نستكمل أحداث رواية والتقينا الفصل التاسع عشر من روايات ندي ممدوح .
رواية والتقينا الفصل 19
19_فراق
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنت عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
اللهم أشف مرضانا ومرضى المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الحمد لله إنك بخير، قلبي كان هيوقف يا بت من الخوف عليكِ)
رفرفت سُهير بأهدابها وهي تحرك رأسها بتأوه شديد من ألمٍ حاد في رأسها، وفتحت أجفانها في وهنٍ حتى أعتادت الضوء، وتسلل صوت أميرة بهذه العبارة مخترقًا أذنيها، فدارت بصرها شَطرها، ورددت في ضعف:
_أميرة أنتِ هنا؟! أنا فين؟! إيه اللي حصل!
وتزاحمت في مخيلتها صور عديدة متلاحقة.
صورة كتب كتاب أخيها بلال، وما تلى ذلك من أنباءٍ هدمت ما تبقى من ثباتها، شِجارها مع عِماد ودفعه لها بقسوة نحو الحائط، لقد كان آخر شيء سمعته صوت ارتطامها بالأرض وخطوات آتية عدوًا وأخرى تفرَّ، ثم أحست بيدين تحملانها برفق، وصوتٌ رجولي يقول:
_سهير متخافيش هتبقي بخير.
لقد كان صوت سعيد تدرك ذلك، لإنها عندئذ تركت ذاتها لدوامة من الظلام المخيف تحيق بها وأغمضت عينيها في أمان.
أجابتها أميرة بشفقة وهي تمسح على رأسها بحنان:
_أنتِ هنا في المستشفى يا سُهير، جبتك أنا وسعيد.
وأستدركت تقول بتوضيح:
_كنتِ نسيتي شنطتك معايا وجيت ارجعهالك، فلقينا عِماد خارج يجري من الشقة، ولما كلمناه مردش ولا حتى التفت لينا، ودخلنا لقيناكِ مُغمي عليكِ.
وسَكَتت وأرتج عليها، فلم تدرِ ماذا تقول! وكيف تخبرها بفقدان طفلها؟!
لكنها حسمت أمرها بعد تردد، لتخبرها بالطامة الكبرى وهي تزدرد لعابها في قلق:
_سُهير أنتِ أجهضتي...
صمتت عن الاسترسال مع تلك النظرة الملتاعة من عينين سهير، فلاذت بالصمت، وحدقت فيها بتحفز لأي نوبة أنفجار، لكن راعها أن أغمضت سهير عينيها، وسمات الراحة أرتسمت على ملامحها ولسانها يهمس:
_الحمد لله، اللهم لك الحمد.
فُتح الباب في عنف، وبرز بلال وهو يهتف:
_مال سهير يا أميرة.
همَّت أميرة أن تجيبه، لكن سبقتها سهير التي أعتدلت وهي تنفجر باكية، مرددة باسمه، فاندفع إليها وجلس بجانبها آخذًا إياها في حضنه، بينما دلفت إسراء إلى الحجرة وقد أطل من عينيها حزنٍ هائل لحال سهير، تمتم بلال وهو لا يزل يضم سهير إليه ويربت على رأسها في حنو:
_ارجعي أنتِ يا أميرة مع سعيد عشان ماما وعمرو في البيت لوحدهم، ووصلوا إسراء في طريقكم.
رفضت أميرة قائلة:
_لا طبعًا أنا مش هسيبها.
فغمغم بلال بنبرة صارمة:
_اعملي اللي بقولك عليه بدون كلام لو سمحتي.
زمَّت أميرة حاجبيها، وجهمت المحيا وخرجت غاضبة دون أن تنبس ببنت شفة، بينما دنت منه إسراء ووضعت كفها على كتفه، وهي تتمتم في خفوت:
_هجيلكم الصبح بدري، لو احتجتم حاجة كلموني.
اومأ لها بلال برأسه إيجابًا، وقال:
_تمام، تصبحي على خير.
استمع إلى إغلاق الباب، فأبعد سهير قليلًا، وتساءل في نبرة مهددة:
_أنتِ لسه باقية عليه؟!
هزت سهير بضعف رأسها، وتمتمت:
_لأ، طلقني منه يا بلال..
استقام بلال واقفًا، وهو يقول:
_هطلقك.
رقدت سهير على ظهرها وهي تتنفس الصُعداء، وتنبهت لطرقٌ على الباب، تلاه دخول الممرضة، وهي تقول في هدوء:
_موعد الحقنة.
تنح بلال جانبًا وراقبها وهي تغرس إبرة المحقن في وعاء (الجلوكوز)، ودفعت المادة التي كان يحويها المحقن، ثم أستدارت مغادرة، فأستدار بلال ناظرًا عبر النافذة المفتوح إحدى ضلفتيها متأملًا صفحة السماء في شرود، وقد استقرت كلاتا يديه في جيبيّ بنطاله، تنبه من سرحانه على صوت سهير شديد الخفوت، وهي تقول:
_بلال، أنت زعلان مني؟!
فأجابها، وهو لا يزل على شروده في صفحة السماء:
_مفيش حد بيزعل من نفسه يا سهير، اطمني عمر قلبي ما يزعل منك.
وانتزع يديه وهو يستدير إليها متبسمًا، وقال بمشاكسة:
_بس دا ميمنعش إنك محتاجة ضربة على دماغك تفوقك، وتعرفك إن كلمة أخوكِ وخوفه عليكِ دايمًا على حق، وإن الأخ مهما تغلط أخته هيفضل عُكازها، وسندها، والأمان، الأخ سكن يا سهير.
ظلل ثغر سهير بسمة عذبة، وأغمضت عينيها، مستسلمة للنوم الذي داعب جفنيها، واستحوذ على كل خلية من خلايها.
في اليوم التالي، خرج بلال لدفع مصاريف المستشفى، وبينما هو يعبُر الرواق الذي به غرفة أخته، توقف على صوتٍ جاء من وراءه يصيحُ في لهفة:
_بلال.
فـ استدار وما كاد يرى المنادي حتى تهللت أسايره، وهتف بعينين يطلُ منهما الفرح:
_محمود!
وتعانقا في أشتياقٌ واضح، وبلال يسأل في اهتمام:
_إيه يا بني رجعت أمتى؟! والله وليك وحشة يا جدع كده الغربة تبعدك عنا كل ده.
فغمغم محمود باسم الثغر:
_الحياة يا صاحبي، بس أنا خلاص صفيت كل حساباتي وهستقر هنا..
قاطعه بلال متسائلًا بقلق:
_أنت بتعمل إيه في المستشفى؟
زفر محمود بضيق، وقال عابسًا:
_الحج تعبان شوية، وأنت هنا ليه؟!
أجابه بلال:
_وأنا سهير تعبانة شوية، طب يلا هروح معاك اطمن عليه.
سار محمود بجانبه، وهو يسأله في اهتمام شديد:
_بلال، أنت بتشتغل بشهادتك؟
ضحك بلال بخفة، وهو يقول:
_الشهادات دي للزينة بس غالبًا يا بني، لأ.
فتبسم محمود ورد عليه وقد ارتسمت ملامح الارتياح على وجهه:
_لا للزينة ولا حاجة دلوقتي تشتغل لحد ما تزهق، لينا قاعدة برا المستشفى طبعًا.
كان محمود من ذاك النوع من الشباب أولئك الذين لا يهدأ لهم بال حتى ينالوا مبتغاهم، وقد كافح ليسافر ويسعى ويشقي وها هو ذا يعود باحلامٍ ستكون نُصب العينين، مكللة بالنجاح.
(تأخرت كده ليه؟)
سألت سهير بلال ما أن عاد إلى حجرتها، فرد عليها وصوته يقطر فرحًا:
_قابلت محمود، والده محجوز هنا.
ضيقت سهير عينيه، وهي تغمغم في حيرة:
_محمود! هو مش مسافر؟!
تمتم بلال في هدوء وهو يساعدها في جمع حاجياتها:
_ورجع، وهيستقر هنا خلاص مش هيسافر تاني، كفاية الغربة وحشة وهو تعب جامد لحد ما وصل لللي وصله.
ثم صحبها إلى خارج المستشفى، حيث استقبلتها والدتها بلهفة، وبوابل من القبلات، ونهرين من الدمع، وقد ذهبت نفسها عليها حسراتٍ.
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
(قطع السلطة حلو يا عمرو، يـــــــــــا بني قطعها قطع صغيرة)
صرخ بهذه العبارة بلال، وهو يقلب الإناء الذي يحوى الطعام على الشعلة المشتعلة أمامه، فألقى عمرو من يده السكين وهو يهتف متذمرًا:
_بتزعق ليه يا عم أنت، ما أنا بقطع حلو اهوه؟!
ومط شفتيه في ضيقٍ بيَّن، فدفعه بلال برفق، وهو يقول في صرامة:
_طب كمل يا خويا، يلا.
تابع عمرو تقطيع الخضروات، وتنحنح في توتر، قبل أن يقول في صوتٍ خفيض:
_بلال، هي سهير خلاص مش هترجع تاني لعماد وهتفضل معانا هنا؟!
سأله بلال مراوغًا:
_أنت عايزها ترجع ولا إيه؟
جهم عمرو المحيا، وظهر الإشمئزاز على وجهه، وهو يهتف مستنكرًا:
_ترجع؟! لا طبعًا انا اصلًا مش بحب عماد ده.
التفت بلال برأسه غامزًا، وهو يقول:
_ومش هترجع خلاص كلها بكرة وهتطلق منه.
ثم اردف يقول وهو يشير إليه قائلًا:
_يلا قوم رص الأطباق وقعد ماما.
اومأ عمرو برأسه إيجابًا، وهو يهب واقفًا، وهرول تجاه أمة وأمسك كفها مقبلًا إياه بكل وِد، وهو يقول بصوتٍ رخيم:
_يلا تعالي يا ماما عشان تاكلي جهزنا الفطار.
كفت أمه عن ترديد الصلاة على النبي ﷺ، وهي تقبل جبهته وتقف وهي تستند عليه، بينما هو يسندها بكل رِفق حتى أجلسها في حنان، وقرب منها الأطباق، وناولها الخبز في يدها، قائلًا:
_كلي يا ماما لحد ما أجيب ميه.
فـ أجابه بلال وهو يجلس بجانبها:
_روح أنت وملكش دعوة.
قالها بمرحٍ وبدأ في إطعام والدته، وقد كان لا يضع لقمة في فمه قبل أن تشبع هي، لا يكل ولا يمل من إطعامها بيديه، كانت راحتها هي كل راحته وسعادته، سألته أمه في اهتمام وهي تبتلع ما بفمها:
_البنات اتاخروا كده ليه يا بني!
أجابها بلال وهو يدفع في فمها لقمة أخرى بِرِفق:
_متقلقيش عليهم يا ماما دلوقتي يجوا.
ومضى بمخيلته يوم بحثه عن عماد حتى وجده يجلس في إحدى المقاهي يحتسي كوبًا من الشاي بكل برود أعصاب كأنه لم يتسبب في إجهاض زوجته ونقلها إلى المستشفى، بل وينفث دخان تبغٍ قابعٍ بين إصبعيه في هدوءٍ عجيب، فتراقصت شياطين الغضب امام عينيه وهو ينقض عليه لكمًا وركلًا بثورةٍ من الغضب الذي لم يعهده فيه، وقد توقع إن يأبَى عماد تطليق اخته لكن راعه إستسلامه وموافقته السريعة، وقد تم ووافقا على الطلاق وحددا يومًا له.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
مضت الأيام على سهير معتمة، لقد خرجت من جحيم لتواجه جحيمٌ آخر (جحيم المطلقات) حيثُ لم تدُعها ألسنة الناس، ولم يكفون عن إلقاء الإشاعات عنها، لكنها هذه المرة لم تهتم، لم تلقي بالًا لأقولهم، وذرتهم يتقوَّلون كيفما شاؤوا، ما هي إلا أيامٌ وتمضي، اليوم ها هي هنا في قاموس الأحياء وغدًا مهما طال ستكون من جُملة الأموات.
لذا، فلا الدنيا ولا الناس سيشغلناها بعد الآن!
كانت تسير في النادي برفقة زوجة أخيها إسراء التي كانت لها الفضل الكبير في نبذ حالة الحزن والأكتئاب التي سيطرت عليها عنها، ربما قد تسللت بين شغاف قلبها هموم لا مناص منها.
(أنتِ هتفضلي انهاردة اليوم كله سرحانة كده يا سهير!)
قالتها إسراء بإشفاق وهي تبصر حالة سهير، فتتجلى في عينين سهير نظرة حزينة، وبصوت يقطر همًا، قالت بنبرة شبه شاردة:
_غالبًا اتكتب عليَّ الحزن يا إسراء!
وتنهدت وهي تسترسل في حديثٍ يفطر القلب:
_اتجوزت عشان اهرب من كلمة عانس، فلحقتني كلمة المطلقة! المطلقة اللي انظار الاتهام عليها في كل خطوة تخطيها برا بيتها! الناس بتاخذ من المظاهر وتتكلم، ميهمهمش جوانا إيه، ولا بواطن البيوت فيها إيه؟!
قالت إسراء، وهي تلف ساعدها على كتفها:
_يا بنتي فكك بقا من الناس، لو فضلنا عمرنا كله شيلين همهم مش هنجتاز مشاكلنا أبدًا، ارميهم وارمي كلامهم وراء ضهرك كأنهم مش موجودين.
ثم ضحكت بخفة، قائلة:
_وبعدين دول مسافة ما عرفوا إنك هتطلقي ومبطلوش كلام، رغم إن لسه الطلاق متمش رسمي، متشيلش ولا تشغلي بالك بحد.
ثُم جلسا على إحدى الطاولات، وضمت إسراء كفها في راحتيها، وأردفت بنبرة حانية:
_أنا متأكدة يا سهير إن ربنا هيعوضك، هيرزقك بزوج ينسيكِ عماد وينسيكِ كل مرارة حزن تسربت لقلبك.. وبعدين إحنا نبدأ نحفظ قرآن سوا، وتيجي معايا المعهد اللي بحفظ فيه.
رمقتها سهير بنظرة حزينة، قبل أن تبتسم شبه ابتسامة هادئة، وتلوذ بالصمت دون أن تعلق.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
طرقٌ خفيفٌ على الباب، جعل بلال يهب واقفًا، ويفتح مستقبلًا أخته ببسمة مشاكسة، قبل أن تدلف إسراء سد الطريق عليها بذراعيه وجسده، وهو يغمغم:
_كتكوتي رايحة فين من غير ما تسلم عليَّ…
قاطعته إسراء متهجمة المحيا، وقد اتسعت عينيها دهشة، وهي تردد في ذهول:
_كتكوتك؟!!!
وهتفت باستنكار:
_إيه كتكوتك دي؟
رفع بلال حاجبيه، وهو يقول في دهشة:
_إيه ده يا كتكوتة مش عجبك دلع كتكوتي؟!
غمغمت إسراء وهي تدب قدميها في الأرض:
_تاني يقولي كتكوتة! يعني بالله عليك ملقتش أي دلع غير كتكوتة؟! ليه خلصت الأسماء كلها.. أأقولك شكرًا مش عايزة منك أي دلع خالص.. ماله اسمي؟ زي العسل!
أطلق بلال ضحكة عذبة مرحة، وقال:
_يا بنتي ما أنتِ اللي شبه الكتاكيت كده، إيه ذنبي أنا!
تبسَّمت إسراء في رقة، وقالت له بصوتٍ رقيق:
_تعرف يا بلال كنت مسمياك إيه لما شوفتك أول مرة؟!
تأجج الفضول بداخله، ودنا بوجهه من وجهها، وهو يسألها في شغف:
_إيه يا كتكوتي؟!
تلاشت بسمة إسراء وهي تدفعه من كتفه، قائلة:
_بلال المتوحش!
ومالت لتمر من أسفل ذراعه، بينما هو يصيح:
_متوحش؟! أنا متوحش؟! وحش أما يلهفك يا شيخة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
جالسٌ على حافة الشرفة، تتدلى إحدى قدميه، بينما الأخرى مثنيه أمامه غائب الفِكر مهموم البال، منشغل القلب، يسند رأسه إلى الوراء، وقد أسبل جفنيه عن حزنٍ عميق لم يعرف كيف يواريه، فأطبق جفنيه عساهما تفعلان.
ولدن الباب وقفت أميرة، تراقب أخيها سعيد بهمٍ يجثم على صدرها، وبحزنٍ طغى واستحوذ على قلبها، وبقدمين مثقلتين تقدمت إليه، ووضعت كفها على كتفه في هدوء، وقالت بعطف:
_هتفضل كده لحد أمتى؟!
واستدارت تواجهه، وهي تسأله سؤالٍ مبهم:
_أمتى ناوي تاخد خطوة!
زفر سعيد بضيق وتحاشى النظر إليها، بينما تابعت هي بتنهيدة:
_يا سعيد، هي ضاعت منك مرة، متسبهاش تضيع من أيدك تاني.
فغمغم سعيد بنبرة، يقطر منها الأسى:
_مش أنا اللي بضيعها يا أميرة، هي اللي مش ليا!
فمينفعش امسك في حاجة مش ليا، مينفعش أحبها.
زمَّت أميرة شفتيها، واكفهر وجهها، وهي تقول بحنق:
_مينفعش إيه يا بابا؟! مش معنى إن أنا وبلال اخوات في الرضاعة يبقى مينفعش تحبها مين قال كده؟ وبعدين أنت سألت في الموضوع؟! بتفتي وخلاص!
هب سعيد واقفًا، وغادر الحجرة، وهو يقول بضيق:
_بس بقا يا أميرة انا مش ناقصك، مش هتفهميني!.
شيعته أميرة بنظراتٍ ضيقة، ثم أخذت نفسٌ عميق، وهي تتمتم:
_بس انا ناقصني فرحتك يا سعيد، ولمعت الراحة في عينك، وهسأل واعرف حرام ولا لأ، وبإذن الله لأ.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
تم الطلاق في هدوءٍ عجيب، وبموافقة كِلا الطرفين، وغادر المأذون، وقام عماد من مقعده وهو يخرج ظرفًا من جيبه، ألقاه على الطاولة، وأشار برأسه نحو بلال، وهو يقول:
_أنا عارف إني مكنتش الزوج اللي تتمناه لأختك، بس قُلت اعمل معروف معاك، واظهر لك حقيقة البت اللي ناوي تتجوزها قبل ما يفوت الأوان.
تناول بلال الظرف وهو يهب واقفًا ويقذفه في وجهه، صائحًا:
_البت اللي بتتكلم عنها تبقى مراتي دلوقتي، أمشي اطلع برا بيتي بدل ما اخد روحك..
بسمة لئيمة برزت على زاوية ثغر عماد، وهو يقول قبل ان يستدير منصرقًا:
_أنا ماشي فعلًا، وهسيب لك الظرف لما تشوف اللي جواه هتدعيلي، سلام.
وبينما هو يعبر الباب ألتقت عيناه بعينين سهير، فتوقف ساكنًا لوهلة، ثم أخفض عيناه واطرق برأسه وأسرع في خطواته للخارج، كالجندي الذي عاد من حربه خاسرًا منكسرًا.
وربتت أميرة على سهير التي ضمتها باكية، وغمغمت:
_خلاص يا سهير اتخلصتي منه على خير يا حبيبة قلبي، كان غلطة وراحت المهم نتعلم من تجاربنا ونختار صح بعد كده.
فض بلال الظرف، فبصر بداخله صورًا، أسرع يخرجها ورآها واحدة تلو الأخرى وقد تكدر وجهه، وخُيل إليه إن قلبه قد توقف عن النبض، لقد كانت الصور تحوى زوجته وشابٌ بصورٍ فادحة، طعنته بسهمٍ مسموم في صميم القلب، وقد زال السهم ولم يزل أثره، فقد سرى السِم في أوردته.
وجلس وقد شُل جسده برمته، دلفت في تلك الأثناء إسراء وهي تهتف:
_بلال، مالك مطلعتش ليه لحد الآن بتعمل إيه؟!
وهالها مرآه بهذه الحالة البائسة، وقد اِكْتَحَلَ وَجْهُهُ بِالهَمِّ، وامتقع لونه، فهرولت إليه في هلع، وهي تردد:
_بلال، مالك في إيه؟ إيه اللي حصل! إيه اللي في ايدك ده!
همَّت أن تلتقط من بين يديهِ الصور، لولا إن إنتفض على إثر لمسته كمن لدغته حية، فتقهقرت للخلف مصعوقة، وهب واقفًا، وقد اشتعل الغضب في صدره، وأطلت من عينيه نظرة قاسية جعلت قشعريرة تسري في جسدها، وألقى الصور في وجهها وهو يهدر:
_بتستغفليني؟! بتستغفليني يا إسراء وعاملة فيها الشريفة؟!
لم تقوَّ على الرد وإن طفقت دموع عينيها تترى، بينهما هو يتابع باحتقار:
_بس أنا اللي غلطان، هستنى إيه من وحدة زيك كل حياتها شمال؟!
أطرقت برأسها تنظر إلى الصور التي جعلته بتلك الحالة التي لم تتلقاها منه يومًا واتسعت عينيها حتى بلغتا الذروة، وهي تميل تجمعهم واحدة تلو الأخرى، وقلبتهم امام عينيها، وهي تقول وعينيها تهطلان:
_الصور دي جبتها إزاي؟! صدقني مش زي ما انت فاهم، هفهمك كل حاجة؟!
لكنه حدجها بنظرة قاسية، وقال وقد قسى صوته:
_الصور دي حقيقية ولا لأ؟!
فنهنهت، وخرج صوتها متهدجًا من البكاء:
_اسمعني عشان تفهم…
فقاطعها صارخًا وهو يضرب الطاولة بقبضته:
_بقولك الصور دي حقيقة ولا لأ هو سؤال واحد وجوبيني.
فسكتت تسكب دمعها، وتعالا نحيبها، وهي تهز رأسها بالإيجاب ببطء، فكست وجْههِ حمرة قانية من شدة الغضب، ورمقها بنظرة إزدراء وهو يقول بصوتٍ بدا لها كأنما يأتي من مكانٍ سحيق:
_أنتِ طالق مش عايز أشوف وشك تاني.
بعض الكلمات لأشد ألمًا من طلقات الرصاص، بعضها يلتصق في خُلد المرء فلا يكاد يبرحه، كمن أصابه مسٌ من الجن شرعت إسراء تهز رأسها مرارًا وتكرارًا، وهمست بصوتٍ خفيض متشنج من إثر البكاء:
_لأ، لَا يا بلال متظلمنيش، أنت عمرك ما كنت ظالم بلاش تظلمني أنا.
هتف بلال في سُخرية:
_أنا اللي ظالم؟! متقلقيش مش أنا.
وغادر الحجرة في خطوات سريعة، كأنها تَعدو، وهو يقول لأختيه الآتين تقفان عند الباب ملتاعتين:
_عاوز ارجع من برا متكنش موجودة.
كادت سهير أن تمسك بكتفه وهي تناديه في لوعة لكنه ازال كفها في حدة وخرج صافقًا باب البيت وراءه، فأسرعت هي وأميرة نحو إسراء التي أنغمست في بكاءٍ يشطر القلب وقد ضمت جسدها بذراعيه، فلاذت بهن قائلة:
_أنا مظلومة والله، هو مرديش يسمعني ليه؟!
ضمتها سهير إلى صدرها بشفقة، وربتت على ظهرها وهي تقول:
_هيهدي ويسمعك يا إسراء، بس كفاية عياط...
هتفت إسراء بشهقات متتالية تدمي القلب:
_دا طلقني يا سهير، طلقني من غير ما يسمعني هقول إيه؟! حكم عليَّ من قبل ما يعرف الحقيقة.
تمتمت سهير في عطف:
_هيهدي ويسمعك ويردك يا إسراء، استنيه لما يرجع واتكلمي معاه.
صدح صوت عايدة وهي تقبل من الصالة مستندة على عمرو، تقول في نبرات قاسية:
_تستنى إيه؟! لا كفاية كسرة ابني لحد هنا الجوازة دي انا مش عايزها، ولا هي البت اللي اتمناها لابني، الحمد لله جت من عند ربنا احمدك يارب.
شهقت إسراء في صدمة، ثم ركضت من أمامهن منصرفة..
لقد انتهى كل شيء، دون أن يبدأ.
ستفارقه حينًا من الدهر..
أو ربما الدهر كله..
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
ترجلت ندى من سيارتها بعد ما توقفت بها على جانب الطريق، وعَبرت مدخل البناية التي تقطن فيها إسراء، متهيأ للخروج معها لشراء بعد مستلزمات الأخرى، وهي على يقين إنها قد عادت من منزل بلال، وارتقت درجات الدرج في هوادة وهي منشغلة في هاتفها، ثم توقفت أمام الشقة المنشودة، ومدت كفها لترن الجرس فتسمر كل ما فيها وقد تناهى لها، صوت الشهاوي، يهتف في فرح:
_جدع يا عماد، جِميلك ده مش هنساه طول عمري.
اطلق ضحكة ظافرة، ثم أتبع يقول:
_هحولك في أأقرب وقت باقي المبلغ اللي اتفقنا عليه.
ثم استدرك في اهتمام:
_بس أنت متاكد إنه هيشوف الصور؟!
ثم سمعت تنهيدة ارتياح ندت عنه قبل أن يقول:
_طيب طيب تمام، كل حاجة هتبان دلوقتي لما تيجي، أنا متأكد إنه هيطلقها ويبعد عنها وكده ابقي عملت اللي عليَّ، يلا سلام.
فعلمت أن الشهاوي يضمر شيئًا ويحيكه..
شيئًا سيدمر رفيقتها..
وهي لن تسكت..
لن تجلس عاجزة تشاهد انهيار تلك العلاقة..
فطرقت الباب في عنف، وما كاد يفتح وتقع عيناها عليه، حتى هتفت به في ثورة من الغضب:
_أنت ناوي على إيه؟!
فتلاشت بسمته التي كانت في استقبالها، ودمدم مرتبكًا:
_تقصدي إيه؟!
فتجاوزت عن الرد على سؤاله، وأفصحت بحدة:
_أنا سمعت كل كلمة قولتها، وهروح حالًا ابلغ إسراء، مش هسمح لك تدمرها، أنت اب إزاي بجد؟!
فقبض بقسوة على ذراعها، وهو يهددها زاجرًا:
_ابقي فكري تعمليها كده وهبعدها عنك ليوم الدين ومش هتشوفي وشها تاني، أنا بعمل كل ده لمصلحتها، أنتِ مفكرة إني هقبل بشاب فقير تعيش معاه في غلب طول العمر؟! بعد ما كانت بتاكل الشهد، وعايشة في السما، وطلباتها اوامر بتتفذ في غمضة عين؟!
انتشلت ندى ذراعها منه بكل قوتها، واستدعت ثباتها الواهي، وهي تدافع عن صديقتها بكل بسالة:
_يبقي متعرفش بنتك يا محمد يا شهاوي، لو مفكر أنك لو بعدتها عن بلال فهترجع للتمثيل يبقى بتحلم، إسراء مسبتش التمثيل والشهرة والغنا عشان بلال، إسراء فاقت لنفسها وسبتهم لله وحدة، أأقولك حاجة كمان؟!
سكتت تلتقط أنفاسها وتتفرس فيه النظر، فرمقها بنظرة ثاقبة وهي تستطرد:
_كل قرش كان في حساب بنتك خدته من التمثيل تبرعت بيه لدار أيتام.
وكانت الطآمة الكبرى لجشع محمد الشهاوي، إذ جحظتا عينيه، وفغر فاهٍ في ذهولٍ، وردد في ارتياع:
_مش ممكن أنتِ بتقولي إيه؟!
فاومأت ندى ببطء، ثم اولته ظهرها، وهي تُردد بغلظة:
_زي ما سمعت، رايحة الحق اللي عايز تنهيه.
وأسرعت تهبط الدرج على عجل، ولحق بها محمد الشهاوي، صارخًا:
_استنى يا ندى، بلاش تقوليلها أي حاجة، إسراء لو عرفت هتكرهني.. بلاش تهدي كل اللي ببنيه عشانها..
لكنها لم تلتفت إليه وهي تعبر بوابة البناية، وأخذت تعدو نحو سيارتها، وفتحت بابها وكادت أن تجلس وراء عجلة القيادة، لولا أن صك أذنيها صوت صرير سيارة مسرعة، وصرخة عالية بأنينٍ مخيف كأن شخصٍ يحتضر، ثم دويٌ هائل صم اذنيها لأرتطام جسدٌ بالأرض، فأخرجت النصف الآخر من جسدها وهي تشهق، وما أن ابصرت محمد الشهاوي مُلقي أرضًا بين بركة من الدماء، وسيارة تقف على مقربة منه، راح سائقها يغادرها في رعب، صرخت وهي تعدو نحوه:
_عمــــــــي محمـــــــد.
يتبع…
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنت عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
اللهم أشف مرضانا ومرضى المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الحمد لله إنك بخير، قلبي كان هيوقف يا بت من الخوف عليكِ)
رفرفت سُهير بأهدابها وهي تحرك رأسها بتأوه شديد من ألمٍ حاد في رأسها، وفتحت أجفانها في وهنٍ حتى أعتادت الضوء، وتسلل صوت أميرة بهذه العبارة مخترقًا أذنيها، فدارت بصرها شَطرها، ورددت في ضعف:
_أميرة أنتِ هنا؟! أنا فين؟! إيه اللي حصل!
وتزاحمت في مخيلتها صور عديدة متلاحقة.
صورة كتب كتاب أخيها بلال، وما تلى ذلك من أنباءٍ هدمت ما تبقى من ثباتها، شِجارها مع عِماد ودفعه لها بقسوة نحو الحائط، لقد كان آخر شيء سمعته صوت ارتطامها بالأرض وخطوات آتية عدوًا وأخرى تفرَّ، ثم أحست بيدين تحملانها برفق، وصوتٌ رجولي يقول:
_سهير متخافيش هتبقي بخير.
لقد كان صوت سعيد تدرك ذلك، لإنها عندئذ تركت ذاتها لدوامة من الظلام المخيف تحيق بها وأغمضت عينيها في أمان.
أجابتها أميرة بشفقة وهي تمسح على رأسها بحنان:
_أنتِ هنا في المستشفى يا سُهير، جبتك أنا وسعيد.
وأستدركت تقول بتوضيح:
_كنتِ نسيتي شنطتك معايا وجيت ارجعهالك، فلقينا عِماد خارج يجري من الشقة، ولما كلمناه مردش ولا حتى التفت لينا، ودخلنا لقيناكِ مُغمي عليكِ.
وسَكَتت وأرتج عليها، فلم تدرِ ماذا تقول! وكيف تخبرها بفقدان طفلها؟!
لكنها حسمت أمرها بعد تردد، لتخبرها بالطامة الكبرى وهي تزدرد لعابها في قلق:
_سُهير أنتِ أجهضتي...
صمتت عن الاسترسال مع تلك النظرة الملتاعة من عينين سهير، فلاذت بالصمت، وحدقت فيها بتحفز لأي نوبة أنفجار، لكن راعها أن أغمضت سهير عينيها، وسمات الراحة أرتسمت على ملامحها ولسانها يهمس:
_الحمد لله، اللهم لك الحمد.
فُتح الباب في عنف، وبرز بلال وهو يهتف:
_مال سهير يا أميرة.
همَّت أميرة أن تجيبه، لكن سبقتها سهير التي أعتدلت وهي تنفجر باكية، مرددة باسمه، فاندفع إليها وجلس بجانبها آخذًا إياها في حضنه، بينما دلفت إسراء إلى الحجرة وقد أطل من عينيها حزنٍ هائل لحال سهير، تمتم بلال وهو لا يزل يضم سهير إليه ويربت على رأسها في حنو:
_ارجعي أنتِ يا أميرة مع سعيد عشان ماما وعمرو في البيت لوحدهم، ووصلوا إسراء في طريقكم.
رفضت أميرة قائلة:
_لا طبعًا أنا مش هسيبها.
فغمغم بلال بنبرة صارمة:
_اعملي اللي بقولك عليه بدون كلام لو سمحتي.
زمَّت أميرة حاجبيها، وجهمت المحيا وخرجت غاضبة دون أن تنبس ببنت شفة، بينما دنت منه إسراء ووضعت كفها على كتفه، وهي تتمتم في خفوت:
_هجيلكم الصبح بدري، لو احتجتم حاجة كلموني.
اومأ لها بلال برأسه إيجابًا، وقال:
_تمام، تصبحي على خير.
استمع إلى إغلاق الباب، فأبعد سهير قليلًا، وتساءل في نبرة مهددة:
_أنتِ لسه باقية عليه؟!
هزت سهير بضعف رأسها، وتمتمت:
_لأ، طلقني منه يا بلال..
استقام بلال واقفًا، وهو يقول:
_هطلقك.
رقدت سهير على ظهرها وهي تتنفس الصُعداء، وتنبهت لطرقٌ على الباب، تلاه دخول الممرضة، وهي تقول في هدوء:
_موعد الحقنة.
تنح بلال جانبًا وراقبها وهي تغرس إبرة المحقن في وعاء (الجلوكوز)، ودفعت المادة التي كان يحويها المحقن، ثم أستدارت مغادرة، فأستدار بلال ناظرًا عبر النافذة المفتوح إحدى ضلفتيها متأملًا صفحة السماء في شرود، وقد استقرت كلاتا يديه في جيبيّ بنطاله، تنبه من سرحانه على صوت سهير شديد الخفوت، وهي تقول:
_بلال، أنت زعلان مني؟!
فأجابها، وهو لا يزل على شروده في صفحة السماء:
_مفيش حد بيزعل من نفسه يا سهير، اطمني عمر قلبي ما يزعل منك.
وانتزع يديه وهو يستدير إليها متبسمًا، وقال بمشاكسة:
_بس دا ميمنعش إنك محتاجة ضربة على دماغك تفوقك، وتعرفك إن كلمة أخوكِ وخوفه عليكِ دايمًا على حق، وإن الأخ مهما تغلط أخته هيفضل عُكازها، وسندها، والأمان، الأخ سكن يا سهير.
ظلل ثغر سهير بسمة عذبة، وأغمضت عينيها، مستسلمة للنوم الذي داعب جفنيها، واستحوذ على كل خلية من خلايها.
في اليوم التالي، خرج بلال لدفع مصاريف المستشفى، وبينما هو يعبُر الرواق الذي به غرفة أخته، توقف على صوتٍ جاء من وراءه يصيحُ في لهفة:
_بلال.
فـ استدار وما كاد يرى المنادي حتى تهللت أسايره، وهتف بعينين يطلُ منهما الفرح:
_محمود!
وتعانقا في أشتياقٌ واضح، وبلال يسأل في اهتمام:
_إيه يا بني رجعت أمتى؟! والله وليك وحشة يا جدع كده الغربة تبعدك عنا كل ده.
فغمغم محمود باسم الثغر:
_الحياة يا صاحبي، بس أنا خلاص صفيت كل حساباتي وهستقر هنا..
قاطعه بلال متسائلًا بقلق:
_أنت بتعمل إيه في المستشفى؟
زفر محمود بضيق، وقال عابسًا:
_الحج تعبان شوية، وأنت هنا ليه؟!
أجابه بلال:
_وأنا سهير تعبانة شوية، طب يلا هروح معاك اطمن عليه.
سار محمود بجانبه، وهو يسأله في اهتمام شديد:
_بلال، أنت بتشتغل بشهادتك؟
ضحك بلال بخفة، وهو يقول:
_الشهادات دي للزينة بس غالبًا يا بني، لأ.
فتبسم محمود ورد عليه وقد ارتسمت ملامح الارتياح على وجهه:
_لا للزينة ولا حاجة دلوقتي تشتغل لحد ما تزهق، لينا قاعدة برا المستشفى طبعًا.
كان محمود من ذاك النوع من الشباب أولئك الذين لا يهدأ لهم بال حتى ينالوا مبتغاهم، وقد كافح ليسافر ويسعى ويشقي وها هو ذا يعود باحلامٍ ستكون نُصب العينين، مكللة بالنجاح.
(تأخرت كده ليه؟)
سألت سهير بلال ما أن عاد إلى حجرتها، فرد عليها وصوته يقطر فرحًا:
_قابلت محمود، والده محجوز هنا.
ضيقت سهير عينيه، وهي تغمغم في حيرة:
_محمود! هو مش مسافر؟!
تمتم بلال في هدوء وهو يساعدها في جمع حاجياتها:
_ورجع، وهيستقر هنا خلاص مش هيسافر تاني، كفاية الغربة وحشة وهو تعب جامد لحد ما وصل لللي وصله.
ثم صحبها إلى خارج المستشفى، حيث استقبلتها والدتها بلهفة، وبوابل من القبلات، ونهرين من الدمع، وقد ذهبت نفسها عليها حسراتٍ.
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
(قطع السلطة حلو يا عمرو، يـــــــــــا بني قطعها قطع صغيرة)
صرخ بهذه العبارة بلال، وهو يقلب الإناء الذي يحوى الطعام على الشعلة المشتعلة أمامه، فألقى عمرو من يده السكين وهو يهتف متذمرًا:
_بتزعق ليه يا عم أنت، ما أنا بقطع حلو اهوه؟!
ومط شفتيه في ضيقٍ بيَّن، فدفعه بلال برفق، وهو يقول في صرامة:
_طب كمل يا خويا، يلا.
تابع عمرو تقطيع الخضروات، وتنحنح في توتر، قبل أن يقول في صوتٍ خفيض:
_بلال، هي سهير خلاص مش هترجع تاني لعماد وهتفضل معانا هنا؟!
سأله بلال مراوغًا:
_أنت عايزها ترجع ولا إيه؟
جهم عمرو المحيا، وظهر الإشمئزاز على وجهه، وهو يهتف مستنكرًا:
_ترجع؟! لا طبعًا انا اصلًا مش بحب عماد ده.
التفت بلال برأسه غامزًا، وهو يقول:
_ومش هترجع خلاص كلها بكرة وهتطلق منه.
ثم اردف يقول وهو يشير إليه قائلًا:
_يلا قوم رص الأطباق وقعد ماما.
اومأ عمرو برأسه إيجابًا، وهو يهب واقفًا، وهرول تجاه أمة وأمسك كفها مقبلًا إياه بكل وِد، وهو يقول بصوتٍ رخيم:
_يلا تعالي يا ماما عشان تاكلي جهزنا الفطار.
كفت أمه عن ترديد الصلاة على النبي ﷺ، وهي تقبل جبهته وتقف وهي تستند عليه، بينما هو يسندها بكل رِفق حتى أجلسها في حنان، وقرب منها الأطباق، وناولها الخبز في يدها، قائلًا:
_كلي يا ماما لحد ما أجيب ميه.
فـ أجابه بلال وهو يجلس بجانبها:
_روح أنت وملكش دعوة.
قالها بمرحٍ وبدأ في إطعام والدته، وقد كان لا يضع لقمة في فمه قبل أن تشبع هي، لا يكل ولا يمل من إطعامها بيديه، كانت راحتها هي كل راحته وسعادته، سألته أمه في اهتمام وهي تبتلع ما بفمها:
_البنات اتاخروا كده ليه يا بني!
أجابها بلال وهو يدفع في فمها لقمة أخرى بِرِفق:
_متقلقيش عليهم يا ماما دلوقتي يجوا.
ومضى بمخيلته يوم بحثه عن عماد حتى وجده يجلس في إحدى المقاهي يحتسي كوبًا من الشاي بكل برود أعصاب كأنه لم يتسبب في إجهاض زوجته ونقلها إلى المستشفى، بل وينفث دخان تبغٍ قابعٍ بين إصبعيه في هدوءٍ عجيب، فتراقصت شياطين الغضب امام عينيه وهو ينقض عليه لكمًا وركلًا بثورةٍ من الغضب الذي لم يعهده فيه، وقد توقع إن يأبَى عماد تطليق اخته لكن راعه إستسلامه وموافقته السريعة، وقد تم ووافقا على الطلاق وحددا يومًا له.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
مضت الأيام على سهير معتمة، لقد خرجت من جحيم لتواجه جحيمٌ آخر (جحيم المطلقات) حيثُ لم تدُعها ألسنة الناس، ولم يكفون عن إلقاء الإشاعات عنها، لكنها هذه المرة لم تهتم، لم تلقي بالًا لأقولهم، وذرتهم يتقوَّلون كيفما شاؤوا، ما هي إلا أيامٌ وتمضي، اليوم ها هي هنا في قاموس الأحياء وغدًا مهما طال ستكون من جُملة الأموات.
لذا، فلا الدنيا ولا الناس سيشغلناها بعد الآن!
كانت تسير في النادي برفقة زوجة أخيها إسراء التي كانت لها الفضل الكبير في نبذ حالة الحزن والأكتئاب التي سيطرت عليها عنها، ربما قد تسللت بين شغاف قلبها هموم لا مناص منها.
(أنتِ هتفضلي انهاردة اليوم كله سرحانة كده يا سهير!)
قالتها إسراء بإشفاق وهي تبصر حالة سهير، فتتجلى في عينين سهير نظرة حزينة، وبصوت يقطر همًا، قالت بنبرة شبه شاردة:
_غالبًا اتكتب عليَّ الحزن يا إسراء!
وتنهدت وهي تسترسل في حديثٍ يفطر القلب:
_اتجوزت عشان اهرب من كلمة عانس، فلحقتني كلمة المطلقة! المطلقة اللي انظار الاتهام عليها في كل خطوة تخطيها برا بيتها! الناس بتاخذ من المظاهر وتتكلم، ميهمهمش جوانا إيه، ولا بواطن البيوت فيها إيه؟!
قالت إسراء، وهي تلف ساعدها على كتفها:
_يا بنتي فكك بقا من الناس، لو فضلنا عمرنا كله شيلين همهم مش هنجتاز مشاكلنا أبدًا، ارميهم وارمي كلامهم وراء ضهرك كأنهم مش موجودين.
ثم ضحكت بخفة، قائلة:
_وبعدين دول مسافة ما عرفوا إنك هتطلقي ومبطلوش كلام، رغم إن لسه الطلاق متمش رسمي، متشيلش ولا تشغلي بالك بحد.
ثُم جلسا على إحدى الطاولات، وضمت إسراء كفها في راحتيها، وأردفت بنبرة حانية:
_أنا متأكدة يا سهير إن ربنا هيعوضك، هيرزقك بزوج ينسيكِ عماد وينسيكِ كل مرارة حزن تسربت لقلبك.. وبعدين إحنا نبدأ نحفظ قرآن سوا، وتيجي معايا المعهد اللي بحفظ فيه.
رمقتها سهير بنظرة حزينة، قبل أن تبتسم شبه ابتسامة هادئة، وتلوذ بالصمت دون أن تعلق.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
طرقٌ خفيفٌ على الباب، جعل بلال يهب واقفًا، ويفتح مستقبلًا أخته ببسمة مشاكسة، قبل أن تدلف إسراء سد الطريق عليها بذراعيه وجسده، وهو يغمغم:
_كتكوتي رايحة فين من غير ما تسلم عليَّ…
قاطعته إسراء متهجمة المحيا، وقد اتسعت عينيها دهشة، وهي تردد في ذهول:
_كتكوتك؟!!!
وهتفت باستنكار:
_إيه كتكوتك دي؟
رفع بلال حاجبيه، وهو يقول في دهشة:
_إيه ده يا كتكوتة مش عجبك دلع كتكوتي؟!
غمغمت إسراء وهي تدب قدميها في الأرض:
_تاني يقولي كتكوتة! يعني بالله عليك ملقتش أي دلع غير كتكوتة؟! ليه خلصت الأسماء كلها.. أأقولك شكرًا مش عايزة منك أي دلع خالص.. ماله اسمي؟ زي العسل!
أطلق بلال ضحكة عذبة مرحة، وقال:
_يا بنتي ما أنتِ اللي شبه الكتاكيت كده، إيه ذنبي أنا!
تبسَّمت إسراء في رقة، وقالت له بصوتٍ رقيق:
_تعرف يا بلال كنت مسمياك إيه لما شوفتك أول مرة؟!
تأجج الفضول بداخله، ودنا بوجهه من وجهها، وهو يسألها في شغف:
_إيه يا كتكوتي؟!
تلاشت بسمة إسراء وهي تدفعه من كتفه، قائلة:
_بلال المتوحش!
ومالت لتمر من أسفل ذراعه، بينما هو يصيح:
_متوحش؟! أنا متوحش؟! وحش أما يلهفك يا شيخة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
جالسٌ على حافة الشرفة، تتدلى إحدى قدميه، بينما الأخرى مثنيه أمامه غائب الفِكر مهموم البال، منشغل القلب، يسند رأسه إلى الوراء، وقد أسبل جفنيه عن حزنٍ عميق لم يعرف كيف يواريه، فأطبق جفنيه عساهما تفعلان.
ولدن الباب وقفت أميرة، تراقب أخيها سعيد بهمٍ يجثم على صدرها، وبحزنٍ طغى واستحوذ على قلبها، وبقدمين مثقلتين تقدمت إليه، ووضعت كفها على كتفه في هدوء، وقالت بعطف:
_هتفضل كده لحد أمتى؟!
واستدارت تواجهه، وهي تسأله سؤالٍ مبهم:
_أمتى ناوي تاخد خطوة!
زفر سعيد بضيق وتحاشى النظر إليها، بينما تابعت هي بتنهيدة:
_يا سعيد، هي ضاعت منك مرة، متسبهاش تضيع من أيدك تاني.
فغمغم سعيد بنبرة، يقطر منها الأسى:
_مش أنا اللي بضيعها يا أميرة، هي اللي مش ليا!
فمينفعش امسك في حاجة مش ليا، مينفعش أحبها.
زمَّت أميرة شفتيها، واكفهر وجهها، وهي تقول بحنق:
_مينفعش إيه يا بابا؟! مش معنى إن أنا وبلال اخوات في الرضاعة يبقى مينفعش تحبها مين قال كده؟ وبعدين أنت سألت في الموضوع؟! بتفتي وخلاص!
هب سعيد واقفًا، وغادر الحجرة، وهو يقول بضيق:
_بس بقا يا أميرة انا مش ناقصك، مش هتفهميني!.
شيعته أميرة بنظراتٍ ضيقة، ثم أخذت نفسٌ عميق، وهي تتمتم:
_بس انا ناقصني فرحتك يا سعيد، ولمعت الراحة في عينك، وهسأل واعرف حرام ولا لأ، وبإذن الله لأ.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
تم الطلاق في هدوءٍ عجيب، وبموافقة كِلا الطرفين، وغادر المأذون، وقام عماد من مقعده وهو يخرج ظرفًا من جيبه، ألقاه على الطاولة، وأشار برأسه نحو بلال، وهو يقول:
_أنا عارف إني مكنتش الزوج اللي تتمناه لأختك، بس قُلت اعمل معروف معاك، واظهر لك حقيقة البت اللي ناوي تتجوزها قبل ما يفوت الأوان.
تناول بلال الظرف وهو يهب واقفًا ويقذفه في وجهه، صائحًا:
_البت اللي بتتكلم عنها تبقى مراتي دلوقتي، أمشي اطلع برا بيتي بدل ما اخد روحك..
بسمة لئيمة برزت على زاوية ثغر عماد، وهو يقول قبل ان يستدير منصرقًا:
_أنا ماشي فعلًا، وهسيب لك الظرف لما تشوف اللي جواه هتدعيلي، سلام.
وبينما هو يعبر الباب ألتقت عيناه بعينين سهير، فتوقف ساكنًا لوهلة، ثم أخفض عيناه واطرق برأسه وأسرع في خطواته للخارج، كالجندي الذي عاد من حربه خاسرًا منكسرًا.
وربتت أميرة على سهير التي ضمتها باكية، وغمغمت:
_خلاص يا سهير اتخلصتي منه على خير يا حبيبة قلبي، كان غلطة وراحت المهم نتعلم من تجاربنا ونختار صح بعد كده.
فض بلال الظرف، فبصر بداخله صورًا، أسرع يخرجها ورآها واحدة تلو الأخرى وقد تكدر وجهه، وخُيل إليه إن قلبه قد توقف عن النبض، لقد كانت الصور تحوى زوجته وشابٌ بصورٍ فادحة، طعنته بسهمٍ مسموم في صميم القلب، وقد زال السهم ولم يزل أثره، فقد سرى السِم في أوردته.
وجلس وقد شُل جسده برمته، دلفت في تلك الأثناء إسراء وهي تهتف:
_بلال، مالك مطلعتش ليه لحد الآن بتعمل إيه؟!
وهالها مرآه بهذه الحالة البائسة، وقد اِكْتَحَلَ وَجْهُهُ بِالهَمِّ، وامتقع لونه، فهرولت إليه في هلع، وهي تردد:
_بلال، مالك في إيه؟ إيه اللي حصل! إيه اللي في ايدك ده!
همَّت أن تلتقط من بين يديهِ الصور، لولا إن إنتفض على إثر لمسته كمن لدغته حية، فتقهقرت للخلف مصعوقة، وهب واقفًا، وقد اشتعل الغضب في صدره، وأطلت من عينيه نظرة قاسية جعلت قشعريرة تسري في جسدها، وألقى الصور في وجهها وهو يهدر:
_بتستغفليني؟! بتستغفليني يا إسراء وعاملة فيها الشريفة؟!
لم تقوَّ على الرد وإن طفقت دموع عينيها تترى، بينهما هو يتابع باحتقار:
_بس أنا اللي غلطان، هستنى إيه من وحدة زيك كل حياتها شمال؟!
أطرقت برأسها تنظر إلى الصور التي جعلته بتلك الحالة التي لم تتلقاها منه يومًا واتسعت عينيها حتى بلغتا الذروة، وهي تميل تجمعهم واحدة تلو الأخرى، وقلبتهم امام عينيها، وهي تقول وعينيها تهطلان:
_الصور دي جبتها إزاي؟! صدقني مش زي ما انت فاهم، هفهمك كل حاجة؟!
لكنه حدجها بنظرة قاسية، وقال وقد قسى صوته:
_الصور دي حقيقية ولا لأ؟!
فنهنهت، وخرج صوتها متهدجًا من البكاء:
_اسمعني عشان تفهم…
فقاطعها صارخًا وهو يضرب الطاولة بقبضته:
_بقولك الصور دي حقيقة ولا لأ هو سؤال واحد وجوبيني.
فسكتت تسكب دمعها، وتعالا نحيبها، وهي تهز رأسها بالإيجاب ببطء، فكست وجْههِ حمرة قانية من شدة الغضب، ورمقها بنظرة إزدراء وهو يقول بصوتٍ بدا لها كأنما يأتي من مكانٍ سحيق:
_أنتِ طالق مش عايز أشوف وشك تاني.
بعض الكلمات لأشد ألمًا من طلقات الرصاص، بعضها يلتصق في خُلد المرء فلا يكاد يبرحه، كمن أصابه مسٌ من الجن شرعت إسراء تهز رأسها مرارًا وتكرارًا، وهمست بصوتٍ خفيض متشنج من إثر البكاء:
_لأ، لَا يا بلال متظلمنيش، أنت عمرك ما كنت ظالم بلاش تظلمني أنا.
هتف بلال في سُخرية:
_أنا اللي ظالم؟! متقلقيش مش أنا.
وغادر الحجرة في خطوات سريعة، كأنها تَعدو، وهو يقول لأختيه الآتين تقفان عند الباب ملتاعتين:
_عاوز ارجع من برا متكنش موجودة.
كادت سهير أن تمسك بكتفه وهي تناديه في لوعة لكنه ازال كفها في حدة وخرج صافقًا باب البيت وراءه، فأسرعت هي وأميرة نحو إسراء التي أنغمست في بكاءٍ يشطر القلب وقد ضمت جسدها بذراعيه، فلاذت بهن قائلة:
_أنا مظلومة والله، هو مرديش يسمعني ليه؟!
ضمتها سهير إلى صدرها بشفقة، وربتت على ظهرها وهي تقول:
_هيهدي ويسمعك يا إسراء، بس كفاية عياط...
هتفت إسراء بشهقات متتالية تدمي القلب:
_دا طلقني يا سهير، طلقني من غير ما يسمعني هقول إيه؟! حكم عليَّ من قبل ما يعرف الحقيقة.
تمتمت سهير في عطف:
_هيهدي ويسمعك ويردك يا إسراء، استنيه لما يرجع واتكلمي معاه.
صدح صوت عايدة وهي تقبل من الصالة مستندة على عمرو، تقول في نبرات قاسية:
_تستنى إيه؟! لا كفاية كسرة ابني لحد هنا الجوازة دي انا مش عايزها، ولا هي البت اللي اتمناها لابني، الحمد لله جت من عند ربنا احمدك يارب.
شهقت إسراء في صدمة، ثم ركضت من أمامهن منصرفة..
لقد انتهى كل شيء، دون أن يبدأ.
ستفارقه حينًا من الدهر..
أو ربما الدهر كله..
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
ترجلت ندى من سيارتها بعد ما توقفت بها على جانب الطريق، وعَبرت مدخل البناية التي تقطن فيها إسراء، متهيأ للخروج معها لشراء بعد مستلزمات الأخرى، وهي على يقين إنها قد عادت من منزل بلال، وارتقت درجات الدرج في هوادة وهي منشغلة في هاتفها، ثم توقفت أمام الشقة المنشودة، ومدت كفها لترن الجرس فتسمر كل ما فيها وقد تناهى لها، صوت الشهاوي، يهتف في فرح:
_جدع يا عماد، جِميلك ده مش هنساه طول عمري.
اطلق ضحكة ظافرة، ثم أتبع يقول:
_هحولك في أأقرب وقت باقي المبلغ اللي اتفقنا عليه.
ثم استدرك في اهتمام:
_بس أنت متاكد إنه هيشوف الصور؟!
ثم سمعت تنهيدة ارتياح ندت عنه قبل أن يقول:
_طيب طيب تمام، كل حاجة هتبان دلوقتي لما تيجي، أنا متأكد إنه هيطلقها ويبعد عنها وكده ابقي عملت اللي عليَّ، يلا سلام.
فعلمت أن الشهاوي يضمر شيئًا ويحيكه..
شيئًا سيدمر رفيقتها..
وهي لن تسكت..
لن تجلس عاجزة تشاهد انهيار تلك العلاقة..
فطرقت الباب في عنف، وما كاد يفتح وتقع عيناها عليه، حتى هتفت به في ثورة من الغضب:
_أنت ناوي على إيه؟!
فتلاشت بسمته التي كانت في استقبالها، ودمدم مرتبكًا:
_تقصدي إيه؟!
فتجاوزت عن الرد على سؤاله، وأفصحت بحدة:
_أنا سمعت كل كلمة قولتها، وهروح حالًا ابلغ إسراء، مش هسمح لك تدمرها، أنت اب إزاي بجد؟!
فقبض بقسوة على ذراعها، وهو يهددها زاجرًا:
_ابقي فكري تعمليها كده وهبعدها عنك ليوم الدين ومش هتشوفي وشها تاني، أنا بعمل كل ده لمصلحتها، أنتِ مفكرة إني هقبل بشاب فقير تعيش معاه في غلب طول العمر؟! بعد ما كانت بتاكل الشهد، وعايشة في السما، وطلباتها اوامر بتتفذ في غمضة عين؟!
انتشلت ندى ذراعها منه بكل قوتها، واستدعت ثباتها الواهي، وهي تدافع عن صديقتها بكل بسالة:
_يبقي متعرفش بنتك يا محمد يا شهاوي، لو مفكر أنك لو بعدتها عن بلال فهترجع للتمثيل يبقى بتحلم، إسراء مسبتش التمثيل والشهرة والغنا عشان بلال، إسراء فاقت لنفسها وسبتهم لله وحدة، أأقولك حاجة كمان؟!
سكتت تلتقط أنفاسها وتتفرس فيه النظر، فرمقها بنظرة ثاقبة وهي تستطرد:
_كل قرش كان في حساب بنتك خدته من التمثيل تبرعت بيه لدار أيتام.
وكانت الطآمة الكبرى لجشع محمد الشهاوي، إذ جحظتا عينيه، وفغر فاهٍ في ذهولٍ، وردد في ارتياع:
_مش ممكن أنتِ بتقولي إيه؟!
فاومأت ندى ببطء، ثم اولته ظهرها، وهي تُردد بغلظة:
_زي ما سمعت، رايحة الحق اللي عايز تنهيه.
وأسرعت تهبط الدرج على عجل، ولحق بها محمد الشهاوي، صارخًا:
_استنى يا ندى، بلاش تقوليلها أي حاجة، إسراء لو عرفت هتكرهني.. بلاش تهدي كل اللي ببنيه عشانها..
لكنها لم تلتفت إليه وهي تعبر بوابة البناية، وأخذت تعدو نحو سيارتها، وفتحت بابها وكادت أن تجلس وراء عجلة القيادة، لولا أن صك أذنيها صوت صرير سيارة مسرعة، وصرخة عالية بأنينٍ مخيف كأن شخصٍ يحتضر، ثم دويٌ هائل صم اذنيها لأرتطام جسدٌ بالأرض، فأخرجت النصف الآخر من جسدها وهي تشهق، وما أن ابصرت محمد الشهاوي مُلقي أرضًا بين بركة من الدماء، وسيارة تقف على مقربة منه، راح سائقها يغادرها في رعب، صرخت وهي تعدو نحوه:
_عمــــــــي محمـــــــد.
يتبع…
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
الفصل التالي: رواية والتقينا الفصل العشرون
جمييع الفصول: رواية والتقينا كاملة بقلم ندي ممدوح
المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل التاسع عشر إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.