
_لو سمحت إوعى من طريقي.
لكنه لصق الباب بظهره، واستدعى كل أسلوبه العملي، وخشونته، وقال بصوتٍ أجش:
_لأ، ولو سمحتِ اتفضلي اقعدي، أنتِ جاية في مقابلة شغل.
وعندما لمح الأعتراض على ملامحها، وهمت بالنطق به، استطرد في غلظة:
_لو مشيتِ دلوقتي يبقى بتأكديلي إن لسه في لي مكان في قلبك وبتحبيني.
فصاحت به غاضبة:
_أنت بتقول إيه؟
فتخطاها ليجلس وراء مكتبه، وهو يقول:
_زي ما سمعتِ لو مشيتِ هعرف إنك خايفة من إن كل المشاعر اللي بينا تتجدد.
أطلت نظرة غاضة من عينيها، وهي تتجه لتجلس أمامه مغتصبة ضحكة مفتعلة بغيضة على ثغرها، وتقول:
_أستاذ بلال ياريت لو قبلت إني أكون سكرتيرتك.
وصرخت فجأة:
_يبقى مفيش اي حاجة بينا خارج حدود العمل.
فرفع بلال حاجبًا، ولم يعر هتافها اهتمامًا، ومد يده، قائلًا:
_ملفك.
ناولته ما طلب في عصبية، بينما راحت عيناه تتصنع الإنشغال في الاوراق التي أمامه وهو يختلس النظر إليها.

🌺رب نجنا من القوم الظالمين 🌺

سنة، دارت أيامها سريعة، كأنها سحابٌ أتَى دون سلام، ومر دون وداع، كان الفراق مؤلم لقلبها الذي كان يتلظى بنار الحنين والإشتياق، لكنها تجاوزت هذا الحب الذي طعن كبريائها، ودمر كرمتها، وعذب قلبها، في يدها قبع الهاتف مشعًا بصورة تتبدى فيها الكعبة وأمامها أبيها وهي تضمه، وقد ظللت بسمة كالنور في ليالي الدآدي ثغرها، مبددة كل ظلمة في أعماقها، لقد عكفت في تلك الهجرة القلبية على حفظ كتاب ربها، تعلمت العقيدة، والفقه، والتفسير، والحديث.
وعادت وهي متأججة بالإيمان الذي زادها صلابة، وقوة، وبسالة، وذاقت لذة حُرم منها الكثير من الناس بؤنس ربها عز وجل.
عندما عادت إلى وطنها نست تمامًا كل ما يتعلق ببلال، وبحبها الخامد له، انكبت على عملها الذي تعلمته مع مرور الأيام لتدر عليها وعلى أبيها لقمة حلال.
ويا لصدفة القدر، حين جمعها به دون إنذار، فعلمت بجانبًا منه لم تكن تعرفه وهو إنه محب لعمله يبذل قصاري جهده فيه دون أن يفكر في نفسه.
_ادخل العصير للأستاذ بلال يا آنسة إسراء.
هتف بها رجلٌ يحمل في يده صُنية تحوى كوبًا من العصير، وبعض الشطائر، وفاقت إسراء من شرودها على صوته، وتنبهت إنها قد طلبت له ذلك ليقينها إنه لم يذق الزاد منذُ إن أتى، فاستوت واقفة وهي تغادر مكتبها الصغير، قائلة:
_لا يا عم صبحي أنا هدخلهم ليه روح أنت.
وتناولت منه الصنية، وتوجهت إلى المكتب في توتر، ثم طرقت الباب ولم تلبث أن تذكرت إنه طلب منها الدخول دون إذن، ففتحت الباب ورفع بلال رأسه من فوق الأوراق التي أمامه متبسمًا، ونظر لما بيدها، قائلًا:
_بنت حلال أنا حقيقي هموت من الجوع كويس إنك طلبتِ حاجة.
فطافت شبه ابتسامة بسيطة على ثغرها، ووضعت الصنية أمامه، وهي تقول:
_طب كويس اشرب العصير وكمل شغل، مش هيضيع.
فالتفت إليها في حنو ورِفق، وقال:
_حاضر يا ماما.
وضحك في خفوت، مع تلك البسمة الملتوية التي ظهرت بزاوية فمها، وسمعها وهي تتمتم:
_ماما، أنا ماما؟!
ثم رمقته بنظرة غاضبة، وكادت أن تخرج، لولا إن نداها، قائلًا:
_إسراء، إيه رأيك نتغدا سوا انهاردة؟
فاتسعت عينيها على آخرهما وهي تصيح:
_أنت اتجنيت وإيه اللي هيخرجني معاك اصلًا، اما انت غريب.
وهم بالنهوض وإن يفسر طلبه، لكنها غادرت المكتب صافقة الباب في عنف وراءها، تشيعها ضحكة عالية ندت من بلال.
وقد راقت له شراستها؟!
وأحب قوتها.
منذُ إن استلمت العمل معه، وهي لا تسمح له بالتجاوز معها بالكلام إلا في حدود العمل عدا ذلك محال، لكنه سيصبر كي ينال ثقتها، سيحظى بها لا ريب ذات يومٍ.
اتكب بلال مرة أخرى في مراجعات الملفات التي امامه، وهو يرتشف من كوب العصير بعد ما تناول الشطائر، وبدا منهمكًا تمامًا ناسيًا نفسه لردحًا من الزمن، ثم تنهد في إرهاق وهو يسترخي في مقعده متراجعًا بظهره إلى الوراء، وقد أسبل جفناه لبرهة، وتذكرها..
كضوء ينبعث بغتة من غياهب الظلمات، فأتقد الحنين في قلبه ونهض واقفًا وراء الواجهة الزجاجية التي تفصله عن مكتبها الصغير، ووقف يتأملها وهي تقرأ إحدى الروايات في نهمٍ واندماج، وتنبهت كل حواسه وهو يرَ زميل لهما في العمل يقف أمام مكتبها، ونقر بسبابته على سطح المكتب ليجذب انتباهها فخرج من مكتبه في اللحظة التي كان الشاب، يقول مرتبكًا:
_آنسة إسراء ممكن لحظة من وقتك؟
رفعت إسراء بصرها إليه، واعتدلت في جلستها، وقالت ببسمة رقيقة:
_آه اتفضل طبعًا.
تنحنح الشاب، ودار ببصره في إنحاء المكان في محاولة للتشاغل، وقد استبد به الارتباك، فغمغمت إسراء في حذر:
_في حاجة اتفضل قول.
فغمغم في انفعال:
_كنت عاوز آخد معاد مع والد حضرتك، لإني.. لإني معجب بيكِ.
تبسمت إسراء في وجهه بانفعال، وغمغمت مرتبكة:
_آه.
واستجمعت شتات امرها، واسترسلت في هدوء:
_بصراحة مش عارفه أأقولك إيه، ولكن مقدرش اديك رقم بابا لإن....
قاطع بلال كلامها وهو يلج في غضب، هاتفًا:
_طلبك مرفوض يا أستاذ لإن ده مكان شغل واتفضل على شغلك ولو تكرر الموقف ده يبقى اتفضل من غير مطرود.
التفت له الشاب وحدجه شذرًا بنظرة غاضبة، ثم ألقى نظرة إلى إسراء التي وقفت شاحبة الوجه، ثم خرج وقد كسى وجهه الحياء من الموقف كله.
ما أن ابتعد الشاب عن مرمى البصر، دارت إسراء حول مكتبها، واقفة قبالة بلال بعينين تتقدان غضبًا، وقالت في ثورة:
_أنت مين أداك الحق ترفض مكاني طلب زي ده؟! هو أنت اللي هتتجوز ولا لأ، فـــوق انا مش إسراء بتاعت زمان، ولا إسراء الممثلة اللي هتسمحلك تشك في اخلاقها...
بتر استرسالها فيما تبغي، قول بلال الهاديء متسائلًا في استخفاف:
_تعرفي يا جُليبيب؟
فاتسعت عينيها ناظرةً له بنظرة مفعمة بالدهشة، قبل أن تضيق عينيها في حيرة..
لقد قرأت عن أبا بكر، عن عمر الفاروق، وعلي، وعثمان، وبعض الصحابة ولكن.. من جليبيب؟
فقالت بشغف وقد زال كل غضبها:
_مين جليبيب.
فتبسم بلال تلك البسمة التي تسلبها قلبها، وكأن قلبها قد انقبض وانبسط، وانتفض وارتجف، وهي ترهف السمع مع همسه العذب:
_جُثث تملأ المكان، لا تكد القدم تخطو خطوة إلا وجثة تعيق طريقها، جرحى في كل الأنحاء، رجالٌ منتشرة يفتشون بين الموتى ليدركوا من ذا قد غادرهم، انجلت المعركة بنصر المسلمين...
بنصر دين الله..
أن الله دائمًا ناصر دينه..
ناصر الحق..
وها هو ذا رسول الله يجول بين أصحابه، متسائلًا:
_أتفتقدون أحدًا.
فيجيبوا الصحابة:
_لا يا رسول الله لا نفتقد أحدًا.
فيطوف بصر رسول الله بين الوجوه، ويقول:
_ولكني أفتقد جليبيًا.
جليبيب ذاك الشاب الدميم، الذي لم يفتقده أحد لم يذكره إلا رسول الله فيا لهف قلبه، ولهف قلبي لذاك الفقد، طوبي لجليبيب والله هنيئًا له.
عسانا نأتي يوم القيامة، فيتفقدنا رسول الله، يسألُ أين فلان؟ لقد كانت تبلغني صلاته.
أين فلان فقد كان يحبني فـ الله ولم يرآني؟
تظنُ أن العالم ينساك؟! وقد كان جليبيب يعتقد ذلك وهو الذي دون أهل او صديق يسألُ عنه، فإذا بالله سبحانه وتعالى يجعل نبي الرحمة..
السراج المنير..
النبي المرسل..
الصادق الأمين..
محمد بن عبد الله يسألُ عنه، يفتقده إذ غاب
ينتشروا الصحابة باحثين عن الحبيب جليبيب، فيجدوا قد قَتل سبعة من المشركين وقُتل، أُخبر رسول الله بذلك وتوجه النبي وبعينين تمتلأن حزنًا لمرآه جليبيب صريعًا، يقول:
_قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه.
من يدرِ ربما يظن المرء نفسه منسيًا وله رب لا ينساه أبدًا، ربما يأتي يوم القيامة بسيئاتٍ كما الجبال تدخله النار، فيشفع له رسول الله قائلًا هذا مني وأنا منه.
يا حظ جليبيب وهو من الرسول والرسول منه.
يا فرحة قلب جليبيب وحتى ولو لم يسمعها.
هذا مني وأنا منه.
كأنه يخبرهم إن له أهل هو أهله..
فلا يقولون ليس له أحد..
(هذا مني وأنا منه)
يا الله تُرى كم كانت ستبلغ فرحة جليبيب لو كان حيًا وسمعها، كيف سيغدو على بيته، وتغمض عيناه، كيف سيسكن قلبه عن الخفقان بعد الآن.
جليبيب منا ونحن منه..
نحبه حتى ولو لم نراه.
أنهىٰ بلال روايته، وتطلع فيها بصدقٍ بعينين تمتلعان بالحنان والوَجد، وهمس برفق:
_وأنتِ مني وأنا منك.
جف الدمع من عيناي إسراء مع قوله الذي اخترق قلبها فذادت نبضاته، وزاغ بصرها عن عيناه في حياء، وعلاها الأرتباك، فجذبت حقيبتها ولملمت أشياءها سريعًا واسرعت تغادر المكتب، ولم يحاول هو أن يمنعها، كان وقت الدوام قد انتهى، وهو قد عاهد نفسه على الصبر والمثابرة، سيسبغ عليها من بعيد بآمان قلبه، سيكون تميمة تحفظها من غدر الأيام وأن أبَت.
مذ رآها وأصبحت جواره، تهاجمه، وتثير غضبه، وتسحق عاطفته، وهو كمن بات يعشق من جديد، تخلب لُبه إن حضرت، وتسلب قلبه أن غابت..
ويا ويح قلبه في غيابها.
غادر المكتب فرآها تحاول إيقاف سيارة أجرة، فوقف بجانبها، قائلًا:
_تعالي أوصلك في طريقي.
فرددت دون أن تتظر إليه:
_لأ، شكرًا.
لكنه ألح، قائلًا في اهتمام:
_قُلت تعالي، واعتريني السواق يا ستي، مش أحسن من الغريب.
لكنه صدمته عندما التفتت إليه، قائلة بقسوة:
_ما أنت برضو غريب.
جفوة سحيقة تلك التي سببتها عبارتها، فأشار إلى سيارة أجرة توقفت أمامهما، وفتح بابها لها، فأسرعت تلج بداخلها هربًا من جرحٍ سببته بكلماتها، أرادت مداوته لكن أبى عقلها ذلك، ففرت لتصبح في منأى عن عيناه المعاتبة.
وعتاب الحبيب على حق.
أسندت رأسها إلى نافذة السيارة، وقد انسابت دمعة على وجنتيها..
لماذا عاد القدر يجمعهما؟
لمَ كلما حاولت أن تنساه عاد يخترق ويستقر في قلبها بقوة؟

🌺اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد 🌺

انكبت إسراء في مكتب بلال على تدوين ما يُمليه عليها باهتمام، فجأة انفتح الباب وتناهى لها صوت أميرة، وهي تقول في حماس:
_اخويا حبيبي عامل ايه...
التفتت إسراء نحوها، بينما ظلت أميرة تحدق فيها في صدمة وهي متسعت العينين، فاغرة فاه، حتى غمغمت إسراء ببسمة:
_أميرة، عاملة إيه؟
فرفعت أميرة حاجبًا في دهشة، وهتفت في ذهول:
_إسراء أنتِ بتعملي إيه هنا؟!
هتف بلال في حنق:
_إسراء السكرتيرة بتاعتي يا أميرة.
صاحت أميرة في استنكار:
_سكرتيرة!!
بينما نهضت إسراء مستأذنة وانصرفت، لم تلبث أميرة أن لحقت بها، وجلست امام مكتبها وهي تقول في صدق:
_وحشتيني يا إسراء، اختفيتي مرة واحدة من حياتنا ليه؟!
تغاضت إسراء عن إجابت سؤالها، وهي تقول بنبرة صادقة:
_وأنتِ كمان وحشتيني جدًا يا أميرة.
ثم أردفت تقول، عندما لاحت منها نظرة إلى أصابع أميرة:
_أنتِ اتجوزتي؟
اكتست ملامح أميرة بالاستحياء وهي تؤمأ برأسها إيجابًا، وقالت:
_أيوه أنتِ أكيد تعرفيه؛ محمود صاحب الشركة وصديق بلال.
أومأت إسراء برأسها دلالة على معرفتها به، فأستطردت أميرة في حماس:
_حاجات كتيرة اوي تغيرت الفترة دي، انا اتكتب كتابي وسهير اتجوزت سعيد..
قاطعتها إسراء هاتفة في دهشة:
_سهير وسعيد، طب عماد خلاص كده؟
شوحت أميرة بكفها في امتعاض، وهي تغمغم بازدراء:
_يا ستي عماد ربنا يرحمه دلوقتي توفى.
فصاحت إسراء ذاهلة:
_عماد مات؟!
هزت أميرة كتفيها، وهي تغمغم في أسف:
_كان سارق فلوس من عمك مدحت غالبًا والراجل طالبه بيها، فاختفى فجأة لحد ما لقيوه في الشقة متوفى ليه فترة من غير ما حد يعرف، والريحة هي اللي دلت الناس عليه.
غمغمت إسراء في حزن، ونظرة دامعة:
_إن لله وإن إليه راجعون، لا إله إلا الله.
أسبلت إسراء جفنيها وقد انتفضت لذكر الموت، حتى اخترق مسامعها صوت رجولي يهتف:
_أنتِ بتعملي إيه هنا يا أميرة.
فالتفتت اميرة إلى محمود، وقالت في هدوء:
_أنا وإسراء صُحاب فقُلت آجي أشوفها
فأومأ برأسه متفهمًا، وقال:
_طيب أنا هدخل لبلال.

(بص أنت صاحب عمري الوحيد فعايز يوم ما اتجوز آخد اجازة سنة كده ولا حاجة وأنت تقوم بكل حاجة في الشركة.)
هتف بها محمود وهو يجلس في استرخاء، بعدما أخبر بلال على بعض الأشياء الهامة التي ستتم في زفافه الذي لم يبقَّ عليه إلا بضع أيام قلائل، فنهض بلال من وراء مكتبه في هدوء، وهو يهتف:
_عيوني يا استاذ محمود، تتمنى حاجة تاني أحققهالك.
هز محمود رأسه مستريبًا، بينما سحبه بلال ليقف، ودفعه جهة الباب، وهو يصرخ:
_أطلع بره وانسى بلال خالص وبطل أحلام اليقظة بتاعتك دي قال سنة قال ليه قرد بيتجوز.
أخرجه وصفق الباب في وجهه وهم بالتوجه إلى مكتبه عندما فُتح الباب وأطل محمود برأسه منه وهو يغمغم ضاحكًا:
_مش هقل عن سنة يا بلال هااا، سمعت.
فصرخ بلال وهو يلتفت إليه غاضبًا:
_أطلع بره.
أغلق الباب فورًا مع صيحته وجلس وراء مكتبه وهو يتنهد في عمق، لكن الباب اندفع مع صوت محمود:
_برضو سنة مش عايز أأقل من كده.
فجذب بلال طفاية السجائر التي امامه وقذف به عليه فارتطمت في الباب الذي أُغلق مجددًا، أسلم رأسه لظهر المقعد وهو يسبل أهدابه في ارهاق فسمع صوت الباب يفتح، فصاح:
_يا بني أنت مش بتفهم؟!
لكنه بدلًا من أن يسمع صوت محمود، أنساب إلى أُذنيه صوتًا أنثويًا عذبًا يهمس في توتر:
_محمود خد أميرة ومشي، أنت تقصده.
فأعتدل فورًا وهز رأسه ويقول:
_آه آه أنا على محمود.
فغمغمت إسراء:
_تمام، انا مش ورايا حاجة تاني انهاردة فممكن أمشي عشان بابا عنده جلسة ولا حضرتك هتحتاجني في حاجة؟!
فزفر بلال بضيق، وقال:
_لا روحي أنتِ.

🌺اللهم نجنا من القوم الظالمين 🌺

في حفل زفاف أميرة الذي أُقيم في قاعة فخمة، حضرت إسراء برفقة أبيها وندى بعد إلحاح أميرة بحضورههم، كانت تصفق بكفيها في جذل، عندما دخلت أميرة القاعة مع محمود، وتسمرا كفيها بوجوم تام، وهي ترَ سهير تقبل عليها برفقة أمها الباسمة، فغابت البسمة عن وجهها وحل الوجوم، لكنها ضمت سهير في حب حقيقي، التي بعد السلام همست لها بفرحة:
_هتبقي خالتو قريب.
فعاد إلى وجهها السعادة، وهي تهتف في حماس:
_بجد أنتِ حامل؟!
أومأت سهير وباركت إسراء لها بعناقٍ آخر، بينما انبعث صوت عايدة في عتاب:
_مش هتسلمى عليَّ يا إسراء؟
فاذدردت لعابها في توتر، ولم تُخجِل المرأة التي مدت كفها لها مصافحة، وما كادتا أن تتصافحا حتى سحبتها عايدة في حضنها في حنان أمومي، وأشبعت وجهها بالقبلات وهي تقول:
_وحشتيني.
فالتمعت الدموع في عينيها وهي تتذكر قسوة كلماتها في آخر لقاء، بينما همست عايدة:
_عارفة إنك زعلانة مني! بس في بنت تزعل من أمها بسبب كلمات اتقالت لحظة غضب؟!
وطلبت منها الجلوس بجانبها فامتثلت في هدوء، بينما ألتقطتت عايدة كفها في راحتيها وهي تقول:
_مكنتش هسامح نفسي لو كنت موت قبل ما أشوفك.
فهتفت إسراء في لهفة:
_بعد الشر عنك.
تبسمت عايدة وهي تقول في خزى:
_أنا كدبت عليكِ في موضوع لازم أوضحه.
وأستشعرت إسراء ما هو الموضوع، وشحب وجهها فجأة مخافة من القادم، كان بداخلها دائمًا تساؤل أتزوج بلال؟
ومن الخوف من الإجابة خشت السؤال فوقر في نفسها دون أن يطوف قط على شفتيها.
قالت عايدة في حياء:
_لما ندى جت ليّ أنا كدبت عليها بموضوع خطبة بلال، ابني مرتبطش بحد غيرك من يوم ما وعي على الدنيا، أنا مش هقولك عملت كده ليه، بس هطلب منك تدي ابني فرصة تانية.
سحبت إسراء كفها في هدوء من بين راحتيها، ورأت ندى تغمز لها في مشاكسة، بينما فتشت عينيها بين الوجوه بحثًا عن الحبيب الذي لم يظهر، وفجأة رأته انبثق هكذا بغتة من العدم وهو مسلط البصر عليها، وبدا شاردًا..
وقد كان كذلك بالفعل.
بيتٌ بسيط يضمه هو وهي وابناءهما، يعود من عمله فيجدها في انتظاره، يتناولوا طعامهم، ثم يصلي بهن جماعة، وبعد تأدية الصلاة يُسمع لأبنته وزوجته ما أحفظهن من القرآن، تتعالى ضحاتهم تارة، ويتسامرون تارة آخرى، وربما يركضون في إنحاء الشقة في لحظة لهو، يسرقوها من بين ثنايا الحياة.
فاق بلال من شرود، ببسمة جميلة ظللت ثغره، تلاشت وهو يرَ محمد الشهاوي يقبل نحوه وهو يستند على عكاز، ودار بينهما حوارًا طفيفًا أعتذر فيه الشهاوي على كل ما صدر منه.
والعجيب إنه سامح في بساطة، ورفع عينيها عن مكان جلوسها لكنه لم يجدها، وأبصرها تخرج من القاعة وهي تتحدث في الهاتف، فلحق بها في قلق وقد تراءى له خوفٍ هائل على سيمات وجهها استقر.
وقف وراءها وسمعها وهي تقول:
_طيب أنا هآجي أشوفه دلوقتي، لا لا هآجي حالًا مسافة السكة مش هتأخر.
وعندما استدارت وجدت بلال في وجهها، فتساءل في حذر:
_مين اللي رايحة تشوفيه.
ورفع سبابته في وجهها مضيفًا:
_بسأل عادي مش شك.
فأسبلت جفنيها بتنهيدة عميقة، وهي تقول:
_من فترة بيكلموني عشان هشام البسيوني طالب يشوفني، بس حاليًا بيقولولي حالته خطرة ولازم أروح.
فسألها:
_هتروحي؟
_أيوه.
فقال بلال في إصرار:
_تمام هآجي معاكِ، مش هسيبك تروحي لوحدك.
فهزت رأسها، قائلة بعنف:
_لأ، متجيش هروح لوحدي المرة دي لازم اواجهه لوحدي، أنا مش خايفة ومش محتجالك.
وأسرعت تغادر المكان، وتوقف سيارة أجرة، انطلقت بها إلى المستشفى، وعندما وصلت، فتح باب الحجرة لها عسكري من العساكر التي كانت تقف أمام الباب، وعندما أغلق الباب وراءها أحست برجفة تسري في أوصالها، وهشام راقد في الفراش الطبي، بجسدٍ هزيل، ووجهٍ فقد كل نضارته، وقد شحب ونحف بشدة، إبر تغوص في أوردته، وقناع اكسجين مستقر فوق أنفه وفمه، وجهاز قياس القلب مثبت في أصبعه، وهالها رؤيته بتلك الحالة، وعادت رجفة عميقة ترجف بدنها وهو يشير إليها بالأقترب، فدنت منه بحذر، ووقفت فوق رأسه بقلبٍ خافق، وانبعث صوته الضعيف المتهالك، كأنما يأتي من بئرٍ سحيق، وهو يقول بصوت متلعثم، متهدج:
_كنت خايف متجيش، الحمد لله إنك جيتي.
فتمتمت بنبرة مرتجفة:
_عاوزني في إيه، طالب تشوفني ليه يا هشام؟
فأنحدرت دموع غزيرة على وجنتيه راحت تتسابق في النزول، وهو يسعل، قائلًا بضعف:
_أنا عارف إني أذيتك كتير، ودمرتك، وعملت حاجات كتير وحشة في حقك، عايز أأقولك إن بنتي دفعت حق كل غلطة غلطها في حقك..
عقدت إسراء حاجبيها، وهي تسأله في هدوء:
_مها؟! مالها حصل لها إيه.
فانتحب هشام وذاد بكاؤه يبكي الصمُّ الصلاب، وفطر قلبها، وشهقت في وجل عندما أتبع يقول من بين شهقاته:
_ماتت، بنتي ماتت يا إسراء، كل واحد كلت عليه حقه، خد حقه من بنتي، اغتصبوها وموتها..
تراجعت إسراء بظهرها ودموعها تسيل في صمت، بينما علا نحيب هشام، وهو يستطرد:
_وأنا السرطان بياكل في جسمي أكل وصل لمرحلة متأخرة.
وصمت فجأة بتأوه شديد، وقد مسك قلبه، وأرتج عليه لوهلة، وقد جحظت عيناه، وعلا صفير إحدى الأجهزة، وخفت صوته، وهو يطلب منها:
_سـ... سامحيني.
وشهق، شهقت الموت والأحتضار وتهدل جسده ساكنًا فوق الفراش، وقد قابلت الروح بارئها، وفاضت من جسده، وخبى بريق الحياة من عينيه، وصرخت هي تستغيث بالأطباء الذين أكدوا وفاته، فغادرت المستشفى راكضة، واستقلت اول سيارة أجرة وقعت عيناها عليها، وغادرتها عند كورنيش النيل، وأخذت تسير بمحازاة السور وهي تضم نفسها بذراعيها، والدموع تطفق من عينيها أبابيل.
ما أهون الحياة!
وما أبخسها؟
فيما يمكن المرء أن يضيع حياته!!
ألا يعلم أن الموت زائر لا محالة كل إنسان؟
لا أحد سيفر منه ولا يفلت؟!
إنه الحقيقة التي يجب أن يعمل لملاقاتها كل إنسان؟!
وتناهى لها صوتٍ سحيق كانت بحاجة إليه، وقد كان قلبها يناديه فلبى النداء، ولنداء القلوب صدى لا يدرِ به إلا العشاق، وكان بلال يناديها وهو يركض نحوها:
_إسراء.. إسراء.
فالتفتت إليه وقد حلت عقدة ساعديها، وودت لو ترتمي في حضنه، وترآت له وقد ظللت سحابة سوداء من الحزن وجهها الجميل، فهمُه أمرها.
وخطاب ساحر ذاك الذي دار بين الأعين المتعانقة، نظر بلال في حنو إلى الدموع المتلألأ في مقلتيها، وهمس بصوتٍ خفيض:
_بتعيطي ليه..
هم أن يتساءل عما حدث، وكيف دار الحوار بينها وبين هشام، لكنها شهقت، قائلة بصوتٍ شق قلبه:
_هشام مات يا بلال.
فسألها برفق:
_وأنتِ بتعيطي ليه؟
فأسبلت أجفانها، وهي تقول بصوتٍ خفيض:
_عشان خايفة من الموت.
فتبسَّم وقد تفعمت في عينيه كل حنان الدنيا، وهو يهمس وقد أثَّر في نفسه منظرها تأثيرًا شديدًا:
_وقبل ما الموت يخطف حد فينا، إيه رأيك نسرق الدنيا قبل ما تسرقنا، وتوافقي نكمل الباقي من عمرنا سوا، وتديني فرصة تانية، وأوعدك إنك مش هتندمي.
وصمت وعيناه تراقبان ملامحها، وهو يسألها في حذر:
_ها توافقي.
وصمتت لبرهة، حسبها حينٌ من الدهر، حتى تعلقت عينيها بعيناه وهزت رأسها بالموافقة، ثم تبسَّمت بسمة رائعة كضوء الفجر، أو كالبدر في ليلة تمامه، أشرقت سماء قلبه فتبسَّم ثغره تلقائيًا.
وبقيا يتأملان بعضهما متبسمان، بعينين تلمعان بالفرح، وكان البحر يموج مضربًا، وتتقلب مائه كأنها تخلد تلك اللحظة، والقمر من فوقهما يطلُ عليهما بقرصٍ مكتمل كالسراج المنير.
لقد جرى كل منهما من الآخر مجرى الدم، والعيون تلقي وعدًا بالبقاء أبد الدهر.
وانبعث صوت بلال رخيمًا، عذبًا آتيًا من سويداءه التي حلت فيه هي محل لم يحل به أحدًا قبل:
_أنتِ مني وأنا منك يا كتكوتة.
فضحكت فخفوت ضحكة رقيقة خلبت لُبه، وسلبت قلبه الذي كان متهأهبًا في تأملها، وانساب صوتها العذب الشجي هامسًا بعينين تتلألأن كعيون النجوم:
_وأنتَ مني وأنا منك.
وبينما كانا هائمين في سُبل الحب التقيا أخيرًا، وجمعهما سبيلٌ محال إن يكون فيه الفراق حاضرًا.
وكانت مهجته وكان الوتين.

تمت بحمد الله

لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام 



👈 المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة:  روايات كاملة  


انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل العشرون إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.
admin
admin
تعليقات