رواية الدهاشنة 3 الفصل السادس ( الدهاشنة الجزء الثالث ) من روايات ايه محمد رفعت . والتى تندرج تحت تصنيف روايات رومانسية مصرية ، تعد الرواية واحدة من اجمل الروايات رومانسية والتى نالت اعجاب القراء على الموقع ، لـ قراءة احداث رواية الدهاشنه كاملة بقلم ملكة الابداع آيه محمد من خلال اللينك السابق ، أو تنزيل رواية الدهاشنة pdf كاملة من خلال موقعنا .
رواية وخفق القلب عشقًا الفصل السادس
#الدهاشنة3... (#وخفق_القلب_عشقًا..)
#الفصل_السادس_والثلاثون...
كان "يحيى" ذكيًا في حل ما أصاب رفيقه، لذا حينما شعر بأنه سيطر على غضبه توجه للعودة للسرايا، فتفاجئ به "آسر"، ليتساءل وعينيه تجوب الطريق من خلفه باستغرابٍ:
_فين ماسة؟
ضيق عينيه وهو يجيبه بذهولٍ:
_فين ازاي، أنا كنت سايبها فوق..
رد عليه" آسر" بقلقٍ:
_نزلت وسألت عنك فقولتلها انك بالجنينة وراحتلك..
جحظت عينيه في صدمةٍ، فأسرع كلًا منهما للبحث عنها، تفرقوا باتجاهات مختلفة عسى أن يسرعوا بالوصول إليها، شلت أطراف "يحيى" وهو يقترب من باب الجراج الخارجي، وبداخله دعوة تمنى بالا تكون إجتازت تلك المنطقة ، تهدم أمله البائس حينما وجدها ملقاة أرضًا كالجثث الشاحبة ، استهدف قلبه نغزة قاتلة أصابته في مقتل، فأسرع إليها وهو يصرخ بجنون:
_مــــــــــاســـــــــة!!!
حملها بين يديه وهو يلطم وجهها عدة مرات، فوصل "آسر" إليه حينما وصل صوته لمسمعه، فأنحنى وهو يتساءل بلهفةٍ:
_مالها!
رفع يحيى عينيه تجاه السيارة، فكانت اجابة صريحة إليه عما أصابها، لم يكن يملك وقتًا كافيًا لتهدئة ابن عمه، كان عليه التحرك سريعًا، لذا صعد لسيارته وأشار إليه بالصعود ليسرع بها تجاه أقرب مشفى، وبالطريق أخبر "يحيى" طبيبها بحالتها فأخبره بأنه سيأتي مسرعًا للمشفى التي ستنقل إليها.
******
بسرايا "مهران الدهشان"
عمت السعادة وجهه حينما استمع لتلك الاخبار التي سرته، فعاد ليتساءل من جديدٍ:
_عارف يا واد لو كلامك ده طلع صوح أنا هعمل معاك أيه؟
أجابه الخادم بحماسٍ وطمع لما سيقدمه له تلك المرة:
_والله صوح، اني سامعها بوداني وهي بتقول لناهد بتها انها هتقتلها.
اتسعت ابتسامته الخبيثة التي فاحت بما يخفيه بداخله من نوايا قذرة:
_لو ده حصل يبقى القيامة قامت بين العيلتين، مهو مش هيخلص الكبير برضك أن بته تنقتل وهو عايش، هيخلصوا على بعض وساعتها الدنيا تفضالي، ووقتها محدش هيستجري يقف قدامي..
وأنهى كلماته الاخيرة ليفتح درج خزانته السوداء، ثم أخر مبلغ من المال، ليلقيه إليه كالعظمة التي ستصيد له فريسة ينتظرها، وأشار له قائلًا:
_ارجع أنت قبل ما حد ياخد باله منيك.
أومأ برأسه في طاعةٍ، وكاد بالخروج ولكنه توقف حينما استوقفه حديث "مهران" الشيطاني:
_خليك مستعد للي اتفقنا عليه عشان هتتفذ قريب أوي.
هز رأسه مجددًا ثم غادر ليعود لسرايا المغازية قبل أن يشعر به أحدًا.
**********
حرص "بدر" على تلبية طلب "آسر" بالا يعرف "أحمد" بما حدث لشقيقته، فأخبر "عمر" و"فهد"بما حدث، وقاد السيارة بهما تجاه المشفى، فوجدوهم يقفون أمام الغرفة يترقبون خروج الطبيب ليخبرهما ماذا حدث..
كانت تلك الدقائق ثقيلة على الجميع وبالأخص "يحيى" الذي شعر بأن قلبه سيقف بأي لحظة، والأصعب مما يخوضه أنه يعلم خطورة ما تعرضت اليه، وخاصة بأن الطبيب شدد عليه سابقًا، سحب "يحيى" نفسًا عميق ثم زفره على مهلٍ، فعليه الحفاظ على اتزانه لأجلها، شفق "عمر" عليه فدنا منه، ومرر يديه على كتفيه ثم قال بحزنٍ:
_متخافش يا يحيى، ربنا مش هيسبنا هو اللي عالم إحنا اتعذبنا وصبرنا أد أيه يابني.
همس بترجي من بين رعشة أسنانه:
_يا رب.
صوت صرير باب الغرفة جعل الجميع ينتبه لخروج الطبيب، فسأله "فهد" بثباتٍ يتناسب مع هيبته:
_خير يا دكتور، طمنا.
بدت علامات الأسى على وجه الطبيب الذي خلع نظارته وهو يخص بنظراته "عمر" و"يحيى":
_للأسف اللي كنت خايف منه حصل.
ازدرد "يحيى" ريقه المقطوع بصعوبةٍ وهو يسأله بخوفٍ:
_يعني أيه؟
قال بقلة حيلة:
_يعني الحالة اتنكست ورجعت لنقطة الصفر من تاني، وللأسف دخلت في غيبوبة وزي مانتوا شايفين محدش من اطباء المخ والأعصاب قادر يحدد سبب فقدان الوعي.
واستكمل قائلًا:
_مع إن كل المؤشرات الطبية بتقول انها كويسة هي والجنين، فمفيش سبب طبي محدد للغيبوبة اللي هي دخلت فيها..
بتماسك شديد سأله عمر:
_يعني أنت شايف أيه يا دكتور؟
رد عليه بعد فترة من الصمتٍ:
_أنا شايف يا أستاذ عمر، أن الصدمة اللي اتعرضت ليها ماسة خلتها متعلقة بين الماضي والحاضر، وخصوصًا انها كانت حامل وقت الحادثة، فمش هقدر أحدد حالتها طول مهي فاقدة الوعي، بنتك لازم تتقبل ان اللي حصل كان في الماضي وانها بتعيش أيام جديدة مختلفة عن اللي عاشتها... دي حربها ولازم هي اللي تنتصر فيها وباردتها..
وربت بيديه على كتفيه وهو يخبره بمهنيةٍ:
_إدعلها..
كان "عمر" رجلًا متماسكًا، يثق بما أختاره له رب العباد، ولكن الصدمة التي تلاقاها يحيى أضعفته وجعلت يترنح كمن تلاقى خبطة افتكت برأسه، فتراجع للخلف بخطواتٍ متعثرة حتى استقر على المقعد الذي خطف جسده قبل أن يجلس أرضًا، فأسرع إليه "بدر" و"آسر"، فجلس كلًا منهما لجواره، فقال "بدر" بحزنٍ:
_أنت انسان مؤمن وموحد بالله يا يحيى، أوعى تضعف خليك قوي عشان تقدر تتحمل اللي جاي.
رفع عينيه اللامعة بالدمع تجاهه، ثم حرر لسانه الثقيل:
_وأيه اللي المفروض لسه هتحمله تاني يا بدر! ، أنا صبرت وإتحملت كل حاجة في سبيل أنها جنبي، حتى لو مكنتش بطبيعتها بس على الأقل عيني شايفها وهي واقفة على رجليها وبتبتسم، تفتكر هقدر أتحمل وأنا شايفها زي الميتة كده!
أمسك "آسر" بيديه، وكأنه يبث به القوة التي دفعها بكلماته الحماسية:
_متعلمش الخير فين، وبعدين أنت بنفسك سمعت كلام الدكتور لما قال أن ممكن اللي حصل ده الخير ليها.
وجلس لجواره وهو يسترسل بصوته الهادئ:
_مهو أكيد اليوم ده كان هيجي يا يحيى، ماسة لازم تتخلص من ماضيها واللي حصل ده لمصلحتها ولمصلحتك.
هوت دمعة خائنة على وجهه، فرفع عينيه تجاهه وهو يخبره بإنكسارٍ:
_مش هقدر يا آسر، صدقني مش هقدر.. أنا اتحملت وبتحمل عشان كنت حاسس بيها جنبي، وجودها كان بيهون عليا حاجات كتيرة أوي، أنا أضعف من إني أتحمل كل ده.
استمع إليه بحرصٍ شديد، حتى فرغ من حديثه، ثم قال بصوته الرخيم المبعوث بالتفاؤل:
_مش يمكن ماسة تكون بتختبرك لتاني مرة يا يحيى، أنت سبتها تعاني أول مرة والمرادي لازم تكون جنبها وتتغلب على خوفك ده.. أكيد هي سمعاك وحاسة بيك.
واتسعت ابتسامته وهو يجاكره بالحديث:
_الحب أفعال مش أقوال ولا أيه!
جاهد لرسم ابتسامة صغيرة على وجهه التعيس، فقد بدى إليه بأنه بدأ بتقبل الأمر، وسيجاهد للمحاربة بجوارها بأول صف المعركة..
********
للمرة الخامسة تعود بالإتصال به، ولكن دون أي جدوى، فمازال هاتفه مغلق، وضعت "تسنيم" الهاتف عن يدها والقلق يفترس معالمها الشاحبة، تخشى أن يكون قد أصابه السوء، فبات غامضًا، مريبًا منذ لحظة إنكشاف الحقيقة التي دمرت هذا المنزل، قضت ساعة أخرى بالخطي المرتبكة بأرجاء غرفتها، وما زادها ارتباكًا حينما إحتضن عقرب الساعة السادسة صباحًا، همست بقلبٍ يرتجف صداه:
_هيكون راح فين لحد دلوقتي؟
تسلل لمسمعها صوت الطرق المتتالي على باب جناحها الخارجي، فأسرعت لتقف من جواره وهي تردد بلهفةٍ:
_مين؟
أتاها صوت "رؤى" يجيبها:
_أنا يا تسنيم، إفتحي..
جذبت مئزرها، ثم ارتدته وهي تفتح بابها، قائلة باهتمامٍ:
_ادخلي يا رؤى، في حاجة ولا أيه؟
ولجت للداخل ثم استدارت في مقابلتها، وهي تجيبها بدهشةٍ:
_أنا فكرتك إنتي اللي تعرفي حاجة.
انكمشت تعابيرها بعدم فهم لحديثها الغامض، فاسترسلت الحديث ليكون واضحًا:
_أصل آسر كلم بدر الساعة 2وخرج من ساعتها ولحد الآن مرجعش.
تجعد جبينها وهي تردد بصدمةٍ:
_كده في حاجة وكبيرة كمان... أنا بحاول أكلم آسر بس تليفونه مبيجمعش..
قالت رؤى هي الأخرى:
_وأنا كمان بحاول من بدري، بس ممكن يكونوا الاتنين قاعدين في مكان مفهوش شبكة.
ردت عليها بقلقٍ:
_جايز، بس إحنا مش هنقعد نحط في افتراضات!
كادت بأن تجيبها ولكن توقفن عن الحديث حينما استمعوا صوت السيارات بالخارج، فرفعت كلا منهن حجابها على رأسها بإهمالٍ ثم خرجن للشرفة، فتفاجئوا بالكبير يهبط من سيارة "آسر"، و" عمر" كان بسيارة "بدر"، اطمئن قلبهما قليلًا، ليس لعودتهم ولكن بمن كان بصحبتهم، فكانت"تسنيم" تخشى أن يكون سبب غيابه متعلق بما يضمره من انتقامًا قاسٍ لهذا اللعين، ولكنها تعلم بأن "فهد" سيمنعه من ارتكاب أي شيئًا خاطئ.
صعد كلًا منهما لغرفته، فما أن ولج "آسر" للداخل، حتى وجدها تسرع إليه وهي تهمس من بين شهقات بكائها:
_أنت كنت فين أنا كنت هموت من القلق عليك!
رسمت على طرف شفتيه ابتسامة عاشقة لقربها منه، فضمها بقوةٍ إليه، ويديه تخطو ببطءٍ على ظهرها:
_أنا كويس يا تسنيم متقلقيش.
ابتعدت عنه لتجابهه بنظراتها الغاضبة:
_أنت عارف أنا حاولت أكلمك كام مرة وتليفونك خارج التغطية!
اتجه لخزانته، فخلع جاكيته وهو يجيبها:
_مكنش في شبكة بالمستشفى.
انخلع قلبها من خوفها لسماع تلك الكلمة، فأسرعت بطرح سؤالها التالي:
_مستشفى ليه، أنت فيك حاجة!
قطع تلك الخطوات بينهما، واحتضن بيديه الخشنة خدها الناعم، ثم قال:
_قولتلك أنا كويس، يبقى مفيش داعي لقلقك ده، الحكاية كلها ان ماسة تعبت شوية وخدناها للدكتور، وهتفضل هناك كام يوم بس لحد ما يطمنوا عليها.
ضيقت عينيها بذهولٍ:
_ماسة! بس أنا سايباها وهي كويسة ومكنش فيها حاجة.
بحزنٍ أجابها:
_حالة ماسة مش مستقرة يا تسنيم،في لحظة ممكن تتراجع زي اللي حصلها المرادي.. ادعيلها.
ترقرقت الدموع بعينيها رأفة على حالها، فقالت بتأثرٍ:
_بدعيلها في كل صلاة والله، أنا حبيتها وبعتبرها هي والبنات كلهم أخواتي.
ابتسامة عذباء شقت وسامة وجهه، فضمها لصدره وهو يخبرها بيقينٍ:
_ربنا هيستجاب لدعواتنا كلنا..
ثم رفع ذقنها اليه، ليتمكن من طبع قبلة خاطفة على جبينها فاتبعه همسًا خافت:
_هرتاح ساعتين وبعدين نتحرك على بيت أهلك، أنا مش ناسي إن النهاردة معزومين هناك على الغدا.
بسمتها توجتها السعادة، فبالرغم مما يمر به من ظروف قاسية الا أنه مازال يتذكر ما يخصها، كان من الممكن أن يعتذر بلباقة عن هذا الموعد ولديه ألف حجة وحجة، لكنه قدر دعوة أبيها إليه حتى وهو بأصعب أوقاته.
********
بسرايا "المغازية".
كان يجلس بمكتبه منذ الصباح يتابع عمله الذي تعرض لخساير طائلة من المال، فحاول" أيان" جاهدًا أن يخرج مما عرضه "آسر" إليه بأقل الخساير الممكنة، ولكنه أصابه في مقتل فكل حل يلجئ إليه يكلل له خسارة فاضحة ومكسب رابح إليه، أغلق "أيان" حاسوبه بتعصبٍ شديد، ثم جذب هاتفه ليتحدث مع مدير أعماله بالقاهرة، عله يجد سبيل أمن للخروج من تلك المعضلة.
أما بالخارج..
كانت تعد الخطط والمؤامرات للتخلص من تلك الدخيلة التي ستنهي ما تعبت تلك الحية بزرعه بداخل ابن شقيقتها الراحلة، بعدما تأكدت بأنها تفقد سيطرتها عليه رويدًا رويدًا، فبدلًا من أن تحقق انتصارها بذلها وكسر كبريائها ستفوز الاخيرة عليها بفوزها بقلبه، لذا رأت بأن اليوم مناسب لخطتها وخاصة بوجود "أيان" حتى لا تقع الشكوك عليها، فأشارت بيدها لأحد الرجال المخلصين إليها وقد جمعهما اتفاقًا سابق، فانحنى تجاهها ليستمع لهمسها المنخفض:
_عملت اللي قولتلك عليه؟
أومأ برأسه وهو يؤكد لها:
_كله تمام.
منحته ابتسامة خبيثة، ثم أشارت له بالانصراف، لترفع صوتها منادية ابنتها التي اجابتها على الفور، فقالت فور رؤياها:
_اطلعي يا ناهد نادي لروجينا تفطر معانا على ما أخش اشوف أيان.
انعقد حاجبيها في دهشةٍ وعدم استيعاب لما تقوله والدتها، فكان الأمر مخيفًا بالنسبة إليها، كيف تطورت العلاقة بينهما هكذا وهي بالأمس تقسم بالتخلص منها!
ظلت محلها تبحلق بها، فاهتز جسدها بهلعٍ حينما صاعت الاخيرة بتعصبٍ:
_انتي لسه واقفة مكانك!
تحركت من محلها وهي تقول:
_حالا..
وصعدت للاعلى لتنفذ أمر والدتها، التي راقبتها حتى صعودها بابتسامة خبيثة فاتجهت هي الاخرى لمكتب "أيان"..
تسلل الرجل بحرصٍ للأعلى لينفذ أخر خطوة بخطتهم المتفق عليها، فكان بانتظار خروجها ليشرع بتنفيذ ما ينوي فعله.
********
بغرفة"روجينا"..
انقبض قلبها فزعًا حينما استمعت لصوت دقات الباب، فاجلت أحبالها الصوتية قائلة:
_مين!
أتاها صوت يجيبها:
_أنا ناهد يا روجينا.
شعرت ببعض الأمان، فكانت تظن بأنها تلك العقربة:
_ادخلي.
ولجت للداخل، لتجدها ترقد على الفراش بتعبٍ يبدو عليها، دنت" ناهد"منه لتخبرها بارتباكٍ ملحوظ:
_ماما عايزاكي تنزلي تفطاري معانا تحت.
جحظت عينيها في صدمةٍ، فرددت بذهولٍ:
_أيه!
زمت الأخيرة شفتيها بحيرةٍ:
_معرفش بتحاول تعمل أيه صدقيني، بس يمكن تكون حابة تحسن العلاقة بينكم، خصوصًا إنها شافت بنفسها أد أيه أيان متعلق بيكي.
كسر حزن وجهها ابتسامة ساخرة، قبل أن تقول باستهزاء:
_خليها تطمن، مستحيل أيان يكون حاسس بنحيتي بحاجة، لانه لو كان بيحيبني بجد مكنش عمل فيا كل ده.
لمست بنبرتها الخافتة انكسارها، شعرت وكأن بداخلها انثى مهزومة تود الصراخ بأعلى صوت تمتلك، ولكنها تستكتر تلك الصرخة على جسدًا فارقته الروح وتركته ينزف، أسرعت أصابع "روجينا" لمسح الدمعات العالقة بأهدابها قبل أن تراها من تقف أمامها، ثم قالت وهي تحاول التهرب من نظراتها:
_شوية وهنزل وراكي.
هزت رأسها بتفهمٍ حاجتها لمساحة خاصة بها، لذا هبطت هي للأسفل ودعتها تلحق بها، نهضت "روجينا" عن الفراش بصعوبة، فمازال الدوار والإعياء يهاجمها، تحاملت على ذاتها لتجذب اسدال الصلاة الخاص بها ثم ارتدته لتصلي صلاتها قبل أن تهبط للأسفل، وكأن قلبها يشعر بأن قربها من الموت يزداد ببقائها بمثل ذلك المنزل وبصحبة أناس كهؤلاء، فما أن لامس رأسها سجادة الصلاة حتى انفطرت من البكاء وهي تردد بقهرٍ:
_اللَّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا، وَلا يَغْفِر الذُّنوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِر لي مغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ، وَارحَمْني، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفور الرَّحِيم...
بكت براحةٍ وشعور الأمان يحتضنها، وكأن أوجاعها وأحزانها تخرج مصاحبة لتلك الدمعات، فرددت بصوتٍ متأثر أحباله:
_اللَّهمَّ اغْفِر لِي خَطِيئَتي وجهْلي، وإِسْرَافي في أَمْري، وَمَا أَنْتَ أَعلَم بِهِ مِنِّي، اللَّهمَّ اغفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلي، وَخَطَئي وَعمْدِي، وَكلُّ ذلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَما أَسْررْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْت المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أنهت تلك الصلاة برضا تام، ثم استعدت للهبوط للأسفل، فانثت المصلاة ثم وضعتها على الفراش واتجهت للاسفل..
فور خروجها من غرفتها، القى ذلك الرجل قطع البلور الصغيرة أرضًا، ليجبرها على الانجراف عن الجانب الأيسر للدرج، كان يتعمد أن يجعلها تتجه للجهة اليميني، فلم يكن غرضه ان يسقطها على درجات الدرج، بل إختارت لها تلك العقربة سقوط حاد سيفتك بها لامحالة، فأمرته بخلع السور الخارجي للدرج، ففور اتجاهها للجهة اليمينى استندت "روجينا" على حافة السور كرد فعلًا تلقائي حينما كادت بالتعثر بكرات البلور المزعجة، فسقط السور المخلوع ومن خلفه كانت هي تتبعه، لتصرخ من بعدها صرخة رجت أرجاء السرايا بأكمله، بعدما استقر جسدها الهزيل على درج السرايا الخارجي من الطابق الثالث، انسابت الدماء من جسدها بأكمله، وعينيها ترى ظلامًا دامس يخيم بجلبابه الأسود عليها، رأت موتها يرحب بها بصدرٍ رحب، وكأن العالم بأكمله قسى عليها وكان الموت رحيمًا بها، لم تعد ترى ولا تسمع، فقدت كل شيء وأصبحت ساكنة مسلمة لمصيرها المحتوم، لم تشعر بصرخات من حملها بين ذراعيه وهو يناديها بفزعٍ، ويرجوها بأن تفتح عينيها، فحتى وجهها استحوذ عليه الدماء ليجعلها كالغارقة ببركان صنعه هو بيديه، ذبح من أمامها وهو يحركها وصوته يعوي بألمٍ كالضريعٍ:
_لا.... روجينـــــــــــــــــا....
*********
أصر العم "فضل" على استقبالهما بنفسه، فاحتضن "آسر" وهو يقول بترحابٍ وود:
_يا ألف مرحب بالغالي ابن الغالي.
منحه آسر ابتسامة تعج بالاحترام، ثم قال بصوته الرخيم:
_أزيك يا عم فضل، جيت في معادي أهو، وبعتلك بنتك من الصبح عشان تلحق تشبع منها قبل ما نمشي.
ضحكت العجوز وقال:
_طول عمرك ابن اصول وتعرف بالواجب..
وأشار له بالدخول، فوجد زوجته تساعد والدتها بتجهيز السفرة، حتى زوجة خالها كانت تضع الطعام بهمة ونشاط، اتجهت إليهم "تسنيم" اليهم وهو تشير على الطاولة قائلة:
_الأكل جاهز..
نهض العم فضل وهو يربت بيديه على ساق آسر قائلًا:
_يلا يا حبيبي.
أومأ برأسه ثم لحق به وعينيه تجوبان أعين زوجته المتكدسة بحديث مكبوت تود البوح به إليه، ابتسم بمكرٍ وهو يعلم ما تود الحديث به إليه، وخاصة حينما عاونت والدتها أخيها "عباس" بالجلوس على أحد المقاعد، فجذب آسر المقعد المقابل له ليمنحه نظرة تعمقت بالتطلع لحالته المذرية، فقال بنبرة ثابتة كبتت مكر بين طياته:
_ أيه اللي حصل معاه ده؟
ردت عليه زوجته بتأثرٍ مما يعانيه زوجها:
_طلع عليه بلطجية ضربوه وسرقوا كل اللي معاه... منهم لله ربنا ينتقم منهم.
ابتسم وهو يجابهه بنظراته الخبيثة:
_لا حول ولاقوة الابالله، ربنا يجزيهم ولاد الحرام..
ثم وجه حديثه لمن يتحاشى التطلع اليه بخوفٍ:
_خد بالك يا خال بعد كده، لحسن البلطجية دول لما بيحطوا حد في دماغهم بيجيبوا أجله..
ابتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، والخوف في حضرته يكاد يقتله، تناول آسر طعامه ونظرات تحيطه ببرودٍ قاتل، حتى دنت منه نظرة جانبيه تجاه زوجته التي تراقبه بعينين مغرقتين بالدموع وابتسامة فرحة مرسومة على وجهها، منحها بسمة هادئة طوفتها بدفء تتمنى خوضه لعمرً كامل، فراقبت تلك الساعات التي قضوها معًا بالمنزل حتى باتوا بمفردهما بالسيارة، فاستعد "آسر" للعودة للسرايا ولكنه فور أن وضع يديه على المقود وجدها نحتضن يديه، لتستميل اهتمامه، فاستدار بجسده تجاهها بنظراتٍ مهتمة لما ستقول، فتحرر صوتها الباكي قائلًا:
_أنا كنت بخاف أقعد وهو موجود في أي مكان، بس دلوقتي في وجودك مش بيهمني اذا كان موجود ولا لا..
واسترسلت بفرحةٍ غريبة:
_فرحانة وأنا شايفاه مرعوب وخايف حتى يبص نحيتي، أنا حاسة ان حق الايام اللي عشتها في خوف وقلق بترجعلي دلوقتي بالراحة والامان بوجودك يا آسر..
وبارتباكٍ قالت له:
_أنا بأحبك وبأحب طريقتك المختلفة بالتعامل مع كل شخص، بشوفك طيب مع الناس اللي تستاهل تشوفك كده، وشخص مستفز وعنيد مع اللي يستاهل، أنت ازاي فيك كل الصفات دي!
رمش بعينيه عدة مرات، ثم ابتسم وهو يجيبها بمكرٍ:
_هو أنتي مش بيحلالك الكلام الحلو المحمس ده الا برة البيت! خدي بالك انا باللي حاسس بيه دلوقتي هيبقى فعل فاضح على الطريق العام، المرة اللي فاتت ربك سترها معانا ببركة دعى الحاجة المرادي مفيش حد معانا يدعيلنا، وشوشو بيشجع في الخراب اسمعي مني..
انفجرت ضاحكة وهي تستمع لما يقول، فضحك هو الاخر وهو يشعل المقود ليتحرك بالسيارة وهو يغمز لها:
_للحديث بقية بس مش هنا.
لكزته بيديه بضيقٍ، فابتسم وهو يردد بحزن مصطنع:
_أنا عملت حاجة! مش بقولك شوشو شاطر في خرب البيوت اديكي هتقتليني أهو وإحنا لسه برة البيت..
نجح في اضحكاها مجددًا، فتأملها وهو يردد بجديةٍ تامة لا تتناسب مع شخصه المرح الذي كان يتحدث منذ قليل:
_خليكي واثقة أن ده هيبقى مصير أي حد يفكر يقرب منك، وأي حد أذاكي زمان محدش هيحاسبه غيري..
ثم أبعد يده عن المقود ليضمها اليه وهو يهمس بصوته الحنون:
_اللي يرشك بالمية أنا أرشه بالدم..
تعلقت به بجنونٍ، فأججت نيران رغباته تجاهها بتلك اللحظة، فشل السيطرة على طريقه فانغمس معها للحظاتٍ تفادى بها حادثًا مهيبًا، فأوقف سيارته ثم تطلع لها بنظرةٍ صارمة، مضحكة ، بللت شفتيها بخوف وهي تهمس برعب من نظراته:
_أيه!
لم يغير مجرى نظراته وكأنها متفقة عليها، فعادت لتهمس:
_أنا ماليش دعوة أنت اللي مبتصدق.
أشار بعينيه بحدةٍ:
_إنزلي.
رددت وهي تتطلع حولها بصدمةٍ:
_أنزل اروح فين!
استقرت نظراته للخلف، فعلمت الاجابة المناسبة لسؤالها، كبتت ضحكاتها بصعوبة وهي تنفذ أمره، فجلست بالخلف ليتحرك بالسيارة وصوت ضحكاتها المرتفع يرفرف رايات قلبه العاشق لها.
*****
ساعة تمر وتحتضنها الأخرى ومازالت بغرفة العمليات، طبيب يدخل ويتبعه الأخر، والجميع يتحدث عن حالتها الخطيرة، جن جنون أيان وهو يحاول معرفة ما يحدث لها، ولكن لا أحد يرد عليه، الجميع مشغول باسعافها، فخرج عن طور هدوئه، حينما جذب أحد الاطباء ليسدده تجاه الحائط وهو يصرخ به بغضبٍ جعله شخص مخيف:
_قولي مراتي جرالها أيـــــــه؟
ابتلع الطبيب ريقه بصعوبةٍ، فلم يجد سوى الاستغاثة بافراد الأمن، ليجتمع من حوله عدد من الممرضين وعلى رأسهم مدير المشفى الي تدخل ليحل الأمر كونه يعلم بكناية "آيان" التابع للمغازية وهي بالنهاية عائلة من كبار عائلات الصعيد، ليستقبله هو شخصيًا حينما درس الحالة من الاطباء ليخبره بهدوء:
_ممكن تتفضل معايا مكتبي وأنا هشرح لحضرتك الحالة.
عدل من جاكيت بذلته الغير منظم ثم اتبعه للداخل وقلبه يستوقفه الف مرة خوفًا من سماع ما سيقول، جلس على المقعد المقابل له، فوضع المدير الملف من أمامه ثم عبث بيديه بارتباك وهو يحاول ايجاد الكلمات المناسبة لقولها لرجلً لا يرى بعينيه سوى عشقًا لتلك المرأة التي تسارع موتها بالداخل:
_أستاذ أيان حضرتك لازم تكون آآ..
قاطعه حينما طرق بيديه على سطح مكتبه وهو يردد بحدةٍ:
_وفر المقدمة دي لنفسك وقولي مراتي جرالها ايــــــــه.
اتاه رده السريع:
_مبدئيًا كده احنا خسرنا الجنين.
اهتز جسده لاستقباله ذلك الخبر الحزين المتوقع، ورغم ذلك كان صلدًا، شامخًا، يخبره بكل صلابة:
_مش مهم، المهم هي حالتها أيه؟
لعق شفتيه بتوترٍ ملموسًا ليستعين بكلماتٍ دقيقة توصف له خطورة وضعها:
_للاسف الواقعة سببتلها اصابات حرجة ومنها اللي اصاب الجزء السفلي وده اثر على خلايا النخاع الشوكي وبالتالي لازم ننقلها نخاع بأسرع وقت ممكن.
ابتلع تلك الوخزة التي استهدفته، ليجاهد بالحديث:
_أنا مستعد اتبرعلها.
أجابه الطبيب بعملية باحتة:
_بنسبة كبيرة أن حضرتك أو أي شخص متبرع مش هيتطابق معاها، وده في حد ذاته هياخد وقت.. واحنا محتاجين نتحرك بسرعة عشان كده لازم نعمل اختبار لعيلتها وبالأخص اخواتها...
صدمة غريبة من نوعها اسباحت الخوض بأعماقه، فسكنت حركة جسده المتعصب، تعجب الطبيب لما حدث معه فور سماعه حديثه الاخير، فقال بعد تخمين:
_ملهاش اخوات؟
نفث الهواء الثقيل عن رئتيه وهو يجيبه:
_عندها..
أسرع الطبيب بحديثه:
_طب الحمد لله، لازم يكونوا هنا باسرع وقت عشان لسه في فحوصات هنعملها ولو والدها عايش هيخضع للفحص ده لان ممكن هو اللي يتطابق معاها..
ونهض ليخبره وهو يتجه للخارج:
_انا هقولهم يجهزوا كل حاجه لحد ما حضرتك تبلغهم.
وتركه بمفرده وغادر للخارج، أطبق أيان بيديه على خصلات شعره فكاد بقطعهما من فرط التعصب الذي يواجهه، كيف سيلجئ لعدوه اللدود لأجل المساعدة، لا يقتل الف مرة على أن يذل نفسه، ولكن موته هو سهل بالنسبة إليه، حياته هو لا تعنيه القرار هنا هل سيستطيع العيش بدونها؟
هل سيجعلها تتركه هنا عند تلك المحطة!
هل سيحتمل فراقها بعدما فارقته والدته هي الاخرى..
********
خرجت للحديقة تبحث عنه بعدما أرسل لها برسالة، فوجدته يوليها ظهره، دنت منه تالين ثم نادته باستغرابٍ:
_عبد الرحمن!
اغلق عينيه مطولًا قبل أن يستدير إليها، فتأملها بصمتٍ طال بهما الى أن مزقته هي:
_طلبت تشوفني عشان تفضل ساكت!
رد عليها بصوت مهموم:
_لا، أنا بس محتار وخايف.
عقدت حاجبيها بدهشةٍ:
_من أيه؟
أجابها بوضوحٍ:
_خايف تكدبي عليا في السؤال اللي جبتك عشانه.
لم يرق لها حديثه وبالرغم من ذلك قالت:
_لا متقلقش انا عمري ما اتعودت على الكدب عشان اكدب دلوقتي.
طال صمته مجددًا، الى أن قال:
_تالين انتي على علاقة بحد.
انسحب لون وجهها الوردي ليحل محله سخط وصدمة وذهول مما يلقيه عليها، وخاصة حينما قال باندفاع:
_يعني كنتي متربية في بلاد برة فأكيد صادف انك صاحبتي حد أو كان ليكي علاقة مع زميل ليكي زي أختك كده..
كسرت صدمتها تلك سريعًا، لتجبر يدها بأن تهوى على خديه، احتدت نظراته بغضبٍ، فشيء مخزي له بأن تصفعه امرأة، كاد بأن يمسك بها ولكنها دفعته بعيدًا وهي تصرخ بوجهه بجنونٍ:
_انت انسان قذر وأنا غلطت لما وافقت عليك من البدايه، انت ازاي تسمح لنفسك تتهمني اتهام بشع زي ده، مش أي بنت عاشت برة في مجتمع غربي تبقى باعت نفسها انت تفكيرك مريض زيك زي ناس كتيرة اوي.. أنا كان قدامي فرص كتيرة اني اغلط مع اي شخص من اللي كانوا بيحاولوا يتقربوا مني بس انا عمري ما سمحت بده خوف من ربنا مش من ابويا، لو اي بنت خافت تعمل حاجة في وجود اهلها وهي حابة تعمل ده هتعمله من ورا دهرهم لكن اللي تخاف من ربنا عمرها ما هتعملها لانها متأكدة انه معاها وشايفها في كل مكان... انت ربنا كشفك ليا قبل ما اتعلق بيك ولا اسمح لنفسي انك تكون في حياتي..
وتركته مشدوهًا لكل كلمة تفوهت بها وغادرت، فاق من غيبوبته المريضة تلك فأسرع بالركض خلفها وهو يناديها بندم:
_تالين استني..
لم تعيره انتباهًا وصعدت لغرفتها سريعًا ومازالت لا تستوعب ما استمعت اليه للتو، ظنته مختلفًا، سيصونها ولكنه كسر قلبها مع اول لحظة شك تعرضت اليه..
******
تجمعوا جميعًا على طاولةٍ العشاء، ليكسر هدوء جلستهم رنين جرس الباب أكثر من مرةٍ، فأحدث جلبة مزعجة للجميع، فأشار سليم لابنه قائلًا:
_شوف مين اللي على الباب ده..
نهض بدر ليفتح الباب، فصعق حينما رأه يقف أمامه، فصاح بتعصب شديد:
_أنت جاي لموتك برجليك!!
ابعده أيان عن طريقه ثم دخل لمنتصف السرايا، حتى بات يقف بمرمى نظرات الجميع وعلى رأسهم "فهد" و"آسر" الذي نهض عن الطاولة ليلقيه بنظرةٍ اشعلت داخلها النيران وكأنها ستبتلعه لتحرقه حيًا، حتى أن رجال فهد أسرعوا بالتجمع من حوله ومع ذلك لم يهتز له شعرة، فكان يتطلع لفهد بنظرة عميقة، يملأها غموض وقلق نجح في نقله إليه وإلى قلب أمًا تستطيع الشعور بابنتها حتى لو كانت على ألف ميل!
........ يتبع..........
#الفصل_السادس_والثلاثون...
كان "يحيى" ذكيًا في حل ما أصاب رفيقه، لذا حينما شعر بأنه سيطر على غضبه توجه للعودة للسرايا، فتفاجئ به "آسر"، ليتساءل وعينيه تجوب الطريق من خلفه باستغرابٍ:
_فين ماسة؟
ضيق عينيه وهو يجيبه بذهولٍ:
_فين ازاي، أنا كنت سايبها فوق..
رد عليه" آسر" بقلقٍ:
_نزلت وسألت عنك فقولتلها انك بالجنينة وراحتلك..
جحظت عينيه في صدمةٍ، فأسرع كلًا منهما للبحث عنها، تفرقوا باتجاهات مختلفة عسى أن يسرعوا بالوصول إليها، شلت أطراف "يحيى" وهو يقترب من باب الجراج الخارجي، وبداخله دعوة تمنى بالا تكون إجتازت تلك المنطقة ، تهدم أمله البائس حينما وجدها ملقاة أرضًا كالجثث الشاحبة ، استهدف قلبه نغزة قاتلة أصابته في مقتل، فأسرع إليها وهو يصرخ بجنون:
_مــــــــــاســـــــــة!!!
حملها بين يديه وهو يلطم وجهها عدة مرات، فوصل "آسر" إليه حينما وصل صوته لمسمعه، فأنحنى وهو يتساءل بلهفةٍ:
_مالها!
رفع يحيى عينيه تجاه السيارة، فكانت اجابة صريحة إليه عما أصابها، لم يكن يملك وقتًا كافيًا لتهدئة ابن عمه، كان عليه التحرك سريعًا، لذا صعد لسيارته وأشار إليه بالصعود ليسرع بها تجاه أقرب مشفى، وبالطريق أخبر "يحيى" طبيبها بحالتها فأخبره بأنه سيأتي مسرعًا للمشفى التي ستنقل إليها.
******
بسرايا "مهران الدهشان"
عمت السعادة وجهه حينما استمع لتلك الاخبار التي سرته، فعاد ليتساءل من جديدٍ:
_عارف يا واد لو كلامك ده طلع صوح أنا هعمل معاك أيه؟
أجابه الخادم بحماسٍ وطمع لما سيقدمه له تلك المرة:
_والله صوح، اني سامعها بوداني وهي بتقول لناهد بتها انها هتقتلها.
اتسعت ابتسامته الخبيثة التي فاحت بما يخفيه بداخله من نوايا قذرة:
_لو ده حصل يبقى القيامة قامت بين العيلتين، مهو مش هيخلص الكبير برضك أن بته تنقتل وهو عايش، هيخلصوا على بعض وساعتها الدنيا تفضالي، ووقتها محدش هيستجري يقف قدامي..
وأنهى كلماته الاخيرة ليفتح درج خزانته السوداء، ثم أخر مبلغ من المال، ليلقيه إليه كالعظمة التي ستصيد له فريسة ينتظرها، وأشار له قائلًا:
_ارجع أنت قبل ما حد ياخد باله منيك.
أومأ برأسه في طاعةٍ، وكاد بالخروج ولكنه توقف حينما استوقفه حديث "مهران" الشيطاني:
_خليك مستعد للي اتفقنا عليه عشان هتتفذ قريب أوي.
هز رأسه مجددًا ثم غادر ليعود لسرايا المغازية قبل أن يشعر به أحدًا.
**********
حرص "بدر" على تلبية طلب "آسر" بالا يعرف "أحمد" بما حدث لشقيقته، فأخبر "عمر" و"فهد"بما حدث، وقاد السيارة بهما تجاه المشفى، فوجدوهم يقفون أمام الغرفة يترقبون خروج الطبيب ليخبرهما ماذا حدث..
كانت تلك الدقائق ثقيلة على الجميع وبالأخص "يحيى" الذي شعر بأن قلبه سيقف بأي لحظة، والأصعب مما يخوضه أنه يعلم خطورة ما تعرضت اليه، وخاصة بأن الطبيب شدد عليه سابقًا، سحب "يحيى" نفسًا عميق ثم زفره على مهلٍ، فعليه الحفاظ على اتزانه لأجلها، شفق "عمر" عليه فدنا منه، ومرر يديه على كتفيه ثم قال بحزنٍ:
_متخافش يا يحيى، ربنا مش هيسبنا هو اللي عالم إحنا اتعذبنا وصبرنا أد أيه يابني.
همس بترجي من بين رعشة أسنانه:
_يا رب.
صوت صرير باب الغرفة جعل الجميع ينتبه لخروج الطبيب، فسأله "فهد" بثباتٍ يتناسب مع هيبته:
_خير يا دكتور، طمنا.
بدت علامات الأسى على وجه الطبيب الذي خلع نظارته وهو يخص بنظراته "عمر" و"يحيى":
_للأسف اللي كنت خايف منه حصل.
ازدرد "يحيى" ريقه المقطوع بصعوبةٍ وهو يسأله بخوفٍ:
_يعني أيه؟
قال بقلة حيلة:
_يعني الحالة اتنكست ورجعت لنقطة الصفر من تاني، وللأسف دخلت في غيبوبة وزي مانتوا شايفين محدش من اطباء المخ والأعصاب قادر يحدد سبب فقدان الوعي.
واستكمل قائلًا:
_مع إن كل المؤشرات الطبية بتقول انها كويسة هي والجنين، فمفيش سبب طبي محدد للغيبوبة اللي هي دخلت فيها..
بتماسك شديد سأله عمر:
_يعني أنت شايف أيه يا دكتور؟
رد عليه بعد فترة من الصمتٍ:
_أنا شايف يا أستاذ عمر، أن الصدمة اللي اتعرضت ليها ماسة خلتها متعلقة بين الماضي والحاضر، وخصوصًا انها كانت حامل وقت الحادثة، فمش هقدر أحدد حالتها طول مهي فاقدة الوعي، بنتك لازم تتقبل ان اللي حصل كان في الماضي وانها بتعيش أيام جديدة مختلفة عن اللي عاشتها... دي حربها ولازم هي اللي تنتصر فيها وباردتها..
وربت بيديه على كتفيه وهو يخبره بمهنيةٍ:
_إدعلها..
كان "عمر" رجلًا متماسكًا، يثق بما أختاره له رب العباد، ولكن الصدمة التي تلاقاها يحيى أضعفته وجعلت يترنح كمن تلاقى خبطة افتكت برأسه، فتراجع للخلف بخطواتٍ متعثرة حتى استقر على المقعد الذي خطف جسده قبل أن يجلس أرضًا، فأسرع إليه "بدر" و"آسر"، فجلس كلًا منهما لجواره، فقال "بدر" بحزنٍ:
_أنت انسان مؤمن وموحد بالله يا يحيى، أوعى تضعف خليك قوي عشان تقدر تتحمل اللي جاي.
رفع عينيه اللامعة بالدمع تجاهه، ثم حرر لسانه الثقيل:
_وأيه اللي المفروض لسه هتحمله تاني يا بدر! ، أنا صبرت وإتحملت كل حاجة في سبيل أنها جنبي، حتى لو مكنتش بطبيعتها بس على الأقل عيني شايفها وهي واقفة على رجليها وبتبتسم، تفتكر هقدر أتحمل وأنا شايفها زي الميتة كده!
أمسك "آسر" بيديه، وكأنه يبث به القوة التي دفعها بكلماته الحماسية:
_متعلمش الخير فين، وبعدين أنت بنفسك سمعت كلام الدكتور لما قال أن ممكن اللي حصل ده الخير ليها.
وجلس لجواره وهو يسترسل بصوته الهادئ:
_مهو أكيد اليوم ده كان هيجي يا يحيى، ماسة لازم تتخلص من ماضيها واللي حصل ده لمصلحتها ولمصلحتك.
هوت دمعة خائنة على وجهه، فرفع عينيه تجاهه وهو يخبره بإنكسارٍ:
_مش هقدر يا آسر، صدقني مش هقدر.. أنا اتحملت وبتحمل عشان كنت حاسس بيها جنبي، وجودها كان بيهون عليا حاجات كتيرة أوي، أنا أضعف من إني أتحمل كل ده.
استمع إليه بحرصٍ شديد، حتى فرغ من حديثه، ثم قال بصوته الرخيم المبعوث بالتفاؤل:
_مش يمكن ماسة تكون بتختبرك لتاني مرة يا يحيى، أنت سبتها تعاني أول مرة والمرادي لازم تكون جنبها وتتغلب على خوفك ده.. أكيد هي سمعاك وحاسة بيك.
واتسعت ابتسامته وهو يجاكره بالحديث:
_الحب أفعال مش أقوال ولا أيه!
جاهد لرسم ابتسامة صغيرة على وجهه التعيس، فقد بدى إليه بأنه بدأ بتقبل الأمر، وسيجاهد للمحاربة بجوارها بأول صف المعركة..
********
للمرة الخامسة تعود بالإتصال به، ولكن دون أي جدوى، فمازال هاتفه مغلق، وضعت "تسنيم" الهاتف عن يدها والقلق يفترس معالمها الشاحبة، تخشى أن يكون قد أصابه السوء، فبات غامضًا، مريبًا منذ لحظة إنكشاف الحقيقة التي دمرت هذا المنزل، قضت ساعة أخرى بالخطي المرتبكة بأرجاء غرفتها، وما زادها ارتباكًا حينما إحتضن عقرب الساعة السادسة صباحًا، همست بقلبٍ يرتجف صداه:
_هيكون راح فين لحد دلوقتي؟
تسلل لمسمعها صوت الطرق المتتالي على باب جناحها الخارجي، فأسرعت لتقف من جواره وهي تردد بلهفةٍ:
_مين؟
أتاها صوت "رؤى" يجيبها:
_أنا يا تسنيم، إفتحي..
جذبت مئزرها، ثم ارتدته وهي تفتح بابها، قائلة باهتمامٍ:
_ادخلي يا رؤى، في حاجة ولا أيه؟
ولجت للداخل ثم استدارت في مقابلتها، وهي تجيبها بدهشةٍ:
_أنا فكرتك إنتي اللي تعرفي حاجة.
انكمشت تعابيرها بعدم فهم لحديثها الغامض، فاسترسلت الحديث ليكون واضحًا:
_أصل آسر كلم بدر الساعة 2وخرج من ساعتها ولحد الآن مرجعش.
تجعد جبينها وهي تردد بصدمةٍ:
_كده في حاجة وكبيرة كمان... أنا بحاول أكلم آسر بس تليفونه مبيجمعش..
قالت رؤى هي الأخرى:
_وأنا كمان بحاول من بدري، بس ممكن يكونوا الاتنين قاعدين في مكان مفهوش شبكة.
ردت عليها بقلقٍ:
_جايز، بس إحنا مش هنقعد نحط في افتراضات!
كادت بأن تجيبها ولكن توقفن عن الحديث حينما استمعوا صوت السيارات بالخارج، فرفعت كلا منهن حجابها على رأسها بإهمالٍ ثم خرجن للشرفة، فتفاجئوا بالكبير يهبط من سيارة "آسر"، و" عمر" كان بسيارة "بدر"، اطمئن قلبهما قليلًا، ليس لعودتهم ولكن بمن كان بصحبتهم، فكانت"تسنيم" تخشى أن يكون سبب غيابه متعلق بما يضمره من انتقامًا قاسٍ لهذا اللعين، ولكنها تعلم بأن "فهد" سيمنعه من ارتكاب أي شيئًا خاطئ.
صعد كلًا منهما لغرفته، فما أن ولج "آسر" للداخل، حتى وجدها تسرع إليه وهي تهمس من بين شهقات بكائها:
_أنت كنت فين أنا كنت هموت من القلق عليك!
رسمت على طرف شفتيه ابتسامة عاشقة لقربها منه، فضمها بقوةٍ إليه، ويديه تخطو ببطءٍ على ظهرها:
_أنا كويس يا تسنيم متقلقيش.
ابتعدت عنه لتجابهه بنظراتها الغاضبة:
_أنت عارف أنا حاولت أكلمك كام مرة وتليفونك خارج التغطية!
اتجه لخزانته، فخلع جاكيته وهو يجيبها:
_مكنش في شبكة بالمستشفى.
انخلع قلبها من خوفها لسماع تلك الكلمة، فأسرعت بطرح سؤالها التالي:
_مستشفى ليه، أنت فيك حاجة!
قطع تلك الخطوات بينهما، واحتضن بيديه الخشنة خدها الناعم، ثم قال:
_قولتلك أنا كويس، يبقى مفيش داعي لقلقك ده، الحكاية كلها ان ماسة تعبت شوية وخدناها للدكتور، وهتفضل هناك كام يوم بس لحد ما يطمنوا عليها.
ضيقت عينيها بذهولٍ:
_ماسة! بس أنا سايباها وهي كويسة ومكنش فيها حاجة.
بحزنٍ أجابها:
_حالة ماسة مش مستقرة يا تسنيم،في لحظة ممكن تتراجع زي اللي حصلها المرادي.. ادعيلها.
ترقرقت الدموع بعينيها رأفة على حالها، فقالت بتأثرٍ:
_بدعيلها في كل صلاة والله، أنا حبيتها وبعتبرها هي والبنات كلهم أخواتي.
ابتسامة عذباء شقت وسامة وجهه، فضمها لصدره وهو يخبرها بيقينٍ:
_ربنا هيستجاب لدعواتنا كلنا..
ثم رفع ذقنها اليه، ليتمكن من طبع قبلة خاطفة على جبينها فاتبعه همسًا خافت:
_هرتاح ساعتين وبعدين نتحرك على بيت أهلك، أنا مش ناسي إن النهاردة معزومين هناك على الغدا.
بسمتها توجتها السعادة، فبالرغم مما يمر به من ظروف قاسية الا أنه مازال يتذكر ما يخصها، كان من الممكن أن يعتذر بلباقة عن هذا الموعد ولديه ألف حجة وحجة، لكنه قدر دعوة أبيها إليه حتى وهو بأصعب أوقاته.
********
بسرايا "المغازية".
كان يجلس بمكتبه منذ الصباح يتابع عمله الذي تعرض لخساير طائلة من المال، فحاول" أيان" جاهدًا أن يخرج مما عرضه "آسر" إليه بأقل الخساير الممكنة، ولكنه أصابه في مقتل فكل حل يلجئ إليه يكلل له خسارة فاضحة ومكسب رابح إليه، أغلق "أيان" حاسوبه بتعصبٍ شديد، ثم جذب هاتفه ليتحدث مع مدير أعماله بالقاهرة، عله يجد سبيل أمن للخروج من تلك المعضلة.
أما بالخارج..
كانت تعد الخطط والمؤامرات للتخلص من تلك الدخيلة التي ستنهي ما تعبت تلك الحية بزرعه بداخل ابن شقيقتها الراحلة، بعدما تأكدت بأنها تفقد سيطرتها عليه رويدًا رويدًا، فبدلًا من أن تحقق انتصارها بذلها وكسر كبريائها ستفوز الاخيرة عليها بفوزها بقلبه، لذا رأت بأن اليوم مناسب لخطتها وخاصة بوجود "أيان" حتى لا تقع الشكوك عليها، فأشارت بيدها لأحد الرجال المخلصين إليها وقد جمعهما اتفاقًا سابق، فانحنى تجاهها ليستمع لهمسها المنخفض:
_عملت اللي قولتلك عليه؟
أومأ برأسه وهو يؤكد لها:
_كله تمام.
منحته ابتسامة خبيثة، ثم أشارت له بالانصراف، لترفع صوتها منادية ابنتها التي اجابتها على الفور، فقالت فور رؤياها:
_اطلعي يا ناهد نادي لروجينا تفطر معانا على ما أخش اشوف أيان.
انعقد حاجبيها في دهشةٍ وعدم استيعاب لما تقوله والدتها، فكان الأمر مخيفًا بالنسبة إليها، كيف تطورت العلاقة بينهما هكذا وهي بالأمس تقسم بالتخلص منها!
ظلت محلها تبحلق بها، فاهتز جسدها بهلعٍ حينما صاعت الاخيرة بتعصبٍ:
_انتي لسه واقفة مكانك!
تحركت من محلها وهي تقول:
_حالا..
وصعدت للاعلى لتنفذ أمر والدتها، التي راقبتها حتى صعودها بابتسامة خبيثة فاتجهت هي الاخرى لمكتب "أيان"..
تسلل الرجل بحرصٍ للأعلى لينفذ أخر خطوة بخطتهم المتفق عليها، فكان بانتظار خروجها ليشرع بتنفيذ ما ينوي فعله.
********
بغرفة"روجينا"..
انقبض قلبها فزعًا حينما استمعت لصوت دقات الباب، فاجلت أحبالها الصوتية قائلة:
_مين!
أتاها صوت يجيبها:
_أنا ناهد يا روجينا.
شعرت ببعض الأمان، فكانت تظن بأنها تلك العقربة:
_ادخلي.
ولجت للداخل، لتجدها ترقد على الفراش بتعبٍ يبدو عليها، دنت" ناهد"منه لتخبرها بارتباكٍ ملحوظ:
_ماما عايزاكي تنزلي تفطاري معانا تحت.
جحظت عينيها في صدمةٍ، فرددت بذهولٍ:
_أيه!
زمت الأخيرة شفتيها بحيرةٍ:
_معرفش بتحاول تعمل أيه صدقيني، بس يمكن تكون حابة تحسن العلاقة بينكم، خصوصًا إنها شافت بنفسها أد أيه أيان متعلق بيكي.
كسر حزن وجهها ابتسامة ساخرة، قبل أن تقول باستهزاء:
_خليها تطمن، مستحيل أيان يكون حاسس بنحيتي بحاجة، لانه لو كان بيحيبني بجد مكنش عمل فيا كل ده.
لمست بنبرتها الخافتة انكسارها، شعرت وكأن بداخلها انثى مهزومة تود الصراخ بأعلى صوت تمتلك، ولكنها تستكتر تلك الصرخة على جسدًا فارقته الروح وتركته ينزف، أسرعت أصابع "روجينا" لمسح الدمعات العالقة بأهدابها قبل أن تراها من تقف أمامها، ثم قالت وهي تحاول التهرب من نظراتها:
_شوية وهنزل وراكي.
هزت رأسها بتفهمٍ حاجتها لمساحة خاصة بها، لذا هبطت هي للأسفل ودعتها تلحق بها، نهضت "روجينا" عن الفراش بصعوبة، فمازال الدوار والإعياء يهاجمها، تحاملت على ذاتها لتجذب اسدال الصلاة الخاص بها ثم ارتدته لتصلي صلاتها قبل أن تهبط للأسفل، وكأن قلبها يشعر بأن قربها من الموت يزداد ببقائها بمثل ذلك المنزل وبصحبة أناس كهؤلاء، فما أن لامس رأسها سجادة الصلاة حتى انفطرت من البكاء وهي تردد بقهرٍ:
_اللَّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا، وَلا يَغْفِر الذُّنوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِر لي مغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ، وَارحَمْني، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفور الرَّحِيم...
بكت براحةٍ وشعور الأمان يحتضنها، وكأن أوجاعها وأحزانها تخرج مصاحبة لتلك الدمعات، فرددت بصوتٍ متأثر أحباله:
_اللَّهمَّ اغْفِر لِي خَطِيئَتي وجهْلي، وإِسْرَافي في أَمْري، وَمَا أَنْتَ أَعلَم بِهِ مِنِّي، اللَّهمَّ اغفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلي، وَخَطَئي وَعمْدِي، وَكلُّ ذلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَما أَسْررْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْت المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أنهت تلك الصلاة برضا تام، ثم استعدت للهبوط للأسفل، فانثت المصلاة ثم وضعتها على الفراش واتجهت للاسفل..
فور خروجها من غرفتها، القى ذلك الرجل قطع البلور الصغيرة أرضًا، ليجبرها على الانجراف عن الجانب الأيسر للدرج، كان يتعمد أن يجعلها تتجه للجهة اليميني، فلم يكن غرضه ان يسقطها على درجات الدرج، بل إختارت لها تلك العقربة سقوط حاد سيفتك بها لامحالة، فأمرته بخلع السور الخارجي للدرج، ففور اتجاهها للجهة اليمينى استندت "روجينا" على حافة السور كرد فعلًا تلقائي حينما كادت بالتعثر بكرات البلور المزعجة، فسقط السور المخلوع ومن خلفه كانت هي تتبعه، لتصرخ من بعدها صرخة رجت أرجاء السرايا بأكمله، بعدما استقر جسدها الهزيل على درج السرايا الخارجي من الطابق الثالث، انسابت الدماء من جسدها بأكمله، وعينيها ترى ظلامًا دامس يخيم بجلبابه الأسود عليها، رأت موتها يرحب بها بصدرٍ رحب، وكأن العالم بأكمله قسى عليها وكان الموت رحيمًا بها، لم تعد ترى ولا تسمع، فقدت كل شيء وأصبحت ساكنة مسلمة لمصيرها المحتوم، لم تشعر بصرخات من حملها بين ذراعيه وهو يناديها بفزعٍ، ويرجوها بأن تفتح عينيها، فحتى وجهها استحوذ عليه الدماء ليجعلها كالغارقة ببركان صنعه هو بيديه، ذبح من أمامها وهو يحركها وصوته يعوي بألمٍ كالضريعٍ:
_لا.... روجينـــــــــــــــــا....
*********
أصر العم "فضل" على استقبالهما بنفسه، فاحتضن "آسر" وهو يقول بترحابٍ وود:
_يا ألف مرحب بالغالي ابن الغالي.
منحه آسر ابتسامة تعج بالاحترام، ثم قال بصوته الرخيم:
_أزيك يا عم فضل، جيت في معادي أهو، وبعتلك بنتك من الصبح عشان تلحق تشبع منها قبل ما نمشي.
ضحكت العجوز وقال:
_طول عمرك ابن اصول وتعرف بالواجب..
وأشار له بالدخول، فوجد زوجته تساعد والدتها بتجهيز السفرة، حتى زوجة خالها كانت تضع الطعام بهمة ونشاط، اتجهت إليهم "تسنيم" اليهم وهو تشير على الطاولة قائلة:
_الأكل جاهز..
نهض العم فضل وهو يربت بيديه على ساق آسر قائلًا:
_يلا يا حبيبي.
أومأ برأسه ثم لحق به وعينيه تجوبان أعين زوجته المتكدسة بحديث مكبوت تود البوح به إليه، ابتسم بمكرٍ وهو يعلم ما تود الحديث به إليه، وخاصة حينما عاونت والدتها أخيها "عباس" بالجلوس على أحد المقاعد، فجذب آسر المقعد المقابل له ليمنحه نظرة تعمقت بالتطلع لحالته المذرية، فقال بنبرة ثابتة كبتت مكر بين طياته:
_ أيه اللي حصل معاه ده؟
ردت عليه زوجته بتأثرٍ مما يعانيه زوجها:
_طلع عليه بلطجية ضربوه وسرقوا كل اللي معاه... منهم لله ربنا ينتقم منهم.
ابتسم وهو يجابهه بنظراته الخبيثة:
_لا حول ولاقوة الابالله، ربنا يجزيهم ولاد الحرام..
ثم وجه حديثه لمن يتحاشى التطلع اليه بخوفٍ:
_خد بالك يا خال بعد كده، لحسن البلطجية دول لما بيحطوا حد في دماغهم بيجيبوا أجله..
ابتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، والخوف في حضرته يكاد يقتله، تناول آسر طعامه ونظرات تحيطه ببرودٍ قاتل، حتى دنت منه نظرة جانبيه تجاه زوجته التي تراقبه بعينين مغرقتين بالدموع وابتسامة فرحة مرسومة على وجهها، منحها بسمة هادئة طوفتها بدفء تتمنى خوضه لعمرً كامل، فراقبت تلك الساعات التي قضوها معًا بالمنزل حتى باتوا بمفردهما بالسيارة، فاستعد "آسر" للعودة للسرايا ولكنه فور أن وضع يديه على المقود وجدها نحتضن يديه، لتستميل اهتمامه، فاستدار بجسده تجاهها بنظراتٍ مهتمة لما ستقول، فتحرر صوتها الباكي قائلًا:
_أنا كنت بخاف أقعد وهو موجود في أي مكان، بس دلوقتي في وجودك مش بيهمني اذا كان موجود ولا لا..
واسترسلت بفرحةٍ غريبة:
_فرحانة وأنا شايفاه مرعوب وخايف حتى يبص نحيتي، أنا حاسة ان حق الايام اللي عشتها في خوف وقلق بترجعلي دلوقتي بالراحة والامان بوجودك يا آسر..
وبارتباكٍ قالت له:
_أنا بأحبك وبأحب طريقتك المختلفة بالتعامل مع كل شخص، بشوفك طيب مع الناس اللي تستاهل تشوفك كده، وشخص مستفز وعنيد مع اللي يستاهل، أنت ازاي فيك كل الصفات دي!
رمش بعينيه عدة مرات، ثم ابتسم وهو يجيبها بمكرٍ:
_هو أنتي مش بيحلالك الكلام الحلو المحمس ده الا برة البيت! خدي بالك انا باللي حاسس بيه دلوقتي هيبقى فعل فاضح على الطريق العام، المرة اللي فاتت ربك سترها معانا ببركة دعى الحاجة المرادي مفيش حد معانا يدعيلنا، وشوشو بيشجع في الخراب اسمعي مني..
انفجرت ضاحكة وهي تستمع لما يقول، فضحك هو الاخر وهو يشعل المقود ليتحرك بالسيارة وهو يغمز لها:
_للحديث بقية بس مش هنا.
لكزته بيديه بضيقٍ، فابتسم وهو يردد بحزن مصطنع:
_أنا عملت حاجة! مش بقولك شوشو شاطر في خرب البيوت اديكي هتقتليني أهو وإحنا لسه برة البيت..
نجح في اضحكاها مجددًا، فتأملها وهو يردد بجديةٍ تامة لا تتناسب مع شخصه المرح الذي كان يتحدث منذ قليل:
_خليكي واثقة أن ده هيبقى مصير أي حد يفكر يقرب منك، وأي حد أذاكي زمان محدش هيحاسبه غيري..
ثم أبعد يده عن المقود ليضمها اليه وهو يهمس بصوته الحنون:
_اللي يرشك بالمية أنا أرشه بالدم..
تعلقت به بجنونٍ، فأججت نيران رغباته تجاهها بتلك اللحظة، فشل السيطرة على طريقه فانغمس معها للحظاتٍ تفادى بها حادثًا مهيبًا، فأوقف سيارته ثم تطلع لها بنظرةٍ صارمة، مضحكة ، بللت شفتيها بخوف وهي تهمس برعب من نظراته:
_أيه!
لم يغير مجرى نظراته وكأنها متفقة عليها، فعادت لتهمس:
_أنا ماليش دعوة أنت اللي مبتصدق.
أشار بعينيه بحدةٍ:
_إنزلي.
رددت وهي تتطلع حولها بصدمةٍ:
_أنزل اروح فين!
استقرت نظراته للخلف، فعلمت الاجابة المناسبة لسؤالها، كبتت ضحكاتها بصعوبة وهي تنفذ أمره، فجلست بالخلف ليتحرك بالسيارة وصوت ضحكاتها المرتفع يرفرف رايات قلبه العاشق لها.
*****
ساعة تمر وتحتضنها الأخرى ومازالت بغرفة العمليات، طبيب يدخل ويتبعه الأخر، والجميع يتحدث عن حالتها الخطيرة، جن جنون أيان وهو يحاول معرفة ما يحدث لها، ولكن لا أحد يرد عليه، الجميع مشغول باسعافها، فخرج عن طور هدوئه، حينما جذب أحد الاطباء ليسدده تجاه الحائط وهو يصرخ به بغضبٍ جعله شخص مخيف:
_قولي مراتي جرالها أيـــــــه؟
ابتلع الطبيب ريقه بصعوبةٍ، فلم يجد سوى الاستغاثة بافراد الأمن، ليجتمع من حوله عدد من الممرضين وعلى رأسهم مدير المشفى الي تدخل ليحل الأمر كونه يعلم بكناية "آيان" التابع للمغازية وهي بالنهاية عائلة من كبار عائلات الصعيد، ليستقبله هو شخصيًا حينما درس الحالة من الاطباء ليخبره بهدوء:
_ممكن تتفضل معايا مكتبي وأنا هشرح لحضرتك الحالة.
عدل من جاكيت بذلته الغير منظم ثم اتبعه للداخل وقلبه يستوقفه الف مرة خوفًا من سماع ما سيقول، جلس على المقعد المقابل له، فوضع المدير الملف من أمامه ثم عبث بيديه بارتباك وهو يحاول ايجاد الكلمات المناسبة لقولها لرجلً لا يرى بعينيه سوى عشقًا لتلك المرأة التي تسارع موتها بالداخل:
_أستاذ أيان حضرتك لازم تكون آآ..
قاطعه حينما طرق بيديه على سطح مكتبه وهو يردد بحدةٍ:
_وفر المقدمة دي لنفسك وقولي مراتي جرالها ايــــــــه.
اتاه رده السريع:
_مبدئيًا كده احنا خسرنا الجنين.
اهتز جسده لاستقباله ذلك الخبر الحزين المتوقع، ورغم ذلك كان صلدًا، شامخًا، يخبره بكل صلابة:
_مش مهم، المهم هي حالتها أيه؟
لعق شفتيه بتوترٍ ملموسًا ليستعين بكلماتٍ دقيقة توصف له خطورة وضعها:
_للاسف الواقعة سببتلها اصابات حرجة ومنها اللي اصاب الجزء السفلي وده اثر على خلايا النخاع الشوكي وبالتالي لازم ننقلها نخاع بأسرع وقت ممكن.
ابتلع تلك الوخزة التي استهدفته، ليجاهد بالحديث:
_أنا مستعد اتبرعلها.
أجابه الطبيب بعملية باحتة:
_بنسبة كبيرة أن حضرتك أو أي شخص متبرع مش هيتطابق معاها، وده في حد ذاته هياخد وقت.. واحنا محتاجين نتحرك بسرعة عشان كده لازم نعمل اختبار لعيلتها وبالأخص اخواتها...
صدمة غريبة من نوعها اسباحت الخوض بأعماقه، فسكنت حركة جسده المتعصب، تعجب الطبيب لما حدث معه فور سماعه حديثه الاخير، فقال بعد تخمين:
_ملهاش اخوات؟
نفث الهواء الثقيل عن رئتيه وهو يجيبه:
_عندها..
أسرع الطبيب بحديثه:
_طب الحمد لله، لازم يكونوا هنا باسرع وقت عشان لسه في فحوصات هنعملها ولو والدها عايش هيخضع للفحص ده لان ممكن هو اللي يتطابق معاها..
ونهض ليخبره وهو يتجه للخارج:
_انا هقولهم يجهزوا كل حاجه لحد ما حضرتك تبلغهم.
وتركه بمفرده وغادر للخارج، أطبق أيان بيديه على خصلات شعره فكاد بقطعهما من فرط التعصب الذي يواجهه، كيف سيلجئ لعدوه اللدود لأجل المساعدة، لا يقتل الف مرة على أن يذل نفسه، ولكن موته هو سهل بالنسبة إليه، حياته هو لا تعنيه القرار هنا هل سيستطيع العيش بدونها؟
هل سيجعلها تتركه هنا عند تلك المحطة!
هل سيحتمل فراقها بعدما فارقته والدته هي الاخرى..
********
خرجت للحديقة تبحث عنه بعدما أرسل لها برسالة، فوجدته يوليها ظهره، دنت منه تالين ثم نادته باستغرابٍ:
_عبد الرحمن!
اغلق عينيه مطولًا قبل أن يستدير إليها، فتأملها بصمتٍ طال بهما الى أن مزقته هي:
_طلبت تشوفني عشان تفضل ساكت!
رد عليها بصوت مهموم:
_لا، أنا بس محتار وخايف.
عقدت حاجبيها بدهشةٍ:
_من أيه؟
أجابها بوضوحٍ:
_خايف تكدبي عليا في السؤال اللي جبتك عشانه.
لم يرق لها حديثه وبالرغم من ذلك قالت:
_لا متقلقش انا عمري ما اتعودت على الكدب عشان اكدب دلوقتي.
طال صمته مجددًا، الى أن قال:
_تالين انتي على علاقة بحد.
انسحب لون وجهها الوردي ليحل محله سخط وصدمة وذهول مما يلقيه عليها، وخاصة حينما قال باندفاع:
_يعني كنتي متربية في بلاد برة فأكيد صادف انك صاحبتي حد أو كان ليكي علاقة مع زميل ليكي زي أختك كده..
كسرت صدمتها تلك سريعًا، لتجبر يدها بأن تهوى على خديه، احتدت نظراته بغضبٍ، فشيء مخزي له بأن تصفعه امرأة، كاد بأن يمسك بها ولكنها دفعته بعيدًا وهي تصرخ بوجهه بجنونٍ:
_انت انسان قذر وأنا غلطت لما وافقت عليك من البدايه، انت ازاي تسمح لنفسك تتهمني اتهام بشع زي ده، مش أي بنت عاشت برة في مجتمع غربي تبقى باعت نفسها انت تفكيرك مريض زيك زي ناس كتيرة اوي.. أنا كان قدامي فرص كتيرة اني اغلط مع اي شخص من اللي كانوا بيحاولوا يتقربوا مني بس انا عمري ما سمحت بده خوف من ربنا مش من ابويا، لو اي بنت خافت تعمل حاجة في وجود اهلها وهي حابة تعمل ده هتعمله من ورا دهرهم لكن اللي تخاف من ربنا عمرها ما هتعملها لانها متأكدة انه معاها وشايفها في كل مكان... انت ربنا كشفك ليا قبل ما اتعلق بيك ولا اسمح لنفسي انك تكون في حياتي..
وتركته مشدوهًا لكل كلمة تفوهت بها وغادرت، فاق من غيبوبته المريضة تلك فأسرع بالركض خلفها وهو يناديها بندم:
_تالين استني..
لم تعيره انتباهًا وصعدت لغرفتها سريعًا ومازالت لا تستوعب ما استمعت اليه للتو، ظنته مختلفًا، سيصونها ولكنه كسر قلبها مع اول لحظة شك تعرضت اليه..
******
تجمعوا جميعًا على طاولةٍ العشاء، ليكسر هدوء جلستهم رنين جرس الباب أكثر من مرةٍ، فأحدث جلبة مزعجة للجميع، فأشار سليم لابنه قائلًا:
_شوف مين اللي على الباب ده..
نهض بدر ليفتح الباب، فصعق حينما رأه يقف أمامه، فصاح بتعصب شديد:
_أنت جاي لموتك برجليك!!
ابعده أيان عن طريقه ثم دخل لمنتصف السرايا، حتى بات يقف بمرمى نظرات الجميع وعلى رأسهم "فهد" و"آسر" الذي نهض عن الطاولة ليلقيه بنظرةٍ اشعلت داخلها النيران وكأنها ستبتلعه لتحرقه حيًا، حتى أن رجال فهد أسرعوا بالتجمع من حوله ومع ذلك لم يهتز له شعرة، فكان يتطلع لفهد بنظرة عميقة، يملأها غموض وقلق نجح في نقله إليه وإلى قلب أمًا تستطيع الشعور بابنتها حتى لو كانت على ألف ميل!
........ يتبع..........
لمتابعة الحلقات الجديدة للرواية فور نزولها والجديد من الروايات تابعنا علي قناة تليجرام
الاكثر قراءة هذا الشهر :
موعد البارت الجديد الساعة ( 8 م ) يوميا ان شاء الله
هنا تنتهى احداث رواية الدهاشنة 3 الفصل السادس ، يمكنكم اكمال باقى احداث رواية الدهاشنة 3 الفصل السابع أوقراءة المزيد من الروايات المكتملة فى قسم روايات كاملة .
نأمل أن تكونوا قد استمتعتم بـ رواية الدهاشنة الجزء الثالث ، والى اللقاء فى حلقة قادمة بإذن الله ، لمزيد من الروايات يمكنكم متابعتنا على الموقع أو فيس بوك ، كما يمكنكم طلب رواياتكم المفضلة وسنقوم بوضعها كاملة على الموقع.