نستكمل أحداث رواية والتقينا الفصل السادس عشر من روايات ندي ممدوح .
رواية والتقينا الفصل 16
16_خِطة
_ إيه الأكل الرخيص زيك ده؟
نطق عماد بتلك العبارة في حِدة، بينما تجهمت سهير وتسمَّر كفيها بالطعام الذي بيدها، وغابت الدماء عن وجهها، ثم تنهدت بعمقٍ وهي تسبل جفنيها في عنفٍ، وجاهدت لكي يخرج صوتها هادئًا وهي تلتفت إليه، قائلة في هدوء:
_الرخيص هو الراجل اللي زيك اللي يقبل يهين مراته اللي شايلة اسمه لإنه كده مش بيهينها هيَ دا بيهين نفسه قبل منها، وأنا مش رخيصة بالعكس أنا غالية، غالية اوي يا عماد لدرجة اللي خلتني أأقبل بواحد زيك لو مكنتش وفقت بيه مكنش هيلاقي أي اب في الزمن ده يجوزه بنته أنت هتفضل طول عمرك شايل جمايل بلال اخويا على أكتافك.
وأضافت وهي تأخذ نفسٌ عميق:
_ونعمة ربنا اللي أنت مستكبر عليها دي في غيرها مش لاقيها وأنتَ متستهلش اللقمة اصلًا، ولا النعمة.
سكتت تلتقط أنفاسها المتلاحقة، وعينيها تراقبان تأجج الغضب الذي ملأ مقلتين عماد في وجل، ورأته يقف في تؤدة، ثم قبض على معصمها في قسوة جعلتها تئن ألمًا في داخلها، وصك مسامعها صوته الغليظ، يهتف:
_دا القطة بقي ليها عين تتكلم وتفتح بقها، وشكلها توحشت الضرب.
غطتت سهير وجهها بذراعيها وهي تشاهد كفه يرتفع عاليًا على استعداد ليهوىٰ علىٰ وجنتها، وأغمضت عينيها في خوفٍ دب في ثنايا قلبها، لكن فجأة عَلا رنين الجرس وارتخى ذراع عماد بجانبه، وهو يغمغم في ضجر:
_غوري شوفي مين اللي جاي في الوقت ده.
رمقته سهير بازدراء، وتوجهت لفتح الباب، لتجد أميرة في وجهها تهتف في حدة:
_إيه اللي أنتِ عملتيه ده يا سهير، أنتِ لدرجة دي مبتفكريش، قدرتي تعملي كده إزاي في اخوكِ وفينا؟
بُتر قولها عندما كممت سهير فمها بكفها، وتراجعت برأسها تشرائب النظر بحثًا عن عماد، ولسانها يغمغم في خفوت قلق:
_هُوس اسكتي يا بنتي، اهدي شوية.
وعندما لم تجد له أثر في الصالة، نبأها حدسُها إنه في إحدى الغرف، فجذبت ذراع أميرة للداخل، وأجلستها بجانبها، والثانية تغمغم في ضيق:
_هو الفقري هنا! دا أنا عايزة أشرب من دمه!
أخذت أميرة نفسٌ عميق، وأخرجت ما يعتمل صدرها بزفرة أعمق، وقالت بعاطفة تغلبت على غضبها:
_عاملة إيه طمنيني عليكِ، الزفت عماد بيعاملك كويس؟
حزنٌ هائلٌ ذاك الذي طل من عيناي سهير، وهي تهز رأسها، قائلة بضحكة مفتعلة:
_أنا الحمد لله يا أميرة، انتوا كلكم عاملين إيه.
واستدركت قائلة:
_أنتِ جاية لوحدك؟
نفت أميرة بهزة خفيفة من رأسها، ورددت:
_لا سعيد وصلني ومنتظرني تحت.
خفق قلب سهير فجأة، وأشاحت بوجهها وهي مسبلة الجفنين عمَّا في قلبها، وهمست بصوتٍ خرج خفيض رغمًا عنها:
_كويس، هو عامل إيه؟
والتفتت إليها متبسمة في تساؤل:
_بلال وماما وعمرو اخبراهم إيه؟
وأتبعت تقول في حزن، وقد شردتا مقلتيها في اللاشيء:
_بلال من لما رجعت لعماد مبيكلمنيش.
همَّت أميرة بالتفوه بشيءٍ ما، عندما أتاها صوت عماد البغيض إلى قلبها، قائلًا:
_ازيك يا أميرة نورتي، أنا خارج يا سهير.
رمقته أميرة شزرًا، دون أن تكلف نفسها عناء الرد، بينما لم ينتظر هو أي ردٍ منهن فقد خرج صافقًا الباب وراءه.
التفتت أميرة مرة أخرى إلى سهير، وصاحت في غضبٍ لم تستطع كبحه:
_أنتِ بعد اللي عملتيه وعايزة بلال يكلمك؟ أنتِ إزاي قدرتِ تعملي كده بجد! مخفتيش على نفسك من الحيوان عماد ده؟!
غمغمت سهير في مرارة:
_كان غصب عني يا أميرة.
اهتاجت أميرة وماجت وصرخة في حِدة:
_غصب عنك إيه لو مخفتيش على نفسك وعملتي ليها حساب، مجاش في بالك عماد أخوك؟ هان عليكِ إزاي تحطيه في موقف زي ده وترجعي لعماد من وراه؟!
سَكَتت حين رأت عينان سهير تسحان الدمع بفيضانٍ من الحزن، فلاذت بالسكون لثوانٍ، عندئذٍ تنهدت أميرة، ثم نهضت وقد ضاقت بها نفسها، مغمغمة:
_أنا همشي يا سهير.
كفكفت سهير دمعها، ونهضت تودعها في هدوء، وقبل أن تجتاز أميرة الباب، نادتها قائلة:
_أميرة استني.
فالتفتت أميرة في اهتمام ولم تنبس ببنت شفة، بينما ضافت سهير بنبرة تمتلأ بالمرارة:
_أبقي اسألي عليا، متنسنيش.
ألمت العبارة بشدة قلب أميرة، ولم تنبس بل ظلت تنظر في داخل عينيها في صمتٍ حزين، ثم استدارت مغادرة.
أغلقت سهير الباب، وهرولت تجاه النافذة، وطلت برأسها للأسفل، تشيع رحيل أميرة وسعيد بعينين مغروقتين بالدموع، وعندما اختفيا عن أنظارها، أستدارت متكئة بظهرها على الجدار، وعينيها غرقتا في نهرٍ من الدمع.
مؤلم أن يرحل عنا الأحباب.. يتركونا بمفردنا تائهين لا نجد من نلوذ بهِ عندما تطعنا الحياة!
مؤلم أن يغرق فؤادنا بالدموع دون أن نجد شخصًا واحد يراها، ويمحيها ببسمة مطمئنة، أو بنظرة دافئة، أو حضن من العينين، أو كلمة!
والأدهى أن يضيع الإنسان عن نفسه، يقف بفراغ قلبٍ وسط جدران من المفترض إنها مسكنه فيتأملها ويلتفت على كل اركانها فلا يرَ إلا غربة مخيفة تكاد تبتلعه في عتمتها..
والحزن إن استوطن فؤاد المرء لا يزول ببساطة.
وغربة الروح لا يوجد لها مأوى إلا بمن تألفه!
وللدموع حكايات لا تنتهي عسيرٌ فهمها لمن لم يعانيها..
والوحدة قاسبة تنهش قلب المرء حتى تذروه ريشة في مهب الريح.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد
_أنـــت؟!
هتفت إسراء في ذعر، وهي ترى ملامح الزائر، وطل خوفٍ من منبع ما اقترفه في حقها في عينيها المتسعتين، والتصق ظهرها بالباب المغلق وهي تزدرد لعابها، عندما انطلقت ضحكته المجنونة العالية، تهز قلبها في عنفٍ، وترج روحها، وتدك حصون ثباتها دكًا، وانبعث صوته في أُذنيها كصوت أسدٍ ضاري يهم بابتلاع فريسته:
_بقا كده تتسجني بتهمة كبيرة زي دي، ومتعرفيش حبيبك هشام!
بلغ اتساع عيناي إسراء على آخرهما، وراقبت بأجفان مرتجفة جلوس هشام البسيوني بكل غطرسة على المقعد وفرد ذراعيه على ظهره، وبكل تسلط وأريحية، قال:
_إوعي تكوني يا إسراء يا حبيبتي شاكة في حبيبك هشام، تؤ تؤ هزعل.. هزعل اوي وزعلي وحش.
ومال إلى الأمام، وشبك كفيه أمام وجهه، وأتبع يقول:
_عيب إنك تشكي في الشخص اللي عمل منك نجمة كبيرة يُشار لها بالبنان، وفنانة مشهورة بيحبها الملايين.
وخبط بكفيه على الطاولة أمامه وهو يهب واقفًا، حتى جعل جسدها ينتفض وذرفت عينيها الدموع..
وستذرف أوجاعها دمعًا إلى الممات!
لماذا أصبح الجميع يذكرها بماضيها البشع؟!
ذاك الماضي الذي كان يحسدها عليه الجميع كان جحيمها، وسيظل.
الطرقات تُظهر لنا ظواهر البشر، أمَّا البيوت فيكمُن في أعماقها البواطن..
ما يخفيه الأنسان..
ويحتفظ بهِ لنفسه..
فلا تحكمو بالظواهر فالظاهر دائمًا ما يخفى وجعًا لا يُرى بالعين، ودمعة حزنٍ في خفايا الجوانح تسكن، وندبة ألم لا تداويها ضحكة مفتعلة وبسمة زائفة.
همست إسراء بصوتٍ متلعثم:
_أنـ.. أنـت عاوز إيه مني؟ جاي ليه؟! مش خلاص دمرتني؟ عايز مني أيه تاني؟! سيبني في حالي حرام عليك.
ورده كان ضحكة عالية، ألهبت فؤادها بالأحتقار الذي تسلل إلى ملامحها وعينيها، ونهض في بطءٍ متلذذًا ببكاءها وحالتها، وتقدم نحوها حتى كان قاب قوسين أو أدنى منها، ودس كفيه في جيبيّ بنطاله زافرًا بقسوة رافقة صوته البغيض:
_أسيبك؟! أنتِ غبية يا بنتي أسيب مين؟
وأولاها ظهره وأردف متابعًا بصوتٍ أجش:
_أنا مش هسيبك إلا وأنتِ جثة متحطمة، مش هبعد غير لما اتأكد إنك خلاص ميتة، أنا عملتك بإيدي نجمة مشهورة وبنفس الأيد هدمرك، وزي ما خليت عندك جمهور كبير يحبك.
ألتفت إليها وبرقت عيناه بوميضٍ من القسوة، وهو يجز على أسنانه، مسترسلًا:
_هخلي نفس الجمهور يكرهك ولما يفتكروكِ يدعوا عليكِ.
ومال بوجهه شَطر وجهها، وأكمل بهمسٍ كالفحيح:
_أترجتك تتجوزيني ورفضتي، عرضة عليكِ فلوس كتير ورفضتي برضو، وعدتك بنجومية هطلعك لسابع سما ورفضتي برضو، وعايزة تسبيني أنا هشام البسيوني...
قرن قول اسمه بإشارة من سبابته إلى صدره، ثم دار حولها ووقف بجانبها، متابعًا بهمس خافت مثير للرعشة:
_عايزة تدي تعبي لغيري وتشتغلي بعيد عني؟! لأ وكمان نويتي تسيبي التمثيل وبتحبيلي واحد فقير ملهوش أصل وعايزة تخسريني كل اللي بنيته؟!
وعلا صوته، قائلًا:
_يبقى موتك أفضل.
وفجأة، لان صوته ورمقها طويلًا، ثم اتجه جالسًا على المقعد ووضع قدمٍ على أخرى، وقال:
_حاولت أموتك بالعربية وقومتي من الموت برضو، دفعت مبلغ هايل لفرد من أفراد التصوير عشان يقتلك ونجتي من الرصاصة، حاولت أأقتلك أنا بنفسي في شقتك وأوضتك وبرضو معرفتش كأنك قطة بسبع أرواح.
أخذ هشام نفسٌ عميق، وأتبع:
_لقيت مفيش فايدة فقررت أني احبسك بقضية تاخدي فيها مؤبد.
لم تنبس إسراء إلا ببكاءٍ حار انشق له قلبها شطرين، ثم أخيرًا رفعت رأسها إليه في هدوء يثير الدهشة، وغمغمت من بين شهقاتٍ متتالية:
_أنت مش خايف من ربنا؟! اعمل كل اللي تقدر عليه براحتك ربنا هيجيب ليّ حقي، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
انتهى اللقاء وعادت إلى الزنزانة، شاردت النظرات، منتفخة الأجفان، محمرت العينين بلون أحمر قان من إثر البكاء، ورقدت على فراشها تضم جسدها بذراعيها، انتفضت من شرودها على صوت امرأة تقف أمام فراشها وهي تهز قدميها، متمتمة بغلظة:
_صدعتنا عياط ياختي كفاية، إيه مزهقتيش.
اكتفت إسراء بإن رمتها بنظرة سريعة ولم تعيرها اهتمامًا، بينما نفخت المرأة بضيق، ودارت حول الفراش وجلست بجانب رأس إسراء، ومسدت عليها في رفق، وانبعث صوتها هادئ مشفق وهي تقول:
_كفاية عياط يا حبيبتي، العياط مش هيفيدك بحاجة إلا تعبك، كلنا في الأول بنبقى كده.
وندت عنها ضحكة هازئة مريرة وهي تضيف:
_وبعدين كلنا بنتعود، بنعتاد الحبسة، وضيق ارواحنا علينا، وبنرضى بالمكتوب ونحمد ربنا.
هي دي الدنيا يوم ليك ويوم عليك، مستحيل تدي الواحد كل اللي هو عايزه، مفيش حد خالي من الهموم كلنا بس بنحاول نتعايش مع وجعنا، وأنتِ باين عليكِ مش قد الغم ده.
تفاجئت إسراء بالمرأة التي كانت آنفًا تعنفها، تواسيها بكلماتٍ طبطبت على فؤادها، فارتمت في حضنها وبكت، ربتت المرأه على ظهرها، وهي تقول بتنهيدة:
_أبكي يا حبيبتي ففي البكاء راحة لقلوبنا من أوجاع مش بنقدر نفسرها.
وأغروقت عينيها بالدموع، ثم تفاجئت إسراء بذات المرأة تدفعها عن حضنها برفق، وهي تهب واقفة، قائلة:
_إوعي ياختي كده من وشي هو الواحد ناقص هم.
شيعتها إسراء بنظراتٍ مندهشة وقد تجمدت دموعها في عينيها.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
توالت الأيام بجراحٍ لا تلتئم لا تفتأ تنزف بدماءٍ تنكسب فيها الأرواح دون عودة.
وأسر الروح في بئرٍ لا قرار له ليس بهين!
الأحزان إن تواغلت في السويداء من القلب لا تغادر وإن فكرت بالرحيل ستترك ندوبًا لا تداويها الأيام ولا يطمسها النسيان.
الظلام يغشى المكان، في بقعة تسلطة فيها إنارة من السيارة التي ترجل منها هشام البسيوني بقلقٍ وهو يتلفت حوله، بعينين تطل منهما الفزع، وأصابعه تتحسس سلاحٍ متخفيًا في سترة بدلته، أقترب رجلًا يبدو عليه كِبر العمر منه، فبادره هشام البسيوني صارخًا:
_طلبت نتقابل ليه؟
فنطق الرجل بنبرة صارمة لا تضاهي ذلك القلق التي تطفح على كل خلايا وجهه:
_محتاج فلوس ولا عايزني أروح أبلغ الشرطة إنك السبب في حبس إسراء؟!
ضغط هشام على شفته السفلى في غضبٍ، وتميز غيظًا وهو يشهر سلاحه في وجه الرجل، قائلًا:
_أنا مبتهددش ولو حد فكر يهدد حياتي اخلص عليه، ولو بتفكر إنك ممكن تشتغلني يبقى بتحلم، أحنا اتفقنا على مبلغ معين وخدته كامل وحذرتك بس مسمعتش فعشان كده تستاهل الموت.
سحب هشام زناد السلاح، وهم بإن يطلق الرصاصة، ودوى صوت رصاصة مع اتسع عينين الرجل في هلع، واندفعت صرخت هشام مع تطاير السلاح من يده وانبثق الدم من كفه فراح يصرخ وهو يلتفت حوله مع ظهور رجال الشرطة في المكان.
يتبع …
_ إيه الأكل الرخيص زيك ده؟
نطق عماد بتلك العبارة في حِدة، بينما تجهمت سهير وتسمَّر كفيها بالطعام الذي بيدها، وغابت الدماء عن وجهها، ثم تنهدت بعمقٍ وهي تسبل جفنيها في عنفٍ، وجاهدت لكي يخرج صوتها هادئًا وهي تلتفت إليه، قائلة في هدوء:
_الرخيص هو الراجل اللي زيك اللي يقبل يهين مراته اللي شايلة اسمه لإنه كده مش بيهينها هيَ دا بيهين نفسه قبل منها، وأنا مش رخيصة بالعكس أنا غالية، غالية اوي يا عماد لدرجة اللي خلتني أأقبل بواحد زيك لو مكنتش وفقت بيه مكنش هيلاقي أي اب في الزمن ده يجوزه بنته أنت هتفضل طول عمرك شايل جمايل بلال اخويا على أكتافك.
وأضافت وهي تأخذ نفسٌ عميق:
_ونعمة ربنا اللي أنت مستكبر عليها دي في غيرها مش لاقيها وأنتَ متستهلش اللقمة اصلًا، ولا النعمة.
سكتت تلتقط أنفاسها المتلاحقة، وعينيها تراقبان تأجج الغضب الذي ملأ مقلتين عماد في وجل، ورأته يقف في تؤدة، ثم قبض على معصمها في قسوة جعلتها تئن ألمًا في داخلها، وصك مسامعها صوته الغليظ، يهتف:
_دا القطة بقي ليها عين تتكلم وتفتح بقها، وشكلها توحشت الضرب.
غطتت سهير وجهها بذراعيها وهي تشاهد كفه يرتفع عاليًا على استعداد ليهوىٰ علىٰ وجنتها، وأغمضت عينيها في خوفٍ دب في ثنايا قلبها، لكن فجأة عَلا رنين الجرس وارتخى ذراع عماد بجانبه، وهو يغمغم في ضجر:
_غوري شوفي مين اللي جاي في الوقت ده.
رمقته سهير بازدراء، وتوجهت لفتح الباب، لتجد أميرة في وجهها تهتف في حدة:
_إيه اللي أنتِ عملتيه ده يا سهير، أنتِ لدرجة دي مبتفكريش، قدرتي تعملي كده إزاي في اخوكِ وفينا؟
بُتر قولها عندما كممت سهير فمها بكفها، وتراجعت برأسها تشرائب النظر بحثًا عن عماد، ولسانها يغمغم في خفوت قلق:
_هُوس اسكتي يا بنتي، اهدي شوية.
وعندما لم تجد له أثر في الصالة، نبأها حدسُها إنه في إحدى الغرف، فجذبت ذراع أميرة للداخل، وأجلستها بجانبها، والثانية تغمغم في ضيق:
_هو الفقري هنا! دا أنا عايزة أشرب من دمه!
أخذت أميرة نفسٌ عميق، وأخرجت ما يعتمل صدرها بزفرة أعمق، وقالت بعاطفة تغلبت على غضبها:
_عاملة إيه طمنيني عليكِ، الزفت عماد بيعاملك كويس؟
حزنٌ هائلٌ ذاك الذي طل من عيناي سهير، وهي تهز رأسها، قائلة بضحكة مفتعلة:
_أنا الحمد لله يا أميرة، انتوا كلكم عاملين إيه.
واستدركت قائلة:
_أنتِ جاية لوحدك؟
نفت أميرة بهزة خفيفة من رأسها، ورددت:
_لا سعيد وصلني ومنتظرني تحت.
خفق قلب سهير فجأة، وأشاحت بوجهها وهي مسبلة الجفنين عمَّا في قلبها، وهمست بصوتٍ خرج خفيض رغمًا عنها:
_كويس، هو عامل إيه؟
والتفتت إليها متبسمة في تساؤل:
_بلال وماما وعمرو اخبراهم إيه؟
وأتبعت تقول في حزن، وقد شردتا مقلتيها في اللاشيء:
_بلال من لما رجعت لعماد مبيكلمنيش.
همَّت أميرة بالتفوه بشيءٍ ما، عندما أتاها صوت عماد البغيض إلى قلبها، قائلًا:
_ازيك يا أميرة نورتي، أنا خارج يا سهير.
رمقته أميرة شزرًا، دون أن تكلف نفسها عناء الرد، بينما لم ينتظر هو أي ردٍ منهن فقد خرج صافقًا الباب وراءه.
التفتت أميرة مرة أخرى إلى سهير، وصاحت في غضبٍ لم تستطع كبحه:
_أنتِ بعد اللي عملتيه وعايزة بلال يكلمك؟ أنتِ إزاي قدرتِ تعملي كده بجد! مخفتيش على نفسك من الحيوان عماد ده؟!
غمغمت سهير في مرارة:
_كان غصب عني يا أميرة.
اهتاجت أميرة وماجت وصرخة في حِدة:
_غصب عنك إيه لو مخفتيش على نفسك وعملتي ليها حساب، مجاش في بالك عماد أخوك؟ هان عليكِ إزاي تحطيه في موقف زي ده وترجعي لعماد من وراه؟!
سَكَتت حين رأت عينان سهير تسحان الدمع بفيضانٍ من الحزن، فلاذت بالسكون لثوانٍ، عندئذٍ تنهدت أميرة، ثم نهضت وقد ضاقت بها نفسها، مغمغمة:
_أنا همشي يا سهير.
كفكفت سهير دمعها، ونهضت تودعها في هدوء، وقبل أن تجتاز أميرة الباب، نادتها قائلة:
_أميرة استني.
فالتفتت أميرة في اهتمام ولم تنبس ببنت شفة، بينما ضافت سهير بنبرة تمتلأ بالمرارة:
_أبقي اسألي عليا، متنسنيش.
ألمت العبارة بشدة قلب أميرة، ولم تنبس بل ظلت تنظر في داخل عينيها في صمتٍ حزين، ثم استدارت مغادرة.
أغلقت سهير الباب، وهرولت تجاه النافذة، وطلت برأسها للأسفل، تشيع رحيل أميرة وسعيد بعينين مغروقتين بالدموع، وعندما اختفيا عن أنظارها، أستدارت متكئة بظهرها على الجدار، وعينيها غرقتا في نهرٍ من الدمع.
مؤلم أن يرحل عنا الأحباب.. يتركونا بمفردنا تائهين لا نجد من نلوذ بهِ عندما تطعنا الحياة!
مؤلم أن يغرق فؤادنا بالدموع دون أن نجد شخصًا واحد يراها، ويمحيها ببسمة مطمئنة، أو بنظرة دافئة، أو حضن من العينين، أو كلمة!
والأدهى أن يضيع الإنسان عن نفسه، يقف بفراغ قلبٍ وسط جدران من المفترض إنها مسكنه فيتأملها ويلتفت على كل اركانها فلا يرَ إلا غربة مخيفة تكاد تبتلعه في عتمتها..
والحزن إن استوطن فؤاد المرء لا يزول ببساطة.
وغربة الروح لا يوجد لها مأوى إلا بمن تألفه!
وللدموع حكايات لا تنتهي عسيرٌ فهمها لمن لم يعانيها..
والوحدة قاسبة تنهش قلب المرء حتى تذروه ريشة في مهب الريح.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد
_أنـــت؟!
هتفت إسراء في ذعر، وهي ترى ملامح الزائر، وطل خوفٍ من منبع ما اقترفه في حقها في عينيها المتسعتين، والتصق ظهرها بالباب المغلق وهي تزدرد لعابها، عندما انطلقت ضحكته المجنونة العالية، تهز قلبها في عنفٍ، وترج روحها، وتدك حصون ثباتها دكًا، وانبعث صوته في أُذنيها كصوت أسدٍ ضاري يهم بابتلاع فريسته:
_بقا كده تتسجني بتهمة كبيرة زي دي، ومتعرفيش حبيبك هشام!
بلغ اتساع عيناي إسراء على آخرهما، وراقبت بأجفان مرتجفة جلوس هشام البسيوني بكل غطرسة على المقعد وفرد ذراعيه على ظهره، وبكل تسلط وأريحية، قال:
_إوعي تكوني يا إسراء يا حبيبتي شاكة في حبيبك هشام، تؤ تؤ هزعل.. هزعل اوي وزعلي وحش.
ومال إلى الأمام، وشبك كفيه أمام وجهه، وأتبع يقول:
_عيب إنك تشكي في الشخص اللي عمل منك نجمة كبيرة يُشار لها بالبنان، وفنانة مشهورة بيحبها الملايين.
وخبط بكفيه على الطاولة أمامه وهو يهب واقفًا، حتى جعل جسدها ينتفض وذرفت عينيها الدموع..
وستذرف أوجاعها دمعًا إلى الممات!
لماذا أصبح الجميع يذكرها بماضيها البشع؟!
ذاك الماضي الذي كان يحسدها عليه الجميع كان جحيمها، وسيظل.
الطرقات تُظهر لنا ظواهر البشر، أمَّا البيوت فيكمُن في أعماقها البواطن..
ما يخفيه الأنسان..
ويحتفظ بهِ لنفسه..
فلا تحكمو بالظواهر فالظاهر دائمًا ما يخفى وجعًا لا يُرى بالعين، ودمعة حزنٍ في خفايا الجوانح تسكن، وندبة ألم لا تداويها ضحكة مفتعلة وبسمة زائفة.
همست إسراء بصوتٍ متلعثم:
_أنـ.. أنـت عاوز إيه مني؟ جاي ليه؟! مش خلاص دمرتني؟ عايز مني أيه تاني؟! سيبني في حالي حرام عليك.
ورده كان ضحكة عالية، ألهبت فؤادها بالأحتقار الذي تسلل إلى ملامحها وعينيها، ونهض في بطءٍ متلذذًا ببكاءها وحالتها، وتقدم نحوها حتى كان قاب قوسين أو أدنى منها، ودس كفيه في جيبيّ بنطاله زافرًا بقسوة رافقة صوته البغيض:
_أسيبك؟! أنتِ غبية يا بنتي أسيب مين؟
وأولاها ظهره وأردف متابعًا بصوتٍ أجش:
_أنا مش هسيبك إلا وأنتِ جثة متحطمة، مش هبعد غير لما اتأكد إنك خلاص ميتة، أنا عملتك بإيدي نجمة مشهورة وبنفس الأيد هدمرك، وزي ما خليت عندك جمهور كبير يحبك.
ألتفت إليها وبرقت عيناه بوميضٍ من القسوة، وهو يجز على أسنانه، مسترسلًا:
_هخلي نفس الجمهور يكرهك ولما يفتكروكِ يدعوا عليكِ.
ومال بوجهه شَطر وجهها، وأكمل بهمسٍ كالفحيح:
_أترجتك تتجوزيني ورفضتي، عرضة عليكِ فلوس كتير ورفضتي برضو، وعدتك بنجومية هطلعك لسابع سما ورفضتي برضو، وعايزة تسبيني أنا هشام البسيوني...
قرن قول اسمه بإشارة من سبابته إلى صدره، ثم دار حولها ووقف بجانبها، متابعًا بهمس خافت مثير للرعشة:
_عايزة تدي تعبي لغيري وتشتغلي بعيد عني؟! لأ وكمان نويتي تسيبي التمثيل وبتحبيلي واحد فقير ملهوش أصل وعايزة تخسريني كل اللي بنيته؟!
وعلا صوته، قائلًا:
_يبقى موتك أفضل.
وفجأة، لان صوته ورمقها طويلًا، ثم اتجه جالسًا على المقعد ووضع قدمٍ على أخرى، وقال:
_حاولت أموتك بالعربية وقومتي من الموت برضو، دفعت مبلغ هايل لفرد من أفراد التصوير عشان يقتلك ونجتي من الرصاصة، حاولت أأقتلك أنا بنفسي في شقتك وأوضتك وبرضو معرفتش كأنك قطة بسبع أرواح.
أخذ هشام نفسٌ عميق، وأتبع:
_لقيت مفيش فايدة فقررت أني احبسك بقضية تاخدي فيها مؤبد.
لم تنبس إسراء إلا ببكاءٍ حار انشق له قلبها شطرين، ثم أخيرًا رفعت رأسها إليه في هدوء يثير الدهشة، وغمغمت من بين شهقاتٍ متتالية:
_أنت مش خايف من ربنا؟! اعمل كل اللي تقدر عليه براحتك ربنا هيجيب ليّ حقي، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
انتهى اللقاء وعادت إلى الزنزانة، شاردت النظرات، منتفخة الأجفان، محمرت العينين بلون أحمر قان من إثر البكاء، ورقدت على فراشها تضم جسدها بذراعيها، انتفضت من شرودها على صوت امرأة تقف أمام فراشها وهي تهز قدميها، متمتمة بغلظة:
_صدعتنا عياط ياختي كفاية، إيه مزهقتيش.
اكتفت إسراء بإن رمتها بنظرة سريعة ولم تعيرها اهتمامًا، بينما نفخت المرأة بضيق، ودارت حول الفراش وجلست بجانب رأس إسراء، ومسدت عليها في رفق، وانبعث صوتها هادئ مشفق وهي تقول:
_كفاية عياط يا حبيبتي، العياط مش هيفيدك بحاجة إلا تعبك، كلنا في الأول بنبقى كده.
وندت عنها ضحكة هازئة مريرة وهي تضيف:
_وبعدين كلنا بنتعود، بنعتاد الحبسة، وضيق ارواحنا علينا، وبنرضى بالمكتوب ونحمد ربنا.
هي دي الدنيا يوم ليك ويوم عليك، مستحيل تدي الواحد كل اللي هو عايزه، مفيش حد خالي من الهموم كلنا بس بنحاول نتعايش مع وجعنا، وأنتِ باين عليكِ مش قد الغم ده.
تفاجئت إسراء بالمرأة التي كانت آنفًا تعنفها، تواسيها بكلماتٍ طبطبت على فؤادها، فارتمت في حضنها وبكت، ربتت المرأه على ظهرها، وهي تقول بتنهيدة:
_أبكي يا حبيبتي ففي البكاء راحة لقلوبنا من أوجاع مش بنقدر نفسرها.
وأغروقت عينيها بالدموع، ثم تفاجئت إسراء بذات المرأة تدفعها عن حضنها برفق، وهي تهب واقفة، قائلة:
_إوعي ياختي كده من وشي هو الواحد ناقص هم.
شيعتها إسراء بنظراتٍ مندهشة وقد تجمدت دموعها في عينيها.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد
توالت الأيام بجراحٍ لا تلتئم لا تفتأ تنزف بدماءٍ تنكسب فيها الأرواح دون عودة.
وأسر الروح في بئرٍ لا قرار له ليس بهين!
الأحزان إن تواغلت في السويداء من القلب لا تغادر وإن فكرت بالرحيل ستترك ندوبًا لا تداويها الأيام ولا يطمسها النسيان.
الظلام يغشى المكان، في بقعة تسلطة فيها إنارة من السيارة التي ترجل منها هشام البسيوني بقلقٍ وهو يتلفت حوله، بعينين تطل منهما الفزع، وأصابعه تتحسس سلاحٍ متخفيًا في سترة بدلته، أقترب رجلًا يبدو عليه كِبر العمر منه، فبادره هشام البسيوني صارخًا:
_طلبت نتقابل ليه؟
فنطق الرجل بنبرة صارمة لا تضاهي ذلك القلق التي تطفح على كل خلايا وجهه:
_محتاج فلوس ولا عايزني أروح أبلغ الشرطة إنك السبب في حبس إسراء؟!
ضغط هشام على شفته السفلى في غضبٍ، وتميز غيظًا وهو يشهر سلاحه في وجه الرجل، قائلًا:
_أنا مبتهددش ولو حد فكر يهدد حياتي اخلص عليه، ولو بتفكر إنك ممكن تشتغلني يبقى بتحلم، أحنا اتفقنا على مبلغ معين وخدته كامل وحذرتك بس مسمعتش فعشان كده تستاهل الموت.
سحب هشام زناد السلاح، وهم بإن يطلق الرصاصة، ودوى صوت رصاصة مع اتسع عينين الرجل في هلع، واندفعت صرخت هشام مع تطاير السلاح من يده وانبثق الدم من كفه فراح يصرخ وهو يلتفت حوله مع ظهور رجال الشرطة في المكان.
يتبع …
لإكمال الرواية تابعنا علي قناة تليجرام
الفصل التالي: رواية والتقينا الفصل السابع عشر
جمييع الفصول: رواية والتقينا كاملة بقلم ندي ممدوح
المزيد من الروايات الرومانسية الكاملة: روايات كاملة
انتهت أحداث رواية والتقينا الفصل السادس عشر إلى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله.