رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) كاملة من روايات ايه محمد رفعت . والتى تندرج تحت تصنيف روايات رومانسية بالعامية المصرية ، والتى نالت اعجاباً شديداً بين القراء سواء واتباد أو فيس بوك . نرحب بكم فى موقع مجنونة عشاق روايات موقعنا ، هنا سوف تجد كل رواياتك : روايات رومانسية ، روايات رومانسية مصرية ، قصص عشق ، قصص قصيرة ، قصص حب ، روايات pdf ، روايات واتباد ، قصص رعب ، روايات رومانسية كوميدية .
رواية صراع السلطة والكبرياء كاملة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الأول
الفصل الاول.....
كسر ضوء الشمس النافذ عتمة الليل وسكونه المخيف، فتسللت أشعتها بخفةٍ لتداعب أوراق الأشجار الكثيفة التي تطوف بالاراضي الزراعية، وكأنها بانتظار ذاك الإشراق الذي يحتضنها كل صباح، ازدحام تلك الاماكن معتاد فالاستيقاظ باكراً من أسمى صفات أهالي الصعيد، الأغلب يتجول بائعاً والبعض يذهب لعمله، ومن بين المارة تجد مجموعة من الأشخاص مجتمعون على صينية دائرية الشكل يتوسطها الفطير الشهي والعسل الصافي وقطع الجُبن القريش، يجلس عليها أهل هذا المنزل البعيد عن تلك الارض التي يجتمع بها رجال البيت والاصدقاء، الطعام بين أهل الصعيد قلة ما يتناوله أهله بمفردهما، فالجود والكرم مدفون بالعروق، ومن بين كل تلك المنازل منزل كبير الدهاشنة، وبالاخص بحديقة منزله الشاسعة، يجتمع المزارعون حول عدد من الطاولات لتناول الفطور الشهي، وبالقرب منهما وبالاخص على تلك الاريكة الخشبية كان يجلس كبيرهما بوقارٍ، العصا التي يحملها بين يديه تمنحه عظمة تليق بجلبابه الاسود، يجلس بسكونٍ وعينيه تراقب الجميع باهتمامٍ، ليشير بعينيه لخادمه للطاولة التي قل الطعام منها ليزيده بالخير، انتهى الجميع من تناول الطعام فنهضوا تباعاً ليردد احداهم:
_دايماً سباق بالخير يا كبيرنا..
وأضاف الأخر بامتنانٍ:
_ربنا يزيدك من وسع..
ابتسامة صغيرة تشكلت على طرفي شفتي "فهد"، فنهض عن الأريكةٍ وهو يردد باستحسانٍ:
_الف هنا وشفا يا رجالة، تقدروا ترجعوا لشغلكم..
أشاروا بايديهم بطاعة ومن ثم انصرفوا لاعمالهم بالحقول التابعة لعائلة "فزاع دهشان"، أسرع إليه الخادم ليخبره على عجلة من أمره:
_الست" راوية" عايزة جنابك جوه..
صعد الدرج القصير حتى أصبح بداخل المنزل، يبحث عنها بعينيه المتلهفة لرؤياها فرغم تقدمهم بالعمر سوياً الا انه مازال يشعر برؤياها وكأنه لقائهما لاول! ، نفس ذاك الشعور الذي يسيطر على قلبه المرهف مازال يتلبسه وكأنه ذاك الصبي الذي يبلغ خمسة وعشرون عاماً، بل تمكن العشق منه ليجعله يلتاع لرؤياها وحتى إن رأها يسكره حد الرغبة فيدق قلبه بعنفٍ وكأن هناك من يضرم نيران الشوق عمداً ليفتك بهيبته التي يخشاها الجميع، طلت من أمامه بردائها الابيض الفضفاض وحجابها الذي يتدلى من خلفها، فأقترب لتقف هي مقابله ببسمتها المشرقة:
_كده تفطر بره معاهم زي كل يوم، نفسي مرة تفطر معانا زي زمان..
أسرع باجابتها:
_هو أنا اقدر على زعلك، محطتش لقمة في بوقي من الصبح..
اتسعت ابتسامتها وهي تردد في رضا:
_كنت هزعل لو عملتها يا "فهد".
تطلع من حوله بترقبٍ وحينما وجد الساحة خالية من حوله، همس بغزلٍ:
_يابوي على كلمة" فهد" اللي بتطلع تشرح الجلب دي..
تعالت ضحكاتها حتى أصبحت مسموعة لمن يهبط الدرج، فقال بسخريةٍ:
_وبعدهالك يا "فهد" لساك عايش في دور سي روميو .
ردد بحزمٍ مصطنع:
_"سليم"!
دنا منه حتى صار قريباً:
_الحق عليا بنبهك أننا تحت بدل ما حد من الأولاد يطب عليك وصورتك تهتز قدامهم!
جلس "فهد" على المقعد الذي يترأس مائدة الطعام الكبيرة قائلاً:
_متخافش عليا محدش يقدر يوقعني.
أكد له مازحاً:
_خبرك زين يا واد عمي..
أستاذنت "راوية" بخجلٍ:
_هجيب بقية الاكل..
وتركتهم واسرعت للمطبخ حرجاً مما حدث، ولجت للداخل لتشير للسيدة التي تعاون "نواره" و"ريم":
_طلعي باقي الأكل يام "نعمات"..
أومأت برأسها في طاعة:
_أمرك يا مرت الغالي..
ثم حملت الاطباق وأسرعت للخارج، حملت" ريم" الاطباق المتبقية لتناولها لراوية وهي تتساءل باستغرابٍ:
_مالك وشك احمر إكده!
مررت يدها على وجهها وكأنها تخبرها بأن وجهها متسخ فتحاول تنظيفه، تعالت ضحكات "نواره" وهي تشير إليها ساخرة:
_كفياكي يا "ريم" هتلاجيها شافت "فهد" بره بس..
ذمت "راوية" شفتيها بعدم رضا لتصيح بهم بانزعاجٍ:
_اه ده انتوا فضيتوا ليا بقا..
حملت "نواره" الخبز الطازج لتسرع بالخروج قائلة:
_لا انا الحق نفسي قبل ما المدبحة تقوم..
قالت "راوية" من وسط سيل ضحكاتها:
_كبرنا ومكبرناش!.
شاركتها "ريم" الابتسامة بحزنٍ ظهر على وجهها حينما تذكرت ابنتها، يقال أن لكل منا نقاط ضعف أو ربما جانب معتم يستحوذ على المرء حينما تزوره السعادة، فالابتسامة يتخلالها تذكار لما يؤلم، وكأنها تتعهد على تذكارك دوماً بما يؤلمك حتى تقتل أي ابتسامة قد تتسلل لشفتيك!
شعرت بها "راوية" فاحتضنتها بذراعيها قائلة بحزنٍ:
_لسه مش قادرة تتقبلي اللي حصل لماسة؟
تدفقت الدموع من عينيها كالمطر المحتبس، لتجيبها بقهرٍ:
_ياريت اقدر يا "راوية"، انا مش قادرة أستوعب اللي حصل معاها!
ربتت بيدها على كتفيها وهي تخبرها بثقةٍ:
_جوزها جنبها وعمره ما هيتخلى عنها، أنا عندي ثقة كبيرة في ربنا أنها هترجع أحسن من الأول..
أغلقت عينيها وهي تردد بتمني:
_يارررب يا"راوية" يارب..
أخفت حزنها وهي تشير لها بابتسامةٍ ترسمها بالكد:
_طيب يلا قومي عشان نفطر من زمان مفطرناش مع بعض..
أزاحت دمعاتها وهي تحمل باقي الأطباق:
_بينا..
وبالفعل خرجن سوياً لتنضم إليهم بالخارج، تبدل حزن "ريم" لسعادةٍ كبيرة حينما وجدت "عمر" يجلس بالخارج، فجلست مقابله تتأمله بحنينٍ، تود لو أن يحتضنها بقوةٍ حتى تحاول الخروج من تلك المشحنات المقبضة، شعر بها فأشار بيديه وهو يهمس لها:
_أنتي كويسة؟
إكتفت بإيماءة رأسها بأنها على ما يرام، ثم انتبهوا جميعاً لصوت "نادين" الذي إخترق القاعة كالصوت الرنان:
_أيه ده من غيري!
غمس "سليم" الفطير بالعسل الأبيض وتناولها بتلذذٍ:
_عارفين أنك هتنزلي من نفسك لما تشمي ريحة الوكل..
جلست جوار "راوية" ثم شرعت بتناول طعامها لتردد بإعجابٍ:
_الله على الفطير البلدي من ايدك يا "ريمة".
ابتسمت وهي تخبرها باستحسانٍ:
_ألف هنا على قلبك يا نودي..
علق"عمر" هو الأخر:
_تسلم أيدك يام أحمد..
منحته بسمة رقيقة، فقال "سليم" باستغراب:
_هو محدش من الولاد نزلوا من القاهرة الأجازة دي ولا أيه؟
أجابته "راوية":
_مفيش غير" آسر"و"أحمد" البنات عندهم امتحانات..
تساءلت "نادين" بدهشةٍ:
_طيب هما فين يفطروا معانا..
أجابها "فهد" بثباتٍ:
_شيعتهم الأرض يبصوا على العمال يشوفوا لو كانوا محتاجين حاجة.
رددت "راوية" بضيقٍ:
_هما لحقوا يستريحوا يا "فهد"، مش كفايا المصانع والمزارع اللي بيدروها!
نظرة حادة حانت منه فقال بجفاءٍ:
_مخلف عيل صغير هنخاف عليه ولا أيه؟..
رددت في توتر:
_لا مقصدش بس بقول على الاقل كان فطر معانا مهو طول الشهر بيبقى بالقاهرة مع الشباب وحتى في اليومين اللي بينزلوهم بتخليهم يشتغلوا بالارض!..
استنزفت كلماتها غضبه بأكمله، فضرب بعصاه الارض بقوةٍ:
_مفيش اهنه دلع يا"راوية"، الولد لو مشالش الحمل عن اهله مبيقاش راجل..
امتلأت عينيها بالدموعٍ لتعصبه المبالغ به، فتدخل" سليم" بالحديث قائلاً:
_محصلش حاجة يا "فهد"، هي خايفة على ولدها وده حقها بالنهاية هي أم..
هدأت تعابير وجهه قليلاً، فقال بهدوءٍ:
_أنا هادي يا" سليم" بحاول بس أخليها تستوعب أنه في يوم من الايام ولدها هيبقى كبير الدهاشنة ولازمن أقرص عليه عشان عضمه يبقى ناشف ومحدش يقدر يقف قصاده..
حدجته بنظرةٍ ساكنة ولكنها تحوى سهام متخفية تعرف طريقها لاختراق قلبه بحرافيةٍ، نهضت "راوية" عن مقعدها ثم كادت بالابتعاد عن الطاولةٍ، فتوقفت قداميها حينما استمعت لأمره الصارم:
_كملي وكلك قبل ما تقومي.
عادت لتجلس على مقعدها من جديدٍ، وهي توزع نظراتها بينه وبين طبقها بغيظٍ..
*********
مساحة شاسعة يملأها الرجال العاملين من كل صوب وإتجاه، بعضهما يحملون المحاصيل الزراعية للشاحنة والاخرون يكدون عملاً بزرع المحاصيل، الجميع يعلم بأن تلك المنطقة تخص عائلة "فزاع الدهشان" فباتت تخص أحفاده وبالأخص كبيرهم "فهد الدهشان"، ومن بين هؤلاء العمال كان ينحني بقامته الطويلة ليحرر السكين الملتوي حتى يتمكن من قطع الحشائش الخضراء ليجمعها فوق بعضها في تناغم وإنسيابية، ومن ثم يكوم حزمة أخرى فوق بعضهما ليحملهما ثم يضعها على العربة التي يجرها الفرس الاصيل ليشير بيديه التي تتصبب عرقاً:
_خد الحمولة دي وإرجع أنت يا"حسان"..
ومن ثم إنحنى ليحمل حزمة أخرى فأسرع إليه" حسان" العامل، قائلاً:
_عنك أنت يا بشمهندس "آسر"، أني اللي هحملهم..
ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه القاسية، ومن ثم أجابه بمحبةٍ كبيرة:
_لا أنا اللي هحملهم، اسمع أنت بس الكلام وأرجع المزرعة أهتم بالفرس..
سحب اللجام ليجلس على طرف العربة وهو يشير له بطاعةٍ:
_اللي تؤمر بيه يا بشمهندس..
مرر" آسر"أصابعه على رأس الفرس الأبيض بحنانٍ، ثم رفع عينيه ليشير للأخر بالتحركٍ فأنصاع إليه، اتجه "آسر" للشجرة القريبة منه، فاستلى من فروعها قميصه الأبيض الذي تركه على أحد فروعها حتى لا يتسخ بأعمال الحقول الشاقة، فلم يتسنى له الوقت ليبدل ملابسه فما أن وصل من القاهرةٍ حتى أمره والده بالذهاب لمتابعة العمال، فما كان منه الا أن خلع قميصه ليعاونهم اليد باليد رافضاً مباشرة عمله المتوقع بمعاينة الحسابات فترك تلك المهامة لاحمد، دس يديه بجيب بنطاله الأسود ليخرج منديله الورقي، ثم ازاح العرق النابض على بشرته الخمرية، ومن ثم فتح عينيه البنية الداكنة ليتأمل إن كانت ملابسه مازالت متسخة بعد، ثم مرر اصابعه بين خصلات شعره الفحمي ليمشطه جيداً، ثم جلس على الأريكةٍ الخشبية، المتهالكة، القريبة منه ليرفع هاتفه بانتظار رد الطرف الأخر، فقال:
_أيوه يا "بدر"، أنت لسه نايم ولا أيه؟
طيب فوق كده وإسمعني، شحنة الفاكهة في طريقها للمصانع لازم تكون موجود هناك أنت و" يحيى"فهمت؟
طيب تمام، بعد بكره هنكون عندكم أنا و"أحمد" بأمر الله..
وأغلق هاتفه ومن ثم وضعه بجيب بنطاله، ليتجه بخطواته المتزنة تجاه المبنى القريب من الأراضي الزراعية، ليجد "أحمد" منهمك بالعمل على عدد من الملفات، ليتحرر لسانه الصامت ناطقاً بتعصبٍ واضح:
_الشغل ده ميرضيش ربنا أبداً.. كل ده غلط دي فلوس ناس يا ريس!
أجابه المحاسب بتوترٍ:
_يا بشمهندس راجع حساباتك تاني جايز تكون غلطان..
نهض عن مقعده ليحدجه بنظرةٍ قاتلة:
_أنت اللي هتعلمني شغلي ولا أيه؟
والقى الاوراق بوجهه قائلا بحدةٍ:
_راجع شغلك وشوف باقي المبلغ الناقص من الحسابات ده فين والا الكبير بنفسه اللي هيعرف..
وترك المكتب الصغير المتدلي بأحد أطراف المبنى المتوسط، ثم خرج ليجد "آسر" من أمامه، يضع يديه معاً بجيوب بنطاله ويتطلع له بصمتٍ قاتل، ليبتره حينما قال:
_الانفعال مش طريقة لاستعادة الحقوق يا بشمهندس، مينفعش تقول للحرامي في وشه أنت حرامي لا تلعب عليه وتخليه يرجعلك حقك وفوقه بوسة...
زفر "أحمد" بانفعالٍ:
_ده بني آدم بجح بيغلطني عشان يزوغ من المبلغ اللي عكشه في كرشه.
تعالت ضحكات "آسر" الرجولية، ليردد بعدم تصديق:
_هدي نفسك بس يا عريس ده أنت على وش جواز..
سكنت نظراته وهو يردد بفتورٍ:
_عريس أيه بس ده أنا بقالي سنتين خاطب ومستنى أختك تخلص الجامعة بتاعتها وكل مرة الكبير بيطلعلي بحجة شكله مش عايز يتخلى عن بنته..
رد عليه بمزحٍ:
_"روجينا" أكلة بعقله حلاوة، وبعدين أنت مستعجل على الجواز كدا ليه مش قولت عايز تأسس المصنع ويبقى ليك مالك الخاص استغل الوقت ده لنفسك الجواز فقر يا ابني صدقني..
ضحك "أحمد" وهو يجيبه بمشاكسةٍ:
_يعني أنت مش عايز تتجوز يا كبيرنا..
أعدل من ياقة قميصه وهو يجيبه بفخرٍ:
_لا، مبفكرش بالمواضيع المنحرفة دي...
ثم جذبه بقوةٍ كادت باسقاطه:
_يلا عشان نرجع..
تأوه "أحمد" بألمٍ:
_بالراحة علينا احنا مش قدك يا كابتن..
أجابه ساخراً:
_طول ما أنت بتأكل وتنام وبتكنسل الجيم عمرك ما هتبقى قد أي حد..
تعالت ضحكاته فقال بصعوبةٍ بالحديث:
_لا يا عم كفايا الشغل اللي طالع عينا فيه!.
بسخريةٍ قال:
_طيب يلا ياخويا..
مشى لجواره حتى مروا من أمام أحد الأراضي الزراعية التابعة لأحد العاملين المخلصين لأبيه سابقاً، فمن يسوقه الحظ للعمل بمزارع عائلة الدهشان قد يحظى بمالٍ وفير يتمكن من بعدها شراء الأرض الخاصة به كحال هذا العامل المحبب لقلب "آسر"، فأشار لأحمد قائلاً:
_اسبقني أنت على العربية وأنا دقايق وهحصلك..
أومأ برأسه بهدوءٍ ثم أكمل طريقه سيراً للسيارة التي تبعد عنه بمسافةٍ ليست ببعيدةٍ، بينما إقترب" آسر" من كومة القش الملقاة أرضاً حيث كان يجلس هذا الرجل المسن، فألقى عليه التحية ثم قال ببسمةٍ بشوشة:
_عامل أيه يا راجل يا طيب، أنت ما صدقت تسبنا ولا أيه؟
أجابه الاخير بابتسامةٍ واسعة:
_أستاذ "آسر"، كيفك يا ولدي.. والله وليك شوقة..
وحاول النهوض على قدميه الملفوفة بشاشٍ أبيض، مستنداً على عكازه الصلد، سانده"آسر" سريعاً ليردد بخوفٍ:
_خليك مكانك..
ثم تساءل بحزنٍ:
_الف سلامة عليك يا عم "فضل"، مالك أيه اللي حصل؟
وصف بألمٍ ما حدث له:
_مفيش يا ولدي كنت بحمل الربة على العربية فتكعبلت ووجعت على رجلي ولما روحت المستوصف جبسوهالي..
عاونه على الجلوس مجدداً ثم قال:
_الف سلامة عليك، طيب جاي ليه الأرض وأنت تعبان أوي كده؟
كاد بأن يجيبه؛ ولكنه انتبه لصوت صخب يأتي من خلفه من أرض العم"فضل" بالتحديد ، فاستدار ليجد أحداً يحاول رفع أكوام القش الضخمة ليضعها على العربة القريبة منهم، فأسرع تجاهه تلقائياً، كان يرتدي جلباباً أسود اللون، يلف حول وجهه شال أبيض اللون يخفي به رأسه ووجهه المغطى بأكمله، لم يكن سوى عينيه الخضراء الساحرة بارزة من خلفه، تعجب "آسر" مما يرتديه هذا الرجل الغامض؛ ولكنه ظن بأنه يحتمي من أشعة الشمس القاتلة، فانحنى ليجذب الحبال الغليظة من حول كومة القش الضخمة ليردد بثباتٍ:
_هات الطرف التاني يا ريس..
انحنى الرجل ذو الجلباب ليناوله الطرف الأخر، فتلامست أيديهم فشعر بنعومةٍ ملامسها، رفع "آسر" عينيه تجاه هذا المقنع باستغرابٍ، ثم نهض ليزيح قميصه الابيض عنه فاستدار الرجل سريعاً ابتسم آسر وهو يخبره بمرحٍ:
_لا مواخذة يا عمهم بس الحاجة مش هتدخلني البيت لو وسخت الابيض..
ومن ثم انحنى ليحمل كومة القش ببراعةٍ تنساق مع جسده المصفح بالعضلات القاسية، ليضعها على متن العربة، ثم عاد ليحمل الكومة الأخرى فوضعها لجوار الاخرى، فاستدار ليشير له قائلاً:
_لسه في حاجة تانية عايز تحملها على العربية!
هز رأسه فتعجب "آسر" من صمته المبالغ به، أتاه الرد من خلفه حينما إقترب منهما "فضل" ليثني على ما فعله:
_الف شكر يا ولدي، مننحرمش منيك.
ربت على كتفيه بابتسامةٍ صغيرة:
_على أيه يا عم "فضل"، خد بالك انت بس من نفسك ولو إحتاجت أي حاجة كلمني من غير ما تتردد..
ثم جذب قميصه، ليشير للرجل الغامض:
_سلام يا ريس، شكلك عندك دور برد صعب في الحنجرة أبقى عالجه يا عم"فضل"..
تعالت ضحكات العجوز، ليجيبه بصعوبة:
_حاضر يا ولدي..
*********
وصل للسيارة فهبط "احمد" مسرعاً ليشير له بصدمةٍ:
_أنت فاكر نفسك في إنجلترا ألبس بسرعة قبل ما يقتلونا..
ارتدى "آسر" قميصه ثم تحرك تجاه الباب الايسر من السيارة ليردد بخبثٍ:
_ما تنشف يا عم، حد يقدر يبصلنا بس!..
تحرك "أحمد" بالسيارة ليسأله باهتمامٍ:
_عامل أيه عم "فضل"؟
أغلق عينيه ثم استرخى على المقعد ليضع القبعة على رأسه، فعاد" أحمد" ليسأله مجدداً فقال بخفوتٍ:
_رجله مكسورة وجايب ابنه يساعده وهو أصلاً شكله مالوش لا في الطور ولا في الطحين..
رفع حاجبيه بتعجبٍ:
_ابنه! .. عم "فضل" معندوش غير بنت وحيدة بتدرس بالقاهرة..
أزاح "آسر" القبعة عن وجهه ليردد باستغرابٍ:
_أمال مين ده..
_معرفش، جايز مأجر حد..
نفى "آسر" ذاك الإقتراح:
_لأ.. معتقدش حالته المادية متسمحش بكده..
قال "أحمد":
_جايز حد من قرايبه، لان زي ما قولتلك معندوش غير بنت واحدة بتدرس بالقاهرة بنفس جامعة" حور" بنت عمك "سليم"..
عاد ليتمدد على المقعد من جديدٍ ثم وضع القبعة لينعم ببعض الراحة..
********
بأرض العم"فضل"..
إحتدت نظارتها المتخفية من حول قناعها الخفي، فما أن تأكدت من ابتعاده حتى رددت بغضبٍ:
_ ماله ده كمان، شايف نفسه على خلق الله..
أجابها العم"فضل" ببسمته البشوشة:
_مالكيش حق يا بتي.. ده البشمهندس "آسر" أطيب خلق الله..
قالت بتأففٍ:
_مهو واضح، ده خايف من مامته!.. هو ده كبير عيلة الدهاشنة اللي هيكون بعد أبوه!
بملامحٍ جادة للغاية أجابها:
_أنتي متعرفهوش زين يا بتي، البشمهندس "آسر" غريب عن ولاد عمامه، بيحب خلطة الناس بالصعيد لكن وقت الجد يبيقى غول عيلة الدهاشنة، الكل إهنه بيعمله الف حساب ومحدش يقدر يعيب فيه زي ما أنتي بتعملي كده، خلينا في حالنا يا بتي..
وتحامل على ذاته ليصعد على العربة، ثم أشار لها بالصعود:
_يلا نروح قبل ما الظهر يأذن..
ظلت محلها شاردة الذهن، تتطلع على الطريق الذي سلكه بالعودةٍ بشرودٍ، ظنها الشخص الغامض ورأته هو ماكر وخبيث، نعم لم يكن أمامها خيار أخر حينما مرض ابيها، فارادت أن تساعده بعمله الشاق حتى لا يكون بمفرده، من البداية وهي تناضل الأفكار اللعينة التي تنصف المرأة بأنها ضعيفة وغير قادرة على ممارسة عمل الرجل فاردت أن تكد عملاً بالأرض علها تثبت لذاتها بأنها قادرة على ذلك، انتبهت لصوت والدها حينما نادها مجدداً:
_"تسنيم"!
التفتت تجاهه ثم صعدت لجواره وهي تردد بضيقٍ شديد:
_بعدهالك يابوي، مش قولتلك متنادنيش باسمي..
رد عليها بابتسامةٍ واسعة:
_حاضر يا ولدي، كده زين؟
ابتسمت وهي تجيبه بحبٍ:
_زين..
**********
بالقاهرة وبالأخص بالعمارة التابعة لأبناء عائلة "فهد" ، كان الطابق الأرضي فارغ يشغله مساحة كبيرة من الحشائش الصناعية، وعدد لا بأس به من الطاولات البلاستكية، أما الطابق الثاني فكان يحوي شقتين كبيرتين للغاية، بابهما مقابل بعضهم البعض، احدهما تخص الفتيات والأخرى تخص الشباب لمتابعة الأعمال المشيدة بالقاهرة، أما الفتيات لمتابعة الدراسة والجامعة، يعلوه الطابق الثالث الذي يخص "ماسة" بشكل كبير لأنها بالنهاية امرأة متزوجة..
*******
بالشقة الخاصة بالفتيات..
انتهت "حور" من أداء فريضتها ثم رفعت يدها البيضاء لتدعو الله بتحقق أمانيها، ومن ثم نهضت لتطوي سجادة الصلاة لتضعها برفقٍ على مسند المقعد، ثم جذبت خمارها الطويل ليتدلل خصلات شعرها القصير ذو اللون الأسود المميز، فحانت منها نظرة جانبيه تجاه طاولة الطعام التي اعددتها لابنة عمها، لتردد بسئم:
_مفيش فايدة فيكِ..
ومن ثم اتجهت لغرفتها لتزيح الغطاء السميك عنها وهي تصرخ بانفعالٍ:
_يا خم النوم الجامعة هتفوتك!..
فردت "روجينا" ذراعيها بالهواء وهي تحيبها بدلالٍ:
_سبيني الله يكرمك يا "حور" هو أنا أسيب بابا بالبلد ألقيكي هنا..
ثم جذبت الأغطية مجدداً وهي تشير لها:
_خمسة كمان وتعالي صحيني..
رمقتها بنظرةٍ مغتاظة وهي تضيف:
_بقالك ساعة بتقولي كده ولما بجي بتكون مش أخر مرة..
ثم أضافت بمكرٍ:
_أنتي هتقومي بالذوق ولا أنادي "آسر" يشوفله حل..
انتفضت من على الفراش بفزعٍ:
_أوعي والله أزعلك..
ضحكت وهي تشير لها ساخرة:
_كده مش هتنامي تاني، غيري هدومك وتعالي افطري الأكل برد من زمان..
زمت شفتيها بغيظٍ:
_في قفاكي.. هتلاقيني في قفاكي..
وما أن تأكدت بخروجها حتى جذبت الغطاء مجدداً وهي تهمس بسخطٍ:
_عيلة هم..
أتاها صوتها المنادي بحزمٍ:
_"روجيـــــــنا"!..
نهضت سريعاً فتعثرت أرضاً لتتعالى ضحكات "حور" بتسلية..
********
ركضت خلفه مسرعة، لتتفادي تلك المزهرية التي كادت بأن تحتضن الأرض باشلائها، شعرها الطويل يترنح من خلفها بخفةٍ ودلال، نجحت أخيراً بالوصول إليه فقبضت على راسخه ثم لوت ذراعيه لتنتشل اللعبة الصغيرة من يديه، بكى "طارق" البالغ من العمر اثنا عشر عاماً، فصاح بها بغضبٍ شديد:
_أنتي كل لعبة تاخديها مني بالعافية، أنتي بجد بقيتي وحشة أوي!
هزت "ماسة" رأسها بطفوليةٍ وهي تجيبه:
_"ماسة" مش وحشة "طارق" هو اللي وحش عشان مش بيرضى يلعب "ماسة" معاه..
دفعها بعيداً عنه بكرهٍ:
_مش هلعبك معايا لاني مبحبكيش..
لمعت الدموع بعينيها فقالت بطفولية:
_والله لأقول ليحيى يضربك عشان أنت بتضرب "ماسة"..
_في أيه؟....
سؤال متلهف سأله ذو العين السوداء، بعدما أسرع بالوقوف أمامهما، فأشارت" ماسة"بيدها ببكاءٍ:
_"طارق" ببضرب "ماسة"..
وتركتهما وركضت للأعلى سريعاً حتى ولجت لغرفة" يحيى"، أما بالأسفل انحنى "بدر" ليكون مقابله، فمرر يديه على شعره بحنانٍ:
_مش احنا اتكلمنا أكتر من مرة يا "طارق" في الموضوع ده!..
أجابه الصغير ببكاءٍ:
_هي اللي بتاخد كل لعبي يا "بدر"، ويعدين هي المفروض كبيرة ومش طفلة ليه بتعمل كده..
ارتسم الحزن على تعابير وجهه ومع ذلك حافظ على ابتسامته:
_مش أحنا قولنلك أكتر من مرة يا" طارق" أن "ماسة" تعبانة ولازم ناخدها على قد عقلها، هي بقت دلوقتي طفلة في سنك ومش فاكرة حاجة عن سنها وهي كبيرة، دلوقتي "يحيى" أخوك هيزعل منك..
حدجه بنظرةٍ مغتاظة قبل أن يقول:
_يطلقها ويتجوز واحدة كبيرة..
بلهجةٍ صارمة صاح:
_عيب يا "طارق" الكلام ده، "ماسة" مهما كان تبقى بنت خالك "عمر" ومرات أخوك الكبير..
احنى رأسه بالأرض حرجاً فاحتضنه "بدر" بحنانٍ..
أما بالأعلى..
إنتهى من ارتداء بذلته السوداء الأنيقة، ثم نثر البرفنيوم الخاص به ليتأكد بذاته من تصفيف خصلات شعره الأسود الطويل بانتظامٍ، عينيه الرمادية يحتلها قوقع غائم من الحزن، بشرته الداكنة تمنحه وسامة طاغية، انتهى من عقد جرفاته الخاص، ثم انحنى ليعقد رباط حذائه فتفاجئ بزوجته تدلف للغرفة باكية، نهض ليدنو منها سريعاً ثم تساءل بقلقٍ:
_في أيه يا حبيبتي؟..
فركت عينيها ببكاءٍ وهي تشير له على الباب قائلة:
_"طارق" ضرب "ماسة"..
سكن الغضب ملامحه فكادت عينيه بالانخراط بموجةٍ عاصفة، يحاول قدر الامكان أن يجعل أخيه ومن حوله يستعب الحادث المؤلم الذي أصاب معشوقة دربه ليحولها من مرأة كاملة الانوثة لفتاة لا يتعدى عمرها الحادية عشر عاماً ورغم وجع قلبه لتلك الذكرى القاتلة الا انه يجاهد ليكن جوارها، رفع" يحيى"أصابعه ليزيح دمعاتها، ثم حضنها برفقٍ:
_متزعليش يا روح قلبي، أنا هنزل حالاً أطلع عينه وأقوله ميرفعش أيده على "ماسة" تاني..
تحول بكائها لضحكة مشرقة، فجذبت يديه وهي تردد بسعادةٍ:
_يلا نضرب "طارق"..
ابتسم وهو يتأمل ضحكتها التي أنعشت قلبه، فجذب حقيبته السوداء من على سطح مكتبه:
_يلا يا ستي..
وهبط معها للأسفل، فما أن رأه" طارق"حتى تخبئ خلف "بدر" بخوفٍ، فأشار له بدر سريعاً:
_مفيش داعي تزعقله يا "يحيى" أنا خلاص فهمته غلطه..
سحبت "ماسة" جاكيت "يحيى" قائلة:
_"طارق" بيقول مش هيلعب ماسة معاه تاني أضربه يا "يحيى"..
اكتاظ غيظ الصغير فقال بعنفٍ:
_مش هلعبك عشان انتي وحشة وأنانية..
أطرقت بقدميها الارض لتغوص بنوبة من البكاء كاد بأن يؤثر بحالتها النفسية المتدهورة، فأمسك" يحيى" ساعديها معاً وهو يصيح بغضبٍ فتاك:
_قسماً بالله يا "طارق" لو محترمت نفسك لأكون قسمك نصين، أنت مفيش فايدة فيك أبداً، غور من وشي..
ركض الصغير للخارج باكياً، فأسرع "بدر" للدرج ليتفحص وضعها، قال "يحيى" بقلقٍ:
_شوفتي يا "ماسة" زعقتله ازاي، متزعليش عشان خاطري..
ادلت شفتيها السفلية وجسدها ينتفض، فحملها "يحيى" ليضعها برفقٍ على الأريكة بالأسفل، ثم أشار بيديه لبدر على مكان الادوية، ليستكمل حديثه المهدأ لها:
_لو "ماسة" معيطتش هجي بدري من المصنع النهاردة وأخرجها الملاهي زي ما تحب..
اتسعت بسمتها وهي تردد بحماسٍ:
_"يحيى" خرج "ماسة"؟
ابتسم وهو يجيبها:
_هخرجك وأجبلك البسبوسة اللي بتحبيها..
كفت عن البكاء واتسعت ابتسامتها، فاحتضنها بلهفةٍ بعدما تمكن من تخطي المرحلة الخطرة من علاجها المتزمن، ابتعد عنها برفقٍ حينما انتبه لهبوط" بدر" فناوله الحقيبة الصغيرة، أخرج منها "يحيى" الدواء فكادت "ماسة" بالركض، فرفع بدر يديه حاجزاً من أمامها قائلاً:
_خدي الدوا عشان يحيى يخرجك زي ما قالك..
لوت فمها بتقزز، فجذبها "يحيى" لتجلس جواره من جديد ثم مد يديه بالدواء، فوزعت عينيها بينه وبين الدواء بغضب ومن ثم تناولته جرعة واحدة، مرر يحيى يديه على خصلات شعرها وهو يردد باعجابٍ:
_شطورة يا روح قلبي..
ابتسمت وهي تهز رأسها بفرحةٍ، فرفع صوته منادياً:
_"إلهام"..
أتت مهرولة إليه، فأردف:
_خدي "ماسة" أوضتها وخلي بالك منها..
أمسكت بيدها وهي تردد بابتسامة:
_دي في عنيا يا أستاذ "يحيى"..
حملت عروستها الصغيرة، ثم لحقت بالخادمة وهي تشير له بعفويةٍ:
_باي يا" يحيى"..
ابتسم وهو يودعها:
_مع السلامة يا حبيبتي..
صعدت "ماسة" للأعلى بصحبة الخادمة، فجلس "بدر" جواره ليتنحنح قائلاً باستياءٍ:
_انا مش معاك خالص باللي عملته مع "طارق" يا "يحيى"..
رفع رأسه اليه ليجيبه بحزنٍ:.
_أديك شايف يا" بدر"بحاول أخليه يستوعب حالة "ماسة" وهو رافض..
قال بهدوءٍ:
_مش قادر لانه عيل صغير المفروض تكلمه بهدوء..
هز رأسه باقتناعٍ، فربت "بدر" على كتفيه:
_عارف أن اللي بتمر بيه صعب حد يتحمله، بس لازم تكون صبور زي ما أنت يا "يحيى"..
ثم جذب حقيبته ليشير له:
_شوفه وهستناك بالعربية..
منحه ابتسامة مصطنعة يخفي بها آلآمه، بداخله وجعاً يكاد يبتلعه، ومع ذلك عليه التحلي بالصبر، نهض ليتجه لغرفة أخيه الصغير، طرق الباب بطرقاتٍ متتالية ليجدها مستلقي على الفراش بحزنٍ، فما أن رأه حتى جلس مكتف ساعديه أمام صدره بزعلٍ، ولج" يحيى"ثم جلس لجواره على حافة الفراش ليردد بنبرةٍ صوت حزينة:
_أنا عارف أني مكنش ينفع أتعصب عليك ولا اكلمك بالأسلوب ده بس أنت مش قادر تفهمني يا "طارق"، وبعدين انت مش كنت بتحبها!
استمع لما قاله جيداً ثم أخبره بعفويةٍ:
_كنت بحبها لما كانت دايماً بتشتريلي لعب وبتخرجني معاها، بس لما بقت تأخد العابي وبتعمل كده مبقتش أحبها..
زفر الهواء العالق برئتيه على مهلٍ،ثم عاد ليسترسل حديثه الهادئ:
_ما أنا قولتلك يا حبيبي "ماسة" تعبانه والتعب اللي عندها ده خلاها تبقى زي العيلة الصغيرة وأحنا لازم ناخدها على قد عقلها..
قال بسخريةٍ واضحة:
_يعني أنا لما هتعب هبقى طفل عنده ٥سنين!..
بتعصبٍ شديد نطق:
_وبعدين معاك بقى يا "طارق"!..
ثم نهض عن الفراش وإتجه للخروج ليوقف حينما ناده" طارق" ليخبره بحزنٍ على حاله:
_خلاص هلعبها معايا ومش هضايقها تاني..
منحه ابتسامة صافية ثم استكمل طريقه للخارج ليستقر جوار "بدر" منطلقاً للمصانع الخاصة بتحويل الفواكه المنعشة لعصير طبيعي يحمل رمز عائلة الدهاشنة..
********
بسيارة "أحمد"
مرت جموع من الأغنام من خلف أحد الفلاحين من أمام السيارة فتفادهم بصعوبةٍ، ليصطدم رغماً عنه بأحدى السيارات التي كانت من أمامه، توقفت السيارة ليهبط منها السائق ثم فتح الباب لسيده فهبط هو الأخير بغضبٍ شديد، تابع "أحمد" ما يحدث بمعالمٍ منصدمة:
_"هاشم المغازي"!
انتبه "آسر" لما يقوله ابن عمه فتطلع للأمام ليرى من لا يتمنى رؤياه بهذا الصباح المتناغم، ردد "أحمد" بخفوتٍ:
_الدم هيبقى للركب!
إقترب "هاشم" من السيارة فما ان رأى سائقها ومن جواره حتى تملكه الحقد والغضب، فرفع صوته بجراءةٍ:
_ابقى خلى كبيركم يعلمكم السواقة يا واد منك له، ولحد ما ده يحصل ابقي اقعد في بيتك كيف الحرمة اللي بتستنى عدلها..
إحتدت عينيه بنظراتٍ تزوره وقت الغضب، فسيان ما يصدق بأنه نفس الشخص العطوف الذي يساعد العاجز ويكرم ضيفه، فتح باب السيارة وهو يتحدث بصرامةٍ:
_خليك بالعربية يا "أحمد"..
جذب معصمه ليتساءل بخوفٍ:
_بلاش يا" آسر".
أبعد يديه الممسكة به ثم أغلق الباب ليكون أمام الأخير وجهاً لوجه، نطاحه "هاشم" النظرات بكره شديد، فتحرك فكيه قائلاً:
_انتوا الادرى بقعدة الحريم بالبيوت ما كبير الدهاشنة خلكم تتداروا فيها ٢٢سنة.
غلت الدماء بعروق "هاشم" فأطرق بعصاه الأرض وهو يردد بحدةٍ:
_معتش اللي أنت يابن "فهد" اللي تتحدت مع كبار البلد إكده..
تعالت ضحكات "آسر" فقال وهو يحك مقدمة أنفه:
_كبار أيه؟ ، لا باين عليك لما كبرت في السن خرفت، البلد ملهاش غير كبير واحد "فهد الدهشان" ومن بعده بعد عمر طويل اللي واقف قدامك وش لوش..
ابتسم ساخراً:
_القوالب نامت والأنصاص قامت ولا أيه؟
كسى وجهه غيمة قاتلة، فاقترب منه ثم مرر يديه على الشال الذي يضعه حول رقبته، فضغط به على جلد رقبته بقوةٍ كادت بخنقه وهو يردد بشراسةٍ وتحدٍ:
_لو مش عايزني أقل بكرامتك صحيح خد الجردة دي وغور من هنا، يكفيك شر غضب راجل عرق الدهاشنة بيجري في عروقه..
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فدفعه "آسر" أرضاً ليسرع إليه سائقه، فطرق بيديه على مقدمة سيارته قائلاً بحزمٍ:
_يلا يالا خد معلمك وغور من هنا قبل ما أعلم عليه وأخليه عبرة للمغازية كلهم.
صعد "هاشم" لسيارته سريعاً ومن ثم لحق به السائق ليغادر بسرعة الرياح التي حملتهم سريعاً بمنتصف ثرايا "عتمان المغازي"، أما" آسر" فصعد لسيارته ليخبره احمد ببسمةٍ واسعة:
_حطيت عليه بالجامد يا كبيرنا..
عاد ليستلقي على مقعده وهو يردد بمرحٍ:
_جرجرني للرزيلة وأنا راجل محترم وابن ناس..
تعالت ضحكات "أحمد" ليكمل قيادته حتى أصبح أمام المنزل..
********
بمنزل "عتمان المغازي"..
كالرعد الذي طرق السماء، أشعل" هاشم"النيران بأعمدة المنزل بأكمله، وخاصة بعد قصه ما حدث معه من ابن "فهد الدهشان" العائلة التي يمقتها كل بني المغازي بأكملهم، هاجت الدماء بعروق شقيقته التي تستمع لما يسرده على مسمعها بجوار ابنها الوحيد، فصاحت بعصبيةٍ بالغة:
_أهو ده اللي ناقص، معتش غير العيال اللي يمشوا كلمتهم علينا..
حمسها "هاشم" بغضبه الطائش:
_قولتلك قبل سابق ياخيتي "فهد" وولده مش هيجبوها لبر، لازمن نقطع عرق ونسيح دم..
خرج ابنها عن صمته المطبق أخيراً حينما قال بصرامةٍ وجفاء قاتل:
_ورحمة أبويا لأكسر مناخيرهم وأجبها الارض..
وأشار لوالدته بوعداً قاطع يصاحبه نبرة شيطانية مخيفة:
_بكره ياما هجبلك بنت "فهد الدهشان" خدامة تحت رجليكِ ولو ده محصلش مبقاش "أيان المغازي"!
.................يتبع........... نيران العشق والسلطة........ انتقام قاتل!!........
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الثاني
الدهاشنة2.... (صراع السلطة والكبرياء..)...
الفصل الثاني..)
الفصل الثاني..)
وصلت سيارة "أحمد" لداخل المنزل، فتراجل كلاً منهما ومن ثم ولجوا للداخل، إتجهوا للمندرة فوجدوا الرجال مجتمعون بالداخل، وأكواب الشاي الساخنة محكمة بين الايدي، اقترب "آسر" من أبيه ثم قال بوقارٍ صاحب لهجته:
_عملنا اللي حضرتك قولت عليه، تممنا على العمال وشحنات الفاكهة اللي سافرت للمصانع، والحسابات كان فيهم كام غلطة بس "أحمد" صلح الدنيا..
هز "فهد" رأسه وهو يردد باستحسانٍ:
_عفارم عليكم، رجالة صوح..
رفع "سليم" يديه ليطرق على كتف "آسر" و"أحمد" بتباهي:
_أمال أيه مش من صلب الدهاشنة..
قال "أحمد" ببعض المرح:
_طيب يا عمي احنا نازلين من القاهرة على لحم بطننا، وقرفنا من الدلفيري وسنينه السودة فين المحمر والمشمر والذي منه...
تعالت ضحكات "سليم" حتى كشف عن أنيابه، فنهض "عمر" ليشير له ساخراً:
_خف شوية من اللغ تخنت وبقا ليك كرش..
حدجه بنظرةٍ حزينة وهو يتابع بقوله المنتحب:
_ويوم ما هفكر اعمل ريجيم هعمله وأنا هنا، لا لو سمحت يا والدي العزيز سبني أعوض هنا ولما أرجع القاهرة ابقى أعمل ريجيم..
علق "آسر" باستهزاءٍ:
_ولا عمره هيخس يا عمي اسمع مني..
أشار لهم "فهد" بحزمٍ:
_غيروا هدومكم وكلوا لقمة وبعدين نتحدت..
إنصاعوا لكلمته فأتجه كلاهما للداخل، فقال "سليم" بفخرٍ يتبع لهجته السعيدة:
_العيال مبقوش عيال بقوا رجالة بشنبات، كبرونا ولاد الأيه..
ابتسم "عمر" ليضيف بسخريةٍ:
_احنا اللي العمر جرى بينا ومبقناش صغيرين يا "سليم"..
حاوطه بكتفيه ليستطرد قائلاً:
_العمر يجري ما يجري هنفضل مع بعض يا واد عمي..
احتضنته وهو يشاكسه بكلماته:
_الكلام الحلو ده مش بيريحني واصل..
قال الاخير بمكرٍ:
_بقيت بترطم صعيدي اهو..
تعالت ضحكات كلاً منهما، والكبير يتابعهما بابتسامة حب تشع من حدقتي عينيه الحنونة، خلف حاجز الهيبة الذي صنعه لنفسه حافظ على بعض الخصال التي تنتمي لشخصه، فحينما يستلم منصب الكبير يلغى الخصال الطيبة بداخله، فأن صدر عنه تصرف يدل على نبله وكرم أخلاقه قد يظنه البعض ضعف منه، وبالرغم من ذلك ظل يحتفظ بداخله بما يبقيه على إتصالٍ قوي بالفهد!..
********
جلس"آسر" على المقعد المقابل لأحمد المنغمس بتناول الجبن القديم، والفطير الشهي، فناده بصوتٍ منخفض وهو يتفحص المكان من حوله:
_متجبش سيرة للكبير باللي حصل على الطريق، فاهم؟
أكمل تناول طعامه وهو يجيبه ببسمةٍ خبيثة:
_متقلقش هو هيعرف بس مش مني، أبوك حبايبه كتير.
ذم شفتيه بضيقٍ لصدق عباراته الصريحة، انتبهت حواسه لمن اقتربت منه قائلة بابتسامة أشرقت وجهها المعجد:
_حمدلله على سلامتك يا ولدي..
نهض عن المقعد ثم أسرع لينحني طابعاً قبلة عميقة على يدها وهو يردد بابتسامةٍ صافية:
_الله يسلمك يا ستي، ليه تتعبي نفسك وتقومي من سريرك أنا شويه وكنت طالعلك..
انصاعت ليديه التي تعاونها على الجلوس، فجلست وهي تمرر يدها المرتعشة:
_لا لزمن أشوفك واضمك لصدري قبل امك..
جذب المقعد الأخر ليكون مقابلها، فطبع قبلة أخرى على رأسها بحنانٍ:
_مفيش حد أغلى عندي منك يا نبع الحنان..
احتضنته "هنية" بحبٍ شديد وهي تردد برضا:
_ربنا يحميك لشبابك يا ولدي..
ضحك "أحمد" ثم قال:
_واكل بعقلك حلاوة الواد ده..
أشارت له بالاقتراب، فانحنى على مقعدها لتحتضته بحنانٍ، ثم مررت يدها على خصلات شعره لتخبره بصوتٍ منخفض:
_بيفكرني بولدي "فؤاد" عمك الله يرحمه..
ابتسم "أحمد" ثم طبع قبلة على كف يدها:
_ربنا يرحمه، ويباركلنا في عمرك يارب..
هبطت "راوية" سريعاً منهما ليعلو صوتها المنادي بحماسٍ:
_"آسر"..
تقدم ليصبح مقابلها فاحتضنته بفرحةٍ:
_وحشتني اوي، غيبت علينا المرادي كدليه؟
أجابها هامساً بمرحٍ:
_جوزك طحنا بشغل المصانع!
ضحكت بصوتٍ مسموع، فقالت "هنية" بذهولٍ:
_بتقولها أيه!
أخشونت نبرة صوته بثباتٍ:
_ولا حاجة ده أنا بقولها هطلع أريح شوية لحسن أنا تعبان اوي من السفر..
وغمز بعنينه لراوية التي ابتسمت وهي تشير له بيديها على الهاتف فهمس بصوتٍ شبه مسموع:
_هكلمك يا كبيرة..
تعالت ضحكاتها، وهي تتأمله يستكمل طريقه لغرفته بالطابق العلوي، فجلست هي الأخرى على المقعد المقابل لأحمد لتسأله باهتمامٍ:
_طمني على "روجينا" و"ماسة"و"حور" والشباب عاملين أيه؟
رد عليها وهو يرتشف الشاي الساخن:
_كلهم بخير يا مرات عمي وان شاء الله هينزلوا الصعيد في اجازتهم..
قالت بارتياحٍ:
_الحمد لله..
ثم اردفت:
_اطلع يا ابني شوف والدتك كانت قلقانه عليك من الصبح، خد الشاي وأطلع طمنها عليك ..
ابتسم لرقة قلبها، فابعد المقعد للخلف قليلاً ثم كاد بالصعود ليجد "نادين" من أمامه تشير بيدها بمشاكسةٍ:
_يا مراحب بالحبايب..
ومن ثم اندفعت بحديثها:
_قولي يابن "ريم" الواد "بدر" ابني مدورها في مصر ولا لسه بلوكه زي ما هو؟
كبت ضحكاته ليجيبها بصعوبةٍ:
_مهو انا مش فاهم حضرتك عايزاه يدورها فانفي الوضع ده ولا هتتفاجئ وتنصدمي لو عرفتي فأشعلل الدنيا بينكم..
حكت رأسها بتفكيرٍ ثم قالت بلهجةٍ صعيدية:
_والله يا ولدي ماني خابرة..
تعالت ضحكات "أحمد"، فقالت"هنية" بضيقٍ:
_وبعدهالك يا "نادين" هملي الواد يطلع يشوف امه..
ثم قالت:
_اطلع يا ولدي وسيبك من المخبولة دي..
كبت ضحكاته وهي يستكمل طريقه للأعلى، اما "نادين" فجلست جوار "راوية" وهي تردد بغضبٍ:
_كده يا خالة، أنا مخبولة!
اكدت لها حينما قالت:
_مخبولة من يوم يومك ايه قولك؟
ضحكت "راوية" وهي تتأملها تستشاط غيظاً كالطفل الصغير متناسية مرور الأيام عليهما ليشيب الشعر ويطغو الشيب على اجسادهم..
**********
لافتة ضخمة تلمع على أبواب المصانع العملاقة تضم إسم "مصانع عائلة الدهاشنة" بخطٍ موثوق، العمالة تدب بالداخل كخلية النحل النشطة التي تحوم باجتهاد، آلاف من المعدات الحديثة يشملها عدد من العمالٍ، وأخرون يغسلون الفاكهة جيداً قبل أن يحضرونها للمرحلة التالية، وهناك من يرص الأكياس بعنايةٍ بداخل الكرتون، ومن وسط هؤلاء كان يمر بينهما يتفحص الفاكهة باهتمامٍ، يحرص حرصاً شديد على العمل الجاد فيما بينهما ليسرع بتلبية الطلبيات بموعدها حرصاً على سمعتهم المرهونة، فمشط بيديه خصلات شعره الطويل التي تزعج عينيه لينتبه لمن يناديه لاهثاً:
_بشمهندس "بدر"..
استدار" بدر" إليه وهو يتساءل بثباتٍ طاغي:
_في أيه؟.
أجابه بتوترٍ مما يحمله من أخبار غير سارة:
_الحج "مدحت" عامل مشاكل في الحسابات يا بشمهندس، عايز يخصم أكتر من ٨٠٠٠ج..
ضيق عينيه باستغرابٍ:
_ليه هو أول مرة يشتري مننا ولا أيه؟
ثم أشار له بحزمٍ:
_روح أنت شوف شغلك وأنا هشوف الموضوع ده..
أومأ برأسه ثم غادر، ليتجه "بدر" سريعاً لمكتب المحاسبة، فما أن رأه المحاسب حتى نهض سريعاً عن مقعده، ليجلس محله ثم ضم يديه على سطح المكتب متسائلاً بصرامةٍ:
_خير يا حاج..
رفع حاجبيه باستغرابٍ:
_حضرتك محاسب هنا!، اقصد يعني بتشتغل أيه انا عايز حد من أصحاب المصنع عشان أتكلم معاه..
قال بثباتٍ:
_معاك.. إتفضل..
ردد بدهشةٍ:
_أنت ابن "فهد" بيه؟
أجابه بضيقٍ من أسئلته المبالغ بها:
_حضرتك بتضيع وقتك ووقتي، طلبت تشوف حد من الملاك وجيتلك بنفسي هتقضيها جلسة تعارف بقا!
لعق شفتيه بارتباكٍ من صرامته المخيفة، ثم قال:
_أنا بصراحة كنت مستغلي الاسعار اللي حطينها وعايز تخفيض ده انا حتى زبونكم..
رد عليه بواجهاً واجم:
_زبونا يبقى عارف السعر لأنه ثابت ومرفعش أيه اللي مخليه مش عاجبك المرادي!.
قال بلهجة حماسية ظنها اسلوباً خبيثاً ليجعله يخفض من الثمن المطروح:
_ما في أكتر من مصنع فاتح جنبكم وبيبعوا بنص التمن تقريباً..
أغلق "بدر" الحاسوب من أمامه، ثم نهض ليعدل جرفات بذلته السوداء الانيقة ليجيبه بجفاءٍ:
_يبقى مبروك عليك وحلال عليك الجودة والطعم..
وتركه وغادر والاخير محله لا يعي ما الذي اقترفه بغبائه الشديد الذي ظنه نقطة ذكاء سيجبره على إزهاق الثمن، رغم تأكده من جودة مصانع "الدهاشنة" المعروفة، فاسرع تجاه أحداهم ليخبره بهلعٍ:
_عايز أقابل بشمهندس "يحيى" ضروري..
أرشده لمكتبه بالطابق العلوي، فصعد سريعاً إليه..
*******
بمكتب "يحيى"
كان هائماً بالصورة الفوتوغرافية الموجودة على سطح مكتبه، الابتسامة التي تزين وجهه وهو يحتضنها بفرحة تضيء عالم مظلم بأكمله، يديه التي تحتضن بطنها المنتفخة بجنينه البالغ من العمر ثمانية أشهر تنبض بقوةٍ حينما يتذكر تحركه أسفل أصابعه، وجه "ماسة" المشرق يفتت قلبه المذبوح، كم كان يشكلا ثنائي رائع، أول من أطرق العشق بابهما بعائلة الدهاشنة، فعلى الرغم من حب "آسر" الشديد لماسة وتعلقه بها الا أنها أحبته هو، ولم تخشى أبداً الاعتراف بذلك أمام كبير الدهاشنة بذاته، حينما هبطت للمندارة بعدما كان يجتمع الرجال لقراءة الفاتحة على ما اتفقوا به، فوقفت أمام "فهد" قائلة:
_عمي، أنا مش موافقة على الجواز من ابنك..
صعق الجميع وعلى رأسهم أبيها "عمر"، حتى"يحيى" تطلع لها بصدمةٍ فبالرغم انه كان يعشقها حد الموت الا أنه لم يجرأ على الاعتراف بذلك، أسرع "أحمد" تجاه شقيقته فأمسك بذراعيها بعنفٍ:
_أنتِ بتقولي أيه؟
قالت بدموع غمرتها:
_بقول أني مش موافقة، انا مبشوفش "آسر" غير أخويا الكبير..
ضرمت الآلآم "آسر" لتفتته جريحاً، واسرع "عمر" تجاهها ليصرخ بها بقسوةٍ:
_من أمته الكلام ده، ما طول عمرك وأنتي عارفة أنك ليه؟..
أخفضت رأسها أرضاً بخوفٍ، فبترت الأنفاس وتلاشت الهمسات حينما رفع "فهد" صوته:
_سبها تتحدت وتقول اللي عايزاه يا "عمر"..
وأشار لها بالاقتراب قائلاً:
_تعالي يا"ماسة"..
اقتربت لتقف على مسافةٍ منه وعينيها موضوعة أرضاً بحرجٍ شديد، جسدها يهتز بعنفٍ من فرط شهقاتها المكبوتة، تعالى صوت الكبير متسائلاً:
_أنتي مش عايزة تتجوزي خالص ولا المشكلة في ولدي بس..
رفعت طرف عينيها تجاه"يحيى" ثم أشارت بالنفي، فعاد ليسألها من جديد:
_بتحبي حد!
لعقت شفتيها بارتباكٍ فتحدت ذاتها، بالرغم من وجود الكثير من رجال العائلة بالمندرة، تعلم بما سيقال عليها ربما بالجريئة وربما بعديمة الحياء وربما بالابشع من ذلك، ولكنها ستفعل المحال لأجل حبها، فإن صمتت وقبلت بالأمر ستجلد ذاتها الباقي من حياتها، هزت رأسها كأجابة صريحة على سؤاله المطروح فعاد ليتساءل من جديدٍ:
_مين؟.
رفعت يدها لتشير على من إختاره القلب بارادته، من عشقته قلبٍ وقالباً، ذاك الذي يغلفها بنظرةٍ مخطفة من مسافة يضمنها سلامة لها، ذاك الذي يراقبها بالخفاء وإن أوشك الأذى على مسها يواجهه أولاً، انتقلت الوجوه جميعاً إليه، فأشار له "فهد" بعينيه ليقف أمامه، نهض "يحيى" عن محله ليقف أمام الكبير، جوارها سكنت قليلاً وكأن بسكنته أمان من الأعين المتربصة بها، طالت نظرات "فهد" المتنقلة بينهما، قرأ العشق صريح بعينيه من قبل أن يستمع إليه، الصمت الذي ساد المندرة كسره صوت "فهد" حينما نطق بصرامته الجادة:
_فرحهم السبوع الجاي..
ردد "عمر" بدهشةٍ من قراره الذي يعد بمثابة سلسال جحيم يحكم إغلاقه على "آسر"، فقال:
_أيه اللي بتقوله ده يا"فهد"؟
بحزمٍ شديد أجاب:
_كلامي واضح للكل، السبوع الجاي فرح"يحيى" و"ماسة"..
رنت تلك الذكرى كالمنبه بذكراه، لتترك بسمة على شفتيه وهو يتذكر كم جابهت أعتى الظروف لأجله هو، أمسك بالصورة ثم مرر اصبعه على بطنها المنتفخة فكأنما لامس تلك الذكرى البغيضة التي فتكت بعش زواجه، فأبعد يديه سريعاً عنها وكأنه غير مستعد لتذكر تلك الذكريات المشؤمة الآن، أفاق "يحيى" على صوت طرقات باب مكتبه، فأذن للطارق بالدخول؛ ولجت بابتسامتها التي تجاهد لجعلها أكثر اشراقاً عل محبوب طفولتها يشعر بحبها الشديد إليه، تهواه منذ الصغر فكانت تراه دائماً كونه الصديق المقرب لشقيقها منذ أيام الجامعة، هاجت وماجت حينما علمت بأمر زواجه وهدأت بعدما علمت بما حدث لزوجته بعد زواجه، وخاصة حينما قيل بأنها أصبحت مختلة عقلياً فظنت بأنها فرصة مناسبة للتقرب منه، فأدعت حاجتها للعمل عل قربها منه يجعله يشعر بها، أجلت "يمنى" صوتها:
_ بشمهندس "يحيى"، في واحد برة من تجار الجملة عايز يقابل حضرتك.
ضيق عينيه باستغرابٍ ثم قال:
_دخليه.
ولج العجوز للداخل فأشار له"يحيى" باحترامٍ:
_اتفضل..
جلس على المقعد المقابل له، ثم بدأ حديثه بابتسامة واسعة:
_ما شاء الله على الوش السمح ده..
أفتر وجهه عن بسمة صغيرة ليشير له قائلاً:
_تحت أمرك يا حاج، أومرني..
قال بحزنٍ مصطنع:
_أنا طلبت أشوفك مخصوص عشان أشتكيلك من المحاسب المتنك اللي تحت ده، بقوله يهونها شوية بالسعر قالي يفتح الله.
أجابه بمكرٍ بعدما تابع بالكاميرات من أمامه بمن يقصده:
_"بدر" تقصد..
قال بمحايدةٍ:
_أعتقد هو..
أومأ برأسه قبل أن يضيف:
_"بدر" ابن عمي مبيقولش حاجة غلط أو بيتصرف اي تصرف مش مناسب، السعر موحد عندنا وأنت مش اول مرة تتعامل معانا يا حاج عارف مصانعنا كويس وشغلنا ولا أيه!.
صمت قليلاً ثم قال:
_على خيرة الله..
وأخرج من جيبه شيك من المال ليوقعه أمامه ثم ناوله إياه قائلاً بوجومٍ:
_أقدر أستلم امته..
استلم منه الشيك ببسمةٍ مصطنعة:
_هأمرهم حالاً يجهزوا لحضرتك طلبياتك..
شيعه بنظرةٍ أخيرة ثم ترك باب المكتب مفتوح على وسعيه ليغادر بغيظٍ كاد بأن يقتله، أما من بالخارج فتأملته بنظرة شاردة بعدما منحها هذا الغريب فرصة لرؤيته يعمل أمام أنظارها المتلصصة علها من ستدفع "ماسة" لأول طريقها بالشفاء!
*********
بغرفة "ريم"..
أحاطتها السعادة بهالةٍ ساحرة حينما رأت ابنها يقف من أمامها، احتضنته"ريم" بسعادةٍ، ثم تساءلت بلهفةٍ:
_قولي يا حبيبي أنت أخبار أيه، بتأكل زين!
تعالت ضحكات "أحمد" ليردد بسخريةٍ:
_ لو جوزك مكنش قالي بنفسه أني منفوخ كنت صدقتك..
واستطرد بمرحٍ:
_متقلقيش عليا يا ست الكل أنا بدبر نفسي وعايشين على الدليفري ومية فل وعشرة..
تطلعت له مطولاً قبل أت تسأله بترددٍ:
_قولي يا ولدي، هي "روجينا" خطيبتك مش بتعملك وكل أنت وأخوها!
عند ذكرها لا يعلم لما يعتريه الضيق، يشعر وكأن ليس بينهما أي توافق، يراها عنيدة دائماً ما تثيره للتعصب، وبالرغم من ذلك يرضى بواقعه، فمن وجهة نظره هي المناسبة إليه، خرج عن قوقع الصمت القاتل ليجلي أحباله الصوتية:
_لا هي مشغولة بجامعتها..
ارتسمت بسمة لا ارادية على شفتيه وهو يستسل:
_بس "حور" لما بيكون مش عليها مذكرة بتعملنا أحلى طواجن وأكل من اللي قلبك يحبه..
ابتسمت هي الاخرى لتضيف على كلماته:
_"حور" دي بنت جدعة وزينة، اللي يشوفها ما يصدقش إنها بنت "نادين" المخبولة..
ضحك بصوته كله، ليجاهد بقول:
_لسه ستي مدياها المرشح إياه تحت..
قالت بصدقٍ يتبع ابتسامتها الرقيقة:
_الحق يتقال يا ولدي هي اللي عاملة للدار حس، من غيرها تحسها خرابة..
تمدد على الفراش، ثم وضع رأسه على قدميها لتمرر يديه بين خصلات شعره الفحمي بتدليكٍ خفيف تزيح به آلام رأسه، فهمس باسترخاءٍ:
_محدش جوهرة البيت ده اللي أنتي يا ست الكل..
تعالت ضحكاتها باستمتاع لسماع المحبب إليها منه، فأخذت تدلك فروة رأسه حتى غفى على قدميها كالطفل الصغير!..
*********
أحكمت "حور" الخمار حول جسدها مانعة الهواء من أن يطيح به يساراً ويميناً، استدارت تبحث عنها هنا وهناك، فجذبت هاتفها ثم رفعته لتبرطم بضيقٍ:
_راحت فين دي؟
_أنا هنا..
استدارت "حور" لتجدها تلوح لها بابتسامة عذباء:
_عارفة اني أتاخرت بس عما وصلت من البلد.
احتضنتها وهي تردف بانزعاجٍ:
_مش عارفة أنتي مبهدلة نفسك ما بين هناك وهنا ليه يا "تسنيم"!
حدجتها بنظرةٍ منزعجة من عينيها الخضراء الساحرة لتخبرها بحزنٍ:
_مش قولتلك يا"حور" أن بابا رجله مكسورة وأنا بحاول أساعده على قد ما أقدر..
أجابتها بدهشةٍ:
_تساعديه ازاي، بت أنتي بتروحي معاه الأرض!
قالت بثباتٍ وفخر:
_وماله مش ابويا اللي طول عمره شايلنا على كفوف الراحة، بيشقى وبيتعب عشان مين!
حاوطتها بحنانٍ ثم قالت بتوضيحٍ:
_أنا مقصدش يا سولي، وبعدين لو مكنتيش أنتي اللي تشيلي باباكي مين اللي هيشله، أنا بس كنت فاكرة انك بتسافري عشان تطمني عليه وإنه جايب حد يشتغل بالارض بالأجرة..
أعدلت طرف حجابها المتساقط من خلفها، ثم قالت بحرجٍ واضح:
_كان نفسه يعمل كده بس الحالة على القد، أنتي عارفة بقا مصاريف الجامعة وجهاز أختي زنق الدنيا شوية..
تعلم جيداً عزة نفس صديقتها المقربة، فرغم أنها قادرة على مساعدتها الا أنها لم تجرأ على فعى ذلك، فربتت بيدها على كتفيها بتفهمٍ:
_بكره ربنا هيفرجها وهتبقى عال..
هزت رأسها بيقينٍ، ثم اردفت:
_أنا بفكر أدور على شغل هنا بالقاهرة، أهو أقدر أكفي بيه مصاريف الجامعة عما ربنا يأخد بيد بابا ويقف على رجليه..
صمتت قليلاً تحسب الفكرة المطروحة من أمامها ثم قالت بلهفةٍ:
_طب أيه رأيك تشتغلي في المصنع بتاعنا هما كل يوم بيحتاجوا عمال وانتي أصلاً تعليم عالي أكيد هيكون محتاجين ليكي..
بحماسٍ قالت:
_ياريت يا "حور"، تبقي فعلاً خدمتيني..
ردت عليها بابتسامة مشرقة:
_اعتبريه حصل، بدر أخويا كان مكلمني من ساعة وقالي انه هيعدي عليا زمانه على وصول هفاتحه أول ما يوصل..
ابتسمت بفرحةٍ:
_ربنا يخليكي ليا وميحرمنيش منك ابداً..
عاتبتها بضيقٍ، لتردد بلهجة صعيدية مرحة :
_مش قولنا مفيش الكلام ده بينتنا أنتي مفيش منيكي رجا..
تعالت ضحكات"تسنيم" لتشير لها بصدمةٍ بعدما تفحصت ساعة يدها:
_يخربيتك عندي محاضرة دلوقتي ولا أنتي عشان خلاص بتحضري الماجستير نسيتي الغلابة اللي زينا..
وتركتها وهرولت تجاه جامعتها فتعالت ضحكات "حور" لترفع صوتها:
_طب حسبي لتنكفي على وشك لا تلحقي المحاضرة ولا يحزنون..
استدارت لتشير لها بوعيدٍ ثم أكملت ركض، أما "حور" فأخرجت هاتفها الذي يرن بازعاجٍ، لترى عدة رسائل من اخيها، فخرجت للبوابة الرئيسية، لتراه يقف بانتظارها أمام سيارته، يستند بذراعيه على مقدمتها، ويطالعها ببرودٍ من أسفل نظارنه الشمسية، اقتربت لتقف امامه ثم تساءلت باستغرابٍ:
_أيه سر الزيارة الجامعية الغريبة دي!
قال بغرورٍ ومازال على نفس وضعيته:
_النهاردة أيه في أيام ربنا؟
قوست حاجبيها بدهشةٍ:
_٢٦ ليه!
استكمل على نفس المنوال:
_مبيفكركيش بحاجة التاريخ ده..
صفنت قليلاً ثم صاحت بفرحةٍ:
_عيد ميلادي..
ابتسم "بدر" ثم قال:
_كل سنة وأنتي طيبة يا روح قلبي..
تطلعت لجوارها بخوفٍ:
_اوعى تحضن ولا تعمل أي حاجة، أنا مش هعلق يافتة أقولهم المز الحليوة دي يبقى أخويا...
رمقها بغضبٍ، فلوحت بيدها بانفعالٍ:
_ما حلتناش اللي السمعة ياخويا معطلكش..
قال بانفعالٍ:
_أيه الأسلوب القذر ده يابت!
رفعت صوتها بسخريةٍ:
_انجز يا عم، الحكاية فيها هدية ولا حوارات لو كده نقفلها وقتي أنا واقفتي معاك جاية بخسارة الرايح والجاي زمانه بيتكلم عني..
قالت كلماتها الأخيرة ورأسها ينحني يساراً ويميناً تتفحص حركة المارة، فشل باخفاء ابتسامة تسليته على شقيقته التي تخشي من الأقاويل التي قد تمسها حتى من شقيقها، فأشمر عن ساعديه وهو يشير لها بتحفزٍ:
_تعالي ورايا..
لوت فمها بسخطٍ:
_على فين لامواخذة!
وضع يديه خلف ظهره ليجيبها بنظرةٍ غاضبة:
_الهدية بشنطة العربية إن كان عاجبك!..
رددت بصوتٍ منخفض:
_هتزلونا بقا..
ثم رفعته بابتسامةٍ مصطنعة:
_بينا..
تعالت أمارات المشاكسة على وجهه، فوضع المفتاح بشنطة السيارة الخلفي، ثم قال ويديه تصفن بخصلات شعره:
_تفتكري الهدية ايه؟، حاجة كان نفسك فيها أيه هي؟
ابتسمت وهي تفرك بأصبعها وجنتها، فاقترحت:
_طقم التوابل المتحرك اللي كلمتك عنه، متقولش انك فجئتني وجبتلي واحد لجهازي..
قست نظراته تجاهها، فعادت لتخمن من جديد:
_متقولش هجبها، خمارين شيك كده أغير بيهم وأنا جاية الجامعة..
اغلق شنطة السيارة بعصبيةٍ، ليدفعها بقوةٍ:
_غوري يا "حور"، جايب عيد الأم أنا طقم بهارات وخمارين!.
ادلت شفتيها السفلية بحزنٍ:
_أعمل أيه ما أنا دماغي لفت..
رفع الباب مجدداً ليجذب الكرتون ثم ناولها لها باستسلامٍ، انفرجت شفتيها في صدمةٍ، فصرخت بعدم تصديق:
_ لاب توب MacBook Air بمعالج M1 لا مش قادرة أمسك نفسي لازم احضنك..
تعلقت به" حور" بفرحةٍ كبيرة، فرفع يديه ليحتضنها بابتسامة زادته وسامة لا يعهدها سوى الرجل الشرقي، تذكرت أسمى مواصفاتها فابتعدت عنه وهي تتطلع من خلفها:
_حد شافنا!!
رأت هناك من يقف على قرباً منهما يلتهون بالحديث فخشيت بأنهم تمكنوا من رؤياهم فصاحت:
_ده أخويا على فكرة..
هز رأسه دون جدوى من تغيرها، فدث يديه بجيب بنطاله ليخرج ثلاث مبالغ من المال، وضعها واحداً تلو الأخر بيدها وهو يردد:
_طبعاً كشباب مفيش أي خبرة بهدايا البنات فقررنا الأتي، تجيبي لنفسك اللي تحتاجيه أفضل فدول ٥٠٠٠ج من "آسر"،و٥٠٠٠ من"يحيى"، و٧٠٠٠ج من أحمد معرفش متوصي بيكي بالألفين الزيادة دول ليه يمكن عشان الصواني المحمرة اللي بتعمليها كل فين وفين..
جذبت المال ثم قالت بسعادةٍ:
_ربنا ما يحرمني منكم ياررب، ويفرحكم ببنات الحلال اللي تستاهلكم ويفرحكم وآآ...
ابتعد عنها باشمئزاز:
_ دقيقة كمان وهتشحتي على باب السيدة، خلصي اللي وراكي ومتتأخريش بالرجوع..
وفتح الباب ليستقل سيارته، فهرولت من خلفه راكضة حينما تذكرت أمر رفيقتها فأخبرها بأنه سيخبر" آسر" ومن ثم سيبحث هو لها عما يناسبها، فرحت كثيراً وكعادتها تكثر من الدعاء لمن يسعدها بأبسط الاشياء لذا أسرع "بدر" هرباً بسيارته قبل أن ينفجر رأسه من الصداع..
********
بجامعة "روجينا"..
أعدت الحجاب للخلف حتى تدلت خصلات شعرها عن عمداً، فزفرت صديقتها المتحررة باستقزازٍ:
_حجاب ايه المقرف بلبسه ده قولتلك إقلعيه واخلصي..
رفعت" روجينا" المرآة عالياً لتتأكد من تساقط خصلات متفرقة على وجهها ثم أعادت طلاء شفتيها بحمرة صارخة، لتجيبها بنفورٍ:
_عوايدنا كده في الصعيد، ولو عملت اللي بتقوليه ده مستحيل بابا يسمحلي أدرس وأعيش بالقاهرة من الأساس..
بتهكمٍ شديد قالت:
_تخلف وراجعية..
تقبلت الأهانة التي مست والدها بصدرٍ رحب! :
_هنقول أيه يا بنتي، بس اديني مستحملة لحد ما أشوف أخرتها أيه، وكله كوم وسي "أحمد" ده كوم تاني عايش دور الصعيدي الشرقي بجد، أنا فعلاً مبقتش قادرة اكمل بالعلاقة دي..
قالت صديقتها بمياعةٍ:
_وأيه اللي غصبك يا بيبي، أرميله دبلته وقوليله باي..
ابتسمت بسخريةٍ:
_ياريت الموضوع بالبساطة دي..
تهجمت ملامح وجه "روجينا" حينما رأت من يقترب منها:
_أهو الوش السمج اللي بصحيح شرف..
ما أن انتهت بحديثها، حتى جلس على المقعد المقابل لهما قائلاً وعينيه تطوف بروجينا:
_هاي يا بنات، أخباركم.
أشارت له"تقى" صديقتها:
_هاي يا "كيمو" ، أخبارك..
تنهد "كريم" ببطءٍ تعمد أن يلاحقه كلمات متهملة وعينيه تتابع روجينا:
_مش كويس طول ما الغزال مش راضي يحن علينا..
زفرت بضيقٍ شديد، ثم حملت كتبها قائلة باستهزاءٍ:
_انا ماشية يا تقى لحسن الجو بقى يقرف..
وغادرت "روجينا" سريعاً من أمامه، فصاح بغضبٍ:
_وبعدين بقا مش ناوية تشوفلنا سكة معاها يعني..
أجابته بغيرةٍ واضحة:
_قولتلك "روجينا" مش من نوعية البنات اللي أنت بتفكر فيها، ده أبوها من كبار رجال الصعيد فأكيد طباعها شرقية يعني لوكل جداً، أختارلك حد غيرها وأنا اوعدك هظبطلك الدنيا..
بعندٍ كبير أضاف:
_مش عايز غيرها، حتى لو هتقدملها رسمي..
جزت على أسنانها بضيقٍ شديد فتهربت بكلماتها التي أخفت ما تضمره لها:
_طيب خلاص، في رحلة لاسكندرية كام يوم هحاول اقنعها تطلع واهي فرصة تتقربوا من بعض أكتر..
وضع مبلغ طائل من المال أمامها، ليغمز لها بإعجابٍ:
_أحبك وأنت فاهمني..
*********
بمنزل الكبير..
وبالأخص بغرفة "راوية"..
ولج للداخل، فخلع عنه العمة ثم الجلباب ليجذب بنطال من القطن المريح وتيشرت واسع يليق بعمره، ثم خرج للشرفة ليجدها تجلس على المقعد وتتأمل الأشجار من حولها بشرودٍ، تنحنح بحشرجة خشنة علها تنتبه لوجوده، فوجدها تتجاهله عن عمداً، أفترت شفتيه عن ابتسامة صغيرة، ليجذب أحد المقاعد ثم وضعه ليجلس جوارها، طال السكون ومازال يتطلع لما تتأمله حتى تحرك فكيه ناطقاً:
_مفيش حد بيقسى على ولده يا" راوية"، انا بعمل كده عشان مصلحته..
استدارت بجسدها تجاهه لتخرج ما بجعبتها:
_كل حاجة ليها وقت يا "فهد" ، أنت عايزه يمسك مكانك ويتعلم كل حاجة في يوم وليلة، الولد من حقه أنه يختار هو عايز يتحمل العبئ ده ولا لا من حقه يعيش حياته ويخرج ويعمل اللي عايزه، أنت مسيطر عليه بدرجة مخلياه مش عايش يوم لنفسه!
كاد بأن يجيبها، فقاطعته بحدةٍ:
_هتقول نفس كلامك، أن ابنك راجل محدش قال حاجة بس الرحمة حلوة، وبعيد عن كل ده أسلوبك معايا قدامهم لازم يتغير، أنت بتحطني في مواقف محرجة جداً مببقاش قادرة أنطق ولا اعترض!
انتظر حتى انتهت من حديثها ثم قال:
_"راوية" أنتي لازمن تقدري أني مبقتش زي الاول، عارف أنك بتتكلمي صوح بس في حاجات لازم أكون فيها كده والا هيتقال عني معرفش أمشي داري..
هدأت معالمها قليلاً، وقد تستى لها فهم ما يود قوله، ثم رفع ذقنها بذراعيه حتى يجبرها على التطلع إليه:
_لازم تقدري اللي أنا فيه يا "راوية"، المكانة اللي أنا فيها مش باختياري مفروضة عليا زي ما اتفرضت على اللي قبلي، وأكيد هيجي اليوم وهتكون مفروضة برضه على"آسر" فاللي بعمله دلوقت عشان يقدر يشيل المسؤولية ويكون أدها..
احتضنت بيدها يديه التي تحتوي وجهها برقةٍ وحنان، لتطبع قبلة صغيرة على كفيه:
_ربنا يخليك لينا يا حبيبي..
ابتسم وهو يستمع لكلماتها التي تعيد الحياة لقلبه الملتاع، فاحتضنها بعشقٍ ويديه تربت على خصرها، فقالت بتذكرٍ:
_نسيت أقولك مش "خالد" كلمني النهاردة وقالي ان البنات حابين يقضوا الاجازة بمصر..
تساءل في اهتمامٍ:
_بجد يعني أخيراً هينزل من أمريكا..
غلبها الحزن:
_لا هو خلاص استقر هناك هو و"ريماس"، "تالين" و"رؤى" اللي هينزلوا..
قال بترحابٍ عظيم:
_ ينوروا الثرايا والصعيد كله..
احتضنته بعشقٍ:
_طول عمرك صاحب واجب يا حبيبي..
جذب يدها للداخل وهو يهمس بمكرٍ:
_انا كمان نسيت أقولك حاجة مهمة جووي..
تعالت ضحكاتها وهي تحاول المناص منه، ولكن ولجت معه للداخل بنهايةٍ الأمر..
******
بغرفة "آسر"
كان هائماً بيومه الشاق، يتذكر تفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة، وأساسياته لقاء "هاشم المغازي"، ونهايته بذاك الرجل الغامض ذو اليد الناعمة فابتسم تلقائياً حينما توارى عليه كناية هذا الرجل الناعم عله من الجنس الخناس!
بددت ابتسامته حينما وجد هاتفه يصيح عالياً برنين" بدر" المعتاد، أجابه وهو يفرك رأسه بألمٍ:
_خير يا ابني مش لسه قافل معاك!
استمع له بحرصٍ شديد، ثم قال:
_صاحبتها مين، ثقة يعني؟
أوضح له نسبها، فأعتدل "آسر" بفراشه وهو يردد بدهشةٍ:
_بتقول بنت عم "فضل"..
_ها لا معاك، طيب تمام انا نازل القاهرة بكره بليل يعني على بعد بكره الصبح تقدر تجبها..
واغلق الهاتف ليشرد من جديدٍ بتلك الصدف الغريبة التي جمعته بأبيها بالصباح وبابنته التي تريد العمل بالمساء، علها قدر يُساق إليه ليبدد ظلمة الحب الاول الذي ترك لمسات مؤلمة يخشى من الحين والأخر أن يتذكرها...
*********
بالقاهرة... وبالاخص بمكتب"أيان المغازي"
لف مقعده الأسود بحافة قدميه المستند على المكتب وهو يرتشف عصيره بتلذذ عجيب، انتهت من تقف أمامه بقص ما يحدث معها، لتنتهي بما قالته:
_وأنا قولتله أني هحاول اقربه منها وأني هقنعها تروح رحلة اسكندرية، قولت أسكته يعني عشان يحل عني..
توقف المقعد عن الدوران حينما لامست قدميه الارض، لينهض عن مقعده ومن ثم أغلق ازرار بذلته الرمادية الأنيقة، فتحرر صوته الرزين:
_بالعكس هتنفذي اللي قولتيه..
قالت بتشتتٍ:
_بس آآ..
بترت كلماتها حينما حدجها بعينيه الصقرية ليتبعها أمره الناهي:
_أنتي هنا عشان تنفذي اللي أقوله وبس، فاهمه..
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ وهي تحرك رأسها بطاعةٍ ثم غادرت على الفور، ضغط "أيان" بيديه على مقدمة المقعد فكاد بأن يتحطم من أسفله من فرط حقده الذي يهاجم عروق مائه كنفورة من المياه التي تتصاحب وابل النيران القاتلة، ليردد بشرارةٍ ملتهبة:
_هانت يا "فهد"!
*********
تحرك السائق ليعود به للمنزل، فتابع عمله على الحاسوب بانهاكٍ، حرر" يحيى" جرفاته بنفورٍ شديد، ثم فتح نافذة السيارة ليغلق عينيه بانتشاءٍ، اعاد التطلع بالخارج قائلاً:
_وقف العربية يا "مصطفى"..
انصاع له فأوقف السيارة على الفور، فهبط" يحيى" ليتجه لمحل الالعاب الذي لمحه، ثم ولج للداخل ليبحث عن لعبتها المفضلة، فجذب العروس بابتسامة اشوقت عن ذكرى لمعت بكلماتٍ مختصرة
«الدكتور قالي في بطني ولد بس انت هتجيب ألعاب أولادي له وبناتي ليا، فاهم»..
انتهت كلماتها الرنانه بوميض من الحزن حول سعادته لتعاسة، واقع ملموس يختبره حتى ذاك اليوم، التقط العروس ثم انتقى عدد من الألعاب البسيطة ليدفع ثمنها ثم عاد لسيارته ليصل بعد دقائق للمبنى، فصعد لشقته وحينما ولج نادى عالياً:
_"ماســــــــــة"
ما أن استمعت لصوته حتى هرولت للأسفل ركضاً، لترى ماذا أحضر لها، رفع "يحيى" الحقائب للأعلى:
_يعني ده اللي همك الالعاب مش همك أني رجعت طب خلاص مفيش حاجة..
أمسكت بيديه بتذمرٍ:
_"يحيى" جاب "لماسة" أيه؟
حملها بيديه الأخرى ثم طبع قبلة على جبينها:
_هنشوف الأول "ماسة" أخدت أدويتها ولا لا، لو طلعت شطورة هتأخد كل اللعب..
ادلت شفتيها السفلية بحزنٍ:
_"ماسة" وحشة مش أخدت الدوا عشان طعمه وحش يا "يحيى"
سيطر على ضحكاته ليتصنع الغضب:
_اوكي مفيش لعب ولا شوكولا ومن هنا ورايح مش هتنامي جنبي تاني هتنامي جنب "إلهام"..
نومها جوار الممرضة التي تعتني بها وبأدويتها أشد ما تبغضه"ماسة" ، فركضت سريعاً للدرج لتنادي:
_"إلهام" يا "إلهام" هاتي الدوا بسرعة "ماسة" شاطرة هتاخده..
تعالت ضحكات "يحيى" فوضع يديه ليخفي ضحكاته ليشير بابهامه بعلامة إعجاب وهو يردد بثباتٍ مخادع:
_براڤو..
هبطت بالادوية سريعاً لتقدمه لها فما أن تناولته حتى هرعت اليه مجدداً فمنحها الحقائب، فحملتهما وجلست على الأرض تستكشف ما بها بلهفةٍ وهو يتابعها ببسمةٍ يكسوها الحزن كلما يتطلع إلى حالتها التي تصيب قلبه كسهمٍ يستهدفه!.
********
وقفت سيارة "بدر" أمام أحد المطاعم، فولج للداخل يبحث بين الطاولات عنه، وحينما فشل بايجاده خلع نظارته وهو يردد بتعصبٍ:
_قولتله نص ساعة هودي الهدية خلع..
_مين ياض اللي خلع أمال ده مين شبحي!
استدار "بدر" للخلف قائلاً بابتسامة واسعة:
_لو كنت مشيت كنت هتندم يا "عبد الرحمن"
جلس على المقعد ليشير له ساخراً:
_وريني هتندمني كيف يا واد عمي!..
................. يتبع........................
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الثالث
الدهاشنة2...(صراع السلطة والكبرياء.)
الفصل_الثالث..
رفع كفيه ليتصافح كلاً منهما بحرارةٍ، ثم جلس "بدر" على المقعد المقابل له، ليشير للنادل الذي أتى سريعاً ، فقال:
_إتنين قهوة سادة يا برنس.
أشار له بابتسامةٍ واسعة، ثم غادر ليحضر ما طلبه، وحينما التفت برأسه تجاه ابن عمه وجده يحدجه بنظراتٍ كالسهام، فرفع حاجبيه متسائلاً في دهشة:
_أيه؟!
أجابه "عبد الرحمن" بتعصبٍ شديد:
_متخيل أني في الساعتين اللي كنت بستنى حضرتك فيهم دول مطلبتش عشرين كوبية قهوة!
مرر يديه على طول رقبته وهو يشير له:
_حقك عليا بقا ما أنت عارف لو مفتكرتش عيد ميلادها هيحصلي أيه؟
جذب "عبد الرحمن" حقيبته الجلد السوداء ثم أخرج منها عدد من الملفاتٍ:
_طيب نخلينا بقا بالمهم عشان عايز أرجع البيت قبل معاد أدوية أمي.
هز رأسه بخفةٍ، فطرح "عبد الرحمن" من أمامه عدد من الملفاتٍ، ليتابع بجديةٍ تامة شرح تفاصيل العقود التي أتمها مع التجار خارج مصر، بأمرٍ من "فهد"، تابع"بدر" مراجعة الملفات بإعجابٍ شديد من السعر الذي تمكن من الإتفاق عليه مع الشركات المستوردة، فأغلق الحقيبة وهو يدفعها تجاهه قائلاً:
_ويبقى كده كل شيء تمام، بلغ عمي بقا.
سأله "بدر" باهتمامٍ:
_ليه أنت مش ناوي تيجي الصعيد بالإجازة دي كمان ولا أيه؟
أجابه "عبد الرحمن" بنبرةٍ سكنها الحزن:
_لا للأسف المرادي مش هقدر، لأن والدتي تعبانه شوية.
صمت "بدر" مطولاً قبل أن يطرح عليه ذاك الإقتراح الغير محبب:
_طيب ما تجبها معاك السرايا وأهي بالمرة تغير جو.
بإبتسامة متكلفة قال:
_وتفتكر هيتقبلوها، أو عمي هيتقبلها بعد اللي عملته؟
تنشطت ذكريات "بدر" سريعاً، ليتذكر ما طرح أمامه عدة مرات من حديث عائلته الذي غاص بالماضي ليذكره بما فعلته "مروج" زوجة عمه الراحلة ب"راوية"، مازال يتذكر كيف يبغضها الجميع؛ ولكن ما يحدث معها الآن هو حالة تزلزل المشاعر لها، فبالطبع عليهم التخلي عن الماضي، أخشونت نبرته وهو يشدد على يديه:
_متقلقش سيب الموضوع ده عليا، والدتك محتاجة لمساعدة وأنت مش هتقدر تسد في كل ده، أنا هكلم عمي.
منحه "عبد الرحمن" ابتسامة صغيرة بحبس آلمه بداخلها، ثم قال:
_مفيش داعي تتعب نفسك يا "بدر"، أنا مدي ألف عذر لعمي، اللي عملته أمي صعب حد ينساه بسهولة.
قال بتصميمٍ:
_وحالتها حالياً متستهلش مننا غير السماح على اللي عملته قبل كده.
أومأ برأسه بألمٍ، ثم نهض ليشير له بهدوءٍ:
_طيب أنا لازم أرجع البيت، أنت عارف مواعيد دوا الحاجة.
بتفهمٍ وحب قال:
_هتصل بيك نتفق ونتقابل عشان"آسر" نازل القاهرة بكره بليل.
أشار له بيديه:
_هستنى مكالمتك، سلام.
أشار له بابتسامةٍ صغيرة:
_في رعاية الله.
ثم جلس "بدر" يرتشف قهوته، فلفح وجهه نسمة هواء عليلة دفعته عن قصدٍ لتذكر حينما يعبث الهواء بخصلات شعرها الأصفر، ابتسامتها التي تلاحقه أينما ذهب، عبث بملامحه فهو لا يود إسترجاع أي ذكرى متعلقة بها، فوضع كوب القهوة الغير مكتمل بتقززٍ وكأن رائحتها هي من تدفعه لتذكرها، ثم نهض ليجذب المال من جيب بنطاله الرمادي، ليغادر سريعاً قبل أن تتمكن منه أكثر من ذلك!
*********
بشقة الفتيات.
انتهت "حور" من قضاء فريضتها ثم جلست لتتابع دراستها بالردهة المقابلة لباب الشقة، شعرت بحركةٍ خافتة بالخارج فما كان منها الا الإقتراب لتقف بالقرب منه، حررت "روجينا" المفتاح ببطءٍ شديد ثم ولجت للداخل لتغلقه سريعاً، والتقطت أنفاسها براحةٍ وسعادة، واستدارت لترفع يدها على صدرها وهي تردد بهلعٍ:
_"حور"، فزعتيني!
بنظراتٍ حادة، سألتها:
_كنتِ فين كل ده يا "روجينا"، أنتي عارفة الساعة كام دلوقتي؟
جلست على الأريكةٍ ثم خلعت حذائها بضيقٍ شديد مما تسمعه من محاضرات لازعة من ابنة عمها التي واصلت بنصائحها:
_عارفة لو حد من ولاد عمك لمحك وأنتي راجعة وش الصبح كده هيعمل فيكي أيه!
ألقت الحذاء أرضاً وهي تجيبها بضيقٍ:
_كنت سهرانه مع" تقى" والوقت أخدنا.
لوت شفتيها بتهكمٍ:
_"تقى" تاني يا "روجينا" مش حذرتك من البنت دي أنا! ، أنتي عارفة بيتكلموا عنها إزاي!
خلعت حجابها وهي تصيح بإنفعالٍ:
_يوووه معتش ورانا غير السيرة اللي مش بتتقفل دي!
وقفت "حور" مقابلها لتجيبها بشراسةٍ وتحد لمواصلة الحديث:
_أيوه معتش ورانا الا هو، أصلك مش شايفة نفسك بقيتي أيه من ساعة ما صحبتي البت دي، غيرتك ١٨٠درجة وكأنك بقيتي واحدة تانية أنا معرفهاش.
اندفعت لغرفتها وهي تردد بضيقٍ شديد:
_متشكرة لنصايحك.
إتبعتها "حور" وهي تستكمل بتعصبٍ شديد:
_هنصحك وهفضل أنصحك دائماً متنسيش أني أكبر منك وليا الحق بده!
جلست على الفراش وهي تفرك وجهها بغيظٍ، تخلت عنه وهي تحاول أن تتحدث بلطفٍ:
_طيب يا "حور" هنتكلم بكره لأني بجد تعبانه ومحتاجة أرتاح ممكن!
جذبت "حور" المقعد القريب منها ثم جلست مقابلها وهي تشير لها بهدوءٍ:
_هطلع بس هقولك حاجة واحدة.
اضطرت الإنصياع لها حتى تغادر من أمامها، فقالت الأخيرة بهدوءٍ:
_إختيار الصديق اللي بنصاحبه يا "روجينا" هو شيء أساسي زي إختيار شريك الحياة بالظبط، لأنه للأسفل تصرفاته وأخلاقه بتنعكس علينا، في صديقة بتشجعك أنك يكون ليكِ كيان وتحققي طموحاتك وبتشدك لو لقيتك بتقربي من الغلط.
وبابتسامة منحت وجهها إشراقة، أضافت:
_بتقربك خطوة من ربنا وبتراقب تصرفاتك عشان لما تغلطي تلحقك، هي شايفاكي حد من أهلها ومتقبلش بأي سوء يمسك، دي بتبقى الصحبة الخير اللي بتشدك بطريق كله صلاح.
وبملامحٍ ممتعضة، قالت:
_وفي صحبة كلها شر، زي "تقى" بتاعتك دي، بتشجعك وبتوسوسلك زي الشيطان، الحجاب شكله وحش، لا لبسك مهرول، تعالي نروح الحتة الفلانية وغيره كتير أوي، إنعكاس شخصيتها السييء مع الوقت هينعكس عليكي غصب عنك وده فعلاً اللي ابتدى يحصل معاكي من أول ما بدأتي تصاحبيها، راجعي نفسك يا "روجينا".
وتركتها وغادرت الغرفة بأكملها، عل كلماتها تفيقها مما هي به!
********
بالطابق العلوي.
كان يجلس" يحيى"، على المكتب الصغير المقابل لفراشه، يراجع على الحاسوب بعض الحسابات الخاصة لبعض التجار، وفي تلك اللحظة إندفعت "ماسة" للداخل كالتيار لتقف لجوار مقعده ثم تمسكت بيديه وهي تشير له بخوفٍ:
_"يحيى".
أمسك بيدها المرتجفة ثم نهض، فتخبأت من خلفه لتتشبث بملابسه، ففهم ما يحدث حينما ولجت "إلهام" لتردد في يأس:
_بحاول أنيمها مش قادرة.
أشار لها بابتسامةٍ هادئة:
_روحي إنتي، وسبيها.
أومأت برأسها بحبورٍ:
_تحت أمرك يا بشمهندس.
وبالفعل أغلقت باب الغرفة وغادرت على الفورٍ، فجذب "يحيى" يدها المتشبثة بالتيشرت الخاص به، ثم أخرجها لتقف من أمامه تتدلى شفتيها السفلية بحزنٍ، ابتسم وهو يتأملها ثم جلس على حافة الفراش ليجذبها لجواره متسائلاً بضيقٍ مصطنع:
_مش "ماسة" قالت أنها مش هتضايق المربية بتاعتها أبداً!
حدجته بنظرة حادة من عينيها الزرقاء قبل أن تخبره بتلعثمٍ:
_و"يحيى"قال لماسة أنها لو خدت الدوا هتنام معاه مش هتنام مع "إلهام" الوحشة!
ضحك حتى كُشف عن أسنانه، وهو يردد:
_في دي عندك حق، الإتفاق إتفاق.
ثم نهض ليغلق الضوء النابع من مكتبه، ليعود إليها سريعاً، أشار لها بالتمدد فتمددت ليطرح الغطاء على جسدها، ثم استلقى لجوارها ليجذبها لأحضانه، فقالت "ماسة" بتذمرٍ:
_مش هتحكي لماسة حدوتة.
ردد بعد ضحكة عالية:
_بعد المجهود ده بالشغل ولسه هحكي حواديت، ماشي يا ستي.
وقال وقد هامت عينيه بالماضي:
_كان في بنت جميلة، عيونها بتشبه لون موج البحر، وشعرها اسود وطويل.
قاطعته بطفوليةٍ:
_زي ماسة كده.
تعالت ضحكاته على ذكائها بتميز عن من يقص، فقربها لصدره، ثم قال:
_أه يا ستي زي"ماسة" كده، وقعت في حب شاب كان بيعشق التراب اللي بتمشي عليه بس مكنش يقدر يقولها ده ولا يعترف بيه.
تساءلت بتلقائية:
_ليه؟
بشرودٍ قاسي بماضيه قال:
_لأنه ببساطة كان عارف إنها مش ليه، من طفولتهم وهما بيقولوا إنها لإبن عمه الكبير، فمكنش يقدر يتكلم ولا يقول إنه بيحبها.
_وبعدين.
ابتسم وهو يقص هذا الشطر بالتحديد:
_كان منتظر إنها تعترفله بحبه ومحصلش رغم إن عيونها كلها مليانة مشاعر وحب تجاهه، وبعد كده إتفاجأ بيها بتعترف بحبه قدام الناس كلها، وبعد كده اتجوزوا وعاشوا أجمل أيام حياتهم وبالرغم من كده كان حريص إنها تكمل تعليمها لإنها كانت صغيرة بالسن..
وبألمٍ شديد اتبع لهجته قال:
_بس مكنش يعرف إن بعد كده هيحصل اللي هيكون السبب في آآ..
أمسك "بحيى" بذاته وهو يستكمل ذاك الشطر المؤلم، تناسى تماماً مع من يقص ومن تستمع، فرفع إصبعيه ليزيح تلك الدمعة العالقة بأهدابه سريعاً، ثم تطلع لها فحمد الله كثيراً حينما وجدها غفت على ذراعيه، داثرها "يحيى" جيداً ثم طبع قبلة صغيرة على وجنتها بحنانٍ، لينجرف خلف طوفان ذكرياته الموجعة.
**********
تخفى ضوء القمر الخافت خشية من ضوء الشمس، الذي غدى ليكسو العالم بضيائه، فتبقى ساعات النهار الأولى هي أنقى نسمات الهواء التي تتنقل بين المساكن، لذا يحب أن يكون منفرداً بذاته بتلك اللحظة، يتجول بين الحشائش والأراضي الزراعية بفرسه الأسود، يعتليه بمهارةٍ وحرافية، تنقل "آسر" بين الأراضي الزراعية براحةٍ تستحوذ عليه حينما يتمشى بالخيال في وسط ذاك الجمال الذي يأسره، فأراد أن يمتع عينيه قليلاً قبل أن يستعد لسفره بالمساء، لا يعلم بأن من ساقه القدر إليها أول مرة سيعود ليسوقه إليها من جديد!
**********
بالقاهرة.
استيقظت "حور" باكراً، فاستغلت ان اليوم ليس لديها مذاكرة أو محاضرات، فأعدت طعام الفطور ثم دقت الجرس على شقة الشباب المقابلة لها، ففتح "بدر" الباب وهو يقول بنومٍ:
_في أيه على الصبح، مش عارف أنام شوية أنا!
أجابته ساخرة:
_الحق عليا بصحيك عشان تفطر قبل ما تنزل المطار.
ضيق عينيه بدهشةٍ:
_مطار أيه!
قالت وهي تهم بالصعود لشقة "يحيى":
_وأنت هتعرف إزاي وأنت قافل موبيلك، عمك بيحاول يوصلك من إمبارح ولما معرفش كلمني وقالي أبلغك تنزل كمان ساعتين أنت وحد من الشباب عشان تكون باستقبال"تالين" و"رؤى".
غادر النوم حدقتيه ليغلفهما الجفاء فور سماع إسمها، فقال بحدةٍ:
_شوفي "يحيى" أنا مش فاضي للكلام ده.
تهدلت كتفيها بإستغراب:
_بس عمي قال آآ.
قاطعها بحدةٍ:
_قولتلك أيه؟
صعدت للأعلى باستسلامٍ:
_زي ما تحب هشوف "يحيى" كده.
وبالفعل صعدت للأعلى، تاركة النيران تحرق قلبه الذي عاد ليخفق من جديد!
********
بمكتب "أيان المغازي"
تسللت بسمة على ثغره حينما زف له هذا الخبر السعيد بالنسبة إليه والتعيس بالنسبة للدهاشنة، فرد على المتصل بانتشاءٍ:
_براڤو عليك، هما لسه شافوا حاجة من اللي ناويها ليهم، هانت كلهم كام يوم ورأسهم هتبقى في الأرض.
وأغلق الهاتف ثم فتح درج خزانته، ليجذب صورتها التي لا تفارق درج مكتبه، مرر أصابعه على جسدها بوقاحةٍ وهو يردد بحقدٍ:
_وبنتك هتبقى في حضني وخدامة تحت رجلي يا كبير الدهاشنة!
.............. يتبع............. لقاء سيحتمها على مقابلة أخر من توقعت رؤياه!..... سحابة عشق ابتلعت بجوفها قصة لم تكتمل ثم سيمنحهما القدر فرصة للإلتقاء مجدداً فهل سيتمسك كلاً منهما بها؟.......
أفعى متنكرة ستحوم عليه لتنتزع حياته فهل سيقوى حبه الضعيف على المحاربة؟
الفصل_الثالث..
رفع كفيه ليتصافح كلاً منهما بحرارةٍ، ثم جلس "بدر" على المقعد المقابل له، ليشير للنادل الذي أتى سريعاً ، فقال:
_إتنين قهوة سادة يا برنس.
أشار له بابتسامةٍ واسعة، ثم غادر ليحضر ما طلبه، وحينما التفت برأسه تجاه ابن عمه وجده يحدجه بنظراتٍ كالسهام، فرفع حاجبيه متسائلاً في دهشة:
_أيه؟!
أجابه "عبد الرحمن" بتعصبٍ شديد:
_متخيل أني في الساعتين اللي كنت بستنى حضرتك فيهم دول مطلبتش عشرين كوبية قهوة!
مرر يديه على طول رقبته وهو يشير له:
_حقك عليا بقا ما أنت عارف لو مفتكرتش عيد ميلادها هيحصلي أيه؟
جذب "عبد الرحمن" حقيبته الجلد السوداء ثم أخرج منها عدد من الملفاتٍ:
_طيب نخلينا بقا بالمهم عشان عايز أرجع البيت قبل معاد أدوية أمي.
هز رأسه بخفةٍ، فطرح "عبد الرحمن" من أمامه عدد من الملفاتٍ، ليتابع بجديةٍ تامة شرح تفاصيل العقود التي أتمها مع التجار خارج مصر، بأمرٍ من "فهد"، تابع"بدر" مراجعة الملفات بإعجابٍ شديد من السعر الذي تمكن من الإتفاق عليه مع الشركات المستوردة، فأغلق الحقيبة وهو يدفعها تجاهه قائلاً:
_ويبقى كده كل شيء تمام، بلغ عمي بقا.
سأله "بدر" باهتمامٍ:
_ليه أنت مش ناوي تيجي الصعيد بالإجازة دي كمان ولا أيه؟
أجابه "عبد الرحمن" بنبرةٍ سكنها الحزن:
_لا للأسف المرادي مش هقدر، لأن والدتي تعبانه شوية.
صمت "بدر" مطولاً قبل أن يطرح عليه ذاك الإقتراح الغير محبب:
_طيب ما تجبها معاك السرايا وأهي بالمرة تغير جو.
بإبتسامة متكلفة قال:
_وتفتكر هيتقبلوها، أو عمي هيتقبلها بعد اللي عملته؟
تنشطت ذكريات "بدر" سريعاً، ليتذكر ما طرح أمامه عدة مرات من حديث عائلته الذي غاص بالماضي ليذكره بما فعلته "مروج" زوجة عمه الراحلة ب"راوية"، مازال يتذكر كيف يبغضها الجميع؛ ولكن ما يحدث معها الآن هو حالة تزلزل المشاعر لها، فبالطبع عليهم التخلي عن الماضي، أخشونت نبرته وهو يشدد على يديه:
_متقلقش سيب الموضوع ده عليا، والدتك محتاجة لمساعدة وأنت مش هتقدر تسد في كل ده، أنا هكلم عمي.
منحه "عبد الرحمن" ابتسامة صغيرة بحبس آلمه بداخلها، ثم قال:
_مفيش داعي تتعب نفسك يا "بدر"، أنا مدي ألف عذر لعمي، اللي عملته أمي صعب حد ينساه بسهولة.
قال بتصميمٍ:
_وحالتها حالياً متستهلش مننا غير السماح على اللي عملته قبل كده.
أومأ برأسه بألمٍ، ثم نهض ليشير له بهدوءٍ:
_طيب أنا لازم أرجع البيت، أنت عارف مواعيد دوا الحاجة.
بتفهمٍ وحب قال:
_هتصل بيك نتفق ونتقابل عشان"آسر" نازل القاهرة بكره بليل.
أشار له بيديه:
_هستنى مكالمتك، سلام.
أشار له بابتسامةٍ صغيرة:
_في رعاية الله.
ثم جلس "بدر" يرتشف قهوته، فلفح وجهه نسمة هواء عليلة دفعته عن قصدٍ لتذكر حينما يعبث الهواء بخصلات شعرها الأصفر، ابتسامتها التي تلاحقه أينما ذهب، عبث بملامحه فهو لا يود إسترجاع أي ذكرى متعلقة بها، فوضع كوب القهوة الغير مكتمل بتقززٍ وكأن رائحتها هي من تدفعه لتذكرها، ثم نهض ليجذب المال من جيب بنطاله الرمادي، ليغادر سريعاً قبل أن تتمكن منه أكثر من ذلك!
*********
بشقة الفتيات.
انتهت "حور" من قضاء فريضتها ثم جلست لتتابع دراستها بالردهة المقابلة لباب الشقة، شعرت بحركةٍ خافتة بالخارج فما كان منها الا الإقتراب لتقف بالقرب منه، حررت "روجينا" المفتاح ببطءٍ شديد ثم ولجت للداخل لتغلقه سريعاً، والتقطت أنفاسها براحةٍ وسعادة، واستدارت لترفع يدها على صدرها وهي تردد بهلعٍ:
_"حور"، فزعتيني!
بنظراتٍ حادة، سألتها:
_كنتِ فين كل ده يا "روجينا"، أنتي عارفة الساعة كام دلوقتي؟
جلست على الأريكةٍ ثم خلعت حذائها بضيقٍ شديد مما تسمعه من محاضرات لازعة من ابنة عمها التي واصلت بنصائحها:
_عارفة لو حد من ولاد عمك لمحك وأنتي راجعة وش الصبح كده هيعمل فيكي أيه!
ألقت الحذاء أرضاً وهي تجيبها بضيقٍ:
_كنت سهرانه مع" تقى" والوقت أخدنا.
لوت شفتيها بتهكمٍ:
_"تقى" تاني يا "روجينا" مش حذرتك من البنت دي أنا! ، أنتي عارفة بيتكلموا عنها إزاي!
خلعت حجابها وهي تصيح بإنفعالٍ:
_يوووه معتش ورانا غير السيرة اللي مش بتتقفل دي!
وقفت "حور" مقابلها لتجيبها بشراسةٍ وتحد لمواصلة الحديث:
_أيوه معتش ورانا الا هو، أصلك مش شايفة نفسك بقيتي أيه من ساعة ما صحبتي البت دي، غيرتك ١٨٠درجة وكأنك بقيتي واحدة تانية أنا معرفهاش.
اندفعت لغرفتها وهي تردد بضيقٍ شديد:
_متشكرة لنصايحك.
إتبعتها "حور" وهي تستكمل بتعصبٍ شديد:
_هنصحك وهفضل أنصحك دائماً متنسيش أني أكبر منك وليا الحق بده!
جلست على الفراش وهي تفرك وجهها بغيظٍ، تخلت عنه وهي تحاول أن تتحدث بلطفٍ:
_طيب يا "حور" هنتكلم بكره لأني بجد تعبانه ومحتاجة أرتاح ممكن!
جذبت "حور" المقعد القريب منها ثم جلست مقابلها وهي تشير لها بهدوءٍ:
_هطلع بس هقولك حاجة واحدة.
اضطرت الإنصياع لها حتى تغادر من أمامها، فقالت الأخيرة بهدوءٍ:
_إختيار الصديق اللي بنصاحبه يا "روجينا" هو شيء أساسي زي إختيار شريك الحياة بالظبط، لأنه للأسفل تصرفاته وأخلاقه بتنعكس علينا، في صديقة بتشجعك أنك يكون ليكِ كيان وتحققي طموحاتك وبتشدك لو لقيتك بتقربي من الغلط.
وبابتسامة منحت وجهها إشراقة، أضافت:
_بتقربك خطوة من ربنا وبتراقب تصرفاتك عشان لما تغلطي تلحقك، هي شايفاكي حد من أهلها ومتقبلش بأي سوء يمسك، دي بتبقى الصحبة الخير اللي بتشدك بطريق كله صلاح.
وبملامحٍ ممتعضة، قالت:
_وفي صحبة كلها شر، زي "تقى" بتاعتك دي، بتشجعك وبتوسوسلك زي الشيطان، الحجاب شكله وحش، لا لبسك مهرول، تعالي نروح الحتة الفلانية وغيره كتير أوي، إنعكاس شخصيتها السييء مع الوقت هينعكس عليكي غصب عنك وده فعلاً اللي ابتدى يحصل معاكي من أول ما بدأتي تصاحبيها، راجعي نفسك يا "روجينا".
وتركتها وغادرت الغرفة بأكملها، عل كلماتها تفيقها مما هي به!
********
بالطابق العلوي.
كان يجلس" يحيى"، على المكتب الصغير المقابل لفراشه، يراجع على الحاسوب بعض الحسابات الخاصة لبعض التجار، وفي تلك اللحظة إندفعت "ماسة" للداخل كالتيار لتقف لجوار مقعده ثم تمسكت بيديه وهي تشير له بخوفٍ:
_"يحيى".
أمسك بيدها المرتجفة ثم نهض، فتخبأت من خلفه لتتشبث بملابسه، ففهم ما يحدث حينما ولجت "إلهام" لتردد في يأس:
_بحاول أنيمها مش قادرة.
أشار لها بابتسامةٍ هادئة:
_روحي إنتي، وسبيها.
أومأت برأسها بحبورٍ:
_تحت أمرك يا بشمهندس.
وبالفعل أغلقت باب الغرفة وغادرت على الفورٍ، فجذب "يحيى" يدها المتشبثة بالتيشرت الخاص به، ثم أخرجها لتقف من أمامه تتدلى شفتيها السفلية بحزنٍ، ابتسم وهو يتأملها ثم جلس على حافة الفراش ليجذبها لجواره متسائلاً بضيقٍ مصطنع:
_مش "ماسة" قالت أنها مش هتضايق المربية بتاعتها أبداً!
حدجته بنظرة حادة من عينيها الزرقاء قبل أن تخبره بتلعثمٍ:
_و"يحيى"قال لماسة أنها لو خدت الدوا هتنام معاه مش هتنام مع "إلهام" الوحشة!
ضحك حتى كُشف عن أسنانه، وهو يردد:
_في دي عندك حق، الإتفاق إتفاق.
ثم نهض ليغلق الضوء النابع من مكتبه، ليعود إليها سريعاً، أشار لها بالتمدد فتمددت ليطرح الغطاء على جسدها، ثم استلقى لجوارها ليجذبها لأحضانه، فقالت "ماسة" بتذمرٍ:
_مش هتحكي لماسة حدوتة.
ردد بعد ضحكة عالية:
_بعد المجهود ده بالشغل ولسه هحكي حواديت، ماشي يا ستي.
وقال وقد هامت عينيه بالماضي:
_كان في بنت جميلة، عيونها بتشبه لون موج البحر، وشعرها اسود وطويل.
قاطعته بطفوليةٍ:
_زي ماسة كده.
تعالت ضحكاته على ذكائها بتميز عن من يقص، فقربها لصدره، ثم قال:
_أه يا ستي زي"ماسة" كده، وقعت في حب شاب كان بيعشق التراب اللي بتمشي عليه بس مكنش يقدر يقولها ده ولا يعترف بيه.
تساءلت بتلقائية:
_ليه؟
بشرودٍ قاسي بماضيه قال:
_لأنه ببساطة كان عارف إنها مش ليه، من طفولتهم وهما بيقولوا إنها لإبن عمه الكبير، فمكنش يقدر يتكلم ولا يقول إنه بيحبها.
_وبعدين.
ابتسم وهو يقص هذا الشطر بالتحديد:
_كان منتظر إنها تعترفله بحبه ومحصلش رغم إن عيونها كلها مليانة مشاعر وحب تجاهه، وبعد كده إتفاجأ بيها بتعترف بحبه قدام الناس كلها، وبعد كده اتجوزوا وعاشوا أجمل أيام حياتهم وبالرغم من كده كان حريص إنها تكمل تعليمها لإنها كانت صغيرة بالسن..
وبألمٍ شديد اتبع لهجته قال:
_بس مكنش يعرف إن بعد كده هيحصل اللي هيكون السبب في آآ..
أمسك "بحيى" بذاته وهو يستكمل ذاك الشطر المؤلم، تناسى تماماً مع من يقص ومن تستمع، فرفع إصبعيه ليزيح تلك الدمعة العالقة بأهدابه سريعاً، ثم تطلع لها فحمد الله كثيراً حينما وجدها غفت على ذراعيه، داثرها "يحيى" جيداً ثم طبع قبلة صغيرة على وجنتها بحنانٍ، لينجرف خلف طوفان ذكرياته الموجعة.
**********
تخفى ضوء القمر الخافت خشية من ضوء الشمس، الذي غدى ليكسو العالم بضيائه، فتبقى ساعات النهار الأولى هي أنقى نسمات الهواء التي تتنقل بين المساكن، لذا يحب أن يكون منفرداً بذاته بتلك اللحظة، يتجول بين الحشائش والأراضي الزراعية بفرسه الأسود، يعتليه بمهارةٍ وحرافية، تنقل "آسر" بين الأراضي الزراعية براحةٍ تستحوذ عليه حينما يتمشى بالخيال في وسط ذاك الجمال الذي يأسره، فأراد أن يمتع عينيه قليلاً قبل أن يستعد لسفره بالمساء، لا يعلم بأن من ساقه القدر إليها أول مرة سيعود ليسوقه إليها من جديد!
**********
بالقاهرة.
استيقظت "حور" باكراً، فاستغلت ان اليوم ليس لديها مذاكرة أو محاضرات، فأعدت طعام الفطور ثم دقت الجرس على شقة الشباب المقابلة لها، ففتح "بدر" الباب وهو يقول بنومٍ:
_في أيه على الصبح، مش عارف أنام شوية أنا!
أجابته ساخرة:
_الحق عليا بصحيك عشان تفطر قبل ما تنزل المطار.
ضيق عينيه بدهشةٍ:
_مطار أيه!
قالت وهي تهم بالصعود لشقة "يحيى":
_وأنت هتعرف إزاي وأنت قافل موبيلك، عمك بيحاول يوصلك من إمبارح ولما معرفش كلمني وقالي أبلغك تنزل كمان ساعتين أنت وحد من الشباب عشان تكون باستقبال"تالين" و"رؤى".
غادر النوم حدقتيه ليغلفهما الجفاء فور سماع إسمها، فقال بحدةٍ:
_شوفي "يحيى" أنا مش فاضي للكلام ده.
تهدلت كتفيها بإستغراب:
_بس عمي قال آآ.
قاطعها بحدةٍ:
_قولتلك أيه؟
صعدت للأعلى باستسلامٍ:
_زي ما تحب هشوف "يحيى" كده.
وبالفعل صعدت للأعلى، تاركة النيران تحرق قلبه الذي عاد ليخفق من جديد!
********
بمكتب "أيان المغازي"
تسللت بسمة على ثغره حينما زف له هذا الخبر السعيد بالنسبة إليه والتعيس بالنسبة للدهاشنة، فرد على المتصل بانتشاءٍ:
_براڤو عليك، هما لسه شافوا حاجة من اللي ناويها ليهم، هانت كلهم كام يوم ورأسهم هتبقى في الأرض.
وأغلق الهاتف ثم فتح درج خزانته، ليجذب صورتها التي لا تفارق درج مكتبه، مرر أصابعه على جسدها بوقاحةٍ وهو يردد بحقدٍ:
_وبنتك هتبقى في حضني وخدامة تحت رجلي يا كبير الدهاشنة!
.............. يتبع............. لقاء سيحتمها على مقابلة أخر من توقعت رؤياه!..... سحابة عشق ابتلعت بجوفها قصة لم تكتمل ثم سيمنحهما القدر فرصة للإلتقاء مجدداً فهل سيتمسك كلاً منهما بها؟.......
أفعى متنكرة ستحوم عليه لتنتزع حياته فهل سيقوى حبه الضعيف على المحاربة؟
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الرابع
الدهاشنة2...(صراع السلطة والكبرياء..)..
الفصل الرابع..
أغلق باب الشقة من خلف شقيقته، وهو يجاهد لتضميد ذاك الألم الغائر الذي يطيح بقلبه، وكأن ذكرها لعنة مميتة، كل شيئاً من حوله بات منفراً، وكأنه يذكره بها، الهواء يحتضن رائحة خصلات شعرها الأصفر، خفقات قلبه المضطربة تذكره بها، حبات الكرز الذي يشتهيها تذكره بشفتيها الحمراء، جلس "بدر" على المقعد ليغلق أجفان عينيه بقوةٍ يتمنى أن يحتضن ذكراها المؤلمة بداخلها، ضربته كلماتها التي عادت لتهاجمه من جديد
«طباع الرجل الشرقي المتحكمة ليست الا جهل، المرأة خلقت حرة لا يستعمرها رجل ولا دين!»
هكذا كانت نظرتها تجاه حبه وغيرته الشديدة إليها، أطبق بقبضته على بعضها البعض وهو يردد من بين اصطكاك أسنانه:
_إخرجي من عقلي وتفكيري، أنا بكرهك وبكره أي شيء بيفكرني بيكِ!
********
كادت "حور" أن تدق جرس شقة "يحيى"، فوجدته يفتح الباب، فقال بابتسامةٍ أزادته وسامة:
_أيه الصباح الجميل ده؟
ابتسمت بخجلٍ، ثم قالت على استحياءٍ:
_صباح الورد يا" يحيى".
تساءل على الفور والشكوك بدأت تتلاعب بحدقتيه:
_غريبة أنك تطلعي ل"ماسة" الصبح كده.
أجابته باسمةٍ:
_مهو أنا مش جاية لماسة أنا عايزاك انت.
بكل جدية قال:
_في حاجة ولا أيه؟
ردت عليه بهدوءٍ:
_لا مفيش، ده عمو "فهد" كان عايز حد يكون بالمطار باستقبال "تالين" و"رؤى".
عند ذكر إسمها قال بلهفةٍ واضحة بحديثه:
_أوعي تبلغي "بدر" بالموضوع ده.
حدجته بنظرةٍ غريبة، فلعق شفتيه وقد إستعاد ثباته المتزن ليستطرد بهدوءٍ مخادع:
_أصله عنده شغل كتير النهاردة في المصنع، أنا هأخد "عبد الرحمن" ونروح نجيبهم.
قالت بعدم مبالاة:
_تمام، أنا كده كده قولتله وهو قالي أبلغك.
تهجمت معالمه وهو يسألها:
_قولتي لبدر؟
أومأت برأسها، فعبث بحاجبيه شارداً بالحالةٍ التي قد يكوت بها ابن خاله بتلك اللحظة، أفاق من شروده على صوت "حور" المنادي، فانتبه لذاته هامساً:
_كنتِ بتقولي حاجه يا "حور"؟
قالت بابتسامةٍ ساخرة:
_ده أنا قولت حاجات مش حاجة واحدة وأخرهم أني حضرلتكم فطار ملوكي.
ابتسم وهو يجيبها بحبورٍ:
_طول عمرك ست بيت شاطرة، بس للاسف عندي اجتماع كمان ربع ساعة ومش هلحق فخدي" ماسة"و"طارق"وانزلوا إفطروا بألف هنا.
انكمشت ملامح وجهها بحزنٍ، فابتسم وهو يشير لها بحبٍ:
_طب خلاص متزعليش، إعمليلي سندوتشات عما أبص على "بدر" وأنا هاخدها وأنا نازل.
ركضت على الدرج قائلة بصوتٍ مرتفع:
_حمامة.
ابتسم على طريقتها الطفولية عن التعبير عن سعادتها، ثم هبط ليتجه لشقة الشباب، ليخرج مفتاحه الخاص ثم دثه بالباب ليدلف للداخل باحثاً عنه، وجده جالس جوار الشرفة، يتطلع على المارة بنظرةٍ ساهمة، وكأنه يحاول أن يستكشف نفسه بأوجه من أمامه، منحه نظرة حزينة قبل أن يقترب ليقف جواره، فجلى أحباله الصوتية قائلاً:
_واقف كدليه يا "بدر"؟
تسللت بسمة صغيرة لثغره، وهو يجيبه باستنكارٍ:
_مش معقول مبلغكش أن الهانم هتشرق مصر.
قال بعدم مبالاة:
_وماله تيجي وتشرف بيت الكبير عمره ما بيتففل في وش الغرب هيتففل في وش اللي مننا!
منحه نظرة قاتمة فاستكمل"يحيى" حديثه بإتزانٍ:
_اللي فات انتهى مع سفرها يا "بدر"، حاول تنسى وبص لقدام، حب وإتجوز وإنساها لا هي شبهنا ولا إحنا شبهها.
هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جذب جاكيته الأسود من على المقعد المقابل له، ليشير بيديه:
_يلا عشان إتاخرنا.
اتبعه للخارج، ثم دق جرس الشقة المقابلة له، فخرجت"حور" بالأكياس المغلفة ثم أشارت بغمزة مرحة لأخيها:
_عملت حسابك.
منحها ابتسامة صافية، ليتبع "يحيى" للأسفل، ثم صعد بسيارته ليغادروا سوياً لمصانع عائلة دهشان.
*******
عاد بفرسه الجامح كالفهد لمنزله، فسلم لجامه لأحد العاملين بالأسطبل الخاص بعائلته، ثم ولج للداخل لتحوم عينيه المكان بأكمله باحثاً عن والدته أو أي أحداً، تسللت رائحة الخبز الطازج لأنفه فأتبعها بابتسامةٍ مشرقة، حينما وجد جدته تجلس أرضاً ولجوارها زوجات أعمامه يعدن العجين الطازج على المطرحة الخشبية، ومن ثم تلتقطه منهما والدته لتضعه بالفرن المصنوع من الطين، فعلى الرغم من إمتلاكهما لثروة لا تعد ولا تحصى الا أن جدته مازالت تتمسك بالعرف القديم، مازالت تؤكد لهما بأن الخبز الذي يعد بذاك الفرن له مذاق خاص، جلس "آسر" لجوارها ومن ثم امسك بيدها لتنتفض بفزعٍ:
_إكده يا ولدي شيبت شعري من الرعب!
ابتسم وهو يشاكسها:
_أنتِ لسه شباب يا نينا ولا أيه يا عمتو؟
ضحكت "ريم" وهي تؤكد لها:
_امال، طب ده أنتي كيف البدر في تمامه.
اتسعت ابتسامة "هنية" حتى كشف عن أسنانها القليلة التي تتحلى بفكيها، ثم قالت باستهزاءٍ:
_هتأكلوا بعقلي حلاوة أنت وهي إياك!
تداخلت "راوية" بالحديث المرح فيما بينهما، قائلة باحترامٍ:
_والله يا ماما الحاجة ما بيكدبوا أنتي لسه فعلاً زي القمر.
وكالعادة لم يخلو الحديث من مشاركة"نادين"بحديثهما حينما قالت:
_أنتي بس يا حاجة لو تسمعي كلامي وتلعبي شوية زومبا تروشك هترجعي شباب من أول وجديد.
تساءلت باستغرابٍ:
_زومبة دي أيه هي قمان؟
إنفجرت "راوية" و"آسر"من الضحك، فتماسك وهو يخبرها بصعوبةٍ:
_ده نوع من الموسيقى التقيلة يا نينا بس حاجة مية فل وعشرة.
رفعت حاجبيها باستنكارٍ:
_هو في يا ولدي زي شادية وأم كلثوم، كل ده مسخرة وميتسمعش واصل.
هز رأسه بضحكةٍ يحاول التحكم بها، فقاطعهما "أحمد" الذي جلس على الحصير ليضع السمن البلدي والجبن من أمام "نوارة" و"ريم"، مشيراً لهما بيديه:
_أهو جبتلكم المطلوب عشان تظبطوني في كان أبوري فلاحي معتبر.
التقطت منه "نوارة" الجبن ثم قالت بحنانٍ:
_بس إكده، عنيا ليك يا ولدي.
أضافت "هنية" بحزمٍ:
_كتري شوية عشان يأخدوا منه للعيال وهما نازلين مصر.
أشارت لها بحبٍ:
_عنيا يا حاجة.
ولج أحد الخدم للداخل، ثم وضع عينيه أرضاً ليحفظ حرمة بيت كبيره قد وضع عدة قوانين لا يتخطاها الصغير قبل الكبير، ليبلغهما سريعاً:
_الكبير عايزك بالمندارة يا بشمهندس "آسر" .
رد عليه بدهشةٍ:
_عايزني أنا!
أومأ برأسه، فنهض"آسر" عن الأرض ثم لحق به ليرى ماذا هناك، ولج للمندارة باحثاً عنه حتى وجده يجلس على مقعده بهدوءٍ مخيف، إقترب منه وهو يتساءل بحبورٍ:
_حضرتك طلبتني؟
رفع "فهد" حدقتيه تجاهه، فسكن الصمت فيما بينهما قليلاً، ثم رقع عكازه ليطرق به على المقعد الخشبي من جواره:
_إقعد.
بهدوءٍ إنتقل للمقعد الذي أشار عليه، ومن ثم جلس ليتطلع له باهتمامٍ لمعرفة سبب منادته له، عاد الصمت ليستحوذ عليهما من جديدٍ إلى أن مزقه "فهد" قائلاً:
_مالك ومال "وهدان المغازي" يا ولدي؟
ابتلع ريقه الجاف وهو يحاول السيطرة على انفعالاته بحضور والده، ثم قال بتريثٍ:
_هو اللي بدأ يا كبير وأكيد اللي بلغك بلغك باللي حصل كله.
نهض وهو يطرق بعصاه الانبوسية الأرض بطرقة قوية تدل على غضبه:
_اللي حصل ده ميتكررش تاني، أني مش مستعد أخسرك أنت كمان!
نهض "آسر" هو الأخر، وقد احتدت لهجته دون أن يعي لذلك:
_لا هيحصل مرة واتنين ومليون لو أي حد حاول يهين فرد من الدهاشنة وأنا مش ضعيف ولا جبان عشان اسمعه بيتمسخر عليا وأقف ساكت!
صاح "فهد" بانفعالٍ:
_ومين قالك إني هسكت، لو كنت جيت وخبرتني كنت طربقتها فوق دماغه ودماغ اللي جبوه لكن وأنت بعيد.
بتحكم عظيم بغضبه قال:
_وأنا مش عيل صغير عشان أجي اشتكيلك من حد أزعجني، أنا أعرف أرجع حقي ازاي وأوقف كل حد عند حده.
احتدت نظرات عينيه، ليشير له بغضبٍ جامح:
_بتتحداني إياك؟
باحترامٍ أجابه:
_ما عاش ولا كان اللي يتحدى كبير الدهاشنه، بس حضرتك مزرعتش فينا الجبن ولا ربتنا على كده، منتظر مني أعمل كده ودلوقتي؟
أخفى بسمة إعجابه خلف صلابته ووجوم وجهه، فأشار له بهدوءٍ:
_اسمع يا ولدي المغازية بيحاولوا يأخدوا علينا أي سبب عشان العهد اللي بينا ينقطع والدم يرجع يسيل تاني بين العيلتين فمتبقاش أنت السبب ده..
هز "آسر" رأسه باحترامٍ لكلماته، ثم أردف:
_هحاول أتجنبهم.
ربت بيديه على كتفيه بابتسامةٍ تنبع بالفخرٍ:
_عاقل طول عمرك وبتحسبها زين.
ثم أشار له قائلاً:
_روح إرتاحلك ساعة ولا تنين قبل ما تسافر.
أجابه بهدوءٍ:
_لا يدوب أغير هدومي ونسافر عشان نوصل قبل بليل.
ببسمةٍ صافية أجابه:
_ربنا معاك يا ولدي.
منحه ابتسامة صغيرة وإحتضنه بحبٍ وإحترام قبل أن يصعد ليغير ملابسه ثم صعد لسيارة "أحمد" ليتوجهوا للقاهرة.
*********
بمكتب "يحيى"
كنظرات الأفعى السامة التي تنتظر الفرصة المناسبة لتبخ سمها القاتل كانت تراقبه، ومن ثم أخرجت من حقيبتها القطرة الطبية التي وضعتها بعينيها لتضمن بأنها تمنحها مظهر الباكية بحرقةٍ والمحطم فوادها، ابتسمت "يمنى" بشرارٍ يلمع بعينيها، ومن ثم حملت الملفات الموضوعة من أمامها لتتجه لمكتبه، طرقت أولاً وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل لتضع الملفات من أمامه، ثم قالت بصوتٍ حرصت لجعله حزيناً للغاية:
_الملفات اللي حضرتك طلبتهم.
تلقائياً رفع وجهه إليها حينما استمع لصوتها الغريب، فضيق عينيه باستغرابٍ وهو يتأمل عينيه اللامعة بالدموع، ليتساءل باهتمامٍ:
_أنتي كويسة؟
أومأت برأسها وهي تزيح دمعاتها اللامعة بأهدابها لتجعله يثق بشكوكه تجاهها:
_مفيش حاجة أنا كويسة.
نهض "يحيى" عن مقعده ثم دنا منها ليشير لها على المقعد المقابل لها:
_طب اقعدي نتكلم شوية.
تراقص قلبها طرباً حينمل طلب منها ذلك، فجلست وهي تتصنع الحياء والرقة المصطنعة، فبدأ هو بالحديث:
_حد من البيت مزعلك ولا أيه؟
اجابته بحدةٍ مصطنعة:
_صاحبك مقالكش ولا أيه؟
هز رأسه بالنفي:
_لا والله مقاليش حاجة.
ثم أضاف:
_أنا أساساً مشوفتش "عمر" من شهرين تلاته لان زي ما انتي شايفة انا تقريباً مش بفضى ساعة واحدة!
ردت عليه بحزنٍ مصطنع:
_"عمر"كل يوم والتاني بيعمل مشاكل معايا.
تساءل في دهشةٍ:
_وليه بيعمل كده؟
أجابته باستياءٍ:
_لاني برفض أي عريس بيتقدملي رغم أن أغلبهم ولاد ناس وميتعيبوش .
بعمليةٍ باحتة قال:
_طب وليه بترفضي عريس متقدملك مدام ابن ناس ومحترم!
منحته نظرة جعلتها غامضة، فقال بعد تفكير:
_أنتي بتحبي حد تاني مثلاً؟
تعمقت بالتطلع إليه وهو يترقب إجابتها، ظنت بأن تلك الفرصة مناسبة للغاية للبوح عما بقلبها، قاطع الهاتف تلك اللحظة الذهبية، فأشار لها بحرجٍ:
_ثواني بس أشوف الموبيل.
ونهض ليقترب من المكتب، ثم رفع الهاتف ليردد بعدما استمع للمتصل:
_طيب اهدي اهدي أنا جاي حالا.
وجذب جاكيته الموضوع على جسد المقعد، ثم هرول للخارج وهو يشير لها:
_أنا لازم أرجع البيت حالا، هنكمل كلامنا بعدين.
جزت على أسنانها بغيظٍ من تلك الفرصة التي ضاعت هباءاً، فجلست تلعن نفسها على هذا الحظ البائس، أما "يحيى" فهرع لسيارته في محاولة للوصول لشقته مسرعاً فقد إعتاد على مواجهة مثل تلك المواقف حينما تزورها دورتها الشهرية فتنتكس حالة "ماسة" حينما تتذكر الماضي الذي جلدها بسوطٍ قاسٍ!
**********
بمنزل "عبد الرحمن"
انتهى من إطعامها، ثم حمل صينية الطعام للمطبخ، ليشمر عن ساعديه ليجلي الأطباق، ومن ثم اعاد تنظيف الشقة من جديدٍ، وحينما انتهى إقترب من الفراش ليسألها بابتسامةٍ حنونة:
_خلصت كل حاجة يا ست الكل، عايزاني أساعدك بقى تغيري هدومك قبل ما أنزل؟
بصعوبةٍ هزت "مروج" رأسها الثقيل لتشير له بالنفي، فجلس جوارها ليربت بيديه على وجهها، تلألأت الدموع بعينيها فحتى الحديث لا تقوى عليه بعدما أصيبت بشللٍ نصفي جعلها قعيدة الفراش، ربما تدفع ثمن الشر الذي كانت تحصده منذ سنوات وبالرغم من ذلك منحها الله عز وجل ثمرة ممتلئة بالخير، الابن البار الذي يخدمها على كفوف الراحة، مازالت تتذكر كيف رواغها الشيطان لقتل جنينها حينما علمت بحملها من "فؤاد" شقيق "فهد"؛ ولكنها تراجعت خشية من أن تلاقي حتفها وهي بغرفة العمليات، وها هو الآن كل ما تمتلك بالحياة، السند والظهر الذي لم تختبره من قبل، كم أرادت شكره وضمه لصدرها ولكن حتى هذا حرمت منه، انتبه" عبد الرحمن" لقرع باب المنزل فنهض وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة:
_دي أكيد الممرضة.
ثم هم بالخروج وهو يشير لها:
_متقلقيش مش هتأخر ساعتين وهرجع بأمر الله.
وفتح باب الشقة للممرضة ثم غادر على الفور.
*********
صعد "يحيى" لشقته، فانخطف لونه حينما وجد "إلهام" تقف بالخارج وتطرق باب الحمام بخوفٍ شديد، فدنا منها ثم سألها بهلعٍ:
_في أيه؟
قالت بخوف سكن خلايا نبرتها المرتعشة:
_بقالها ساعة بالحمام مش راضية تفتح.
أشار بيديه:
_طب ادخلي أنتي حضرلها هدوم نضيفة تلبسها.
أومأت برأسها ثم ركضت للداخل، أما هو فاقترب من الباب ليطرق وهو يردد بصوتٍ عذب:
_"ماسة"، إفتحي الباب أنا "يحيى"!
لم يستمع لأي رداً منها، حتى تلك اللهفة التي تحاوطها حينما تعلم بعودته لم تعتريها بتلك اللحظة، ارتبك للحظة وهو يفكر بكسر الباب فخشى أن تتدهور حالتها مجدداً فلم يكن بوسعه الا التحلى بالهدوءٍ، فعاد ليناديها مجدداً:
_" ماسة" حبيبتي إفتحي عشان تشوفي أنا جبتلك أيه النهاردة وأنا جاي؟
لم يستمع تلك المرة أيضاً لأي رد منها، فعاد ليناديها مرة تلو الأخرى دون ملل من عدم استجابتها له..
******
بالداخل.
كانت تجلس أرضاً خلف باب الحمام، تضم ساقيها معاً لصدرها، ونظراتها تتوزع على الدماء التي القابعة بفستانها الأبيض، فتلامسها ذكرى غريبة لم ترأها من قبل، وكأن هناك شاشة بيضاء تنير بلقطةٍ غير واضحة، ترى بها نفسها ببطنٍ منتفخة، وفجأة ترى سيارات كثيرة ومن ثم صراخ عاصف ومن ثم دماء انسدلت من أسفلها كعمقٍ من البحر، لتستمع كلمة غريبة على مسمعها
«فقدت الجنين!..»
لم يستوعب عقلها الصغير مواجهة تلك الذكريات الغريبة، فكان جسدها يتخشب خوفاً مما ترأه، وفجأة وسط تشتتها التقطت آذنيها صوت نجدتها، آمانها القابع من خلفها لا يفصلهما سوى باب صغير، سمعته يناديها فنهضت عن الأرض وهي تردد بسعادةٍ:
_"يحيى"!
ومن ثم حررت المفتاح القابع بجسد الباب لتزداد ابتسامتها حينما وجدته يقف مقابلها بالفعل، ركضت "ماسة" إليه، متشبثة بأحضانه كالغريق الذي يتمسك بقشة تنجده مما يواجهه، أغلق "يحيى" عينيه بقوةٍ وقد عاد الهواء لينعشه من جديد حينما وجدها تقف أمامه، فرفع أصابعه ليقرب رأسها من صدره لدقائق تحيه مجدداً، ثم أبعدها عنه وهو يتفحص ملابسها بهدوءٍ، ليشير لها بحكمةٍ:
_شوفتي "ماسة" رجعت تعبت تاني عشان مبتسمعش الكلام ومش بتأخد ادويتها.
ورفع صوته لإلهام قائلاً:
_خديها غيرلها هدومها واديها أدويتها وأنا هستناها هنا.
أومأت المربية برأسها في طاعةٍ ثم اصطحبتها لغرفتها لتنفذ ما قاله لتو.
********
بشقة الفتيات.
علمت "حور" من أخيها، بأن "آسر" و"أحمد"بطريقهما، فولجت لغرفة "روجينا" لتوقظها كي يتمكنوا سوياً من إعداد بعض الطعام المناسب لإستقبالهم من سفرٍ طويل هكذا، تفاجآت بالغرفة فارغة فعلمت بأنها غادرت كعادتها دون أن تخبرها بذلك، بيأسٍ تام تحركت "حور" تجاه المطبخ لتعد ما أمكن من الطعام الشهي، ساعة تصطحب الأخرى حتى خيم الليل ومازالت "روجينا" لم تعد بعد، ارتعبت "حور" من وصول "آسر" قبلها وحينها لن يمرر ذاك الأمر بخيرٍ، فحاولت الوصول إليها عبر الهاتف، وحينما فشلت بذلك رددت بغضبٍ:
_كالعادة قافلة تليفونها!، ربنا يستر.
أتاها صدق حدثها حينما طرق "بدر" الباب، وحينما فتحته وجدت "آسر" و"أحمد"من أمامها، استقبلتهم بابتسامة صغيرة انقلبت لتشتت عظيم حينما التقت نظراتها بعينيه، لا تعلم ما الذي يحدث معها حينما تراه، وفي كل مرة تحاول بها أن تقتنع بأنه إن لم يكن ابن عمها فهو خطيبة ابنة عمها والتي تعد بمثابة شقيقة لها، أفاقت من شرودها على صوت "آسر" الذي قال بانبهارٍ:
_أيه كل الأكل ده انتي عازمة حد ولا أيه يا "حور'؟
أتاه الرد من خلفه، حينما قال" يحيى":
_إحنا أهم من المعازيم يا سيدي!
التفت خلفه ليردد بفرحةٍ:
_"يحيى"!
تعانق كلاً منهما بمحبةٍ، ليعاتبه الأخر:
_إتاخرت كده ليه؟
أجابه "آسر" ساخراً:
_وأنا لحقت مش لسه سايبك من يومين يا ابني!
قطع "أحمد" الحديث المتبادل فيما بينهما حينما قال:
_فككوا من جو السلامات ده وتعالوا كلوا الأكل طعمه يجنن.
ثم التفتت تجاهها ليشير لها بابتسامةٍ ساحرة:
_تسلم أيدك يا "حور".
على استحياءٍ قالت:
_الف هنا.
جلس" بدر" لجواره ليضربه بيديه على رقبته قائلاً بسخطٍ:
_طول عمرك همك على بطنك.
قال بحدةٍ أطاحته:
_همي على بطني أحسن ما أكون مدورها مع مزز خلق الله نسيت ماضيك ولا أيه يا "دنجوان"؟
حدجه بنظرةٍ قاتلة، فردد" آسر"في يأسٍ:
_رجعنا تاني لنقطة الصفر.
ابتسم "يحيى" وهو يتابع الحوار المشاكس فيما بينهما، فتمسكت "ماسة" به، لينتبه لهبوطها، فجذبها لتقف جواره، تعلقت عين "آسر" بها فكلما يرآها يحزن على الحالة التي أصبحت بها، وعلى الرغم من العشق الذي احتفظ به لها منذ الصغر؛ ولكنه تناسى كل الشيء في اللحظة التي أصبحت بها زوجة ابن عمته، نهض "أحمد" ليقترب منها سريعاً فضمها لصدره وهو يخبرها بشوقٍ:
_"ماسة"وحشتيني أوي؟
لوت شفتيها وهي تبعده عنها مرددة بسخطٍ:
_مفيش حد بيحضن "ماسة" غير "يحيى".
تعالت ضحكات الجميع على تلقائيتها، فالجميع يقدر ما تمر به ويتعامل معها بحذرٍ، رفع" بدر" صوته قائلاً بشماتةٍ:
_جدعة يا "ماسة" إديله فوق دماغه.
جذب "أحمد"،" يحيى"من تلباب قميصه وهو يلكزه بغيظٍ:
_بتعصي أختي عليا مكنش العشم يابو نسب.
تعالت ضحكاته وهو يحاول تخليص ذاته قائلاً:
_يعني أسيب اللي يسوى واللي ميسويش يحضنها!
جز على أسنانه ليعود لكمه من جديد، جلس"آسر"على طاولة الطعام بمللٍ من تغيرهما، فاستغلت "حور" انشغالهما واقتربت منه، ثم قالت:
_على إتفاقنا يا "آسر"؟
تذكر وعده لها بترتيب عمل لصديقتها، فمنحها ابتسامة صافية قبل أن يضيف:
_متقلقيش يا" حور"، خليها تجيني المكتب بكره الصبح وأنا هرتب الأمور.
شكرته بسعادةٍ ثم قالت:
_منحرمش منك أبداً يا اعظم أخ في الدنيا كلها.
ازدادت ابتسامته وهو يرى فرحتها، ثم سألها باهتمامٍ وهو يتفحص المكان من حوله:
_أمال فين "روجينا"؟
ازدردت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، ثم قالت بتوترٍ:
_آآصل... آآ.
رفع حاجبيه باستغرابٍ من ارتباكها الغريب، فتحولت نظراته تجاه باب الشقة الذي فتح من الخارج لتظهر من أمامه، سحب نظراته المتعلقة بها ليتطلع لساعة يديه ثم نهض ليقف من امامها، فكادت الدماء بالتجمد بعروقها حينما قال بغضبٍ لاحق لهجته الصارمة:
_كنتي فين لحد الوقتي؟
.............. يتبع........
الفصل الرابع..
أغلق باب الشقة من خلف شقيقته، وهو يجاهد لتضميد ذاك الألم الغائر الذي يطيح بقلبه، وكأن ذكرها لعنة مميتة، كل شيئاً من حوله بات منفراً، وكأنه يذكره بها، الهواء يحتضن رائحة خصلات شعرها الأصفر، خفقات قلبه المضطربة تذكره بها، حبات الكرز الذي يشتهيها تذكره بشفتيها الحمراء، جلس "بدر" على المقعد ليغلق أجفان عينيه بقوةٍ يتمنى أن يحتضن ذكراها المؤلمة بداخلها، ضربته كلماتها التي عادت لتهاجمه من جديد
«طباع الرجل الشرقي المتحكمة ليست الا جهل، المرأة خلقت حرة لا يستعمرها رجل ولا دين!»
هكذا كانت نظرتها تجاه حبه وغيرته الشديدة إليها، أطبق بقبضته على بعضها البعض وهو يردد من بين اصطكاك أسنانه:
_إخرجي من عقلي وتفكيري، أنا بكرهك وبكره أي شيء بيفكرني بيكِ!
********
كادت "حور" أن تدق جرس شقة "يحيى"، فوجدته يفتح الباب، فقال بابتسامةٍ أزادته وسامة:
_أيه الصباح الجميل ده؟
ابتسمت بخجلٍ، ثم قالت على استحياءٍ:
_صباح الورد يا" يحيى".
تساءل على الفور والشكوك بدأت تتلاعب بحدقتيه:
_غريبة أنك تطلعي ل"ماسة" الصبح كده.
أجابته باسمةٍ:
_مهو أنا مش جاية لماسة أنا عايزاك انت.
بكل جدية قال:
_في حاجة ولا أيه؟
ردت عليه بهدوءٍ:
_لا مفيش، ده عمو "فهد" كان عايز حد يكون بالمطار باستقبال "تالين" و"رؤى".
عند ذكر إسمها قال بلهفةٍ واضحة بحديثه:
_أوعي تبلغي "بدر" بالموضوع ده.
حدجته بنظرةٍ غريبة، فلعق شفتيه وقد إستعاد ثباته المتزن ليستطرد بهدوءٍ مخادع:
_أصله عنده شغل كتير النهاردة في المصنع، أنا هأخد "عبد الرحمن" ونروح نجيبهم.
قالت بعدم مبالاة:
_تمام، أنا كده كده قولتله وهو قالي أبلغك.
تهجمت معالمه وهو يسألها:
_قولتي لبدر؟
أومأت برأسها، فعبث بحاجبيه شارداً بالحالةٍ التي قد يكوت بها ابن خاله بتلك اللحظة، أفاق من شروده على صوت "حور" المنادي، فانتبه لذاته هامساً:
_كنتِ بتقولي حاجه يا "حور"؟
قالت بابتسامةٍ ساخرة:
_ده أنا قولت حاجات مش حاجة واحدة وأخرهم أني حضرلتكم فطار ملوكي.
ابتسم وهو يجيبها بحبورٍ:
_طول عمرك ست بيت شاطرة، بس للاسف عندي اجتماع كمان ربع ساعة ومش هلحق فخدي" ماسة"و"طارق"وانزلوا إفطروا بألف هنا.
انكمشت ملامح وجهها بحزنٍ، فابتسم وهو يشير لها بحبٍ:
_طب خلاص متزعليش، إعمليلي سندوتشات عما أبص على "بدر" وأنا هاخدها وأنا نازل.
ركضت على الدرج قائلة بصوتٍ مرتفع:
_حمامة.
ابتسم على طريقتها الطفولية عن التعبير عن سعادتها، ثم هبط ليتجه لشقة الشباب، ليخرج مفتاحه الخاص ثم دثه بالباب ليدلف للداخل باحثاً عنه، وجده جالس جوار الشرفة، يتطلع على المارة بنظرةٍ ساهمة، وكأنه يحاول أن يستكشف نفسه بأوجه من أمامه، منحه نظرة حزينة قبل أن يقترب ليقف جواره، فجلى أحباله الصوتية قائلاً:
_واقف كدليه يا "بدر"؟
تسللت بسمة صغيرة لثغره، وهو يجيبه باستنكارٍ:
_مش معقول مبلغكش أن الهانم هتشرق مصر.
قال بعدم مبالاة:
_وماله تيجي وتشرف بيت الكبير عمره ما بيتففل في وش الغرب هيتففل في وش اللي مننا!
منحه نظرة قاتمة فاستكمل"يحيى" حديثه بإتزانٍ:
_اللي فات انتهى مع سفرها يا "بدر"، حاول تنسى وبص لقدام، حب وإتجوز وإنساها لا هي شبهنا ولا إحنا شبهها.
هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جذب جاكيته الأسود من على المقعد المقابل له، ليشير بيديه:
_يلا عشان إتاخرنا.
اتبعه للخارج، ثم دق جرس الشقة المقابلة له، فخرجت"حور" بالأكياس المغلفة ثم أشارت بغمزة مرحة لأخيها:
_عملت حسابك.
منحها ابتسامة صافية، ليتبع "يحيى" للأسفل، ثم صعد بسيارته ليغادروا سوياً لمصانع عائلة دهشان.
*******
عاد بفرسه الجامح كالفهد لمنزله، فسلم لجامه لأحد العاملين بالأسطبل الخاص بعائلته، ثم ولج للداخل لتحوم عينيه المكان بأكمله باحثاً عن والدته أو أي أحداً، تسللت رائحة الخبز الطازج لأنفه فأتبعها بابتسامةٍ مشرقة، حينما وجد جدته تجلس أرضاً ولجوارها زوجات أعمامه يعدن العجين الطازج على المطرحة الخشبية، ومن ثم تلتقطه منهما والدته لتضعه بالفرن المصنوع من الطين، فعلى الرغم من إمتلاكهما لثروة لا تعد ولا تحصى الا أن جدته مازالت تتمسك بالعرف القديم، مازالت تؤكد لهما بأن الخبز الذي يعد بذاك الفرن له مذاق خاص، جلس "آسر" لجوارها ومن ثم امسك بيدها لتنتفض بفزعٍ:
_إكده يا ولدي شيبت شعري من الرعب!
ابتسم وهو يشاكسها:
_أنتِ لسه شباب يا نينا ولا أيه يا عمتو؟
ضحكت "ريم" وهي تؤكد لها:
_امال، طب ده أنتي كيف البدر في تمامه.
اتسعت ابتسامة "هنية" حتى كشف عن أسنانها القليلة التي تتحلى بفكيها، ثم قالت باستهزاءٍ:
_هتأكلوا بعقلي حلاوة أنت وهي إياك!
تداخلت "راوية" بالحديث المرح فيما بينهما، قائلة باحترامٍ:
_والله يا ماما الحاجة ما بيكدبوا أنتي لسه فعلاً زي القمر.
وكالعادة لم يخلو الحديث من مشاركة"نادين"بحديثهما حينما قالت:
_أنتي بس يا حاجة لو تسمعي كلامي وتلعبي شوية زومبا تروشك هترجعي شباب من أول وجديد.
تساءلت باستغرابٍ:
_زومبة دي أيه هي قمان؟
إنفجرت "راوية" و"آسر"من الضحك، فتماسك وهو يخبرها بصعوبةٍ:
_ده نوع من الموسيقى التقيلة يا نينا بس حاجة مية فل وعشرة.
رفعت حاجبيها باستنكارٍ:
_هو في يا ولدي زي شادية وأم كلثوم، كل ده مسخرة وميتسمعش واصل.
هز رأسه بضحكةٍ يحاول التحكم بها، فقاطعهما "أحمد" الذي جلس على الحصير ليضع السمن البلدي والجبن من أمام "نوارة" و"ريم"، مشيراً لهما بيديه:
_أهو جبتلكم المطلوب عشان تظبطوني في كان أبوري فلاحي معتبر.
التقطت منه "نوارة" الجبن ثم قالت بحنانٍ:
_بس إكده، عنيا ليك يا ولدي.
أضافت "هنية" بحزمٍ:
_كتري شوية عشان يأخدوا منه للعيال وهما نازلين مصر.
أشارت لها بحبٍ:
_عنيا يا حاجة.
ولج أحد الخدم للداخل، ثم وضع عينيه أرضاً ليحفظ حرمة بيت كبيره قد وضع عدة قوانين لا يتخطاها الصغير قبل الكبير، ليبلغهما سريعاً:
_الكبير عايزك بالمندارة يا بشمهندس "آسر" .
رد عليه بدهشةٍ:
_عايزني أنا!
أومأ برأسه، فنهض"آسر" عن الأرض ثم لحق به ليرى ماذا هناك، ولج للمندارة باحثاً عنه حتى وجده يجلس على مقعده بهدوءٍ مخيف، إقترب منه وهو يتساءل بحبورٍ:
_حضرتك طلبتني؟
رفع "فهد" حدقتيه تجاهه، فسكن الصمت فيما بينهما قليلاً، ثم رقع عكازه ليطرق به على المقعد الخشبي من جواره:
_إقعد.
بهدوءٍ إنتقل للمقعد الذي أشار عليه، ومن ثم جلس ليتطلع له باهتمامٍ لمعرفة سبب منادته له، عاد الصمت ليستحوذ عليهما من جديدٍ إلى أن مزقه "فهد" قائلاً:
_مالك ومال "وهدان المغازي" يا ولدي؟
ابتلع ريقه الجاف وهو يحاول السيطرة على انفعالاته بحضور والده، ثم قال بتريثٍ:
_هو اللي بدأ يا كبير وأكيد اللي بلغك بلغك باللي حصل كله.
نهض وهو يطرق بعصاه الانبوسية الأرض بطرقة قوية تدل على غضبه:
_اللي حصل ده ميتكررش تاني، أني مش مستعد أخسرك أنت كمان!
نهض "آسر" هو الأخر، وقد احتدت لهجته دون أن يعي لذلك:
_لا هيحصل مرة واتنين ومليون لو أي حد حاول يهين فرد من الدهاشنة وأنا مش ضعيف ولا جبان عشان اسمعه بيتمسخر عليا وأقف ساكت!
صاح "فهد" بانفعالٍ:
_ومين قالك إني هسكت، لو كنت جيت وخبرتني كنت طربقتها فوق دماغه ودماغ اللي جبوه لكن وأنت بعيد.
بتحكم عظيم بغضبه قال:
_وأنا مش عيل صغير عشان أجي اشتكيلك من حد أزعجني، أنا أعرف أرجع حقي ازاي وأوقف كل حد عند حده.
احتدت نظرات عينيه، ليشير له بغضبٍ جامح:
_بتتحداني إياك؟
باحترامٍ أجابه:
_ما عاش ولا كان اللي يتحدى كبير الدهاشنه، بس حضرتك مزرعتش فينا الجبن ولا ربتنا على كده، منتظر مني أعمل كده ودلوقتي؟
أخفى بسمة إعجابه خلف صلابته ووجوم وجهه، فأشار له بهدوءٍ:
_اسمع يا ولدي المغازية بيحاولوا يأخدوا علينا أي سبب عشان العهد اللي بينا ينقطع والدم يرجع يسيل تاني بين العيلتين فمتبقاش أنت السبب ده..
هز "آسر" رأسه باحترامٍ لكلماته، ثم أردف:
_هحاول أتجنبهم.
ربت بيديه على كتفيه بابتسامةٍ تنبع بالفخرٍ:
_عاقل طول عمرك وبتحسبها زين.
ثم أشار له قائلاً:
_روح إرتاحلك ساعة ولا تنين قبل ما تسافر.
أجابه بهدوءٍ:
_لا يدوب أغير هدومي ونسافر عشان نوصل قبل بليل.
ببسمةٍ صافية أجابه:
_ربنا معاك يا ولدي.
منحه ابتسامة صغيرة وإحتضنه بحبٍ وإحترام قبل أن يصعد ليغير ملابسه ثم صعد لسيارة "أحمد" ليتوجهوا للقاهرة.
*********
بمكتب "يحيى"
كنظرات الأفعى السامة التي تنتظر الفرصة المناسبة لتبخ سمها القاتل كانت تراقبه، ومن ثم أخرجت من حقيبتها القطرة الطبية التي وضعتها بعينيها لتضمن بأنها تمنحها مظهر الباكية بحرقةٍ والمحطم فوادها، ابتسمت "يمنى" بشرارٍ يلمع بعينيها، ومن ثم حملت الملفات الموضوعة من أمامها لتتجه لمكتبه، طرقت أولاً وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل لتضع الملفات من أمامه، ثم قالت بصوتٍ حرصت لجعله حزيناً للغاية:
_الملفات اللي حضرتك طلبتهم.
تلقائياً رفع وجهه إليها حينما استمع لصوتها الغريب، فضيق عينيه باستغرابٍ وهو يتأمل عينيه اللامعة بالدموع، ليتساءل باهتمامٍ:
_أنتي كويسة؟
أومأت برأسها وهي تزيح دمعاتها اللامعة بأهدابها لتجعله يثق بشكوكه تجاهها:
_مفيش حاجة أنا كويسة.
نهض "يحيى" عن مقعده ثم دنا منها ليشير لها على المقعد المقابل لها:
_طب اقعدي نتكلم شوية.
تراقص قلبها طرباً حينمل طلب منها ذلك، فجلست وهي تتصنع الحياء والرقة المصطنعة، فبدأ هو بالحديث:
_حد من البيت مزعلك ولا أيه؟
اجابته بحدةٍ مصطنعة:
_صاحبك مقالكش ولا أيه؟
هز رأسه بالنفي:
_لا والله مقاليش حاجة.
ثم أضاف:
_أنا أساساً مشوفتش "عمر" من شهرين تلاته لان زي ما انتي شايفة انا تقريباً مش بفضى ساعة واحدة!
ردت عليه بحزنٍ مصطنع:
_"عمر"كل يوم والتاني بيعمل مشاكل معايا.
تساءل في دهشةٍ:
_وليه بيعمل كده؟
أجابته باستياءٍ:
_لاني برفض أي عريس بيتقدملي رغم أن أغلبهم ولاد ناس وميتعيبوش .
بعمليةٍ باحتة قال:
_طب وليه بترفضي عريس متقدملك مدام ابن ناس ومحترم!
منحته نظرة جعلتها غامضة، فقال بعد تفكير:
_أنتي بتحبي حد تاني مثلاً؟
تعمقت بالتطلع إليه وهو يترقب إجابتها، ظنت بأن تلك الفرصة مناسبة للغاية للبوح عما بقلبها، قاطع الهاتف تلك اللحظة الذهبية، فأشار لها بحرجٍ:
_ثواني بس أشوف الموبيل.
ونهض ليقترب من المكتب، ثم رفع الهاتف ليردد بعدما استمع للمتصل:
_طيب اهدي اهدي أنا جاي حالا.
وجذب جاكيته الموضوع على جسد المقعد، ثم هرول للخارج وهو يشير لها:
_أنا لازم أرجع البيت حالا، هنكمل كلامنا بعدين.
جزت على أسنانها بغيظٍ من تلك الفرصة التي ضاعت هباءاً، فجلست تلعن نفسها على هذا الحظ البائس، أما "يحيى" فهرع لسيارته في محاولة للوصول لشقته مسرعاً فقد إعتاد على مواجهة مثل تلك المواقف حينما تزورها دورتها الشهرية فتنتكس حالة "ماسة" حينما تتذكر الماضي الذي جلدها بسوطٍ قاسٍ!
**********
بمنزل "عبد الرحمن"
انتهى من إطعامها، ثم حمل صينية الطعام للمطبخ، ليشمر عن ساعديه ليجلي الأطباق، ومن ثم اعاد تنظيف الشقة من جديدٍ، وحينما انتهى إقترب من الفراش ليسألها بابتسامةٍ حنونة:
_خلصت كل حاجة يا ست الكل، عايزاني أساعدك بقى تغيري هدومك قبل ما أنزل؟
بصعوبةٍ هزت "مروج" رأسها الثقيل لتشير له بالنفي، فجلس جوارها ليربت بيديه على وجهها، تلألأت الدموع بعينيها فحتى الحديث لا تقوى عليه بعدما أصيبت بشللٍ نصفي جعلها قعيدة الفراش، ربما تدفع ثمن الشر الذي كانت تحصده منذ سنوات وبالرغم من ذلك منحها الله عز وجل ثمرة ممتلئة بالخير، الابن البار الذي يخدمها على كفوف الراحة، مازالت تتذكر كيف رواغها الشيطان لقتل جنينها حينما علمت بحملها من "فؤاد" شقيق "فهد"؛ ولكنها تراجعت خشية من أن تلاقي حتفها وهي بغرفة العمليات، وها هو الآن كل ما تمتلك بالحياة، السند والظهر الذي لم تختبره من قبل، كم أرادت شكره وضمه لصدرها ولكن حتى هذا حرمت منه، انتبه" عبد الرحمن" لقرع باب المنزل فنهض وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة:
_دي أكيد الممرضة.
ثم هم بالخروج وهو يشير لها:
_متقلقيش مش هتأخر ساعتين وهرجع بأمر الله.
وفتح باب الشقة للممرضة ثم غادر على الفور.
*********
صعد "يحيى" لشقته، فانخطف لونه حينما وجد "إلهام" تقف بالخارج وتطرق باب الحمام بخوفٍ شديد، فدنا منها ثم سألها بهلعٍ:
_في أيه؟
قالت بخوف سكن خلايا نبرتها المرتعشة:
_بقالها ساعة بالحمام مش راضية تفتح.
أشار بيديه:
_طب ادخلي أنتي حضرلها هدوم نضيفة تلبسها.
أومأت برأسها ثم ركضت للداخل، أما هو فاقترب من الباب ليطرق وهو يردد بصوتٍ عذب:
_"ماسة"، إفتحي الباب أنا "يحيى"!
لم يستمع لأي رداً منها، حتى تلك اللهفة التي تحاوطها حينما تعلم بعودته لم تعتريها بتلك اللحظة، ارتبك للحظة وهو يفكر بكسر الباب فخشى أن تتدهور حالتها مجدداً فلم يكن بوسعه الا التحلى بالهدوءٍ، فعاد ليناديها مجدداً:
_" ماسة" حبيبتي إفتحي عشان تشوفي أنا جبتلك أيه النهاردة وأنا جاي؟
لم يستمع تلك المرة أيضاً لأي رد منها، فعاد ليناديها مرة تلو الأخرى دون ملل من عدم استجابتها له..
******
بالداخل.
كانت تجلس أرضاً خلف باب الحمام، تضم ساقيها معاً لصدرها، ونظراتها تتوزع على الدماء التي القابعة بفستانها الأبيض، فتلامسها ذكرى غريبة لم ترأها من قبل، وكأن هناك شاشة بيضاء تنير بلقطةٍ غير واضحة، ترى بها نفسها ببطنٍ منتفخة، وفجأة ترى سيارات كثيرة ومن ثم صراخ عاصف ومن ثم دماء انسدلت من أسفلها كعمقٍ من البحر، لتستمع كلمة غريبة على مسمعها
«فقدت الجنين!..»
لم يستوعب عقلها الصغير مواجهة تلك الذكريات الغريبة، فكان جسدها يتخشب خوفاً مما ترأه، وفجأة وسط تشتتها التقطت آذنيها صوت نجدتها، آمانها القابع من خلفها لا يفصلهما سوى باب صغير، سمعته يناديها فنهضت عن الأرض وهي تردد بسعادةٍ:
_"يحيى"!
ومن ثم حررت المفتاح القابع بجسد الباب لتزداد ابتسامتها حينما وجدته يقف مقابلها بالفعل، ركضت "ماسة" إليه، متشبثة بأحضانه كالغريق الذي يتمسك بقشة تنجده مما يواجهه، أغلق "يحيى" عينيه بقوةٍ وقد عاد الهواء لينعشه من جديد حينما وجدها تقف أمامه، فرفع أصابعه ليقرب رأسها من صدره لدقائق تحيه مجدداً، ثم أبعدها عنه وهو يتفحص ملابسها بهدوءٍ، ليشير لها بحكمةٍ:
_شوفتي "ماسة" رجعت تعبت تاني عشان مبتسمعش الكلام ومش بتأخد ادويتها.
ورفع صوته لإلهام قائلاً:
_خديها غيرلها هدومها واديها أدويتها وأنا هستناها هنا.
أومأت المربية برأسها في طاعةٍ ثم اصطحبتها لغرفتها لتنفذ ما قاله لتو.
********
بشقة الفتيات.
علمت "حور" من أخيها، بأن "آسر" و"أحمد"بطريقهما، فولجت لغرفة "روجينا" لتوقظها كي يتمكنوا سوياً من إعداد بعض الطعام المناسب لإستقبالهم من سفرٍ طويل هكذا، تفاجآت بالغرفة فارغة فعلمت بأنها غادرت كعادتها دون أن تخبرها بذلك، بيأسٍ تام تحركت "حور" تجاه المطبخ لتعد ما أمكن من الطعام الشهي، ساعة تصطحب الأخرى حتى خيم الليل ومازالت "روجينا" لم تعد بعد، ارتعبت "حور" من وصول "آسر" قبلها وحينها لن يمرر ذاك الأمر بخيرٍ، فحاولت الوصول إليها عبر الهاتف، وحينما فشلت بذلك رددت بغضبٍ:
_كالعادة قافلة تليفونها!، ربنا يستر.
أتاها صدق حدثها حينما طرق "بدر" الباب، وحينما فتحته وجدت "آسر" و"أحمد"من أمامها، استقبلتهم بابتسامة صغيرة انقلبت لتشتت عظيم حينما التقت نظراتها بعينيه، لا تعلم ما الذي يحدث معها حينما تراه، وفي كل مرة تحاول بها أن تقتنع بأنه إن لم يكن ابن عمها فهو خطيبة ابنة عمها والتي تعد بمثابة شقيقة لها، أفاقت من شرودها على صوت "آسر" الذي قال بانبهارٍ:
_أيه كل الأكل ده انتي عازمة حد ولا أيه يا "حور'؟
أتاه الرد من خلفه، حينما قال" يحيى":
_إحنا أهم من المعازيم يا سيدي!
التفت خلفه ليردد بفرحةٍ:
_"يحيى"!
تعانق كلاً منهما بمحبةٍ، ليعاتبه الأخر:
_إتاخرت كده ليه؟
أجابه "آسر" ساخراً:
_وأنا لحقت مش لسه سايبك من يومين يا ابني!
قطع "أحمد" الحديث المتبادل فيما بينهما حينما قال:
_فككوا من جو السلامات ده وتعالوا كلوا الأكل طعمه يجنن.
ثم التفتت تجاهها ليشير لها بابتسامةٍ ساحرة:
_تسلم أيدك يا "حور".
على استحياءٍ قالت:
_الف هنا.
جلس" بدر" لجواره ليضربه بيديه على رقبته قائلاً بسخطٍ:
_طول عمرك همك على بطنك.
قال بحدةٍ أطاحته:
_همي على بطني أحسن ما أكون مدورها مع مزز خلق الله نسيت ماضيك ولا أيه يا "دنجوان"؟
حدجه بنظرةٍ قاتلة، فردد" آسر"في يأسٍ:
_رجعنا تاني لنقطة الصفر.
ابتسم "يحيى" وهو يتابع الحوار المشاكس فيما بينهما، فتمسكت "ماسة" به، لينتبه لهبوطها، فجذبها لتقف جواره، تعلقت عين "آسر" بها فكلما يرآها يحزن على الحالة التي أصبحت بها، وعلى الرغم من العشق الذي احتفظ به لها منذ الصغر؛ ولكنه تناسى كل الشيء في اللحظة التي أصبحت بها زوجة ابن عمته، نهض "أحمد" ليقترب منها سريعاً فضمها لصدره وهو يخبرها بشوقٍ:
_"ماسة"وحشتيني أوي؟
لوت شفتيها وهي تبعده عنها مرددة بسخطٍ:
_مفيش حد بيحضن "ماسة" غير "يحيى".
تعالت ضحكات الجميع على تلقائيتها، فالجميع يقدر ما تمر به ويتعامل معها بحذرٍ، رفع" بدر" صوته قائلاً بشماتةٍ:
_جدعة يا "ماسة" إديله فوق دماغه.
جذب "أحمد"،" يحيى"من تلباب قميصه وهو يلكزه بغيظٍ:
_بتعصي أختي عليا مكنش العشم يابو نسب.
تعالت ضحكاته وهو يحاول تخليص ذاته قائلاً:
_يعني أسيب اللي يسوى واللي ميسويش يحضنها!
جز على أسنانه ليعود لكمه من جديد، جلس"آسر"على طاولة الطعام بمللٍ من تغيرهما، فاستغلت "حور" انشغالهما واقتربت منه، ثم قالت:
_على إتفاقنا يا "آسر"؟
تذكر وعده لها بترتيب عمل لصديقتها، فمنحها ابتسامة صافية قبل أن يضيف:
_متقلقيش يا" حور"، خليها تجيني المكتب بكره الصبح وأنا هرتب الأمور.
شكرته بسعادةٍ ثم قالت:
_منحرمش منك أبداً يا اعظم أخ في الدنيا كلها.
ازدادت ابتسامته وهو يرى فرحتها، ثم سألها باهتمامٍ وهو يتفحص المكان من حوله:
_أمال فين "روجينا"؟
ازدردت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، ثم قالت بتوترٍ:
_آآصل... آآ.
رفع حاجبيه باستغرابٍ من ارتباكها الغريب، فتحولت نظراته تجاه باب الشقة الذي فتح من الخارج لتظهر من أمامه، سحب نظراته المتعلقة بها ليتطلع لساعة يديه ثم نهض ليقف من امامها، فكادت الدماء بالتجمد بعروقها حينما قال بغضبٍ لاحق لهجته الصارمة:
_كنتي فين لحد الوقتي؟
.............. يتبع........
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الخامس
الدهاشنة2....(صراع السلطة والكبرياء..).... عشق_الآسر!.
الفصل الخامس.
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، فجاهدت لإستحضار الكلمات التي قد تكون مخرج لها من هذا المأزق، فقالت بتلعثمٍ:
_كان في محاضرات فيتاني وكنت بجبها من صاحبتي.
منحها نظرة قاسية، طوفتها من شعرها حتى أخمص قدميها، ليختمها بقوله الحازم:
_محاضرات أيه دي اللي الساعة١١، أنا مش قايلك أخىك برة الساعة ٨، ٨ونص!
بترت الكلمات عن لسانها، فمررت يدها على جبهتها في محاولةٍ بائسة للتصدي له، فقالت:
_الوقت سرقنا وإحنا بنتكلم.
هز رأسه ساخراً وهو يستمع تلك الحجة السخيفة، فاستدار تجاه الشباب وهو يتساءل بغضبٍ يتلاشى خلف حاجز ثباته:
_ويا ترى بقا أخدتي إذن حد من رجالة البيت اللي فايقين للأمانة اللي برقبتهم؟
كان سؤالاً ساخر لمن يقف خلفه، فخشى "بدر" أن تتطور الأمور للأسوء وخاصة بعد أن اشتعلت النيران بمقلتيه، فقال:
_أخدت إذني بس أنت مسألتش عشان أقولك هي فين؟
ضيق عينيه بشكٍ، جعل الأخير ينسحب من مناطحة تلك النظرات الفتاكة، قطع "آسر" المسافة بينهما ليصبح مقابله، ثم أشار له بإصبعيه بتحذيرٍ صريح:
_لو طلعت بتداري عليها غلطها يا "بدر" صدقني ردي على التصرف ده مش هيعجبك.
رد بثباتٍ مصطنع:
_أنت مكبر الموضوع ليه يا "آسر" إتاخرت بره شوية ومش هتكررها تاني عادي يعني بتحصل!
استدار "آسر" تجاهها ثم قال بتعصبٍ شديد:
_مهي مش هتتكرر تاني والا وقسماً بالله ما عادت هتعتب برة البيت ده خطوة واحدة وترجع البلد أحسنلها، "حور" أهي عمري ما جالي شكوة منها ولا شوفتها راجعة متأخر من بره!
وبحزمٍ أضاف:
_من هنا ورايح مفيش دخول ولا خروج الا بأذني أنا حتى لو كنت مسافر أو مش بالبيت سامعة؟
هزت رأسها والدموع قد تسربت على وجنتها لشعورها بالحرج الشديد أمام أبناء عمها، فولجت لغرفتها تختبئ مما حدث، ليتها تعلم أن أحياناً تلك القسوة يصطحبها خوفاً وحب حتى ولو غلفها شراسة الحديث.
لطف "يحيى" الأجواء، حينما أشار على المائدة:
_أيه يا جدعان الكلام أخدكم والأكل زمانه برد.
وجذب أحد المقاعد ليعاون "ماسة" على الجلوس ثم جلس مقابلها، أما "حور" فجلست جوارها من الناحيةٍ الأخرى لتطعمها بحنانٍ، جلس "بدر" مقابلهم ومن جواره جلس "آسر" الذي أشار لأحمد بدهشةٍ:
_ما تقعد واقف ليه؟
قال وهم بالتحرك تجاه غرفتها:
_هشوف "روجينا" وراجع.
أشار له "آسر" بتفهمٍ، فإن كان قد قسى عليها لابد من وجود من يمنحها العاطفة ويوضح لها سبب هذا الجفاء حتى لا تزداد الأمور سوءاً، وضع "يحيى" الهاتف على الطاولةٍ بضيقٍ شديد، فسأله "آسر" باستغرابٍ:
_في أيه يا ابني مالك؟
قال بضجرٍ:
_"عبد الرحمن" قالي ساعة وهجيلك عشان نطلع المطر وبقاله أكتر من ساعتين مختفي وموبيله مقفول.
قال بهدوءٍ:
_هتلاقيه في مكان مفيهوش شبكة، أو يمكن يكون بيطمن على والدته.
ثم عاتبه قائلاً:
_وبعدين أنت مكنش ينفع تطلبه في مشوار زي ده أنت مش عارف ظروف والدته وإنه مش بيتحرك من جنبها!
تعلقت نظرات "يحيى" ببدر الذي تصنع إنشغاله بتناول الطعام، فقال وهو يمضغ ما بفمه:
_بمناسبة موضوع والدته، ما تحاول يا "آسر" تقنع الكبير إنه يسمحلها تقعد بالسرايا أنت عارف ظروف شغلنا وبيضطر يسافر كتير ويسبها ومهما كان هي بالنهاية مرات عمنا ولا أيه؟
هز رأسه وهو يشير له:
_حاضر هكلمه.
منحه ابتسامة صافية، فقاطعهم الجرس الذي دق مرتين متتاليتين، فأسرع "بدر" بفتحه ليجد ابن عمه من أمامه يخبره بضيقٍ:
_أنتوا هنا وأنا قالب الدنيا عليكم فوق وتحت.
أشار له "يحيى" بالدخولٍ، قائلاً:
_حماتك بتحبك تعالى.
ولج "عبد الرحمن" للداخل وهو يردد بسخريةٍ:
_مهي طول عمرها بتحبني.
واتسعت ابتسامته حينما وجد آسر يجلس من أمامه فرفع كفيه ليصافحه بحرارةٍ مردداً:
_الدنيا بتبقى بؤس هنا من غيرك وعهد الله.
تسللت الإبتسامة على ثغره لتمنحه وسامة لا تليق سوى به:
_اركن بس جنب أخواتك وبعدين نشوف حكاية البؤس دي.
إنصاع له وجلس جوار "بدر"، ليقابل حدة نبرة"يحيى":
_أنت يالا مش قولتلي ساعة وهكون عندك الساعة بقت ١١والطايرة هتوصل ١٢ونص، هتحرك أمته!
أجابه بعدما جذب الطبق وأحد الملاعق ليبدأ بتناول طعامه:
_الا معاه ربنا ميقلقش يا عمهم، أحنا وحوش الأسفلت ساعة زمن وهتكون قدام المطار واقف وماسك يافتة عريضة مكتوب عليها ويلكم تو إيجبت.
تعالت الضحكات الرجولية فيما بينهما، ليشير لهم" آسر"بصرامةٍ مصطنعة:
_لا كلام على طعام يا سادة، إنجزوا عشان تلحقوا مشواركم.
وضعت "حور" قطع الدجاج المشوي مقابل كلا منهما، فأشار لها "عبد الرحمن" بتلذذ:
_أنا مجيش هنا وأكل حاجة من أيدك الا وتبقى خطيرة يا "حور"، بجد تسلم أيدك.
ابتسمت وهي تضع له المزيد:
_الف هنا.
رد عليه"بدر" بضجرٍ:
_إمروعوها علينا بقا معتش هتعملنا وكل خالص.
لوت شفتيها بغضبٍ، فلكزه "آسر" ثم قال بإعجابٍ:
_الأكل بيتكلم عن نفسه، إتشملل إنت ياخويا وهاتلنا طباخة فيف ستار!
تعالت ضحكات "حور" بشماتةٍ، أما "يحيى" و"عبد الرحمن"تعلقت نظراتهم الحزينة به ليلاحظ كلاً منهما تهجم معالمه الحاقدة على تذكره لما يخصها، دقائق مبسطة وانتهى "عبد الرحمن" من طعامه فأشار ليحيى بتتبعه ليغادروا سوياً للمطار.
**********
طرق "أحمد" الباب مرة تلو الأخرى قبل أن يدلف للداخل، وجدها تجلس على الفراش أمام الشرفة التي تحده، الصمت والحزن يغلفها معاً، بحث بعينيه عن أحد المقاعد ومن ثم جذبه ليجلس جوارها، تحلى بالصمت قليلاً ثم قطعه قائلاً بصوته الرخيم:
_"آسر" خايف عليكي، متزعليش منه أنتِ المفروض تاخدي بالك من مواعدك بعد كده إحنا هنا مش في بلدنا يا "روجينا" فواجب علينا نأخد بالنا من تصرفاتنا خصوصاً لو أنتوا البنات!
تجمع غضب العالم بحدقتيها فالتفتت إليه ثم قالت بإندفاعٍ:
_لو جاي تبررله اللي عمله فوفر نصايحك يا "أحمد" لإني مش شايفاها غير تسلط هو على طول مستقصدني.
منحها نظرة مطولة، قبل أن يفيض به الصمت فقال بتريثٍ:
_أنتي ليه شايفة الناس كلها كده يا "روجينا"؟
ابتسمت وهي تجيبه ساخرة:
_هما فين الناس دول، هما مش شايفين غير"حور" وتصرفاتها المثالية حتى أنت كل ما بتتكلم دا عملت كذا وكذا معرفش مدام معجب بيها أوي كده مخطبتهاش وخلصت ليه.
احتدت نظراتها الغاضبة، ليجيبها بحدةٍ وإنفعال:
_و"آسر" و"يحيى"معجبين بيها برضه!!، هي اللي بتجبر الكل يحترمها ويخدوها مثال أما أنتي فصدقيني رصيدك قرب يخلص عند الكل بسبب طريقتك وأسلوبك ده.
ونهض عن المقعد ثم كاد بالخروج، فاستوقفته حينما نادته بصوتٍ باكي:
_"أحمد".
التفت تجاهها، فاستطردت بدموعٍ غلبت صوتها الباكي:
_أنا مش وحشة كده على فكرة.
قرص أرنبة أنفه وهو يحاول التحكم في انفعالاته، ثم دنا منها من جديد، ليجلس على الفراش مرعياً مسافة أمانة بينهما، ليردد بابتسامةٍ أشرقت وجهه الرجولي:
_عارف، أنتِ جواكِ طيبة وبراءة صعب حد يكتشفها بسبب لسانك ده.
ابتسمت رغم الدموع التي تتساقط من عينيها، فاستكمل بحنانٍ:
_محدش بيكرهك يا "روجينا"، بيكروهوا تصرفاتك وهنا الفرق إنك بايدك تغيري نفسك وتكوني أحسن من"حور" نفسها.
أومأت برأسها بتفهمٍ، فمنحها ابتسامة صافية، ثم أشار لها قائلاً بمزحٍ:
_طب يلا نلحق العشا، لحسن كان في طاجن بامية باللحمة لو طلعت لقيته اتنسف هتعملي غيره.
ضحكت وهي تعقد حجابها جيداً لتخرج معه، فما أن رآها "آسر" حتى أشار لها بالجلوس لجواره، ليضع الطعام لجوارها وهو يهمس لها:
_متزعليش مني أنتي عارفة أني عصبي بس حنين.
منحته نظرة مشككة فتعالت ضحكاته، ليجذب السكين الصغير المجاور اليها، ثم أشار بتحذيرٍ:
_شايفة غير كده؟
ضحكت روجينا وهي تشير له بالنفي، فشاركها الابتسامة لتتناول طعامها بفرحةٍ وسعادة.
*********
وصل "عبد الرحمن" بزمنٍ قياسي، فولجوا للداخل بانتظارهم، مرت الدقائق سريعاً إلى أن وصلت الطائرة الخاصة بهم، نهض "يحيى" ليقف باستقبالهم، وما أن لمحهم حتى لوح بيديه ليتمكنوا من إيجاده، انتبه "عبد الرحمن" لإشارة "يحيى" فعلم بأنهم باتوا أمامه، فأنضم له، وقف مشدوهاً للحظةٍ بتلك الفاتنة التي تدفع العربة بصعوبةٍ تجاهه، ليتها ترفع عينيها عنها ليتمكن من رؤية لونها الساحر، نعم يعلم بأن بنات خال "آسر" فاتنات؛ ولكن ليس لهذا الحد، والأجمل من كل ذلك الحجاب الذي ترتديه، رفعت "تالين" عينيها السوداء لتتطلع تجاههما ويليتها ما فعلت، أصابته بسهامٍ عشق النظرة الأولى القاتل، فسلبت نبضات قلبه ببطءٍ، وكأنه يرى غائب يعرفه منذ زمن بعيد!
ابتسمت وخفق قلبه مع تلك البسمة، وكأنها تمنحه الحياة، وقفت تتبادل الحديث مع "يحيى" إلى أن أشار بيديه تجاهه، قائلاً:
_ده "عبد الرحمن" ابن خالي "فؤاد" الله يرحمه.
تلقائياً انتقلت نظراتها تجاهه، فقالت بابتسامتها الرقيقة:
_أزي حضرتك يا أستاذ "عبد الرحمن"؟
ما الذي سيتمناه أكثر من ذلك، ابتسامتها ومنادته بصوتها الرقيق، اتسعت ابتسامته وهو يتأملها شارداً، فأخفضت عينيها عنه في حرجٍ، أسرع" يحيى"إليه فهزه وهو يناديه بذهولٍ:
_"عبد الرحمن"!
انتصب بوقفته وهو يجييه بعد استعادته لإتزانه:
_أيوه.
ضحك "يحيى" ساخراً:
_أيوه أيه يا عم أنت سرحت في أيه، "تالين" بتكلمك وأنت في دنيا تانية!
تحولت نظراته إليها وهو يردد بحرجٍ:
_أنا بخير الحمد لله، حمدلله على سلامتك.
أجابته بابتسامةٍ صغيرة:
_الله يسلمك.
تساءل "يحيى" باستغرابٍ:
_هو أنتي جيتي لوحدك ولا أيه؟
أشارت له بالنفي وعينيها تبحثان عن شقيقتها الصغرى من خلفها:
_لا "رؤى" كانت ورايا!
ظهرت تلك الفتاة من أمامهما، شعرها الأصفر يتدلى على كتفيها كعباد الشمس الساطع، عينيها الزرقاء رغم جمالهما يكسوها طبقة لامعة من الدمعٍ الخارق، كانت ترتدي بنطال أسود اللون طويل وقميص وردي، دنت لتصبح قريبة منهما فأشار لهم "يحيى" تجاه باب الخروج:
_اتفضلوا، العربية بره.
كادت "تالين" بأن تدفع العربة من جديدٍ، فجذبها "عبد الرحمن" منها وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة:
_عنك..
وجذب العربة منها ليدفعها تجاه باب الخروج، حتى وضع الحقائب بالسيارة، ثم صعدت الفتيات بالخلف ومن ثم انطلقت السيارة للعمارة التابعة لعائلة "الدهاشنة".
********
بالصعيد وخاصة بسرايا المغازية.
كانت تجلس على المقعد القريبة من الهاتف الأراضي، تستمع بحرصٍ لوعد ابنها القاطع بقرب الانتقام من" فهد دهشان"، فقالت بلهجةٍ حملت كل معاني الحقد:
_أمته يجي اليوم اللي أشوفه فيه مزلول، ورأسه في الأرض.
استمعت لما قاله بابتسامةٍ رضا، طاف بها الشر حينما أخبرها بخطته التي ستضربه في مقتل.
ومن خلف الستار كانت هناك أعين تتلصص بمراقبة ما يحدث باستمتاعٍ، هدفه الأساسي اضرام النيران بين الطرفين فإذا خمدت كشف عن قناعه هو، لذا كان يحرص على امتداد العداء بين المغازية والدهاشنة!
********
بشقة الفتيات.
كان يتفحص "بدر" ساعة يديه بين الوقت والأخر، فأغلق الحاسوب ثم وجه حديثه لآسر المنشغل بمراجعة الحسابات:
_ما كفايا كده ونكمل بكره أفضل.
رفع عينيه عن الملف الذي يراجعه ثم قال:
_وفيها أيه لما نسهر ونخلصهم النهاردة.
وبنظراتٍ شك قال باستنكارٍ:
_وبعدين مالك كده مش على بعضك من ساعة ما قولتلك تعالى نراجع الحسابات مش طبعك يعني أنك تحب تأجل الشغل في أيه؟
إختار حجته المناسبة، ثم قال:
_مفيش بس تعبان ومحتاج أريح شوية.
منحه نظرة صلدة تعمقت داخله قبل أن يشير له بغموضٍ:
_روح نام يا "بدر".
ما أن إستمع أذنه الصريح بالمغادرة، حتى نهض سريعاً خشية من أن يرآها مجدداً، وليته تمهل قليلاً والا لما سيضع بالمواجهة الغير محببة لقلبه الجريح، فما أن فتح باب الشقة ليغادر لشقته المقابلة وجد" عبد الرحمن"و"تالين" مقابله، تلقائياً توجهت عينيه تجاه الدرج، ليلمحها وهي تصعد هائمة به، توهجت حدقتيه بترنيمةٍ يصعب تميزها، وقفت بمنتصف الدرج يدها تتعلق بالدرابزين، تتأمله بسكونٍ عجيب، فرغم سكون الأجساد وهدوئهما الا أن الأعين تتحدث بحديثٍ لا نهاية له، اشتياق ينبع من الداخل لا يقدر كلاً منهما على التصدي له أو مواجهته، فالنظرات هو الوصال بين القلب ومبتغاه، توصل ما يريد بمنتهى الشفافية، دون أن تجمله أو تنكر ما يخفق بداخله!
مرر عينيه عليها في ذهولٍ تام، وكأنه يرى فتاة أخرى لا يعرفها، وزنها الهزيل، نظراتها اللامعة بالدموع المصحوبة بسحابة مظلمة من الحزنٍ، ملابسها التي باتت محتشمة لحداً ما مما كانت ترتديه بالرغم من تحرر خصلات شعرها الأصفر من خلفها، بصعوبةٍ بالغة سحب نظراته المتعلقة بها، لينتبه لتالين التي تخاطبه، فمنحها ابتسامة مصطنعة فقالت وهي تشير لرؤى:
_أنتي لسه عندك اطلعي يلا؟
صعدت الدرج الفاصل بينهما لتقف بالقرب منه، منحها "بدر" نظرة قاسية تحمل التقزز بين طياتها، فغادر من أمامهما قبل أن يمنحها فرصة الحديث معه، ولج للشقة المقابلة لهما وعينيها تتبعه كالظل الذي يتبع صاحبه، فما أن أغلق الباب حتى أغلقت عينيها بقوةٍ حررت تلك الدمعة الحبيسة بداخلها، وكأنها الآن تحصد نتائج ما ارتكبته بحقه، انتبه لها "يحيى" فقال وهو يتحاشى التطلع لها حتى لا يحرجها:
_ادخلي يا "رؤى".
أومأت برأسها بهدوءٍ ثم اتبعتهما للداخل، فحاولت رسم ابتسامة مصطنعة حينما هرولت" روجينا"اليها تحتضنها وهي تردد بفرحةٍ:
_وحشتيني أوي.
أجابتها بصوتٍ واهن:
_وأنتي كمان وحشتيني أوي.
جذبتها لغرفتها سريعاً ليتبادلن الحديث العالق بينهما منذ قترة، أما "تالين" فجلست جوار "حور" بسعادةٍ امتسحت معالمها شوقاً لها، فخرج "آسر" ليشير لها بابتسامة عذباء:
_حمدلله على السلامة يا "تالين".
ردت عليه ببسمةٍ رقيقة:
_الله يسلمك يا آسر، طمني عمتو عاملة أيه والبلد عاملة أيه لسه زي ما هي ولا أتغير فيها حاجة؟
ابتسم وهو يجيبها:
_عمتك يا ستي زي الفل وعشرة، أما البلد فزي ما هي متغيرش فيها كتير، وعموماً يا ستي احنا كلنا كده كده هنسافر في أجازة أخر الأسبوع البلد وأكيد أنتوا معانا.
اتسعت ابتسامتها بحماسٍ، فأشار"يحيى" لحور ثم قال:
_زمانها راجعة تعبانة، خديها يا "حور" تستريح في اوضتك.
نهضت لتجذب يدها قائلة بفرحةٍ:
_تعالي ده أنا عندي حاجات كتيرة عايزة أقولهالك.
ابتسمت "تالين" وهي تلحق بها بحماسٍ لسماع ما لديها، انتقلت نظرات "آسر" لعبد الرحمن الذي يتابعها منذ أن دخلوا سوياً، فرفع يديه أمام وجهه ليشير له ساخراً:
_عبد الهادي أنت نمت مكانك ولا أيه؟
تعالت ضحكات "يحيى" ثم تابع بقول:
_من أول ما شافها وهو مهنج كده.
ضبط معالمه وهو يردد بارتباكٍ من محاصراتهم له:
_أيه يا عم روميو أنت وهو اول مرة تشوفوا واحد شارد وحزين!
انفلتت ضحكة مرتفعة من "يحيى" فقال باستهزاءٍ:
_شارد حزين في أوجاعي ومبقولش لحد!!
وأضاف بسخريةٍ:
_يا عم فكك من الحوارات دي أنت من ساعة ما شوفت البت وأنت مش على بعضك.
ارتبك بصورةٍ ملحوظة فجذب هاتفه ليضعه بجيب بنطاله ثم أشار لهما:
_الوقت إتاخر سلام.
وغادر على الفور، فابتسم "آسر" ثم قال بضيقٍ مصطنع:
_أحرجت الراجل!
ضحك "يحيى" وهو يشير له بمرحٍ:
_هو ده بيتحرج!، ده أنت تشوفه وهو مبلم قدامها منظره مسخرة.
تعالت ضحكات "آسر" ثم قال بحزمٍ:
_طب يلا يا خفة على شقتك ميصحش وجودنا هنا لحد الوقت ده.
نهض هو الأخر ليتبعه، ومن ثم صعد للأعلى ودلف هو لشقة الشباب المقابلة لهما..
**********
صعد "يحيى" لشقته ومن ثم ولج لغرفته، خلع رابطة عنقه بضيقٍ شديد، ثم حرر أزرار قميصه الأبيض عنه، جلس على أقرب مقعد مقابل له،فهامت عينيه على الفراش، ليراها غفلة بعمقٍ، الهواء الذي يتسلل من الشرفةٍ المفتوحة يحرك خصلات شعرها الأسود ليتدلى على وجهها، إقترب "يحيى" منها والعشق يجري بأوردته كلهيب الجمر المتأجج، تهاجمه الرغبة كالوحش الشرس الذي يفتك به، ويهاجمه الأخر بقدر ما إستطاع، قرب أصابعه من خصلاتها الناعمة ليبعدها عن وجهها وهو يتأملها عن كثبٍ، تحررت أصابعه لتلامس وجهها الناعم والابتسامة ترتسم على وجهه، تخشبت يديه على وجهها حينما وجدها تضيق عينيها بانزعاجٍ، اقترب ليطبع قبلة على جبينها ثم داثرها جيداً وأغلق الشرفة جيداً ليتجه بعد ذلك لحمام غرفته عله ينعم بحمامٍ بارد تطفئ نيران الشوق لها!
***********
تخفى القمر خشية من ضوء الشمس التي إحتلت عرشها الصافي لتنتشر أشعتها الدافئة، ومن بينهما شرفة غرفته، تنعكس أشعتها على زجاجه لتمنح بضيائها التفاؤل والنشاط، وأمام تلك المرآة وقف "آسر" يصفف خصلات شعره بعدما ارتدى بذلة أنيقة من اللون البني، منحته مظهر رجولي جذاب، ثم وقف ليضع عطره المفضل ليتأمل طالته الأخيرة بنظرةٍ رضا ومن ثم انطلق للمصنع، فما أن ولج لمكتبه حتى طلب من الساعي قهوته التي يعشقها بالصباح الباكر قبل أن يدخل جوفه الطعام، ساعات وهو منهمك بالعمل على ما فاته طوال اليومين الذي انشغل بهما بالسفر للبلد، فرك جبينه بأرهاقٍ ومن ثم جذب الحاسوب لينهي ذاك الملف الشاق، دق هاتف مكتبه فرفعه وهو يردد بثباتٍ:
_أيوه يا "مصطفى".
ضيق عينيه وهو يتساءل في دهشةٍ:
_مين؟!
وبتذكر قال:
_آه صديقة" حور"، تمام دخلها.
وضغط على الازرر ليتصل هاتفياً بيحيى ثم أبلغه باستياءٍ:
_أيه كل الأخطاء دي يا يحيى ده لو عيل صغير مش هتعدي من تحت أيده، أنت عارف لو الكبير نزل في الأجازة وشاف الدنيا معكوكة كده هيولع فينا.
طب تمام مستنيك.
الحديث المتبادل بينه وبين "يحيى" أنساه عن من تجلس مقابله بعدما ولجت للداخل ورآته يتحدث بالهاتف، فجلست على المقعد المقابل له بصمتٍ، أغلق "آسر" الهاتف ومن ثم التف بمقعده المتحرك ليجد من تجلس مقابله، تلاشت الكلمات عن لسانه بتلك اللحظة، ود لو بتلك اللحظة لو تسائل من تلك؟ ، عينيها الخضراء تشكل أكبر نقاط ضعفه،عشقه للطبيعة والاراضي الخضراء يجري بدمائه، في تلك اللحظة التي تلاقت عينيه بعينيها شعر وكأن فرسه الأصيل يحمله بين جنات خضراء مرساها عينيها التي يشعر بأن اللقاء الذي يجمعهما ليس الأول!
ارتبكت "تسنيم" للحظة من تطلعه بها، ففتحت حقيبتها لتخرج منه الملف ثم وضعته امامه وهي تخبره بإرتباكٍ:
_دي السي ڤي بتاعي..
سحب نظراته المتعلقة بها، ليخطف نظرة سريعة للملف، فقال بعد صمت أطبق عليه:
_من غير ما أشوفه أنا بثق بكلام "حور" ومش عايز أكتر من أنك تكوني أمينة لأسرار المكتب وتعاملات التجار.
ابتسامتها الصغيرة تلك أينعت فؤاده، فألتاع القلب رجفة جعلته لا ينصاع الا لها، تخلى عنه الإتزان وحكمته بذاك الوقت العصيب فقال بثباتٍ مصطنع:
_أنا محتاج حد يساعدني في الحسابات ومراجعة الملفات أول بأول وكبداية هديكي ملف ترجعيه وتقدميه بكره إن شاء الله وبكده تقدري تستلمي شغلك.
اتسعت ابتسامتها وهي تردد بفرحةٍ:
_إن شاء الله.
ثم قالت بترددٍ واضح:
_أنا بس كنت عايزة أقول لحضرتك أني مش هقدر أكون موجودة لوقت متأخر عشان سكن الطالبات بتاعي بعيد عن هنا، كمان مش هقدر أكون موجودة لا الجمعة ولا السبت لأني بكون في البلد.
أومأ برأسه بتفهمٍ:
_ولا يهمك، كل اللي بتقوليه ده بالنسبالي مش صعب.
وبابتسامةٍ أشرقت وجهه الوسيم:
_تقدري تستلمي شغلك بكرة يا آنسة"تسنيم".
أجابته بفرحةٍ لحقت صوتها المتلهف:
_شكراً لحضرتك يا بشمهندس.
وأبعدت المقعد عنها ثم نهضت لتغادر فاوقفها صوته حينما نادها قائلاً بمكرٍ:
_الملف يا ريس!
تخشبت محلها حرجاً فتلك الكلمة دفعتها للتأكد بأنه كشف كنايتها، تأكدت بأنه يعلم بأنها نفسها الرجل الملثم الذي ساعده، لعقت شفتيها بتوترٍ قبل أن تستدير إليه، لتقترب منه على استحياءٍ، التقط الملف منه فقال بابتسامةٍ مهلكة:
_الحمد لله أن الأحبال الصوتية بخير ومفهاش مشكلة.
ابتسمت رغماً عنها على دعابته، ثم همت بالرحيل وهي تردد بصوتٍ شاحب عكس خجلها المميت:
_عن أذن حضرتك.
وغادرت من أمامه، كالنسمة الباردة التي ازالت حرارة الصيف بعد عناء، وتركته شارداً بها، ليهمس لذاته ساخراً:
_وبيتريق على "عبد الرحمن"!!!
************
بالصعيد وبالأخص بالسرايا.
تسللت"نادين" للمطبخ بالأكياس التي تحملها بيدها، فبحثت عن مكانٍ آمن، فجلست أسفل المنضدة لتخرج ما جلبته بفرحةٍ وسعادة، أخرجت محتويات العلبة وقبل ان تشرع بتناوله، فزعت حينما سمعت صراخ "هنية" المصدومة:
_بتعملي أيه يا بوومة!
....... يتبع....
الفصل الخامس.
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، فجاهدت لإستحضار الكلمات التي قد تكون مخرج لها من هذا المأزق، فقالت بتلعثمٍ:
_كان في محاضرات فيتاني وكنت بجبها من صاحبتي.
منحها نظرة قاسية، طوفتها من شعرها حتى أخمص قدميها، ليختمها بقوله الحازم:
_محاضرات أيه دي اللي الساعة١١، أنا مش قايلك أخىك برة الساعة ٨، ٨ونص!
بترت الكلمات عن لسانها، فمررت يدها على جبهتها في محاولةٍ بائسة للتصدي له، فقالت:
_الوقت سرقنا وإحنا بنتكلم.
هز رأسه ساخراً وهو يستمع تلك الحجة السخيفة، فاستدار تجاه الشباب وهو يتساءل بغضبٍ يتلاشى خلف حاجز ثباته:
_ويا ترى بقا أخدتي إذن حد من رجالة البيت اللي فايقين للأمانة اللي برقبتهم؟
كان سؤالاً ساخر لمن يقف خلفه، فخشى "بدر" أن تتطور الأمور للأسوء وخاصة بعد أن اشتعلت النيران بمقلتيه، فقال:
_أخدت إذني بس أنت مسألتش عشان أقولك هي فين؟
ضيق عينيه بشكٍ، جعل الأخير ينسحب من مناطحة تلك النظرات الفتاكة، قطع "آسر" المسافة بينهما ليصبح مقابله، ثم أشار له بإصبعيه بتحذيرٍ صريح:
_لو طلعت بتداري عليها غلطها يا "بدر" صدقني ردي على التصرف ده مش هيعجبك.
رد بثباتٍ مصطنع:
_أنت مكبر الموضوع ليه يا "آسر" إتاخرت بره شوية ومش هتكررها تاني عادي يعني بتحصل!
استدار "آسر" تجاهها ثم قال بتعصبٍ شديد:
_مهي مش هتتكرر تاني والا وقسماً بالله ما عادت هتعتب برة البيت ده خطوة واحدة وترجع البلد أحسنلها، "حور" أهي عمري ما جالي شكوة منها ولا شوفتها راجعة متأخر من بره!
وبحزمٍ أضاف:
_من هنا ورايح مفيش دخول ولا خروج الا بأذني أنا حتى لو كنت مسافر أو مش بالبيت سامعة؟
هزت رأسها والدموع قد تسربت على وجنتها لشعورها بالحرج الشديد أمام أبناء عمها، فولجت لغرفتها تختبئ مما حدث، ليتها تعلم أن أحياناً تلك القسوة يصطحبها خوفاً وحب حتى ولو غلفها شراسة الحديث.
لطف "يحيى" الأجواء، حينما أشار على المائدة:
_أيه يا جدعان الكلام أخدكم والأكل زمانه برد.
وجذب أحد المقاعد ليعاون "ماسة" على الجلوس ثم جلس مقابلها، أما "حور" فجلست جوارها من الناحيةٍ الأخرى لتطعمها بحنانٍ، جلس "بدر" مقابلهم ومن جواره جلس "آسر" الذي أشار لأحمد بدهشةٍ:
_ما تقعد واقف ليه؟
قال وهم بالتحرك تجاه غرفتها:
_هشوف "روجينا" وراجع.
أشار له "آسر" بتفهمٍ، فإن كان قد قسى عليها لابد من وجود من يمنحها العاطفة ويوضح لها سبب هذا الجفاء حتى لا تزداد الأمور سوءاً، وضع "يحيى" الهاتف على الطاولةٍ بضيقٍ شديد، فسأله "آسر" باستغرابٍ:
_في أيه يا ابني مالك؟
قال بضجرٍ:
_"عبد الرحمن" قالي ساعة وهجيلك عشان نطلع المطر وبقاله أكتر من ساعتين مختفي وموبيله مقفول.
قال بهدوءٍ:
_هتلاقيه في مكان مفيهوش شبكة، أو يمكن يكون بيطمن على والدته.
ثم عاتبه قائلاً:
_وبعدين أنت مكنش ينفع تطلبه في مشوار زي ده أنت مش عارف ظروف والدته وإنه مش بيتحرك من جنبها!
تعلقت نظرات "يحيى" ببدر الذي تصنع إنشغاله بتناول الطعام، فقال وهو يمضغ ما بفمه:
_بمناسبة موضوع والدته، ما تحاول يا "آسر" تقنع الكبير إنه يسمحلها تقعد بالسرايا أنت عارف ظروف شغلنا وبيضطر يسافر كتير ويسبها ومهما كان هي بالنهاية مرات عمنا ولا أيه؟
هز رأسه وهو يشير له:
_حاضر هكلمه.
منحه ابتسامة صافية، فقاطعهم الجرس الذي دق مرتين متتاليتين، فأسرع "بدر" بفتحه ليجد ابن عمه من أمامه يخبره بضيقٍ:
_أنتوا هنا وأنا قالب الدنيا عليكم فوق وتحت.
أشار له "يحيى" بالدخولٍ، قائلاً:
_حماتك بتحبك تعالى.
ولج "عبد الرحمن" للداخل وهو يردد بسخريةٍ:
_مهي طول عمرها بتحبني.
واتسعت ابتسامته حينما وجد آسر يجلس من أمامه فرفع كفيه ليصافحه بحرارةٍ مردداً:
_الدنيا بتبقى بؤس هنا من غيرك وعهد الله.
تسللت الإبتسامة على ثغره لتمنحه وسامة لا تليق سوى به:
_اركن بس جنب أخواتك وبعدين نشوف حكاية البؤس دي.
إنصاع له وجلس جوار "بدر"، ليقابل حدة نبرة"يحيى":
_أنت يالا مش قولتلي ساعة وهكون عندك الساعة بقت ١١والطايرة هتوصل ١٢ونص، هتحرك أمته!
أجابه بعدما جذب الطبق وأحد الملاعق ليبدأ بتناول طعامه:
_الا معاه ربنا ميقلقش يا عمهم، أحنا وحوش الأسفلت ساعة زمن وهتكون قدام المطار واقف وماسك يافتة عريضة مكتوب عليها ويلكم تو إيجبت.
تعالت الضحكات الرجولية فيما بينهما، ليشير لهم" آسر"بصرامةٍ مصطنعة:
_لا كلام على طعام يا سادة، إنجزوا عشان تلحقوا مشواركم.
وضعت "حور" قطع الدجاج المشوي مقابل كلا منهما، فأشار لها "عبد الرحمن" بتلذذ:
_أنا مجيش هنا وأكل حاجة من أيدك الا وتبقى خطيرة يا "حور"، بجد تسلم أيدك.
ابتسمت وهي تضع له المزيد:
_الف هنا.
رد عليه"بدر" بضجرٍ:
_إمروعوها علينا بقا معتش هتعملنا وكل خالص.
لوت شفتيها بغضبٍ، فلكزه "آسر" ثم قال بإعجابٍ:
_الأكل بيتكلم عن نفسه، إتشملل إنت ياخويا وهاتلنا طباخة فيف ستار!
تعالت ضحكات "حور" بشماتةٍ، أما "يحيى" و"عبد الرحمن"تعلقت نظراتهم الحزينة به ليلاحظ كلاً منهما تهجم معالمه الحاقدة على تذكره لما يخصها، دقائق مبسطة وانتهى "عبد الرحمن" من طعامه فأشار ليحيى بتتبعه ليغادروا سوياً للمطار.
**********
طرق "أحمد" الباب مرة تلو الأخرى قبل أن يدلف للداخل، وجدها تجلس على الفراش أمام الشرفة التي تحده، الصمت والحزن يغلفها معاً، بحث بعينيه عن أحد المقاعد ومن ثم جذبه ليجلس جوارها، تحلى بالصمت قليلاً ثم قطعه قائلاً بصوته الرخيم:
_"آسر" خايف عليكي، متزعليش منه أنتِ المفروض تاخدي بالك من مواعدك بعد كده إحنا هنا مش في بلدنا يا "روجينا" فواجب علينا نأخد بالنا من تصرفاتنا خصوصاً لو أنتوا البنات!
تجمع غضب العالم بحدقتيها فالتفتت إليه ثم قالت بإندفاعٍ:
_لو جاي تبررله اللي عمله فوفر نصايحك يا "أحمد" لإني مش شايفاها غير تسلط هو على طول مستقصدني.
منحها نظرة مطولة، قبل أن يفيض به الصمت فقال بتريثٍ:
_أنتي ليه شايفة الناس كلها كده يا "روجينا"؟
ابتسمت وهي تجيبه ساخرة:
_هما فين الناس دول، هما مش شايفين غير"حور" وتصرفاتها المثالية حتى أنت كل ما بتتكلم دا عملت كذا وكذا معرفش مدام معجب بيها أوي كده مخطبتهاش وخلصت ليه.
احتدت نظراتها الغاضبة، ليجيبها بحدةٍ وإنفعال:
_و"آسر" و"يحيى"معجبين بيها برضه!!، هي اللي بتجبر الكل يحترمها ويخدوها مثال أما أنتي فصدقيني رصيدك قرب يخلص عند الكل بسبب طريقتك وأسلوبك ده.
ونهض عن المقعد ثم كاد بالخروج، فاستوقفته حينما نادته بصوتٍ باكي:
_"أحمد".
التفت تجاهها، فاستطردت بدموعٍ غلبت صوتها الباكي:
_أنا مش وحشة كده على فكرة.
قرص أرنبة أنفه وهو يحاول التحكم في انفعالاته، ثم دنا منها من جديد، ليجلس على الفراش مرعياً مسافة أمانة بينهما، ليردد بابتسامةٍ أشرقت وجهه الرجولي:
_عارف، أنتِ جواكِ طيبة وبراءة صعب حد يكتشفها بسبب لسانك ده.
ابتسمت رغم الدموع التي تتساقط من عينيها، فاستكمل بحنانٍ:
_محدش بيكرهك يا "روجينا"، بيكروهوا تصرفاتك وهنا الفرق إنك بايدك تغيري نفسك وتكوني أحسن من"حور" نفسها.
أومأت برأسها بتفهمٍ، فمنحها ابتسامة صافية، ثم أشار لها قائلاً بمزحٍ:
_طب يلا نلحق العشا، لحسن كان في طاجن بامية باللحمة لو طلعت لقيته اتنسف هتعملي غيره.
ضحكت وهي تعقد حجابها جيداً لتخرج معه، فما أن رآها "آسر" حتى أشار لها بالجلوس لجواره، ليضع الطعام لجوارها وهو يهمس لها:
_متزعليش مني أنتي عارفة أني عصبي بس حنين.
منحته نظرة مشككة فتعالت ضحكاته، ليجذب السكين الصغير المجاور اليها، ثم أشار بتحذيرٍ:
_شايفة غير كده؟
ضحكت روجينا وهي تشير له بالنفي، فشاركها الابتسامة لتتناول طعامها بفرحةٍ وسعادة.
*********
وصل "عبد الرحمن" بزمنٍ قياسي، فولجوا للداخل بانتظارهم، مرت الدقائق سريعاً إلى أن وصلت الطائرة الخاصة بهم، نهض "يحيى" ليقف باستقبالهم، وما أن لمحهم حتى لوح بيديه ليتمكنوا من إيجاده، انتبه "عبد الرحمن" لإشارة "يحيى" فعلم بأنهم باتوا أمامه، فأنضم له، وقف مشدوهاً للحظةٍ بتلك الفاتنة التي تدفع العربة بصعوبةٍ تجاهه، ليتها ترفع عينيها عنها ليتمكن من رؤية لونها الساحر، نعم يعلم بأن بنات خال "آسر" فاتنات؛ ولكن ليس لهذا الحد، والأجمل من كل ذلك الحجاب الذي ترتديه، رفعت "تالين" عينيها السوداء لتتطلع تجاههما ويليتها ما فعلت، أصابته بسهامٍ عشق النظرة الأولى القاتل، فسلبت نبضات قلبه ببطءٍ، وكأنه يرى غائب يعرفه منذ زمن بعيد!
ابتسمت وخفق قلبه مع تلك البسمة، وكأنها تمنحه الحياة، وقفت تتبادل الحديث مع "يحيى" إلى أن أشار بيديه تجاهه، قائلاً:
_ده "عبد الرحمن" ابن خالي "فؤاد" الله يرحمه.
تلقائياً انتقلت نظراتها تجاهه، فقالت بابتسامتها الرقيقة:
_أزي حضرتك يا أستاذ "عبد الرحمن"؟
ما الذي سيتمناه أكثر من ذلك، ابتسامتها ومنادته بصوتها الرقيق، اتسعت ابتسامته وهو يتأملها شارداً، فأخفضت عينيها عنه في حرجٍ، أسرع" يحيى"إليه فهزه وهو يناديه بذهولٍ:
_"عبد الرحمن"!
انتصب بوقفته وهو يجييه بعد استعادته لإتزانه:
_أيوه.
ضحك "يحيى" ساخراً:
_أيوه أيه يا عم أنت سرحت في أيه، "تالين" بتكلمك وأنت في دنيا تانية!
تحولت نظراته إليها وهو يردد بحرجٍ:
_أنا بخير الحمد لله، حمدلله على سلامتك.
أجابته بابتسامةٍ صغيرة:
_الله يسلمك.
تساءل "يحيى" باستغرابٍ:
_هو أنتي جيتي لوحدك ولا أيه؟
أشارت له بالنفي وعينيها تبحثان عن شقيقتها الصغرى من خلفها:
_لا "رؤى" كانت ورايا!
ظهرت تلك الفتاة من أمامهما، شعرها الأصفر يتدلى على كتفيها كعباد الشمس الساطع، عينيها الزرقاء رغم جمالهما يكسوها طبقة لامعة من الدمعٍ الخارق، كانت ترتدي بنطال أسود اللون طويل وقميص وردي، دنت لتصبح قريبة منهما فأشار لهم "يحيى" تجاه باب الخروج:
_اتفضلوا، العربية بره.
كادت "تالين" بأن تدفع العربة من جديدٍ، فجذبها "عبد الرحمن" منها وهو يشير لها بابتسامةٍ هادئة:
_عنك..
وجذب العربة منها ليدفعها تجاه باب الخروج، حتى وضع الحقائب بالسيارة، ثم صعدت الفتيات بالخلف ومن ثم انطلقت السيارة للعمارة التابعة لعائلة "الدهاشنة".
********
بالصعيد وخاصة بسرايا المغازية.
كانت تجلس على المقعد القريبة من الهاتف الأراضي، تستمع بحرصٍ لوعد ابنها القاطع بقرب الانتقام من" فهد دهشان"، فقالت بلهجةٍ حملت كل معاني الحقد:
_أمته يجي اليوم اللي أشوفه فيه مزلول، ورأسه في الأرض.
استمعت لما قاله بابتسامةٍ رضا، طاف بها الشر حينما أخبرها بخطته التي ستضربه في مقتل.
ومن خلف الستار كانت هناك أعين تتلصص بمراقبة ما يحدث باستمتاعٍ، هدفه الأساسي اضرام النيران بين الطرفين فإذا خمدت كشف عن قناعه هو، لذا كان يحرص على امتداد العداء بين المغازية والدهاشنة!
********
بشقة الفتيات.
كان يتفحص "بدر" ساعة يديه بين الوقت والأخر، فأغلق الحاسوب ثم وجه حديثه لآسر المنشغل بمراجعة الحسابات:
_ما كفايا كده ونكمل بكره أفضل.
رفع عينيه عن الملف الذي يراجعه ثم قال:
_وفيها أيه لما نسهر ونخلصهم النهاردة.
وبنظراتٍ شك قال باستنكارٍ:
_وبعدين مالك كده مش على بعضك من ساعة ما قولتلك تعالى نراجع الحسابات مش طبعك يعني أنك تحب تأجل الشغل في أيه؟
إختار حجته المناسبة، ثم قال:
_مفيش بس تعبان ومحتاج أريح شوية.
منحه نظرة صلدة تعمقت داخله قبل أن يشير له بغموضٍ:
_روح نام يا "بدر".
ما أن إستمع أذنه الصريح بالمغادرة، حتى نهض سريعاً خشية من أن يرآها مجدداً، وليته تمهل قليلاً والا لما سيضع بالمواجهة الغير محببة لقلبه الجريح، فما أن فتح باب الشقة ليغادر لشقته المقابلة وجد" عبد الرحمن"و"تالين" مقابله، تلقائياً توجهت عينيه تجاه الدرج، ليلمحها وهي تصعد هائمة به، توهجت حدقتيه بترنيمةٍ يصعب تميزها، وقفت بمنتصف الدرج يدها تتعلق بالدرابزين، تتأمله بسكونٍ عجيب، فرغم سكون الأجساد وهدوئهما الا أن الأعين تتحدث بحديثٍ لا نهاية له، اشتياق ينبع من الداخل لا يقدر كلاً منهما على التصدي له أو مواجهته، فالنظرات هو الوصال بين القلب ومبتغاه، توصل ما يريد بمنتهى الشفافية، دون أن تجمله أو تنكر ما يخفق بداخله!
مرر عينيه عليها في ذهولٍ تام، وكأنه يرى فتاة أخرى لا يعرفها، وزنها الهزيل، نظراتها اللامعة بالدموع المصحوبة بسحابة مظلمة من الحزنٍ، ملابسها التي باتت محتشمة لحداً ما مما كانت ترتديه بالرغم من تحرر خصلات شعرها الأصفر من خلفها، بصعوبةٍ بالغة سحب نظراته المتعلقة بها، لينتبه لتالين التي تخاطبه، فمنحها ابتسامة مصطنعة فقالت وهي تشير لرؤى:
_أنتي لسه عندك اطلعي يلا؟
صعدت الدرج الفاصل بينهما لتقف بالقرب منه، منحها "بدر" نظرة قاسية تحمل التقزز بين طياتها، فغادر من أمامهما قبل أن يمنحها فرصة الحديث معه، ولج للشقة المقابلة لهما وعينيها تتبعه كالظل الذي يتبع صاحبه، فما أن أغلق الباب حتى أغلقت عينيها بقوةٍ حررت تلك الدمعة الحبيسة بداخلها، وكأنها الآن تحصد نتائج ما ارتكبته بحقه، انتبه لها "يحيى" فقال وهو يتحاشى التطلع لها حتى لا يحرجها:
_ادخلي يا "رؤى".
أومأت برأسها بهدوءٍ ثم اتبعتهما للداخل، فحاولت رسم ابتسامة مصطنعة حينما هرولت" روجينا"اليها تحتضنها وهي تردد بفرحةٍ:
_وحشتيني أوي.
أجابتها بصوتٍ واهن:
_وأنتي كمان وحشتيني أوي.
جذبتها لغرفتها سريعاً ليتبادلن الحديث العالق بينهما منذ قترة، أما "تالين" فجلست جوار "حور" بسعادةٍ امتسحت معالمها شوقاً لها، فخرج "آسر" ليشير لها بابتسامة عذباء:
_حمدلله على السلامة يا "تالين".
ردت عليه ببسمةٍ رقيقة:
_الله يسلمك يا آسر، طمني عمتو عاملة أيه والبلد عاملة أيه لسه زي ما هي ولا أتغير فيها حاجة؟
ابتسم وهو يجيبها:
_عمتك يا ستي زي الفل وعشرة، أما البلد فزي ما هي متغيرش فيها كتير، وعموماً يا ستي احنا كلنا كده كده هنسافر في أجازة أخر الأسبوع البلد وأكيد أنتوا معانا.
اتسعت ابتسامتها بحماسٍ، فأشار"يحيى" لحور ثم قال:
_زمانها راجعة تعبانة، خديها يا "حور" تستريح في اوضتك.
نهضت لتجذب يدها قائلة بفرحةٍ:
_تعالي ده أنا عندي حاجات كتيرة عايزة أقولهالك.
ابتسمت "تالين" وهي تلحق بها بحماسٍ لسماع ما لديها، انتقلت نظرات "آسر" لعبد الرحمن الذي يتابعها منذ أن دخلوا سوياً، فرفع يديه أمام وجهه ليشير له ساخراً:
_عبد الهادي أنت نمت مكانك ولا أيه؟
تعالت ضحكات "يحيى" ثم تابع بقول:
_من أول ما شافها وهو مهنج كده.
ضبط معالمه وهو يردد بارتباكٍ من محاصراتهم له:
_أيه يا عم روميو أنت وهو اول مرة تشوفوا واحد شارد وحزين!
انفلتت ضحكة مرتفعة من "يحيى" فقال باستهزاءٍ:
_شارد حزين في أوجاعي ومبقولش لحد!!
وأضاف بسخريةٍ:
_يا عم فكك من الحوارات دي أنت من ساعة ما شوفت البت وأنت مش على بعضك.
ارتبك بصورةٍ ملحوظة فجذب هاتفه ليضعه بجيب بنطاله ثم أشار لهما:
_الوقت إتاخر سلام.
وغادر على الفور، فابتسم "آسر" ثم قال بضيقٍ مصطنع:
_أحرجت الراجل!
ضحك "يحيى" وهو يشير له بمرحٍ:
_هو ده بيتحرج!، ده أنت تشوفه وهو مبلم قدامها منظره مسخرة.
تعالت ضحكات "آسر" ثم قال بحزمٍ:
_طب يلا يا خفة على شقتك ميصحش وجودنا هنا لحد الوقت ده.
نهض هو الأخر ليتبعه، ومن ثم صعد للأعلى ودلف هو لشقة الشباب المقابلة لهما..
**********
صعد "يحيى" لشقته ومن ثم ولج لغرفته، خلع رابطة عنقه بضيقٍ شديد، ثم حرر أزرار قميصه الأبيض عنه، جلس على أقرب مقعد مقابل له،فهامت عينيه على الفراش، ليراها غفلة بعمقٍ، الهواء الذي يتسلل من الشرفةٍ المفتوحة يحرك خصلات شعرها الأسود ليتدلى على وجهها، إقترب "يحيى" منها والعشق يجري بأوردته كلهيب الجمر المتأجج، تهاجمه الرغبة كالوحش الشرس الذي يفتك به، ويهاجمه الأخر بقدر ما إستطاع، قرب أصابعه من خصلاتها الناعمة ليبعدها عن وجهها وهو يتأملها عن كثبٍ، تحررت أصابعه لتلامس وجهها الناعم والابتسامة ترتسم على وجهه، تخشبت يديه على وجهها حينما وجدها تضيق عينيها بانزعاجٍ، اقترب ليطبع قبلة على جبينها ثم داثرها جيداً وأغلق الشرفة جيداً ليتجه بعد ذلك لحمام غرفته عله ينعم بحمامٍ بارد تطفئ نيران الشوق لها!
***********
تخفى القمر خشية من ضوء الشمس التي إحتلت عرشها الصافي لتنتشر أشعتها الدافئة، ومن بينهما شرفة غرفته، تنعكس أشعتها على زجاجه لتمنح بضيائها التفاؤل والنشاط، وأمام تلك المرآة وقف "آسر" يصفف خصلات شعره بعدما ارتدى بذلة أنيقة من اللون البني، منحته مظهر رجولي جذاب، ثم وقف ليضع عطره المفضل ليتأمل طالته الأخيرة بنظرةٍ رضا ومن ثم انطلق للمصنع، فما أن ولج لمكتبه حتى طلب من الساعي قهوته التي يعشقها بالصباح الباكر قبل أن يدخل جوفه الطعام، ساعات وهو منهمك بالعمل على ما فاته طوال اليومين الذي انشغل بهما بالسفر للبلد، فرك جبينه بأرهاقٍ ومن ثم جذب الحاسوب لينهي ذاك الملف الشاق، دق هاتف مكتبه فرفعه وهو يردد بثباتٍ:
_أيوه يا "مصطفى".
ضيق عينيه وهو يتساءل في دهشةٍ:
_مين؟!
وبتذكر قال:
_آه صديقة" حور"، تمام دخلها.
وضغط على الازرر ليتصل هاتفياً بيحيى ثم أبلغه باستياءٍ:
_أيه كل الأخطاء دي يا يحيى ده لو عيل صغير مش هتعدي من تحت أيده، أنت عارف لو الكبير نزل في الأجازة وشاف الدنيا معكوكة كده هيولع فينا.
طب تمام مستنيك.
الحديث المتبادل بينه وبين "يحيى" أنساه عن من تجلس مقابله بعدما ولجت للداخل ورآته يتحدث بالهاتف، فجلست على المقعد المقابل له بصمتٍ، أغلق "آسر" الهاتف ومن ثم التف بمقعده المتحرك ليجد من تجلس مقابله، تلاشت الكلمات عن لسانه بتلك اللحظة، ود لو بتلك اللحظة لو تسائل من تلك؟ ، عينيها الخضراء تشكل أكبر نقاط ضعفه،عشقه للطبيعة والاراضي الخضراء يجري بدمائه، في تلك اللحظة التي تلاقت عينيه بعينيها شعر وكأن فرسه الأصيل يحمله بين جنات خضراء مرساها عينيها التي يشعر بأن اللقاء الذي يجمعهما ليس الأول!
ارتبكت "تسنيم" للحظة من تطلعه بها، ففتحت حقيبتها لتخرج منه الملف ثم وضعته امامه وهي تخبره بإرتباكٍ:
_دي السي ڤي بتاعي..
سحب نظراته المتعلقة بها، ليخطف نظرة سريعة للملف، فقال بعد صمت أطبق عليه:
_من غير ما أشوفه أنا بثق بكلام "حور" ومش عايز أكتر من أنك تكوني أمينة لأسرار المكتب وتعاملات التجار.
ابتسامتها الصغيرة تلك أينعت فؤاده، فألتاع القلب رجفة جعلته لا ينصاع الا لها، تخلى عنه الإتزان وحكمته بذاك الوقت العصيب فقال بثباتٍ مصطنع:
_أنا محتاج حد يساعدني في الحسابات ومراجعة الملفات أول بأول وكبداية هديكي ملف ترجعيه وتقدميه بكره إن شاء الله وبكده تقدري تستلمي شغلك.
اتسعت ابتسامتها وهي تردد بفرحةٍ:
_إن شاء الله.
ثم قالت بترددٍ واضح:
_أنا بس كنت عايزة أقول لحضرتك أني مش هقدر أكون موجودة لوقت متأخر عشان سكن الطالبات بتاعي بعيد عن هنا، كمان مش هقدر أكون موجودة لا الجمعة ولا السبت لأني بكون في البلد.
أومأ برأسه بتفهمٍ:
_ولا يهمك، كل اللي بتقوليه ده بالنسبالي مش صعب.
وبابتسامةٍ أشرقت وجهه الوسيم:
_تقدري تستلمي شغلك بكرة يا آنسة"تسنيم".
أجابته بفرحةٍ لحقت صوتها المتلهف:
_شكراً لحضرتك يا بشمهندس.
وأبعدت المقعد عنها ثم نهضت لتغادر فاوقفها صوته حينما نادها قائلاً بمكرٍ:
_الملف يا ريس!
تخشبت محلها حرجاً فتلك الكلمة دفعتها للتأكد بأنه كشف كنايتها، تأكدت بأنه يعلم بأنها نفسها الرجل الملثم الذي ساعده، لعقت شفتيها بتوترٍ قبل أن تستدير إليه، لتقترب منه على استحياءٍ، التقط الملف منه فقال بابتسامةٍ مهلكة:
_الحمد لله أن الأحبال الصوتية بخير ومفهاش مشكلة.
ابتسمت رغماً عنها على دعابته، ثم همت بالرحيل وهي تردد بصوتٍ شاحب عكس خجلها المميت:
_عن أذن حضرتك.
وغادرت من أمامه، كالنسمة الباردة التي ازالت حرارة الصيف بعد عناء، وتركته شارداً بها، ليهمس لذاته ساخراً:
_وبيتريق على "عبد الرحمن"!!!
************
بالصعيد وبالأخص بالسرايا.
تسللت"نادين" للمطبخ بالأكياس التي تحملها بيدها، فبحثت عن مكانٍ آمن، فجلست أسفل المنضدة لتخرج ما جلبته بفرحةٍ وسعادة، أخرجت محتويات العلبة وقبل ان تشرع بتناوله، فزعت حينما سمعت صراخ "هنية" المصدومة:
_بتعملي أيه يا بوومة!
....... يتبع....
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل السادس
الدهاشنة2...(صراع السلطة والكبرياء..).
الفصل السادس..
توقف الطعام بجوفها بعدما رأت "هنية" تقف من أمامها، خرجت "نادين" وهي تحاول إخفاء علبة البيتزا، ثم قالت بضيقٍ شديد:
_في أيه يا حاجة أنتي مش بترتاحي غير لما تعمليلك مشكلة كل يوم على المسا ولا أيه؟
لوت "هنية" شفتيها في سخطٍ، ثم ردت عليها بحدةٍ:
_أنتي اللي أفعالك بتحرق الكبد والقلب والطحال، بتتسحبي على المطبخ الساعة ٢بليل كيف البقرة، وتفزعي الناس اللي نايمة وبيفكروا مين اللي داخل يسرقهم وش الصبح ده!
زفرت في سئمٍ، ثم قالت:
_ده مين المتخلف ده اللي هيسرق بيت الكبير!
ضربتها بخفةٍ بالعصا التي تستند عليها، وهي تشير لها:
_همي على أوضتك، وأما الصبح يطلع أبقي كملي وكلك.
اختل جسدها فعادت لتقف أمامها من جديدٍ، وهي تشير على الطاولةٍ:
_طب أخد العلبة طيب.
عادت لتكرر بحزمٍ:
_همي بقولك.
منحتها نظرة مغتاظة قبل أن تصعد للأعلى، فرددت "هنية" بضيقٍ:
_نسوان قليلة الحيا.
ثم كادت بمغادرة المطبخ، فتوقفت وحملت الكرتون ثم قربت قطعة من البيتزا لأنفها، تشمه باستغرابٍ، فقضمت قطعة بفمها وحينما نال استحسانها وضعته في طرف وشاحها ببهجةٍ ثم عادت لغرفتها.
**********
ارتعش بدن تلك الصغيرة التي لا يتعدى عمرها العاشرة حينما رأت باب الغرفة ينفتح، ومن ثم ظهر من خلفها خالها الذي يطرح عنه المرؤءة والنبل، ومن ثم تفحص الطريق بالخارج قبل أن يدنو من فراشها، في الغالب كانت تتصنع النوم خشية مما ستلاقاه ولكنها الآن ما أن تشعر به تنهض مفزوعة لتشير له برجاء وتوسل بالا يقترب منها، ومع ذلك كان يجذبها اليه بقوةٍ متعمداً ملامسة ممتلكاتها الأنثوية دون أي خجل منه، بكت الصغيرة وهي تتوسل له بدموعٍ:
_سبني يا خال مش عايزة ألعب النهاردة.
رفع يديه ليشير لها بقسوةٍ:
_مش بكيفك يا بت، واخرسي لو حد صحى وشافنا واحنا بنلعب هجتلك وأنتي عارفة اني مش بيهمني حد.
ابتلعت الصغيرة ريقها الجاف من فرط ارتعابها من هذا الحقير الآدمي، وهي تترجاه بأن يتركها، مثلما تفعل كل مرة ليس أمامها سوى البكاء والتوسل!
نهضت "تسنيم" مفزوعة من نومها الذي حرمت منه منذ الطفولة، لهثت بخوفٍ وهي تحاول السيطرة على رجفة جسدها المتوتر، مسحت بكف يدها قطرات العرق النابض على جبينها، ولم تجد سوى البكاء ملاذها مما تواجهه، بكت بصوتٍ مكبوت خشية من أن توقظ شريكاتها بالسكن بسبب أحلامها المزعجة كعادتها، باتت تحرج من نظراتهما إليها بسبب تلك الأحلام البغيضة، تسللت برفقٍ لتخرج للشرفة وعقلها البائس يستحضر كل ذكرى مأساوية جمعتها بهذا الشيطان الوحشي الذي نجح بأن يصنع من حولها هاجس نفسي يحتمها على الابتعاد عن أي رجل!
**********
بغرفة "بدر".
جلس على المقعد الهزاز يحركه بقسوةٍ، وكأنه في صراع ما بين استحضار تلك الذكريات المرهقة وما بين تخطيها، وكالعادة فرضت ذاتها عليه لتمنحه ذكرى هذا اليوم القاتل
##
_"رؤى" انتي واخداني على فين بس؟
ابتسمت وهي تحكم القماشة السوداء حول عينيه، ثم فتحت باب الغرفة التي تعلو السرايا، فأدخلته ثم جعلته يقف بالمنتصف، لتقف من أمامه تراقبه بتوترٍ حثها على المضي قدماً بما تفعله، فحررت فستانها الأبيض القطني ثم ألقته بعيداً وهي تحاول أن تبدو ثابتة، واقتربت منه لتحرر القماشة من حول عينيه وهي تخبره بحذر:
_هشيلها بس أوعى تفتح قبل ما أطلب منك ده.
بدى منزعجاً من تصرفاتها الغريبة، ولكنه رضخ لها بالنهاية، ابتعدت عنه لتقف مقابله على بعدٍ منه، ثم قالت:
_افتح عينك.
على مهلٍ فتح عينيه فانصدم للغاية حينما رآها تقف أمامه بقميصٍ عاري قصير، مخجل قست تعابيره وهي يصيح بها بصدمةٍ:
_أيه اللي انتي لبساه ده.
واستدار سريعاً وهو يتابع بقوله المتعصب:
_البسي فوراً.
انكمشت تعابيراتها في دهشةٍ، فاقتربت لتقف أمامه متسائلة بذهولٍ:
_أنت بتتكلم جد.
منحها نظرة معتمة وهو يصرخ بها بدهشةٍ:
_أنتي اللي جرى لعقلك حاجة!
أمسكت يديه وهي تجيبه:
_لا أنا بحبك وعايزاك أيه المشكلة!
انتشل ذراعيه منها ومن ثم انحنى ليجذب فستانها ليلقيه بوجهها صارخاً بعنفوانٍ:
_إلبسي واخرجي نتكلم بره.
وتركها وغادر الغرفة، فتابعته بنظراتٍ غير مصدقة لما يفعله، ارتدت "رؤى" فستانها ثم خرجت لتقف أمامه بغضبٍ:
_أنت بترفضني يا "بدر"، أنا اختارتك انت تكون أول راجل في حياتي وأنت رفضت ده بسهولة، بجد مش فاهمة أنت عايز مني أيه؟
صفعة قوية هوت على وجنتها جعلتها تتصلب بمحلها كالعروس المتحرك، ومن ثم لف شعرها الأصفر حول معصمه ليجذبها اليه وهو يردد ساخراً:
_أول راجل في حياتك! ، لهو أنتي عايزة تعرفي كام حد.
تلوت ألماً وهي تحاول الافلات منه، فصاح بعصبيةٍ شديدة:
_أنا مستغرب ليه من واحدة متربية بأمريكا واخدين ان كل يوم بيقضوه مع واحد شكل، كنت بحاول أقنع نفسي أن جواكي عرق شرقي مستحيل طباعهم المقززة دي هتتغلب عليه بس للاسف كنت ساذج أوي.
ودفعها بشراسةٍ فسقطت أرضاً، ليصرخ بها بجفاءٍ:
_غوري من وشي مش طايق أشوفك قدامي.
استندت بيدها حتى نهضت لتقف أمامه، فتعالت ضحكاتها بسخريةٍ:
_اللي يسمعك ممكن يصدقك، احنا عارفين انك مدورها مع أكتر من بنت اشمعنا أنا يعني!
ذبح قلبه بتلك اللحظة فود لو طاله الموت قبل أن يطوله سكينها، اقترب منها بخطواتٍ بطيئة جعلتها ترتد للخلف بخوفٍ مما سيفعله، حاصرها لتنجبر على مواجهته لتستمع لكلماته التي تحررت على لسانه:
_أنا فعلاً كنت مقضيها زي ما بتقولي بس سبت القرف ده كله لما حبيت، بقيت مش قادر أشوف حد غير اللي حبيتها واتمنيت أنها تكون مراتي على سنة الله ورسوله، ويمكن ده اللي خلاني غيور لدرجة الجنون لاني بعشقها وبكره أي عين تبصلها.
واقترب منها مجدداً فتراجعت للخلف وهي تلعق شفتيها برعبٍ، ليستكمل حديثه بسخريةٍ مؤلمة:
_الصادم في كل ده إني لما حبيت حبيتك أنتي!
وتراجع ليشير لها بقسوةٍ:
_بس من النهاردة مبقاش ليكي مكان جوايا، انتي فعلاً محتلفة عني ومينفعش نكون لبعض.
جزت على أسنانها بغيظٍ مما قال، فصرخت به:
_أنت فاكر لما تقول الكلام ده هيكسرني يعني، هسافر وهعيش حياتي وأختار الشخص اللي يناسبني أنا فعلاً كنت غبية لما إختارتك أنت.
أجابها بابتسامةٍ مصطنعة تخفي ألماً عظيم؛
_سافري وعيشي حياتك بالطريقة اللي تحبيها بس يارب متخسريش نفسك.
وتركها وكاد بالهبوط، فاستدار ليخبرها قبل أن يرحل:
_مامتك وأختك عادات الغرب وتحررهم مقصروش فيهم لكن أنتي هتخسري نفسك ألف مرة وهتتمني الموت كل لحظة لأننا عمرنا ما هنكون شبههم ولا زيهم.
وتركها وغادر بذاك اليوم الذي انتهى به قصة حبه التي مازالت توجع قلبه حتى اليوم، أفاق من ذكرياته بجرعة مكثفة من القسوةٍ والجفاء تجاهها، فنهض عن المقعد ثم تمدد على فراشه في محاولاتٍ بائسة للنوم.
*********
بشقةٍ "يحيى"
كانت متعلقة باحضانه كالصغيرة التي تلتمس أمانها المفقود، ابتسم وهو يمرر يديه على شعرها ببطءٍ ثم استند على رأسها ليغلق عينيه، فاستمع لرسالةٍ هاتفه، جذبه ليجد رسالة من "يمنى" على الواتساب، فتحها ليجد
«يحيى نسيت أبلغك أن بكره عندك مقابلة الساعة ٨ مع موزيعين المصنع»
رد عليها
«كويس إنك فكرتيني لاني كنت ناسي»
وعاد ليكتب
«على فكرة أنا مشيت النهاردة قبل نا نكمل كلامنا فإن شاء الله لما أجي لينا كلام تاني.»
ابتسامة خبيثة رسمت على وجهها فهي تعمدت ارسال رسالة له بوقتٍ كذلك حتى يفتح موضوعها من جديدٍ، فتتيح فرصة الحديث بينهما، ردت عليه بمكرٍ
«الموضوع متتهي أصلاً يا يحيى، لأن لا ماما ولا أخويا قادين يتفهموا حبي للشخص اللي بتمناه يكون جوزي.»
ضيق عينيه باستغرابٍ، وتابع بكتابة
«هو أنتي بتحبي! ، طب ما ده كويس ومبرر لعمر أخوكي على رفضك للعرسان وهو أكيد مش هيعترض على اختيارك ولا هيقف في وش سعادتك»
ردت عليه
«هيقف لاني بحب راجل متجوز يا يحيى»
قرأ رسالتها باسترابةٍ ثم رد عليها:
«الموضوع كبير بقا ومش هينفع الكلام فيه بالموبيل، بكره هنبقى نتكلم..»
وأغلق الهاتف ثم أغلق عينيه متناسياً وضع أي احتمالات تطوف من حوله!
***********
تقلب على فراشه يميناً ويساراً بانزعاجٍ، فكلما حاول النوم هاجمته تلك عينيها كالوحش الذي يضربه في مقتل، ابتسم "آسر" كلما لفحته نسمة عابرة تذكره بها، فنهض عن فراشه ليقف بشرفته، ثم أغلق عينيه بقوةٍ ليدعي تلك النسمة التي تلفح وجهه تخيم بسحابة العشق الذي نبت داخل قلبه منذ أول لقاء.
قسم القمر الساطع الشاشة بين ذاك العاشق الذي يحلم بفاتنته وبين تلك الفاتنة التي تقاسي مرارة الذكريات، ولكن ماذا لو اتحدت تلك اللقطة لتصبح جواره هل ستتقبل وجوده لجوارها بعدما مقتت الرجال بأكملهم!
*********
تلألأ قرص الشمس الساطع ليعلن استقبال يوماً جديد، هبط "آسر" بصحبة "بدر" و"يحيى" لعمله، أما "أحمد" فنهض على صوت قرع الباب وهو يجاهد آلام رأسه الذي يخلفه الضغط الذي هاجمه منذ صغر سنه، ولكن تلك المرة كان مفترساً للغاية، استند على الحائط حتى وصل لباب الشقة، ففتحه ليجد "حور" من أمامه تتساءل بلهفةٍ:
_"أحمد"، "بدر" هنا ولا نزل؟
أجابها بصوتٍ واهن وهو يتجه لأقرب مقعد ليجلس عليه بهدوءٍ:
_"بدر"نزل مع "آسر" الصبح.
ولجت خلفه حتى دنت منه فتساءلت بخوفٍ:
_أنت كويس؟
مرر يديه على جبينه وهو يجيبها بألمٍ:
_شوية صداع، أكيد الضغط عالي.
ثم أشار بيديه:
_معلشي يا "حور" هاتيلي علاجي من جوه.
أومأت برأسها عدة مرات ثم استدارت تجاه الغرف المقابلة لها، وزعت نظراتها بينهما بتشتتٍ فغير مسموح للفتيات بدخول تلك الشقة من قبل، تساءلت باستغرابٍ:
_أوضتك إنهي فيهم؟
أشار بيديه تجاه الغرفة التي تقبع بالمنتصف، أسرعت "حور" للداخل، فحاولت البحث عن أشرطة الدواء على الخزانة السوداء المجاورة للفراش ولكنها لم تعثر على شيءٍ ، أسرعت للخزانة ففتحت أدرجها، اصطدمت يدها بصندوقٍ أسود فسقطت محتوياته أرضاً دون قصد منها، جذبت الشريط الموضوع بالخزانة ثم انحنت لتلم الأغراض الملقاة أرضاً، ضيقت عينيها في صدمةٍ حقيقية حينما رأت دميتها الصغيرة ملقاة أرضاً ولجوارها أحد أرباطة الشعر الخاصة بها، لامست الأغراض ببسمةٍ تلقائية رسمت على وجهها حينما تذكرت تلك الاغراض المفقودة منها منذ خمسة عشر عاماً، انتباها سؤالاً فضولياً عن احتفاظ أحمد بمثل تلك الاشياء بخزانته الخاصة، لم يتيح لها وقتاً للتفكير، أعادت الأغراض بالصندوق ومن ثم أعادته لمحله، وهرولت سريعاً للخارج بكوب المياه، ناولته نصف حبة من الأقراص فتناولها "أحمد" بإنهاكٍ شديد، خرجت عن صمتها قائلة بقلقٍ:
_أنت حالتك مطمنش، تعالى إقعد معانا أنا والبنات لحد ما "بدر" أو "آسر" يرجع.
تفهم عدم رغبتها بالبقاء بالشقة المحظورة، فقال بابتسامة جاهد لرسمها:
_روحي انتي يا "حور" أنا كويس فعلاً.
بتصميمٍ قالت:
_لا مش هخرج غير معاك.
رضخ لعنادها، فهم بالوقوف وهو يردد باستسلامٍ:
_خلاص هجي معاكي.
التفت الحوائط من حوله، فلامسته غيمة سوداء كادت بابتلاعه، شعرت "حور" به، فأسرعت لتتمسك بيديه بعفويةٍ وهي تصرخ بهلعٍ:
_"أحمـــد"
رفع رأسه تجاهها فتنقلت نظراته بين عينيها التي تحدقات به بلهفةٍ،وبين يدها المتمسكة به، أخفضت نظراتها ليديه فلمعت دبلتها الفضية بين يدها وكأنها شعلة لدغتها لتذكرها بمن تكون؟
تباعدت عنه بحرجٍ ثم قالت بترددٍ:
_لو مش قادر تقف خليك وأنا انزل أجبلك دكتور.
مضى بطريقه حتى خرج من الشقة وهو يخبرها:
_ أنا واخد على كده، متقلقيش شوية وهبقى زي الفل.
خرجت خلفه ومن ثم اغلقت الباب، فولج معها لداخل الشقة، تمدد على الأريكة القريبة من الباب، فقالت وهي تسرع تجاه المطبخ:
_هعملك حاجة تنزلك الضغط.
في تلك اللحظة خرجت "روجينا" من غرفتها، فانعقدت ملامحها حينما رأته يجلس بالخارج بتعبٍ بدى على معالمه، فاقتربت منه ثم تساءلت باستغرابٍ:
_مالك يا "أحمد"؟
فتح عينيه على مهلٍ، ثم قال:
_تعبان شوية..
أتت"حور" بما تحمله بين يدها ثم اقتربت منه لتشير له:
_اشرب العصير ده هينزل الضغط على طول بإذن الله.
حملت"روجينا"حقيبتها دون مبالاة به، وهي تردد بآلية تامة:
_طيب ألحق أروح لآسر قبل ما أنزل الجامعة بس يارب يوافق على الرحلة دي.
وجهت حديثها لحور التي قالت بجفاءٍ:
_برضه مصممة انتي حرة.
لم تمهلها للخوض أكثر بالحديث فرحلت على الفور مخلفة ورائها ألف سؤال يهاجم أحمد الذي يتأمل لفراغها تارة ولمن تعتني به تارة أخرى، اعتاد على جفائها بالتعامل معه فكان يظن ببدأ الأمر بأنها غير بارعة في التعبير عما تشعر به ولكن الآن بات على علم بأنها لا تكن الحب له!
*********
توقف المصعد أمام الطابق الخاص بمكتبه، فاتجهت "تسنيم" إليه لتطرق عدة طرقات وحينما استمعت لإذن الدخول ولجت على الفور، وكأن برؤياها تشق البسمة طريقها عبر وجهه، فإبتسم فور رؤياها، بارتباكٍ شديد اقتربت من المقعد لتجلس ببطءٍ مقابله، ومن ثم أخرجت الملف من حقيبتها لتضعه مقابله قائلة بخجلٍ:
_الملف اللي حضرتك طلبت مني أراجعه.
فتح "آسر" الملف ليراجعه جيداً باعجابٍ شديد، فقال بانبهارٍ:
_ما شاء الله بجد حاجة عشرة على عشرة.
أجلت أحبالها الصوتية بصعوبةٍ وهي تجيبه:
_شكراً لحضرتك.
ثم تساءلت بترددٍ:
_اقدر استلم الشغل أمته؟
أجابها بترحابٍ:
_من دلوقتي لو تحبي..
أومأت برأسها بهدوءٍ، فرفع سماعة هاتفه ومن بعدها ولج السكرتير الخاص به، فأشار عليها باحترامٍ:
_خد الآنسة "تسنيم" ووريها مكتبها.
نهضت عن المقعد ثم غادرت من خلف السكرتير، فتابعتها عينيها حتى لحظة خروجها، كاد السكرتير بإغلاق المكتب فتركه حينما وجد "بدر" يدنو منه، فولج هو الأخر للداخل ثم تمدد على المقعدين المقابلين له، مشيراً بتعبٍ:
_الشحنات اتبعتت وكله تمام.
أجابه "آسر" بهدوءٍ:
_كويس.
ثم سأله باستغرابٍ:
_أمال فين "أحمد"؟
رد عليه في دهشةٍ:
_هو لسه مجاش!
أشار له بالنفي، فاستطرد باستغرابٍ:
_أنا افتكرته نزل بعدي على طول، عموماً شوية وهكلمه أشوفه فين.
هز الأخير رأسه ثم استكمل عمله على الحاسوب، لينتيه لدقات الباب من جديدٍ، فهمس بذهولٍ:
_" روجينا"، أيه اللي جابك هنا؟
جلست على المقعد المقابل لبدر ثم قالت بإرتباكٍ ملحوظ:
_أنا كنت جاية عشان أطلب منك طلب وبتمنى أنك متخذلنيش يا "آسر".
سألها في اهتمامٍ:
_طلب أيه ده؟
قالت بترددٍ وعينيها تترجاه بالا ينفعل:.
_كان في رحلة بالجامعة للاسكندرية ونفسي أطلعها مع أصحابي.
عبث بحدقتيه:
_رحلة أيه دي اللي عايزة تطلعيها لوحدك!
نهضت عن مقعدها ثم أسرعت لتقترب منه وهي تشير له بتوسل:
_مش هطلع لوحدي هشوف"حور" معايا، بالله عليك توافق يا "آسر" نفسي أغير جو وهما كلهم أربع أيام.
أجابها بحزمٍ:
_حتى لو "حور" جيت معاكي مينفعش تسافروا لوحدكم انتوا الاتنين.
في تلك اللحظة، لمع عقله فبداخله يتمنى عدم رؤيتها طوال تلك المدة التي ستمكثها بداخل منزله لذا لن يقدم له القدر مثل تلك الفرصة التي ستبعده عنها وعن رؤيتها، لذا تدخل بالحديث المتبادل فيما بينهما قائلاً:
_خلاص يا "آسر" أنا هطلع معاهم.
ضيق عينيه بذهولٍ أما "روجينا" فأسرعت إليه مرددة بفرحةٍ:
_ربنا ما يحرمني منك يا بدر والله طول عمري بقول عليك حنين.
ابتسم وهو يخبرها بسخريةٍ:
_خلاص قربت أصدق فشرك.
ثم قال بجديةٍ:
_احجزي التذاكر وأنا معاكي.
حملت حقيبتها ثم غادرت والايتسامة تكاد تصل من الأذن للأذن.
************
بمكتب "يحيى"
بدأت تلك الأفعى ببخ سمها تدريجياً، فتركت له رسالة مدونة على ورقة حرصت بأن تضعها في الملفات المقدمة إليه، وابتسامة المكر ترسم على شفتيها، راقبته بخبثٍ حتى صار الملف من أمامه فتسللت هاربة لتنفيذ الجزء الثاني من مخططاتها.
*********
أما بمكتب "أيان المغازي"
فتح درج خزانته ثم أخرج مبلغ ضخماً من المال ليلقيه بوجهها وبسمة الشر تلمع على وجهه:
_نفذي اللي طلبته منك بالحرف، وسيبي الباقي للقذر اللي هينفذ عملته!
........ يتبع......
الفصل السادس..
توقف الطعام بجوفها بعدما رأت "هنية" تقف من أمامها، خرجت "نادين" وهي تحاول إخفاء علبة البيتزا، ثم قالت بضيقٍ شديد:
_في أيه يا حاجة أنتي مش بترتاحي غير لما تعمليلك مشكلة كل يوم على المسا ولا أيه؟
لوت "هنية" شفتيها في سخطٍ، ثم ردت عليها بحدةٍ:
_أنتي اللي أفعالك بتحرق الكبد والقلب والطحال، بتتسحبي على المطبخ الساعة ٢بليل كيف البقرة، وتفزعي الناس اللي نايمة وبيفكروا مين اللي داخل يسرقهم وش الصبح ده!
زفرت في سئمٍ، ثم قالت:
_ده مين المتخلف ده اللي هيسرق بيت الكبير!
ضربتها بخفةٍ بالعصا التي تستند عليها، وهي تشير لها:
_همي على أوضتك، وأما الصبح يطلع أبقي كملي وكلك.
اختل جسدها فعادت لتقف أمامها من جديدٍ، وهي تشير على الطاولةٍ:
_طب أخد العلبة طيب.
عادت لتكرر بحزمٍ:
_همي بقولك.
منحتها نظرة مغتاظة قبل أن تصعد للأعلى، فرددت "هنية" بضيقٍ:
_نسوان قليلة الحيا.
ثم كادت بمغادرة المطبخ، فتوقفت وحملت الكرتون ثم قربت قطعة من البيتزا لأنفها، تشمه باستغرابٍ، فقضمت قطعة بفمها وحينما نال استحسانها وضعته في طرف وشاحها ببهجةٍ ثم عادت لغرفتها.
**********
ارتعش بدن تلك الصغيرة التي لا يتعدى عمرها العاشرة حينما رأت باب الغرفة ينفتح، ومن ثم ظهر من خلفها خالها الذي يطرح عنه المرؤءة والنبل، ومن ثم تفحص الطريق بالخارج قبل أن يدنو من فراشها، في الغالب كانت تتصنع النوم خشية مما ستلاقاه ولكنها الآن ما أن تشعر به تنهض مفزوعة لتشير له برجاء وتوسل بالا يقترب منها، ومع ذلك كان يجذبها اليه بقوةٍ متعمداً ملامسة ممتلكاتها الأنثوية دون أي خجل منه، بكت الصغيرة وهي تتوسل له بدموعٍ:
_سبني يا خال مش عايزة ألعب النهاردة.
رفع يديه ليشير لها بقسوةٍ:
_مش بكيفك يا بت، واخرسي لو حد صحى وشافنا واحنا بنلعب هجتلك وأنتي عارفة اني مش بيهمني حد.
ابتلعت الصغيرة ريقها الجاف من فرط ارتعابها من هذا الحقير الآدمي، وهي تترجاه بأن يتركها، مثلما تفعل كل مرة ليس أمامها سوى البكاء والتوسل!
نهضت "تسنيم" مفزوعة من نومها الذي حرمت منه منذ الطفولة، لهثت بخوفٍ وهي تحاول السيطرة على رجفة جسدها المتوتر، مسحت بكف يدها قطرات العرق النابض على جبينها، ولم تجد سوى البكاء ملاذها مما تواجهه، بكت بصوتٍ مكبوت خشية من أن توقظ شريكاتها بالسكن بسبب أحلامها المزعجة كعادتها، باتت تحرج من نظراتهما إليها بسبب تلك الأحلام البغيضة، تسللت برفقٍ لتخرج للشرفة وعقلها البائس يستحضر كل ذكرى مأساوية جمعتها بهذا الشيطان الوحشي الذي نجح بأن يصنع من حولها هاجس نفسي يحتمها على الابتعاد عن أي رجل!
**********
بغرفة "بدر".
جلس على المقعد الهزاز يحركه بقسوةٍ، وكأنه في صراع ما بين استحضار تلك الذكريات المرهقة وما بين تخطيها، وكالعادة فرضت ذاتها عليه لتمنحه ذكرى هذا اليوم القاتل
##
_"رؤى" انتي واخداني على فين بس؟
ابتسمت وهي تحكم القماشة السوداء حول عينيه، ثم فتحت باب الغرفة التي تعلو السرايا، فأدخلته ثم جعلته يقف بالمنتصف، لتقف من أمامه تراقبه بتوترٍ حثها على المضي قدماً بما تفعله، فحررت فستانها الأبيض القطني ثم ألقته بعيداً وهي تحاول أن تبدو ثابتة، واقتربت منه لتحرر القماشة من حول عينيه وهي تخبره بحذر:
_هشيلها بس أوعى تفتح قبل ما أطلب منك ده.
بدى منزعجاً من تصرفاتها الغريبة، ولكنه رضخ لها بالنهاية، ابتعدت عنه لتقف مقابله على بعدٍ منه، ثم قالت:
_افتح عينك.
على مهلٍ فتح عينيه فانصدم للغاية حينما رآها تقف أمامه بقميصٍ عاري قصير، مخجل قست تعابيره وهي يصيح بها بصدمةٍ:
_أيه اللي انتي لبساه ده.
واستدار سريعاً وهو يتابع بقوله المتعصب:
_البسي فوراً.
انكمشت تعابيراتها في دهشةٍ، فاقتربت لتقف أمامه متسائلة بذهولٍ:
_أنت بتتكلم جد.
منحها نظرة معتمة وهو يصرخ بها بدهشةٍ:
_أنتي اللي جرى لعقلك حاجة!
أمسكت يديه وهي تجيبه:
_لا أنا بحبك وعايزاك أيه المشكلة!
انتشل ذراعيه منها ومن ثم انحنى ليجذب فستانها ليلقيه بوجهها صارخاً بعنفوانٍ:
_إلبسي واخرجي نتكلم بره.
وتركها وغادر الغرفة، فتابعته بنظراتٍ غير مصدقة لما يفعله، ارتدت "رؤى" فستانها ثم خرجت لتقف أمامه بغضبٍ:
_أنت بترفضني يا "بدر"، أنا اختارتك انت تكون أول راجل في حياتي وأنت رفضت ده بسهولة، بجد مش فاهمة أنت عايز مني أيه؟
صفعة قوية هوت على وجنتها جعلتها تتصلب بمحلها كالعروس المتحرك، ومن ثم لف شعرها الأصفر حول معصمه ليجذبها اليه وهو يردد ساخراً:
_أول راجل في حياتك! ، لهو أنتي عايزة تعرفي كام حد.
تلوت ألماً وهي تحاول الافلات منه، فصاح بعصبيةٍ شديدة:
_أنا مستغرب ليه من واحدة متربية بأمريكا واخدين ان كل يوم بيقضوه مع واحد شكل، كنت بحاول أقنع نفسي أن جواكي عرق شرقي مستحيل طباعهم المقززة دي هتتغلب عليه بس للاسف كنت ساذج أوي.
ودفعها بشراسةٍ فسقطت أرضاً، ليصرخ بها بجفاءٍ:
_غوري من وشي مش طايق أشوفك قدامي.
استندت بيدها حتى نهضت لتقف أمامه، فتعالت ضحكاتها بسخريةٍ:
_اللي يسمعك ممكن يصدقك، احنا عارفين انك مدورها مع أكتر من بنت اشمعنا أنا يعني!
ذبح قلبه بتلك اللحظة فود لو طاله الموت قبل أن يطوله سكينها، اقترب منها بخطواتٍ بطيئة جعلتها ترتد للخلف بخوفٍ مما سيفعله، حاصرها لتنجبر على مواجهته لتستمع لكلماته التي تحررت على لسانه:
_أنا فعلاً كنت مقضيها زي ما بتقولي بس سبت القرف ده كله لما حبيت، بقيت مش قادر أشوف حد غير اللي حبيتها واتمنيت أنها تكون مراتي على سنة الله ورسوله، ويمكن ده اللي خلاني غيور لدرجة الجنون لاني بعشقها وبكره أي عين تبصلها.
واقترب منها مجدداً فتراجعت للخلف وهي تلعق شفتيها برعبٍ، ليستكمل حديثه بسخريةٍ مؤلمة:
_الصادم في كل ده إني لما حبيت حبيتك أنتي!
وتراجع ليشير لها بقسوةٍ:
_بس من النهاردة مبقاش ليكي مكان جوايا، انتي فعلاً محتلفة عني ومينفعش نكون لبعض.
جزت على أسنانها بغيظٍ مما قال، فصرخت به:
_أنت فاكر لما تقول الكلام ده هيكسرني يعني، هسافر وهعيش حياتي وأختار الشخص اللي يناسبني أنا فعلاً كنت غبية لما إختارتك أنت.
أجابها بابتسامةٍ مصطنعة تخفي ألماً عظيم؛
_سافري وعيشي حياتك بالطريقة اللي تحبيها بس يارب متخسريش نفسك.
وتركها وكاد بالهبوط، فاستدار ليخبرها قبل أن يرحل:
_مامتك وأختك عادات الغرب وتحررهم مقصروش فيهم لكن أنتي هتخسري نفسك ألف مرة وهتتمني الموت كل لحظة لأننا عمرنا ما هنكون شبههم ولا زيهم.
وتركها وغادر بذاك اليوم الذي انتهى به قصة حبه التي مازالت توجع قلبه حتى اليوم، أفاق من ذكرياته بجرعة مكثفة من القسوةٍ والجفاء تجاهها، فنهض عن المقعد ثم تمدد على فراشه في محاولاتٍ بائسة للنوم.
*********
بشقةٍ "يحيى"
كانت متعلقة باحضانه كالصغيرة التي تلتمس أمانها المفقود، ابتسم وهو يمرر يديه على شعرها ببطءٍ ثم استند على رأسها ليغلق عينيه، فاستمع لرسالةٍ هاتفه، جذبه ليجد رسالة من "يمنى" على الواتساب، فتحها ليجد
«يحيى نسيت أبلغك أن بكره عندك مقابلة الساعة ٨ مع موزيعين المصنع»
رد عليها
«كويس إنك فكرتيني لاني كنت ناسي»
وعاد ليكتب
«على فكرة أنا مشيت النهاردة قبل نا نكمل كلامنا فإن شاء الله لما أجي لينا كلام تاني.»
ابتسامة خبيثة رسمت على وجهها فهي تعمدت ارسال رسالة له بوقتٍ كذلك حتى يفتح موضوعها من جديدٍ، فتتيح فرصة الحديث بينهما، ردت عليه بمكرٍ
«الموضوع متتهي أصلاً يا يحيى، لأن لا ماما ولا أخويا قادين يتفهموا حبي للشخص اللي بتمناه يكون جوزي.»
ضيق عينيه باستغرابٍ، وتابع بكتابة
«هو أنتي بتحبي! ، طب ما ده كويس ومبرر لعمر أخوكي على رفضك للعرسان وهو أكيد مش هيعترض على اختيارك ولا هيقف في وش سعادتك»
ردت عليه
«هيقف لاني بحب راجل متجوز يا يحيى»
قرأ رسالتها باسترابةٍ ثم رد عليها:
«الموضوع كبير بقا ومش هينفع الكلام فيه بالموبيل، بكره هنبقى نتكلم..»
وأغلق الهاتف ثم أغلق عينيه متناسياً وضع أي احتمالات تطوف من حوله!
***********
تقلب على فراشه يميناً ويساراً بانزعاجٍ، فكلما حاول النوم هاجمته تلك عينيها كالوحش الذي يضربه في مقتل، ابتسم "آسر" كلما لفحته نسمة عابرة تذكره بها، فنهض عن فراشه ليقف بشرفته، ثم أغلق عينيه بقوةٍ ليدعي تلك النسمة التي تلفح وجهه تخيم بسحابة العشق الذي نبت داخل قلبه منذ أول لقاء.
قسم القمر الساطع الشاشة بين ذاك العاشق الذي يحلم بفاتنته وبين تلك الفاتنة التي تقاسي مرارة الذكريات، ولكن ماذا لو اتحدت تلك اللقطة لتصبح جواره هل ستتقبل وجوده لجوارها بعدما مقتت الرجال بأكملهم!
*********
تلألأ قرص الشمس الساطع ليعلن استقبال يوماً جديد، هبط "آسر" بصحبة "بدر" و"يحيى" لعمله، أما "أحمد" فنهض على صوت قرع الباب وهو يجاهد آلام رأسه الذي يخلفه الضغط الذي هاجمه منذ صغر سنه، ولكن تلك المرة كان مفترساً للغاية، استند على الحائط حتى وصل لباب الشقة، ففتحه ليجد "حور" من أمامه تتساءل بلهفةٍ:
_"أحمد"، "بدر" هنا ولا نزل؟
أجابها بصوتٍ واهن وهو يتجه لأقرب مقعد ليجلس عليه بهدوءٍ:
_"بدر"نزل مع "آسر" الصبح.
ولجت خلفه حتى دنت منه فتساءلت بخوفٍ:
_أنت كويس؟
مرر يديه على جبينه وهو يجيبها بألمٍ:
_شوية صداع، أكيد الضغط عالي.
ثم أشار بيديه:
_معلشي يا "حور" هاتيلي علاجي من جوه.
أومأت برأسها عدة مرات ثم استدارت تجاه الغرف المقابلة لها، وزعت نظراتها بينهما بتشتتٍ فغير مسموح للفتيات بدخول تلك الشقة من قبل، تساءلت باستغرابٍ:
_أوضتك إنهي فيهم؟
أشار بيديه تجاه الغرفة التي تقبع بالمنتصف، أسرعت "حور" للداخل، فحاولت البحث عن أشرطة الدواء على الخزانة السوداء المجاورة للفراش ولكنها لم تعثر على شيءٍ ، أسرعت للخزانة ففتحت أدرجها، اصطدمت يدها بصندوقٍ أسود فسقطت محتوياته أرضاً دون قصد منها، جذبت الشريط الموضوع بالخزانة ثم انحنت لتلم الأغراض الملقاة أرضاً، ضيقت عينيها في صدمةٍ حقيقية حينما رأت دميتها الصغيرة ملقاة أرضاً ولجوارها أحد أرباطة الشعر الخاصة بها، لامست الأغراض ببسمةٍ تلقائية رسمت على وجهها حينما تذكرت تلك الاغراض المفقودة منها منذ خمسة عشر عاماً، انتباها سؤالاً فضولياً عن احتفاظ أحمد بمثل تلك الاشياء بخزانته الخاصة، لم يتيح لها وقتاً للتفكير، أعادت الأغراض بالصندوق ومن ثم أعادته لمحله، وهرولت سريعاً للخارج بكوب المياه، ناولته نصف حبة من الأقراص فتناولها "أحمد" بإنهاكٍ شديد، خرجت عن صمتها قائلة بقلقٍ:
_أنت حالتك مطمنش، تعالى إقعد معانا أنا والبنات لحد ما "بدر" أو "آسر" يرجع.
تفهم عدم رغبتها بالبقاء بالشقة المحظورة، فقال بابتسامة جاهد لرسمها:
_روحي انتي يا "حور" أنا كويس فعلاً.
بتصميمٍ قالت:
_لا مش هخرج غير معاك.
رضخ لعنادها، فهم بالوقوف وهو يردد باستسلامٍ:
_خلاص هجي معاكي.
التفت الحوائط من حوله، فلامسته غيمة سوداء كادت بابتلاعه، شعرت "حور" به، فأسرعت لتتمسك بيديه بعفويةٍ وهي تصرخ بهلعٍ:
_"أحمـــد"
رفع رأسه تجاهها فتنقلت نظراته بين عينيها التي تحدقات به بلهفةٍ،وبين يدها المتمسكة به، أخفضت نظراتها ليديه فلمعت دبلتها الفضية بين يدها وكأنها شعلة لدغتها لتذكرها بمن تكون؟
تباعدت عنه بحرجٍ ثم قالت بترددٍ:
_لو مش قادر تقف خليك وأنا انزل أجبلك دكتور.
مضى بطريقه حتى خرج من الشقة وهو يخبرها:
_ أنا واخد على كده، متقلقيش شوية وهبقى زي الفل.
خرجت خلفه ومن ثم اغلقت الباب، فولج معها لداخل الشقة، تمدد على الأريكة القريبة من الباب، فقالت وهي تسرع تجاه المطبخ:
_هعملك حاجة تنزلك الضغط.
في تلك اللحظة خرجت "روجينا" من غرفتها، فانعقدت ملامحها حينما رأته يجلس بالخارج بتعبٍ بدى على معالمه، فاقتربت منه ثم تساءلت باستغرابٍ:
_مالك يا "أحمد"؟
فتح عينيه على مهلٍ، ثم قال:
_تعبان شوية..
أتت"حور" بما تحمله بين يدها ثم اقتربت منه لتشير له:
_اشرب العصير ده هينزل الضغط على طول بإذن الله.
حملت"روجينا"حقيبتها دون مبالاة به، وهي تردد بآلية تامة:
_طيب ألحق أروح لآسر قبل ما أنزل الجامعة بس يارب يوافق على الرحلة دي.
وجهت حديثها لحور التي قالت بجفاءٍ:
_برضه مصممة انتي حرة.
لم تمهلها للخوض أكثر بالحديث فرحلت على الفور مخلفة ورائها ألف سؤال يهاجم أحمد الذي يتأمل لفراغها تارة ولمن تعتني به تارة أخرى، اعتاد على جفائها بالتعامل معه فكان يظن ببدأ الأمر بأنها غير بارعة في التعبير عما تشعر به ولكن الآن بات على علم بأنها لا تكن الحب له!
*********
توقف المصعد أمام الطابق الخاص بمكتبه، فاتجهت "تسنيم" إليه لتطرق عدة طرقات وحينما استمعت لإذن الدخول ولجت على الفور، وكأن برؤياها تشق البسمة طريقها عبر وجهه، فإبتسم فور رؤياها، بارتباكٍ شديد اقتربت من المقعد لتجلس ببطءٍ مقابله، ومن ثم أخرجت الملف من حقيبتها لتضعه مقابله قائلة بخجلٍ:
_الملف اللي حضرتك طلبت مني أراجعه.
فتح "آسر" الملف ليراجعه جيداً باعجابٍ شديد، فقال بانبهارٍ:
_ما شاء الله بجد حاجة عشرة على عشرة.
أجلت أحبالها الصوتية بصعوبةٍ وهي تجيبه:
_شكراً لحضرتك.
ثم تساءلت بترددٍ:
_اقدر استلم الشغل أمته؟
أجابها بترحابٍ:
_من دلوقتي لو تحبي..
أومأت برأسها بهدوءٍ، فرفع سماعة هاتفه ومن بعدها ولج السكرتير الخاص به، فأشار عليها باحترامٍ:
_خد الآنسة "تسنيم" ووريها مكتبها.
نهضت عن المقعد ثم غادرت من خلف السكرتير، فتابعتها عينيها حتى لحظة خروجها، كاد السكرتير بإغلاق المكتب فتركه حينما وجد "بدر" يدنو منه، فولج هو الأخر للداخل ثم تمدد على المقعدين المقابلين له، مشيراً بتعبٍ:
_الشحنات اتبعتت وكله تمام.
أجابه "آسر" بهدوءٍ:
_كويس.
ثم سأله باستغرابٍ:
_أمال فين "أحمد"؟
رد عليه في دهشةٍ:
_هو لسه مجاش!
أشار له بالنفي، فاستطرد باستغرابٍ:
_أنا افتكرته نزل بعدي على طول، عموماً شوية وهكلمه أشوفه فين.
هز الأخير رأسه ثم استكمل عمله على الحاسوب، لينتيه لدقات الباب من جديدٍ، فهمس بذهولٍ:
_" روجينا"، أيه اللي جابك هنا؟
جلست على المقعد المقابل لبدر ثم قالت بإرتباكٍ ملحوظ:
_أنا كنت جاية عشان أطلب منك طلب وبتمنى أنك متخذلنيش يا "آسر".
سألها في اهتمامٍ:
_طلب أيه ده؟
قالت بترددٍ وعينيها تترجاه بالا ينفعل:.
_كان في رحلة بالجامعة للاسكندرية ونفسي أطلعها مع أصحابي.
عبث بحدقتيه:
_رحلة أيه دي اللي عايزة تطلعيها لوحدك!
نهضت عن مقعدها ثم أسرعت لتقترب منه وهي تشير له بتوسل:
_مش هطلع لوحدي هشوف"حور" معايا، بالله عليك توافق يا "آسر" نفسي أغير جو وهما كلهم أربع أيام.
أجابها بحزمٍ:
_حتى لو "حور" جيت معاكي مينفعش تسافروا لوحدكم انتوا الاتنين.
في تلك اللحظة، لمع عقله فبداخله يتمنى عدم رؤيتها طوال تلك المدة التي ستمكثها بداخل منزله لذا لن يقدم له القدر مثل تلك الفرصة التي ستبعده عنها وعن رؤيتها، لذا تدخل بالحديث المتبادل فيما بينهما قائلاً:
_خلاص يا "آسر" أنا هطلع معاهم.
ضيق عينيه بذهولٍ أما "روجينا" فأسرعت إليه مرددة بفرحةٍ:
_ربنا ما يحرمني منك يا بدر والله طول عمري بقول عليك حنين.
ابتسم وهو يخبرها بسخريةٍ:
_خلاص قربت أصدق فشرك.
ثم قال بجديةٍ:
_احجزي التذاكر وأنا معاكي.
حملت حقيبتها ثم غادرت والايتسامة تكاد تصل من الأذن للأذن.
************
بمكتب "يحيى"
بدأت تلك الأفعى ببخ سمها تدريجياً، فتركت له رسالة مدونة على ورقة حرصت بأن تضعها في الملفات المقدمة إليه، وابتسامة المكر ترسم على شفتيها، راقبته بخبثٍ حتى صار الملف من أمامه فتسللت هاربة لتنفيذ الجزء الثاني من مخططاتها.
*********
أما بمكتب "أيان المغازي"
فتح درج خزانته ثم أخرج مبلغ ضخماً من المال ليلقيه بوجهها وبسمة الشر تلمع على وجهه:
_نفذي اللي طلبته منك بالحرف، وسيبي الباقي للقذر اللي هينفذ عملته!
........ يتبع......
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل السابع
الدهاشنه2...(صراع_السلطة_والكبرياء..)..
الفصل_السابع..
(إهداء الفصل للجميلة ليالي العمر )
انهمكت "تسنيم" بالعمل حتى لم تهتم لهاتفها الذي يصدح رنينه أكثر من مرةٍ، إنتهت من مراجعة الحسابات بدقةٍ عالية ثم اتجهت لمكتب "آسر"، فولجت فور سماع إذن الدخول، وضعته من أمامه قائلة بعمليةٍ:
_أنا رجعت الملف ده وكل حاجة فيه تمام.
ترك"آسر" الحاسوب ثم إعتدل بجلسته ليلقي نظرة متفحصة عليه، فهز رأسه بإعجابٍ:
_لا بجد برافو.
ثم رفع عينيه لها وهو يستكمل مدحه بما قدمته:
_عارفة مفيش محاسب بيأخد الوقت القصير ده بمراجعة الحسابات هنا حتى "أحمد" نفسه!
ابتسمت بفرحةٍ:
_إن شاء الله أكون عند حسن الظن.
تعمقت عينيه بها، وكأنه يحاول محاربتها حينما ترغب بالتطلع لعينيها الخضراء، فهمس بصوتٍ خافت:
_هتكوني.
ارتبكت بوقفتها، فقالت بتوترٍ:
_أنا خلصت شغلي والساعة بقت ٨،بستأذن حضرتك أمشي.
أومأ برأسه بتفهمٍ:
_تمام بس خدي بالك الاسانسير اللي على اللمين عطلان لو حبيتي تركبي إركبي اللي قدام مكتب "بدر" و"يحيى".
أومأت برأسها عدة مرات في توترٍ لتهرب من نظراته الفاتنة،فحملت حقيبتها ثم خرجت مسرعة وحينما ابتعدت عن مكتبه وقفت تستجمع شتاتها، فهدأ تنفسها قليلاً، ابتسمت رغماً عنها وهي تهمس بخفوتٍ:
_أنا أكيد اتجننت ، واحد وبيشكر في شغلي ليه يحصلي كده!
وهزت رأسها بيأسٍ من تغيرها ثم استكملت طريقها حتى وقفت أمام المصعد، فرددت بحيرةٍ:
_هو كان بيقول على الاسانسير إنهو!
لوت شفتيها بضيقٍ من خجلها الذي منعها من التركيز بما قاله، فكادت بالعودة لسؤاله من جديدٍ، ولكن خجلها وخوفها من أن يزورها الارتباك بحضوره يسيطر عليها مجدداً، لذا ولجت للمصعد الأيمن وهي تردد في ثقة:
_ده الاسانسير اللي طلعت فيه الصبح يبقى هو اللي شغال.
وتوجهت للداخل ثم أغلقت الباب الحديدي ومن ثم أغلقت الباب الخشبي القديم لتضغط على زر الطابق الأرضي، فتحرك بها المصعد حركة بطيئة ثم توقف محله، فباتت معلقة بين الطابق الثالث والرابع الذي يحوي مكتب "آسر" والشباب!
*********
صدمت مما استمعت إليه فتساءلت بدهشةٍ:
_يعني أيه؟!
أجابتها "حور" بسخريةٍ:
_يعني مش هقدر أجي معاكِ، بقولك عندي امتحان الاسبوع الجاي بدل ما أقعد أذاكر أسافر رحلة!
جلست "روجينا" على الفراش بصدمةٍ ثم أخذت تردد بحزنٍ:
_يعني بعد ما "آسر" يوافق أنتي اللي تكوني العقبة؟
اقتربت منها ثم قالت بحنوٍ:
_طب وأنا ذنبي أيه بس يا "روجينا"، والله الاسبوع الجاي عندي أربع إمتحانات.
لمعت دموعها بعينيها، فاقترحت عليها"حور":
_طب أقولك ما تأخدي"رؤى" أو"تالين" معاكِ وأهو يغيروا جو.
تحول حزنها لسعادة، فنهضت عن الفراش لتقبلها وهي تخبرها بفرحةٍ:
_أنتي صح، تاهت عني فين دي "رؤى" أكيد مش هتقولي حاجة بالعكس هتفرح جداً ..
وهرولت لغرفتها، لتخبرها بقرارها حول اصطحابها للرحلة، وأمام اصرارها وافقت "رؤى" فأكدت "روجينا" الحجز لثلاثة مقاعد برحلة الغد!!.
*********
وقع "يحيى" الملفات من أمامه، ثم تفحص باقي الأوراق ليتأكد من أن توقيعه على الورق بأكمله، استوقفته إحدى الورقات، فوجد بها رسالة مكتوبة بخط اليد، قرأها "يحيى" باستغرابٍ من وجودها بالملفات، جحظت عينيه في دهشةٍ وهو يقرأ المضمون.
«يحيى أنا قولتلك امبارح على الفون إني بحب راجل متجوز وأنت استغربت حتى "عمر" أخويا لما عرف اتعصب وقالي إنه هيجوزني لأول واحد يتقدملي وأنا عندي أموت على أني أنجبر أعيش مع حد مبحبوش عشان كده إختارت الموت علشان ماما وأخويا يرتاحوا مني، وملقتش غير شقتنا القديمة المكان اللي أقدر أنهي فيه حياتي اللي مبقاش ليها طعم غير المرار والعذاب، طالبة منك إنك تخليهم يسامحوني لاني للأسف مش هقدر أحب حد تاني ولا هقدر أكون لغيره... يمنى»
ترك الورقة على مكتبه بعصبيةٍ، ثم هرول مسرعاً تجاه الدرج وهو يردد بغضبٍ:
_مجنونة!
*********
بغرفة "أحمد".
كان يستند بجسده على شرفة غرفته، يتأمل الطريق بشرودٍ، قد ترأه يتطلع للمارة وحركة السيارات أما ما يرآه هو لقطات متفرقة لحياته البائسة التي سعى بها لحب فتاة لم تكن له الاهتمام يوماً، ومع ذلك يجب الا يرتكب أي حماقات قد تسيء للعائلة فبالنهاية هي ابنة عمه، وهو يعلم جيداً ماذا يحدث حينما يترك خطيبته التي طالت خطبتهما لأكثر من خمس سنواتٍ، زفر الهواء العالق برئتيه على مهلٍ ثم أنعشها بالهواء النقي عله يتمكن من تبديل مزاجه الحاد، فانتبه لدقات باب غرفته ومن ثم وجد" بدر" يقف أمامه ليتساءل بخوفٍ:
_أنت كويس يا "أحمد"،" حور" بتقول أنك تعبان ومش قادر تقف من الصداع لو لسه تعبان تعالى ننزل لأي دكتور.
ابسط الأشياء التي تفعلها تجعله يشعر باهتمامها به، إبتسم رغماً عنه حينما ذكر "بدر" ما قالته إليه وإن كان بالمجمل أمراً عادي، فأجلي صوته الخشن قائلاً:
_بقيت كويس متقلقش.
وجلس على الأريكة ليشير بيديه إليه:
_بس كويس إنك جيت لإني كنت عاوزك.
جلس "بدر" بالمكان المشار إليه، وهو يسأل باستغرابٍ:
_عايزني أنا! ، ليه خير؟
تطلع له مطولاً قبل أن يتحدث بجديةٍ:
_انا ملاحظ إنك من ساعة ما "تالين" و"رؤى"رجعوا وأنت متغير ١٨٠درجة.
وبوضوحٍ شديد، تساءل:
_أنت لسه بتحبها يا "بدر"؟
احتدت نظراته وإحتلتها الجفاء والقسوة التي صاحبت نبرته:
_أنا مفيش بقلبي تجاهها غير الكره يا" أحمد"، أنا مكنتش أتمنى إني أنجبر أشوفها مرة تانية لأن ده بيخليني أقرف من وجودي معاها بمكان واحد بس محلولة.
ضيق عينيه بدهشةٍ:
_إزاي؟
أجابه بإيجازٍ:
_"روجينا"طالعة رحلة لاسكندرية هي وحور و"آسر" مكنش موافق فقولتله هطلع معاهم عشان أخد بالي منهم وكده.
تهجمت معالمه وهو يستمع من إبن عمه عن سفر خطيبته الذي يفترض معرفته أصغر التفاصيل المتعلقة بها! ، ومع ذلك حرص على الا يلاحظ "بدر" ذلك عله لا يفسر الأمور بمنظور أخر، فقال بثباتٍ وتحكم شديد:
_كويس وأهو تغير جو وتنسى بقا اللي فات، لازم تبص لنفسك ولحياتك يا "بدر"...
أومأ برأسه بهدوءٍ، فتعجب كلاً منهما حينما استمعوا لصوت شجار عنيف يأتي من أمام باب شقتهم، فردد" بدر" بدهشةٍ:
_أيه الصوت ده؟
رد عليه "احمد":
_معرفش تعالى نشوف في أيه؟
وبالفعل خرجوا سوياً فوجدوا"ماسة" تبكي بشدةٍ وتتعلق باللعبة التي يحملها "طارق" والأخير لا يقبل بتركها، أسرع إليهم "بدر" فجذب ما بيد "طارق" ثم قال:
_في أيه يا "طارق"؟
قال بغضبٍ شديد:
_كل ما بمسك لعبة عايزاها، دي بقت حاجة تقرف.
انكمشت ملامح"أحمد" بضيقٍ شديد، فقال وهو يحاول تهدئتها:
_مش هتبطل عنادك ده يا "طارق"، قولنالك ألف مرة متحاولش تضايق"ماسة" لإنها تعبانه!
رد عليه بكرهٍ شديد:
_الكل عمال يقول تعبانه تعبانة وهي بتجري وبتنطط فين التعب ده؟
تدخل "بدر" سريعاً قبل أن تزداد الأمور سوء، فهو يعلم ماذا تعني "ماسة" لأخيها:
_طلعها فوق يا "أحمد" وأنا هحاول أفهمه.
منحه نظرة قاتمة قبل أن يجذب يدها برفقٍ للأعلى، أما "بدر" فجذب "طارق" للأسفل بعدما لف يديه حول كتفيه ليشير له بابتسامةٍ هادئة:
_تعالى يا بطل.
وولجوا سوياً للداخل، فأخذ يحاول بقدر المستطاع أن يجعله يستعب طبيعة مرض "ماسة" فبنهاية الأمر مازال صغير تتعقد الأمور له أحياناً.
أما بالأعلى.
مسح "أحمد" دموعها وهو يردد بابتسامةٍ صغيرة:
_ما خلاص يا ستي جبنالك اللعبة أهو ولا أنتي لسه عايزة حاجة تاني؟
هزت رأسها بطفوليةٍ، فتساءل بمرحٍ:
_أمم، شكلك عايزة تحتلي ألعابه كلها والمرادي هيولع فيا وفيكي.
لوت شفتيها بحزنٍ، فقربها "أحمد" إليه بألمٍ ثم قال:
_بكره وأنا راجع من الشغل هجبلك ألعاب كتيرة أحسن من اللي عنده، إتفقنا؟
ابتسمت وهي تشير له برأسها، فنادى المربية ثم قال:
_خديها أوضتها يا "إلهام" وخليكي جنبها.
أومأت برأسها في طاعةٍ، ثم جذبتها للداخل وعينيه متعلقة بشقيقته التي صار حالها يمزق القلوب!
**********
استرخى "آسر" بمقعده بعد إنتهائه من العمل الشاق الذي تراكم عليه لسفره للبلد بالفترة الماضية، فجذب جاكيته المطروح على ظهر المقعد ثم ارتداه ليتجه للخروج، كاد بتخطي الطرقة التي تفصل بين مكتبه ومكتب "يحيى" فتوقف وهو يتأمل باب المصعد الحديدي المغلق، ضيق عينيه بنظرة متفحصة، فاقترب منه ليتفاجئ بالمصعد العالق بين الطبقتين، خشى أن يكون بداخلهما أحداً فبالطبع كيف تعلق هكذا، فصاح عالياً:
_"مصطفى"... "مصطفى"..
أتى مهرولاً إليه وهو يردد:
_أمرك يا بشمهندس.
أشار له بضيقٍ شديد:
_عامل الصيانة مجاش ليه يعمل الأسانسير!
أجابه مسرعاً:
_من الصبح عمال يقول ساعة وجاي ولسه لحد الآن مجاش.
بحزمٍ أضاف:
_وأنتوا مستنين أيه، هاتوا واحد غيره شكل في حد بالأسانسير... إتحرك بسرعة.
ركض وهو يرفع صوته:
_حــــــــاضــــــر.
**********
وصل"يحيى" للعمارة التي تضم شقة صديقه القديم بعدما إنتقل لشقة أكبر منذ سنوات، صعد الدرج مسرعاً حتى وصل للطابق المنشود، كاد بأن يطرق على باب الشقة فتفاجئ به مفتوح، فأسرع للداخل باحثاً عنها..
ابتسامة خبيثة تشكلت على ثغرها، ففور رؤية سيارته بالأسفل حتى رتبت أمرها، فوقفت على سور الشرفة لتضمن نجاح خطتها، اهتدت نظراته الباحثة عنها حينما رآها تقف على سور الشرفة، فأسرع إليها وهو يصيح بها بإنفعالٍ:
_"يمنـــــــى"،أوعي تتهوري وترتكبي ذنب تدفعي تمنه غالي.
واقترب منها بحذرٍ، ثم مد يديه إليها وهو يتابع حديثه:
_هاتي إيدك وبطلي جنان.
أخفت ابتسامتها بحرافيةٍ ماكرة، ثم قالت بلهجةٍ حرصت لجعلها بائسة:
_وأيه اللي يخليني باقية على حياتي يا "يحيى"، أنا قرفت من كل حاجة ونفسي أرتاح.
قال وعينيه تتفحص السور التي أوشكت قدميها على تخطيه:
_مفيش راحة، اللي هتعمليه ده عقابه عند ربنا عسير.
قالت بيأسٍ مصطنع:
_هيكون رحيم عليا من البشر.
إقترب المسافة المتبقية بينهما وهو يتابع بحديثه:
_طب إهدي وأنا هخلي أخوكِ يوافق على الشخص اللي حبتيه.
ابتسمت ساخرة والمكر يداهم عينيها:
_مش لما الشخص اللي بحبه يقبلني!
تصنعت عدم رؤيته وهو يقترب منها، فتركته ينتشلها بعيداً عن السور لنجأتها مثلما ظن هو، عاونها على الوقوف ثم جذبها للداخل وأغلق باب الشرفة ليصيح بها بعنفٍ:
_إنتي إتجننتي!، أيه اللي عايزة تعمليه ده؟
قالت بانكسارٍ مزيف:
_مفيش بإيدي حاجة أعملها.
قال بهدوءٍ:
_متقلقيش أنا هحاول أساعدك.
ابتسمت بخبثٍ، ثم إقتربت منه لترفع يدها على صدره فوزع نظراته بين قربها الشديد منه وبين يدها بعدم استيعابٍ، وخاصة حينما قالت:
_لو عايز تساعدني يبقى تتقبل حبي ليك وتتجوزني يا"يحيى".
جحظت عينيه في صدمةٍ، وهو يحاول إستيعاب كونه الشخص المتزوج الذي تحبه! ، هز رأسه بعدم تقبل تلك الحقيقة فأبعدها عنه وهو يشير لها:
_أنتي أكيد مش في واعيك.
إلتصقت به مجدداً وهي تجيبه بجراءةٍ:
_أنا عمري ما كنت في واعي غير النهاردة، أنا حبيتك من سنين من قبل حتى ما تتجوزها ولما اشتغلت معاك كنت بحاول أخليك تحس بيا بس دلوقتي خلاص جوازتك من المجنونة دي مش لازم تستمر أكتر من كده.
جلدته تلك الكلمة فنهشت جسده نهشاً، فدفعها بعيداً عنه حتى ارتطمت بالأرضٍ بقوةٍ، وبتقززٍ أضاف:
_مسمحلكيش تتكلمي عن مراتي كده، أنا بجد مصدوم فيكي وفي اللي وصلتي له، من هنا ورايح المكتب متخطهوش برجليكي والكلام اللي قولتيه هنا النهاردة ده متكررهوش تاني.
وتركها وكاد بالرحيل، فتعلقت بقدميه وهي تردد ببكاءٍ:
_انا آسفة يا "يحيى" مش هتكلم عنها كده تاني، ومش عايزاك تتطلقها.
ونهضت لتقف من أمامه ثم إقتربت منه بطريقةٍ مخجلة لحيائها كأنثى لتستطرد:
_أنا عايزاك أنت وبس حتى لو هنتجوز بالسر!
وحررت ازرار قميصه بوقاحةٍ، وهي تستباح أجزاء من جسده بوقاحةٍ، أبعدها عنه وهو يحارب تلك الرغبة المتعطشة بداخله، ليهمس بخفوتٍ:
_إبعدي.
خلعت فستانها بلا حياء أو خوف من الله عز وجل لإرتكابها مثل تلك الفاحشة، لم تترك له فرصة المناص من مخضعها الخبيث، فكاد بأن يستسلم لها لترسم من أمامه صورة معشوقته وكأنه جلاد لروحه وقلبه المخضوع لها، ابتعد "يحيى" عنها عن الفور، تدارك ذاته باللحظة المناسبة فجذب قميصه الملقى أرضاً وأسرع بالخروج من ذاك المكان الذي يشبه اللعنة، أسرعت من خلفه فدفعها بعيداً عنه وهو يردد بتقززٍ:
_أنا لولا أن أخوكي صاحبي وعشرة عمر أنا كنت فضحت وساختك.
وتركها وغادر، فجزت على أسنانها بغيظٍ وصدمة من تماسكه أمامها! ، لا تعلم بأن من يعشق من صمام قلبه لا يرى أمامه الا من فتنت قلبه وعقله.
*******
بعد معاناة تمكن العامل من تصليح العطل القابع بالمصعد، وفور الإنتهاء من الإصلاح استكمل المصعد مهامه بالهبوط للطابق الأرضي، فأسرع "آسر" للأسفل، ثم فتح باب المصعد ليتفاجئ بها مغشي عليها، فزع حينما رآها ملقاة كمن فارقتها الروح، فإنحنى ليقربها إليه ثم لطم وجنتها برفقٍ:
_آنسة "تسنيم".. سامعاني؟
كانت شاحبة كالموتى، فحملها بين يديه ليصعد بها لمكتبه مجدداً بعدما طلب من العامل إحضار الطبيبة في الحال، وبالفعل ما هي الا دقائق معدودة حتى انتهت من فحصها، لتؤكد له بأنها بخيرٍ ولكن إحتجازها بمكانٍ ضيق كهذا منعها من إستنشاق الإكسجين اللازم، وأخبرته بأنها ما هي الا دقائق وستستعيد وعيها تدريجياً، جذب"آسر" احد المقاعد ثم جلس لجوارها ينتظر لحظة استعادتها للوعي، فتحت جفن عينيها الثقيل بصعوبةٍ وهي تحاول التقاط نفسها المتقطع، بدأت الرؤيا توضح تدريجياً فوجدت ذاتها بمكتبه، انتفضت "تسنيم" بجلستها وأخذت تتأمل المكان برهبةٍ شديدة، إقترب "آسر" منها ليتساءل بشك:
_أنتي كويسة؟
إرتجف جسدها وتراجعت للخلف وهي تردد بخوفٍ مبالغ به:
_أنا هنا بعمل أيه وأنت ليه مقرب مني كده؟
رغم دهشته من طريقتها الغريبة، ولكنه تفهم بنهاية الأمر الحالة المسيطرة عليها، فسمات الصعايدة صعبة فيما يرتبط بالأصول، فأشار لها بيديه:
_إهدي بس الأول.
واستطرد ليوضح لها:
_أنتي كان مغمى عليكي بالأسانسير وأنا طلبتلك دكتورة ولسه ماشية حالاً.
ابتلعت ريقها على مهلٍ، ثم عدلت من خمارها الطويل لتجذب حقيبتها، ثم رددت بصوتٍ واهن:
_شكراً لحضرتك يا أستاذ "آسر"..
وتحملت على ذاتها لتنهض عن الأريكة، فرفعت معصمها ومن ثم شهقت بصدمة:
_يا خبر الوقت إتاخر أوي أكيد باب السكن إتقفل.
استمع" آسر" لما قالت وإن كان صوتها منخفض، فقال بذهولٍ:
_بس الساعة١٠ونص!
رفعت عينيها إليه ثم قالت بخوفٍ:
_الباب بيفقل الساعة ٩.
ثم اتجهت تجاه الباب فخطى خلفها وهو يناديها:
_"تسنيم" استني.
وقفت محلها تشدد على حقيبتها بارتباكٍ، فوقف مقابلها ثم قال:
_تسمحيلي أوصلك بعربيتي..
كادت بالاعتراض فقاطعها:
_زي ما قولتي الوقت إتاخر ومينفعش تمشي بالوقت ده لوحدك ويا ستي إعتبريني تاكسي واركبي ورا..
صمتت قليلاً تحسبها، فقال بحزمٍ:
_متضعيش وقتك أكتر من كده يلا.
لم يكن لديها حلول أخرى، اتبعته للأسفل باستسلامٍ، فأخرج سيارته من الجراج ومن ثم وقف مقابلها فصعدت بالخلف على استحياءٍ، تحرك بها وكانت مرشدته تجاه السكن الجامعي، ومع أن وصلوا حتى وجدوا الباب مغلق من الخارج بالقفل المعدني مثلما تفعل مديرته كل يوماً حرصاً على سلامة الطلبات ولأجل الحفاظ على قوانين السكن، انكمشت ملامحها في يأسٍ ولمعت الدموع بحدقتيها، فماذا ستفعل بهذا الوقت المتأخر وإلى أين ستذهب؟
هبط "آسر" من سيارته خلفها، فوزع نظراته بينها وبين القفل الكبير، ثم قال بثباتٍ:
_ولا يهمك تعالي معايا وقضي الليلة مع "حور" والبنات.
أعدلت طرف خمارها الطويل وهي تجيبه بتوترٍ:
_لا مفيش داعي هشوف أي مسجد. أو سكن قريب من هنا.
بحدةٍ قال:
_سكن أيه ومسجد أيه، بلاش كلام فارغ بعيد عن إنك صاحبت "حور" فإحنا من بلد واحدة وبنعمل مع الغرب أكتر من كده ولا أيه!
أخفضت رأسها أرضاً بحرجٍ مما تعرضت له خلال هذا اليوم الغامض، ففتح "آسر" باب السيارة الخلفي ثم أشار لها بالصعود، فصعدت على استحياءٍ، ليتحرك بها تجاه العمارة الخاصة بهم.
********
بشقة "عبد الرحمن".
ظل لجوارها حتى غفت تماماً، فداثر" عبد الرحمن" والدته بحنانٍ، ثم تسلل للخارج بهدوءٍ حتى لا يوقظها، فإتجه للمطبخ ليعد كوب من القهوةٍ الساخن، ثم جلس يحتسيها بانتشاءٍ وكأن مذاقها يذكره بتلك الفتاة ذات العين البنداقية، لأول مرة تتعلق ذاكرته بأحدٍ ليس لإنه يكره النساء، ولكن لإنه لم يجد من تلفت انتباهه، انتشله من شروده الهائم بفتاة أميركا رنين هاتفه، فرفعه ليجد اسم الكبير ينير من شاشته، لعق شفتيه بتوترٍ وكأنه يتلصص على تفكيره، فوضع الكوب من يديه على الطاولةٍ ثم وقف ليجيبه بلغةٍ صعيدية:
_كيفك يا عمي، يارب تكون بخير.
أتاه صوت "فهد" الحنون:
_بخير يا ولدي، انت اللي أخبارك أيه وحشنني أوي.
ابتسم وهو يجيبه:
_اني بخير والله، تسلم يا غالي.
انتظر دقيقة ثم قال:
_اني كلمتك عشان أقولك تتدلى البلد أخر السبوع الجاي أنت ووالدتك مع الشباب.
صعق "عبد الرحمن" مما استمع عليه، فبترت الكلمات على شفتيه ولم يجد ما يقوله، فاسترسل "فهد" حديثه قائلاً:
_متقلقش هبعتلك عربية إسعاف تجبها وهي إهنه جوه عيونا يا ولدي.
ابتسامة تسللت على وجهه رغم الدموع البارزة من عينيه، فقال:
_مش عارف أقولك أيه يا عمي ربنا ما يحرمني منيك.
رد عليه بحبٍ:
_متقولش حاجة وتنفذ اللي قولتلهولك وأنت ساكت فاهم.
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه:
_فاهم يا كبير، في رعاية الله.
وأغلق الهاتف والسعادة تتراقص على وجهه، فرغم ما ارتكبته والدته من ذنبٍ فاضح الا أنه سامحها بنهاية الامر!
*******
صعدت "تسنيم" خلفه بخوفٍ ينبع بأوصالها رغماً عنها، كانت تلتفت خلفها وتقدم قدماً وتأخر الأخرى بارتباكٍ، شعر "آسر" بها، فوقف على الدرج ثم أخرج هاتفه لينتظر حتى أتاه الرد، فقال:
_"حور"، انا تحت إنزلي حالا.
وأغلق الهاتف ثم وقف مقابل "تسنيم" التي حمدت الله حينما وجدت رفيقتها تهبط الدرج، فعاد الدماء ليسري بعروقها، ما فعله كان من أسمى سمات الرجولة، رفضه لرؤية الخوف يتمكن منها فمنعها من اللعب على اعصابها من وضع إفتراضات مؤلمة فقطع تفكيرها حينما جعل "حور" تهبط بنفسها قبل صعودهما كان لاجل تلك الابتسامة والراحة التي سكنت معالم وجهها الرقيق، وبالرغم من خجلها الا أنها منحته نظرة شكر وإمتنان لتفهمه لخوفها الطبيعي، افاقت "تسنيم" من غفلتها على احتضان "حور" لها بسعادة حينما أخبرها آسر بما حدث، ققالت بفرحةٍ:
_والله ما مصدقة انك هتقضي الليلة معايا ده انا مش هسيبك تنامي أبداً هنرغي للصبح.
رد حازم انطلق منه:
_"حـور"!
تهدلت شفتيها بحزنٍ:
_خلاص هسيبك تنامي والصبح نرغي، مرضي كده يا كبيرنا.
ابتسم "آسر" ثم أشار لهما باستكمال الدرج من خلفه فوصلوا سوياً للطابق المنشود، وجدته "تسنيم" يتجه للشقة القابعة بالجانب الأيسر وحور بالجانب الأيمن، فالتفت ويا ليته لم يفعل، امسك بها تتطلع له فإحمر وجهها خجلاً لتسرع من خلف رفيقتها، ابتسم "آسر" ثم أشار لحور بصوتٍ ثابت يسكنه الحزم:
_إقفلي عليكم كويس.
أومأت له مرددة:
_حاضر والله حفظت التعليمات.
وبالفعل ولجت للداخل لتغلق الباب بالمفتاح جيداً، ثم استدارت لتجدها تتأمل الشقة بإعجابٍ شديد، فكان يغلبها الطابع الانثوي، انتبهت لصوت "حور" حينما قالت:
_تعالي ندخل أوضتي.
اتبعتها للداخل فأغلقت "حور" الباب من خلفهما ثم اتجهت للخزانة الكبيرة التي تشمل نصف الحائط، إختارت منامة من اللون البنك ثم أشارت لها على حمام الغرفة بحماسٍ:
_ادخلي غيري هدومك بسرررعة وتعالي عشان في حاجات كتيرة فايتاكِ باللي مطنشة مكالماتي من الصبح.
جذبت منها المنامة ثم قالت بسخطٍ:
_وأنا هروح منك ومن رغيك فين، أهو بالنهاية جيتلك برجلي.
دفعتها بقوةٍ تجاه الحمام وهي تردد بسخريةٍ:
_نصيب يا بنتي لان ربنا عالم بيا وبالأخبار المهمة عندي، خلصي بس.
تعالت ضحكات "تسنيم"، فأغلقت الباب من خلفها ثم أبدلت ثيابها وحينما خرجت وجدت"حور" ترص عدة أطباق على الطاولة الصغيرة المقابلة للشرفة، لتشير لها بيدها:
_يلا يا حلوة لقمة هنية من صنع أيديا.
جلست على الفراش بحرجٍ:
_أيه اللي أنتي جيباه ده يا حور، أنا مش جعانة على فكرة.
جذبتها للطاولة وهي تصيح بها بعبثٍ:
_أنتي ليه محسساني اني واحدة من الشارع ده إحنا عشرة عمر يا بت طول عمرنا بنقسمها سوا ولا نسيتي!
ابتسمت ثم انصاعت ليدها فجلست على الطاولة، لتبدأ بتناول طعامها بصحبتها، لتشرع "حور" بقص ما حدث اليوم على مسمعها، لتختمه بقولها المتحير:
_ومعرفش أيه اللي يخليه يحتفظ باللعب والتوك بتاعتي لحد الآن!
ثم استكملت حديثها بهيامٍ بذكريات الماضٍ:
_وإحنا صغيرين كان بيحب يضايقني اوي على عكس علاقته بروجينا فأكيد أخد اللعب دي عشان يضايقني برضه.
استمعت لها بحرصٍ، ثم قالت:
_لو كان عايز يضايقك كان كسرهم ورماهم مكنش احتفظ بيهم كل ده.
رفعت حاجبيها بإستغرابٍ:
_قصدك أيه؟
ردت عليها "تسنيم" بهدوءٍ:
_قصدي ان في فرق بين الصداقة والحب يا حور،الصديق عمره ما ببضايق صديقه وبيسعى لإسعاده بشتى الطرق، لكن لما العلاقة تتحول لعناد وصراعات بتبقى بوادر لعلاقة حب، فهمتي طبيعة علاقته بخطيبته أيه؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وقد تسنى لها فهم ما ودت إخبارها به تسنيم فبمجرد تخيلها أن أحمد يكن لها حب خفي ارتبكت مشاعرها فباتت كالعارية أمام رفيقتها، خشيت أن تستكشف مشاعرها هي الأخرى فقالت بتوترٍ:
_فكك من الحوار ده وقوليلي عاملة أيه في الشغل مع كبيرنا.
تشتت للغاية فأبعدت خصلات شعرها البني عن عينيها وهي تجيبها بخفوتٍ:
_ولا حاجة، انتي عارفة أن ده أول يوم ليا وكده، وأدكي شوفتي من أولها مصيبة الاسانسير والسكن.
ضحكت "حور" وهي تشير لها على الفراش:
_ده رزقي عشان تونسيني النهاردة.
تمددت "تسنيم" جوارها، ثم استمعت لثرثرتها التي لم توقف الا حينما ادعت النوم، فأغلقت "حور" الضوء وخلدت هي الأخرى للنوم، فحينما تأكدت الأخرى من نومها فتحت عينيها لتصفن به، مديرها الغامض الذي أصبح يسيطر على حيز كبير من تفكيرها!
**********
ساعات مطولة قضاها بالقيادة وهو يحاول التغاضي عما حدث معه من تلك الفتاة الوقحة، وبالنهاية اهتدت سيارة "يحيى" أمام العمارة، فصفها وصعد لشقته، كانت الساعة وقت إذن الثانية صباحاً وبالرغم من ذلك مازال يلتمس عتمة الليل القابعة بداخله، دث مفتحه بباب الشقة ومن ثم صعد لغرفته فألقى جاكيته على الأرض ثم جلس على حافة الفراش بإهمالٍ، يحتضن وجهه بذراعيه والآلآم تسيطر على جسده باكمله وخاصة موضع قلبه، فُتح باب الغرفة من أمامه، لتدلف "ماسة" وهي تحمل لعبتها بين يديه، فاقتربت لتجلس جوارها وبسمتها تشرق وجهها الرقيق، تعلقت عينيه بها لثوانٍ طالت لدقائق لم يمل منها، تمنى لو تعود لحالتها الطبيعية لساعة واحدة يشكو لها ألم قلبه الذي يلتاع شوقاً لها، كان بحالةٍ مذرية وكأنه جريح ينزف جرحه دون توقف، رفع يديه ليلامس وجنتها الحمراء ليهمس بصوتٍ مختنق:
_وحشتيني أوي يا "ماسة".
اتسعت ابتسامتها، لتجيبه بعفويةٍ:
_وأنت كمان.
خانته كلماتها فكأنما تناسى حالتها بتلك اللحظة، تحررت رغباته المكبوتة، فاقترب منها ثم سمح لنفسه بكسر حاجز وضعه الأطباء من أمامه من قبل، انجرف خلف مشاعره ورغبته بها، فتناسى كل شيء، حتى صوتها الصارخ وجسدها المرتجف، دميتها التي سقطت من يدها لتلامس الأرض، لم يرى شيئاً أمامه سوى معشوقته تطالبه بالإقتراب، لم يفق من غفلته التي طالت به، فلم يشعر بأنه يحطم ما حققه من نجاح بالتعامل مع حالتها المرضية، وحينما أشرقت شمس اليوم التالي فتح عينيه على صدمة لم يكن ليضعها بقاموس تخيلاته!!..
**********
بالأسفل..
وقف "بدر" ينتظر "روجينا"،و"حور" ليتحرك بهما تجاه الباص الذي سيقودهما للرحلة التي ستسطر قدر كلاً منهما، فتفاجئ بها تقف من أمامه جوار "روجينا"، احتدت نظراته تجاهها، فجذب" روجينا" بعيداً ثم صاح بانفعالٍ:
_ممكن تفهميني أيه اللي بيحصل بالظبط مش قولتيلي ان حور اللي طالعة معاكي!
لم تفهم سبب تعصبه الشديد ولكنها أجابته بثباتٍ:
_ايوه كانت هتطلع معايا بس عندها امتحانات فمكنش قدامي غير "رؤى"، في حاجة ولا أيه؟
تحكم"بدر" بانفعالاته، ثم قال بصلابة:
_لا مفيش.
وأشار لها بغيظٍ:
_يلا نتحرك ولا هنقف هنا طول النهار..
استغربت من حالتها الغريبة ولكنها لم تعلق فأشارت بيدها لرؤى التي تفهمت ما يحدث معه ومع ذلك لحقت بهما، فلم يعد يشغلها أحداً باتت كالألة التي تتحرك دون أي شعور، فحتى قلبها لم تعد تستمع لآنينه!
********
فتح عينيه ببطءٍ شديد، ثم استند بجذعيه على الفراش ليجلس باستقامةٍ، فرك "يحيى" جبهته بألمٍ شديد، وكأنه لا يتذكر سبب ألم صداع رأسه او حتى كيف غفل بنومه عاري الصدر هكذا، لفت انتباهه العروس الملقاة أرضاً، فنهض عن الفراش ليحملها بين يديه بابتسامة تسللت لوجهه فحتما هي مختبئة بغرفته مثلما تفعل، رفع صوته وهو يبحث خلف الستائر وبخزانته:
_"ماسة" أنتي فين؟
لم يجدها فمرر يديه على خصلات شعره الطويل بحيرةٍ، فاهتدت عينيه لطرف الملاءة الذي يظهر من خلف حائط حمام غرفته، اقترب "يحيى" حتى ولج للداخل فتخشب محله من الصدمةٍ حينما رآها تجلس أرضاً، تضم ساقيها لصدرها وجسدها يرتجف بقوةٍ، نظراتها تجاهه قتلته وكأنها ترى مغتصبها من أمامها، يدها المرتعشة تلف الملاءة حول جسدها الذي يزحف للخلف برهبةٍ ورعب لم تشهده من قبل، لم تحمله قدميه أكثر من ذلك فجلس أرضاً وهو يتأمل حالتها التي بدأت بشرح ما حدث أمس، لتدور به ذكريات مما حدث فتجمدت أطرافه حينما رآها تنهمر بالبكاء وعينيها تحدجه بنظراتٍ هلع، وحينها لم يجد ما يفعله فكور يديه بقوةٍ ثم لكم البانيو المجاور له وهو يصرخ بشراسةٍ:
_أيه اللي عملته ده!!!! غبي.
حالة الهياج التي تمسكته الآن جعلتها تهابه أكثر وخاصة حينما انسدلت الدماء من يديه فلم تقوى على المحاربة أكثر من ذلك فسمحت لجسدها الهزيل بالترنح أرضاً!.
.......... يتبع..........
الفصل_السابع..
(إهداء الفصل للجميلة ليالي العمر )
انهمكت "تسنيم" بالعمل حتى لم تهتم لهاتفها الذي يصدح رنينه أكثر من مرةٍ، إنتهت من مراجعة الحسابات بدقةٍ عالية ثم اتجهت لمكتب "آسر"، فولجت فور سماع إذن الدخول، وضعته من أمامه قائلة بعمليةٍ:
_أنا رجعت الملف ده وكل حاجة فيه تمام.
ترك"آسر" الحاسوب ثم إعتدل بجلسته ليلقي نظرة متفحصة عليه، فهز رأسه بإعجابٍ:
_لا بجد برافو.
ثم رفع عينيه لها وهو يستكمل مدحه بما قدمته:
_عارفة مفيش محاسب بيأخد الوقت القصير ده بمراجعة الحسابات هنا حتى "أحمد" نفسه!
ابتسمت بفرحةٍ:
_إن شاء الله أكون عند حسن الظن.
تعمقت عينيه بها، وكأنه يحاول محاربتها حينما ترغب بالتطلع لعينيها الخضراء، فهمس بصوتٍ خافت:
_هتكوني.
ارتبكت بوقفتها، فقالت بتوترٍ:
_أنا خلصت شغلي والساعة بقت ٨،بستأذن حضرتك أمشي.
أومأ برأسه بتفهمٍ:
_تمام بس خدي بالك الاسانسير اللي على اللمين عطلان لو حبيتي تركبي إركبي اللي قدام مكتب "بدر" و"يحيى".
أومأت برأسها عدة مرات في توترٍ لتهرب من نظراته الفاتنة،فحملت حقيبتها ثم خرجت مسرعة وحينما ابتعدت عن مكتبه وقفت تستجمع شتاتها، فهدأ تنفسها قليلاً، ابتسمت رغماً عنها وهي تهمس بخفوتٍ:
_أنا أكيد اتجننت ، واحد وبيشكر في شغلي ليه يحصلي كده!
وهزت رأسها بيأسٍ من تغيرها ثم استكملت طريقها حتى وقفت أمام المصعد، فرددت بحيرةٍ:
_هو كان بيقول على الاسانسير إنهو!
لوت شفتيها بضيقٍ من خجلها الذي منعها من التركيز بما قاله، فكادت بالعودة لسؤاله من جديدٍ، ولكن خجلها وخوفها من أن يزورها الارتباك بحضوره يسيطر عليها مجدداً، لذا ولجت للمصعد الأيمن وهي تردد في ثقة:
_ده الاسانسير اللي طلعت فيه الصبح يبقى هو اللي شغال.
وتوجهت للداخل ثم أغلقت الباب الحديدي ومن ثم أغلقت الباب الخشبي القديم لتضغط على زر الطابق الأرضي، فتحرك بها المصعد حركة بطيئة ثم توقف محله، فباتت معلقة بين الطابق الثالث والرابع الذي يحوي مكتب "آسر" والشباب!
*********
صدمت مما استمعت إليه فتساءلت بدهشةٍ:
_يعني أيه؟!
أجابتها "حور" بسخريةٍ:
_يعني مش هقدر أجي معاكِ، بقولك عندي امتحان الاسبوع الجاي بدل ما أقعد أذاكر أسافر رحلة!
جلست "روجينا" على الفراش بصدمةٍ ثم أخذت تردد بحزنٍ:
_يعني بعد ما "آسر" يوافق أنتي اللي تكوني العقبة؟
اقتربت منها ثم قالت بحنوٍ:
_طب وأنا ذنبي أيه بس يا "روجينا"، والله الاسبوع الجاي عندي أربع إمتحانات.
لمعت دموعها بعينيها، فاقترحت عليها"حور":
_طب أقولك ما تأخدي"رؤى" أو"تالين" معاكِ وأهو يغيروا جو.
تحول حزنها لسعادة، فنهضت عن الفراش لتقبلها وهي تخبرها بفرحةٍ:
_أنتي صح، تاهت عني فين دي "رؤى" أكيد مش هتقولي حاجة بالعكس هتفرح جداً ..
وهرولت لغرفتها، لتخبرها بقرارها حول اصطحابها للرحلة، وأمام اصرارها وافقت "رؤى" فأكدت "روجينا" الحجز لثلاثة مقاعد برحلة الغد!!.
*********
وقع "يحيى" الملفات من أمامه، ثم تفحص باقي الأوراق ليتأكد من أن توقيعه على الورق بأكمله، استوقفته إحدى الورقات، فوجد بها رسالة مكتوبة بخط اليد، قرأها "يحيى" باستغرابٍ من وجودها بالملفات، جحظت عينيه في دهشةٍ وهو يقرأ المضمون.
«يحيى أنا قولتلك امبارح على الفون إني بحب راجل متجوز وأنت استغربت حتى "عمر" أخويا لما عرف اتعصب وقالي إنه هيجوزني لأول واحد يتقدملي وأنا عندي أموت على أني أنجبر أعيش مع حد مبحبوش عشان كده إختارت الموت علشان ماما وأخويا يرتاحوا مني، وملقتش غير شقتنا القديمة المكان اللي أقدر أنهي فيه حياتي اللي مبقاش ليها طعم غير المرار والعذاب، طالبة منك إنك تخليهم يسامحوني لاني للأسف مش هقدر أحب حد تاني ولا هقدر أكون لغيره... يمنى»
ترك الورقة على مكتبه بعصبيةٍ، ثم هرول مسرعاً تجاه الدرج وهو يردد بغضبٍ:
_مجنونة!
*********
بغرفة "أحمد".
كان يستند بجسده على شرفة غرفته، يتأمل الطريق بشرودٍ، قد ترأه يتطلع للمارة وحركة السيارات أما ما يرآه هو لقطات متفرقة لحياته البائسة التي سعى بها لحب فتاة لم تكن له الاهتمام يوماً، ومع ذلك يجب الا يرتكب أي حماقات قد تسيء للعائلة فبالنهاية هي ابنة عمه، وهو يعلم جيداً ماذا يحدث حينما يترك خطيبته التي طالت خطبتهما لأكثر من خمس سنواتٍ، زفر الهواء العالق برئتيه على مهلٍ ثم أنعشها بالهواء النقي عله يتمكن من تبديل مزاجه الحاد، فانتبه لدقات باب غرفته ومن ثم وجد" بدر" يقف أمامه ليتساءل بخوفٍ:
_أنت كويس يا "أحمد"،" حور" بتقول أنك تعبان ومش قادر تقف من الصداع لو لسه تعبان تعالى ننزل لأي دكتور.
ابسط الأشياء التي تفعلها تجعله يشعر باهتمامها به، إبتسم رغماً عنه حينما ذكر "بدر" ما قالته إليه وإن كان بالمجمل أمراً عادي، فأجلي صوته الخشن قائلاً:
_بقيت كويس متقلقش.
وجلس على الأريكة ليشير بيديه إليه:
_بس كويس إنك جيت لإني كنت عاوزك.
جلس "بدر" بالمكان المشار إليه، وهو يسأل باستغرابٍ:
_عايزني أنا! ، ليه خير؟
تطلع له مطولاً قبل أن يتحدث بجديةٍ:
_انا ملاحظ إنك من ساعة ما "تالين" و"رؤى"رجعوا وأنت متغير ١٨٠درجة.
وبوضوحٍ شديد، تساءل:
_أنت لسه بتحبها يا "بدر"؟
احتدت نظراته وإحتلتها الجفاء والقسوة التي صاحبت نبرته:
_أنا مفيش بقلبي تجاهها غير الكره يا" أحمد"، أنا مكنتش أتمنى إني أنجبر أشوفها مرة تانية لأن ده بيخليني أقرف من وجودي معاها بمكان واحد بس محلولة.
ضيق عينيه بدهشةٍ:
_إزاي؟
أجابه بإيجازٍ:
_"روجينا"طالعة رحلة لاسكندرية هي وحور و"آسر" مكنش موافق فقولتله هطلع معاهم عشان أخد بالي منهم وكده.
تهجمت معالمه وهو يستمع من إبن عمه عن سفر خطيبته الذي يفترض معرفته أصغر التفاصيل المتعلقة بها! ، ومع ذلك حرص على الا يلاحظ "بدر" ذلك عله لا يفسر الأمور بمنظور أخر، فقال بثباتٍ وتحكم شديد:
_كويس وأهو تغير جو وتنسى بقا اللي فات، لازم تبص لنفسك ولحياتك يا "بدر"...
أومأ برأسه بهدوءٍ، فتعجب كلاً منهما حينما استمعوا لصوت شجار عنيف يأتي من أمام باب شقتهم، فردد" بدر" بدهشةٍ:
_أيه الصوت ده؟
رد عليه "احمد":
_معرفش تعالى نشوف في أيه؟
وبالفعل خرجوا سوياً فوجدوا"ماسة" تبكي بشدةٍ وتتعلق باللعبة التي يحملها "طارق" والأخير لا يقبل بتركها، أسرع إليهم "بدر" فجذب ما بيد "طارق" ثم قال:
_في أيه يا "طارق"؟
قال بغضبٍ شديد:
_كل ما بمسك لعبة عايزاها، دي بقت حاجة تقرف.
انكمشت ملامح"أحمد" بضيقٍ شديد، فقال وهو يحاول تهدئتها:
_مش هتبطل عنادك ده يا "طارق"، قولنالك ألف مرة متحاولش تضايق"ماسة" لإنها تعبانه!
رد عليه بكرهٍ شديد:
_الكل عمال يقول تعبانه تعبانة وهي بتجري وبتنطط فين التعب ده؟
تدخل "بدر" سريعاً قبل أن تزداد الأمور سوء، فهو يعلم ماذا تعني "ماسة" لأخيها:
_طلعها فوق يا "أحمد" وأنا هحاول أفهمه.
منحه نظرة قاتمة قبل أن يجذب يدها برفقٍ للأعلى، أما "بدر" فجذب "طارق" للأسفل بعدما لف يديه حول كتفيه ليشير له بابتسامةٍ هادئة:
_تعالى يا بطل.
وولجوا سوياً للداخل، فأخذ يحاول بقدر المستطاع أن يجعله يستعب طبيعة مرض "ماسة" فبنهاية الأمر مازال صغير تتعقد الأمور له أحياناً.
أما بالأعلى.
مسح "أحمد" دموعها وهو يردد بابتسامةٍ صغيرة:
_ما خلاص يا ستي جبنالك اللعبة أهو ولا أنتي لسه عايزة حاجة تاني؟
هزت رأسها بطفوليةٍ، فتساءل بمرحٍ:
_أمم، شكلك عايزة تحتلي ألعابه كلها والمرادي هيولع فيا وفيكي.
لوت شفتيها بحزنٍ، فقربها "أحمد" إليه بألمٍ ثم قال:
_بكره وأنا راجع من الشغل هجبلك ألعاب كتيرة أحسن من اللي عنده، إتفقنا؟
ابتسمت وهي تشير له برأسها، فنادى المربية ثم قال:
_خديها أوضتها يا "إلهام" وخليكي جنبها.
أومأت برأسها في طاعةٍ، ثم جذبتها للداخل وعينيه متعلقة بشقيقته التي صار حالها يمزق القلوب!
**********
استرخى "آسر" بمقعده بعد إنتهائه من العمل الشاق الذي تراكم عليه لسفره للبلد بالفترة الماضية، فجذب جاكيته المطروح على ظهر المقعد ثم ارتداه ليتجه للخروج، كاد بتخطي الطرقة التي تفصل بين مكتبه ومكتب "يحيى" فتوقف وهو يتأمل باب المصعد الحديدي المغلق، ضيق عينيه بنظرة متفحصة، فاقترب منه ليتفاجئ بالمصعد العالق بين الطبقتين، خشى أن يكون بداخلهما أحداً فبالطبع كيف تعلق هكذا، فصاح عالياً:
_"مصطفى"... "مصطفى"..
أتى مهرولاً إليه وهو يردد:
_أمرك يا بشمهندس.
أشار له بضيقٍ شديد:
_عامل الصيانة مجاش ليه يعمل الأسانسير!
أجابه مسرعاً:
_من الصبح عمال يقول ساعة وجاي ولسه لحد الآن مجاش.
بحزمٍ أضاف:
_وأنتوا مستنين أيه، هاتوا واحد غيره شكل في حد بالأسانسير... إتحرك بسرعة.
ركض وهو يرفع صوته:
_حــــــــاضــــــر.
**********
وصل"يحيى" للعمارة التي تضم شقة صديقه القديم بعدما إنتقل لشقة أكبر منذ سنوات، صعد الدرج مسرعاً حتى وصل للطابق المنشود، كاد بأن يطرق على باب الشقة فتفاجئ به مفتوح، فأسرع للداخل باحثاً عنها..
ابتسامة خبيثة تشكلت على ثغرها، ففور رؤية سيارته بالأسفل حتى رتبت أمرها، فوقفت على سور الشرفة لتضمن نجاح خطتها، اهتدت نظراته الباحثة عنها حينما رآها تقف على سور الشرفة، فأسرع إليها وهو يصيح بها بإنفعالٍ:
_"يمنـــــــى"،أوعي تتهوري وترتكبي ذنب تدفعي تمنه غالي.
واقترب منها بحذرٍ، ثم مد يديه إليها وهو يتابع حديثه:
_هاتي إيدك وبطلي جنان.
أخفت ابتسامتها بحرافيةٍ ماكرة، ثم قالت بلهجةٍ حرصت لجعلها بائسة:
_وأيه اللي يخليني باقية على حياتي يا "يحيى"، أنا قرفت من كل حاجة ونفسي أرتاح.
قال وعينيه تتفحص السور التي أوشكت قدميها على تخطيه:
_مفيش راحة، اللي هتعمليه ده عقابه عند ربنا عسير.
قالت بيأسٍ مصطنع:
_هيكون رحيم عليا من البشر.
إقترب المسافة المتبقية بينهما وهو يتابع بحديثه:
_طب إهدي وأنا هخلي أخوكِ يوافق على الشخص اللي حبتيه.
ابتسمت ساخرة والمكر يداهم عينيها:
_مش لما الشخص اللي بحبه يقبلني!
تصنعت عدم رؤيته وهو يقترب منها، فتركته ينتشلها بعيداً عن السور لنجأتها مثلما ظن هو، عاونها على الوقوف ثم جذبها للداخل وأغلق باب الشرفة ليصيح بها بعنفٍ:
_إنتي إتجننتي!، أيه اللي عايزة تعمليه ده؟
قالت بانكسارٍ مزيف:
_مفيش بإيدي حاجة أعملها.
قال بهدوءٍ:
_متقلقيش أنا هحاول أساعدك.
ابتسمت بخبثٍ، ثم إقتربت منه لترفع يدها على صدره فوزع نظراته بين قربها الشديد منه وبين يدها بعدم استيعابٍ، وخاصة حينما قالت:
_لو عايز تساعدني يبقى تتقبل حبي ليك وتتجوزني يا"يحيى".
جحظت عينيه في صدمةٍ، وهو يحاول إستيعاب كونه الشخص المتزوج الذي تحبه! ، هز رأسه بعدم تقبل تلك الحقيقة فأبعدها عنه وهو يشير لها:
_أنتي أكيد مش في واعيك.
إلتصقت به مجدداً وهي تجيبه بجراءةٍ:
_أنا عمري ما كنت في واعي غير النهاردة، أنا حبيتك من سنين من قبل حتى ما تتجوزها ولما اشتغلت معاك كنت بحاول أخليك تحس بيا بس دلوقتي خلاص جوازتك من المجنونة دي مش لازم تستمر أكتر من كده.
جلدته تلك الكلمة فنهشت جسده نهشاً، فدفعها بعيداً عنه حتى ارتطمت بالأرضٍ بقوةٍ، وبتقززٍ أضاف:
_مسمحلكيش تتكلمي عن مراتي كده، أنا بجد مصدوم فيكي وفي اللي وصلتي له، من هنا ورايح المكتب متخطهوش برجليكي والكلام اللي قولتيه هنا النهاردة ده متكررهوش تاني.
وتركها وكاد بالرحيل، فتعلقت بقدميه وهي تردد ببكاءٍ:
_انا آسفة يا "يحيى" مش هتكلم عنها كده تاني، ومش عايزاك تتطلقها.
ونهضت لتقف من أمامه ثم إقتربت منه بطريقةٍ مخجلة لحيائها كأنثى لتستطرد:
_أنا عايزاك أنت وبس حتى لو هنتجوز بالسر!
وحررت ازرار قميصه بوقاحةٍ، وهي تستباح أجزاء من جسده بوقاحةٍ، أبعدها عنه وهو يحارب تلك الرغبة المتعطشة بداخله، ليهمس بخفوتٍ:
_إبعدي.
خلعت فستانها بلا حياء أو خوف من الله عز وجل لإرتكابها مثل تلك الفاحشة، لم تترك له فرصة المناص من مخضعها الخبيث، فكاد بأن يستسلم لها لترسم من أمامه صورة معشوقته وكأنه جلاد لروحه وقلبه المخضوع لها، ابتعد "يحيى" عنها عن الفور، تدارك ذاته باللحظة المناسبة فجذب قميصه الملقى أرضاً وأسرع بالخروج من ذاك المكان الذي يشبه اللعنة، أسرعت من خلفه فدفعها بعيداً عنه وهو يردد بتقززٍ:
_أنا لولا أن أخوكي صاحبي وعشرة عمر أنا كنت فضحت وساختك.
وتركها وغادر، فجزت على أسنانها بغيظٍ وصدمة من تماسكه أمامها! ، لا تعلم بأن من يعشق من صمام قلبه لا يرى أمامه الا من فتنت قلبه وعقله.
*******
بعد معاناة تمكن العامل من تصليح العطل القابع بالمصعد، وفور الإنتهاء من الإصلاح استكمل المصعد مهامه بالهبوط للطابق الأرضي، فأسرع "آسر" للأسفل، ثم فتح باب المصعد ليتفاجئ بها مغشي عليها، فزع حينما رآها ملقاة كمن فارقتها الروح، فإنحنى ليقربها إليه ثم لطم وجنتها برفقٍ:
_آنسة "تسنيم".. سامعاني؟
كانت شاحبة كالموتى، فحملها بين يديه ليصعد بها لمكتبه مجدداً بعدما طلب من العامل إحضار الطبيبة في الحال، وبالفعل ما هي الا دقائق معدودة حتى انتهت من فحصها، لتؤكد له بأنها بخيرٍ ولكن إحتجازها بمكانٍ ضيق كهذا منعها من إستنشاق الإكسجين اللازم، وأخبرته بأنها ما هي الا دقائق وستستعيد وعيها تدريجياً، جذب"آسر" احد المقاعد ثم جلس لجوارها ينتظر لحظة استعادتها للوعي، فتحت جفن عينيها الثقيل بصعوبةٍ وهي تحاول التقاط نفسها المتقطع، بدأت الرؤيا توضح تدريجياً فوجدت ذاتها بمكتبه، انتفضت "تسنيم" بجلستها وأخذت تتأمل المكان برهبةٍ شديدة، إقترب "آسر" منها ليتساءل بشك:
_أنتي كويسة؟
إرتجف جسدها وتراجعت للخلف وهي تردد بخوفٍ مبالغ به:
_أنا هنا بعمل أيه وأنت ليه مقرب مني كده؟
رغم دهشته من طريقتها الغريبة، ولكنه تفهم بنهاية الأمر الحالة المسيطرة عليها، فسمات الصعايدة صعبة فيما يرتبط بالأصول، فأشار لها بيديه:
_إهدي بس الأول.
واستطرد ليوضح لها:
_أنتي كان مغمى عليكي بالأسانسير وأنا طلبتلك دكتورة ولسه ماشية حالاً.
ابتلعت ريقها على مهلٍ، ثم عدلت من خمارها الطويل لتجذب حقيبتها، ثم رددت بصوتٍ واهن:
_شكراً لحضرتك يا أستاذ "آسر"..
وتحملت على ذاتها لتنهض عن الأريكة، فرفعت معصمها ومن ثم شهقت بصدمة:
_يا خبر الوقت إتاخر أوي أكيد باب السكن إتقفل.
استمع" آسر" لما قالت وإن كان صوتها منخفض، فقال بذهولٍ:
_بس الساعة١٠ونص!
رفعت عينيها إليه ثم قالت بخوفٍ:
_الباب بيفقل الساعة ٩.
ثم اتجهت تجاه الباب فخطى خلفها وهو يناديها:
_"تسنيم" استني.
وقفت محلها تشدد على حقيبتها بارتباكٍ، فوقف مقابلها ثم قال:
_تسمحيلي أوصلك بعربيتي..
كادت بالاعتراض فقاطعها:
_زي ما قولتي الوقت إتاخر ومينفعش تمشي بالوقت ده لوحدك ويا ستي إعتبريني تاكسي واركبي ورا..
صمتت قليلاً تحسبها، فقال بحزمٍ:
_متضعيش وقتك أكتر من كده يلا.
لم يكن لديها حلول أخرى، اتبعته للأسفل باستسلامٍ، فأخرج سيارته من الجراج ومن ثم وقف مقابلها فصعدت بالخلف على استحياءٍ، تحرك بها وكانت مرشدته تجاه السكن الجامعي، ومع أن وصلوا حتى وجدوا الباب مغلق من الخارج بالقفل المعدني مثلما تفعل مديرته كل يوماً حرصاً على سلامة الطلبات ولأجل الحفاظ على قوانين السكن، انكمشت ملامحها في يأسٍ ولمعت الدموع بحدقتيها، فماذا ستفعل بهذا الوقت المتأخر وإلى أين ستذهب؟
هبط "آسر" من سيارته خلفها، فوزع نظراته بينها وبين القفل الكبير، ثم قال بثباتٍ:
_ولا يهمك تعالي معايا وقضي الليلة مع "حور" والبنات.
أعدلت طرف خمارها الطويل وهي تجيبه بتوترٍ:
_لا مفيش داعي هشوف أي مسجد. أو سكن قريب من هنا.
بحدةٍ قال:
_سكن أيه ومسجد أيه، بلاش كلام فارغ بعيد عن إنك صاحبت "حور" فإحنا من بلد واحدة وبنعمل مع الغرب أكتر من كده ولا أيه!
أخفضت رأسها أرضاً بحرجٍ مما تعرضت له خلال هذا اليوم الغامض، ففتح "آسر" باب السيارة الخلفي ثم أشار لها بالصعود، فصعدت على استحياءٍ، ليتحرك بها تجاه العمارة الخاصة بهم.
********
بشقة "عبد الرحمن".
ظل لجوارها حتى غفت تماماً، فداثر" عبد الرحمن" والدته بحنانٍ، ثم تسلل للخارج بهدوءٍ حتى لا يوقظها، فإتجه للمطبخ ليعد كوب من القهوةٍ الساخن، ثم جلس يحتسيها بانتشاءٍ وكأن مذاقها يذكره بتلك الفتاة ذات العين البنداقية، لأول مرة تتعلق ذاكرته بأحدٍ ليس لإنه يكره النساء، ولكن لإنه لم يجد من تلفت انتباهه، انتشله من شروده الهائم بفتاة أميركا رنين هاتفه، فرفعه ليجد اسم الكبير ينير من شاشته، لعق شفتيه بتوترٍ وكأنه يتلصص على تفكيره، فوضع الكوب من يديه على الطاولةٍ ثم وقف ليجيبه بلغةٍ صعيدية:
_كيفك يا عمي، يارب تكون بخير.
أتاه صوت "فهد" الحنون:
_بخير يا ولدي، انت اللي أخبارك أيه وحشنني أوي.
ابتسم وهو يجيبه:
_اني بخير والله، تسلم يا غالي.
انتظر دقيقة ثم قال:
_اني كلمتك عشان أقولك تتدلى البلد أخر السبوع الجاي أنت ووالدتك مع الشباب.
صعق "عبد الرحمن" مما استمع عليه، فبترت الكلمات على شفتيه ولم يجد ما يقوله، فاسترسل "فهد" حديثه قائلاً:
_متقلقش هبعتلك عربية إسعاف تجبها وهي إهنه جوه عيونا يا ولدي.
ابتسامة تسللت على وجهه رغم الدموع البارزة من عينيه، فقال:
_مش عارف أقولك أيه يا عمي ربنا ما يحرمني منيك.
رد عليه بحبٍ:
_متقولش حاجة وتنفذ اللي قولتلهولك وأنت ساكت فاهم.
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه:
_فاهم يا كبير، في رعاية الله.
وأغلق الهاتف والسعادة تتراقص على وجهه، فرغم ما ارتكبته والدته من ذنبٍ فاضح الا أنه سامحها بنهاية الامر!
*******
صعدت "تسنيم" خلفه بخوفٍ ينبع بأوصالها رغماً عنها، كانت تلتفت خلفها وتقدم قدماً وتأخر الأخرى بارتباكٍ، شعر "آسر" بها، فوقف على الدرج ثم أخرج هاتفه لينتظر حتى أتاه الرد، فقال:
_"حور"، انا تحت إنزلي حالا.
وأغلق الهاتف ثم وقف مقابل "تسنيم" التي حمدت الله حينما وجدت رفيقتها تهبط الدرج، فعاد الدماء ليسري بعروقها، ما فعله كان من أسمى سمات الرجولة، رفضه لرؤية الخوف يتمكن منها فمنعها من اللعب على اعصابها من وضع إفتراضات مؤلمة فقطع تفكيرها حينما جعل "حور" تهبط بنفسها قبل صعودهما كان لاجل تلك الابتسامة والراحة التي سكنت معالم وجهها الرقيق، وبالرغم من خجلها الا أنها منحته نظرة شكر وإمتنان لتفهمه لخوفها الطبيعي، افاقت "تسنيم" من غفلتها على احتضان "حور" لها بسعادة حينما أخبرها آسر بما حدث، ققالت بفرحةٍ:
_والله ما مصدقة انك هتقضي الليلة معايا ده انا مش هسيبك تنامي أبداً هنرغي للصبح.
رد حازم انطلق منه:
_"حـور"!
تهدلت شفتيها بحزنٍ:
_خلاص هسيبك تنامي والصبح نرغي، مرضي كده يا كبيرنا.
ابتسم "آسر" ثم أشار لهما باستكمال الدرج من خلفه فوصلوا سوياً للطابق المنشود، وجدته "تسنيم" يتجه للشقة القابعة بالجانب الأيسر وحور بالجانب الأيمن، فالتفت ويا ليته لم يفعل، امسك بها تتطلع له فإحمر وجهها خجلاً لتسرع من خلف رفيقتها، ابتسم "آسر" ثم أشار لحور بصوتٍ ثابت يسكنه الحزم:
_إقفلي عليكم كويس.
أومأت له مرددة:
_حاضر والله حفظت التعليمات.
وبالفعل ولجت للداخل لتغلق الباب بالمفتاح جيداً، ثم استدارت لتجدها تتأمل الشقة بإعجابٍ شديد، فكان يغلبها الطابع الانثوي، انتبهت لصوت "حور" حينما قالت:
_تعالي ندخل أوضتي.
اتبعتها للداخل فأغلقت "حور" الباب من خلفهما ثم اتجهت للخزانة الكبيرة التي تشمل نصف الحائط، إختارت منامة من اللون البنك ثم أشارت لها على حمام الغرفة بحماسٍ:
_ادخلي غيري هدومك بسرررعة وتعالي عشان في حاجات كتيرة فايتاكِ باللي مطنشة مكالماتي من الصبح.
جذبت منها المنامة ثم قالت بسخطٍ:
_وأنا هروح منك ومن رغيك فين، أهو بالنهاية جيتلك برجلي.
دفعتها بقوةٍ تجاه الحمام وهي تردد بسخريةٍ:
_نصيب يا بنتي لان ربنا عالم بيا وبالأخبار المهمة عندي، خلصي بس.
تعالت ضحكات "تسنيم"، فأغلقت الباب من خلفها ثم أبدلت ثيابها وحينما خرجت وجدت"حور" ترص عدة أطباق على الطاولة الصغيرة المقابلة للشرفة، لتشير لها بيدها:
_يلا يا حلوة لقمة هنية من صنع أيديا.
جلست على الفراش بحرجٍ:
_أيه اللي أنتي جيباه ده يا حور، أنا مش جعانة على فكرة.
جذبتها للطاولة وهي تصيح بها بعبثٍ:
_أنتي ليه محسساني اني واحدة من الشارع ده إحنا عشرة عمر يا بت طول عمرنا بنقسمها سوا ولا نسيتي!
ابتسمت ثم انصاعت ليدها فجلست على الطاولة، لتبدأ بتناول طعامها بصحبتها، لتشرع "حور" بقص ما حدث اليوم على مسمعها، لتختمه بقولها المتحير:
_ومعرفش أيه اللي يخليه يحتفظ باللعب والتوك بتاعتي لحد الآن!
ثم استكملت حديثها بهيامٍ بذكريات الماضٍ:
_وإحنا صغيرين كان بيحب يضايقني اوي على عكس علاقته بروجينا فأكيد أخد اللعب دي عشان يضايقني برضه.
استمعت لها بحرصٍ، ثم قالت:
_لو كان عايز يضايقك كان كسرهم ورماهم مكنش احتفظ بيهم كل ده.
رفعت حاجبيها بإستغرابٍ:
_قصدك أيه؟
ردت عليها "تسنيم" بهدوءٍ:
_قصدي ان في فرق بين الصداقة والحب يا حور،الصديق عمره ما ببضايق صديقه وبيسعى لإسعاده بشتى الطرق، لكن لما العلاقة تتحول لعناد وصراعات بتبقى بوادر لعلاقة حب، فهمتي طبيعة علاقته بخطيبته أيه؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وقد تسنى لها فهم ما ودت إخبارها به تسنيم فبمجرد تخيلها أن أحمد يكن لها حب خفي ارتبكت مشاعرها فباتت كالعارية أمام رفيقتها، خشيت أن تستكشف مشاعرها هي الأخرى فقالت بتوترٍ:
_فكك من الحوار ده وقوليلي عاملة أيه في الشغل مع كبيرنا.
تشتت للغاية فأبعدت خصلات شعرها البني عن عينيها وهي تجيبها بخفوتٍ:
_ولا حاجة، انتي عارفة أن ده أول يوم ليا وكده، وأدكي شوفتي من أولها مصيبة الاسانسير والسكن.
ضحكت "حور" وهي تشير لها على الفراش:
_ده رزقي عشان تونسيني النهاردة.
تمددت "تسنيم" جوارها، ثم استمعت لثرثرتها التي لم توقف الا حينما ادعت النوم، فأغلقت "حور" الضوء وخلدت هي الأخرى للنوم، فحينما تأكدت الأخرى من نومها فتحت عينيها لتصفن به، مديرها الغامض الذي أصبح يسيطر على حيز كبير من تفكيرها!
**********
ساعات مطولة قضاها بالقيادة وهو يحاول التغاضي عما حدث معه من تلك الفتاة الوقحة، وبالنهاية اهتدت سيارة "يحيى" أمام العمارة، فصفها وصعد لشقته، كانت الساعة وقت إذن الثانية صباحاً وبالرغم من ذلك مازال يلتمس عتمة الليل القابعة بداخله، دث مفتحه بباب الشقة ومن ثم صعد لغرفته فألقى جاكيته على الأرض ثم جلس على حافة الفراش بإهمالٍ، يحتضن وجهه بذراعيه والآلآم تسيطر على جسده باكمله وخاصة موضع قلبه، فُتح باب الغرفة من أمامه، لتدلف "ماسة" وهي تحمل لعبتها بين يديه، فاقتربت لتجلس جوارها وبسمتها تشرق وجهها الرقيق، تعلقت عينيه بها لثوانٍ طالت لدقائق لم يمل منها، تمنى لو تعود لحالتها الطبيعية لساعة واحدة يشكو لها ألم قلبه الذي يلتاع شوقاً لها، كان بحالةٍ مذرية وكأنه جريح ينزف جرحه دون توقف، رفع يديه ليلامس وجنتها الحمراء ليهمس بصوتٍ مختنق:
_وحشتيني أوي يا "ماسة".
اتسعت ابتسامتها، لتجيبه بعفويةٍ:
_وأنت كمان.
خانته كلماتها فكأنما تناسى حالتها بتلك اللحظة، تحررت رغباته المكبوتة، فاقترب منها ثم سمح لنفسه بكسر حاجز وضعه الأطباء من أمامه من قبل، انجرف خلف مشاعره ورغبته بها، فتناسى كل شيء، حتى صوتها الصارخ وجسدها المرتجف، دميتها التي سقطت من يدها لتلامس الأرض، لم يرى شيئاً أمامه سوى معشوقته تطالبه بالإقتراب، لم يفق من غفلته التي طالت به، فلم يشعر بأنه يحطم ما حققه من نجاح بالتعامل مع حالتها المرضية، وحينما أشرقت شمس اليوم التالي فتح عينيه على صدمة لم يكن ليضعها بقاموس تخيلاته!!..
**********
بالأسفل..
وقف "بدر" ينتظر "روجينا"،و"حور" ليتحرك بهما تجاه الباص الذي سيقودهما للرحلة التي ستسطر قدر كلاً منهما، فتفاجئ بها تقف من أمامه جوار "روجينا"، احتدت نظراته تجاهها، فجذب" روجينا" بعيداً ثم صاح بانفعالٍ:
_ممكن تفهميني أيه اللي بيحصل بالظبط مش قولتيلي ان حور اللي طالعة معاكي!
لم تفهم سبب تعصبه الشديد ولكنها أجابته بثباتٍ:
_ايوه كانت هتطلع معايا بس عندها امتحانات فمكنش قدامي غير "رؤى"، في حاجة ولا أيه؟
تحكم"بدر" بانفعالاته، ثم قال بصلابة:
_لا مفيش.
وأشار لها بغيظٍ:
_يلا نتحرك ولا هنقف هنا طول النهار..
استغربت من حالتها الغريبة ولكنها لم تعلق فأشارت بيدها لرؤى التي تفهمت ما يحدث معه ومع ذلك لحقت بهما، فلم يعد يشغلها أحداً باتت كالألة التي تتحرك دون أي شعور، فحتى قلبها لم تعد تستمع لآنينه!
********
فتح عينيه ببطءٍ شديد، ثم استند بجذعيه على الفراش ليجلس باستقامةٍ، فرك "يحيى" جبهته بألمٍ شديد، وكأنه لا يتذكر سبب ألم صداع رأسه او حتى كيف غفل بنومه عاري الصدر هكذا، لفت انتباهه العروس الملقاة أرضاً، فنهض عن الفراش ليحملها بين يديه بابتسامة تسللت لوجهه فحتما هي مختبئة بغرفته مثلما تفعل، رفع صوته وهو يبحث خلف الستائر وبخزانته:
_"ماسة" أنتي فين؟
لم يجدها فمرر يديه على خصلات شعره الطويل بحيرةٍ، فاهتدت عينيه لطرف الملاءة الذي يظهر من خلف حائط حمام غرفته، اقترب "يحيى" حتى ولج للداخل فتخشب محله من الصدمةٍ حينما رآها تجلس أرضاً، تضم ساقيها لصدرها وجسدها يرتجف بقوةٍ، نظراتها تجاهه قتلته وكأنها ترى مغتصبها من أمامها، يدها المرتعشة تلف الملاءة حول جسدها الذي يزحف للخلف برهبةٍ ورعب لم تشهده من قبل، لم تحمله قدميه أكثر من ذلك فجلس أرضاً وهو يتأمل حالتها التي بدأت بشرح ما حدث أمس، لتدور به ذكريات مما حدث فتجمدت أطرافه حينما رآها تنهمر بالبكاء وعينيها تحدجه بنظراتٍ هلع، وحينها لم يجد ما يفعله فكور يديه بقوةٍ ثم لكم البانيو المجاور له وهو يصرخ بشراسةٍ:
_أيه اللي عملته ده!!!! غبي.
حالة الهياج التي تمسكته الآن جعلتها تهابه أكثر وخاصة حينما انسدلت الدماء من يديه فلم تقوى على المحاربة أكثر من ذلك فسمحت لجسدها الهزيل بالترنح أرضاً!.
.......... يتبع..........
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الثامن
الدهاشنه2....(صراع السلطة والكبرياء..)
الفصل
الثامن..
(إهداء الفصل للأدمن الجميلة زينب "فرصة للحياة" ..)
اضطر بالجلوس لجوارها بعدما جلست "روجينا" بالخلف جوار إحدى رفيقاتها، جلس على مضضٍ وكأن هناك أشواك تنهش جسده، كان يتوقع أن تستغل الفرصة للحديث معه أو الإعتذار منه، أو على الأقل تريه بشتى الطرق إنها لا تطيق الجلوس لجواره مثلما لم يرغب هو، ولكن ما حدث جعل "بدر" في دهشةٍ وحيرة، فكانت "رؤى" تستند برأسها على نافذة الباص الضخم، تتابع المارة بنظراتٍ ساهمة متصلبة، وكأنها بعالم منعزل لا بشر به ولا شيء غير الخذلان، تحول السخط الذي بداخله تجاهها لذهولٍ من حالتها الغريبة، شعر وكأنها ليست ذاتها الفتاة التي حطمت قلبه منذ سنتين!
ترى ماذا حدث لها لتفقد بهجتها وابتسامتها التي لم تغادر وجهها أبداً، إنقلب الأمر برمته من الكراهية للحيرة فباتت أعينه تراقبها طوال الطريق للإسكندرية وهي بغفلة حتى عن ملاحظة ذلك.
*********
بشقة "يحيى".
وقف الجميع أمام غرفة النوم بإنتظار خروج الطبيبة التي ما أن انتهت من فحصها وإعطائها الأدوية المناسبة، خرجت فهرع"أحمد" إليها ليتساءل بلهفةٍ:
_خير يا دكتورة، "ماسة" مالها؟
تجاهلته الطبيبة ثم دنت حتى إقتربت من "يحيى"، فقالت بتعصبٍ شديد:
_أستاذ"يحيى" أنا من البداية شرحتلك حالة "ماسة" الحرجة، وقولتلك إنك هتتعامل معاها كطفلة مش كزوجة، وأنا كنت سعيدة جداً إنك بدأت تستوعب ده لكن باللي عملته النهاردة فأنت رجعتنا لنقطة الصفر..
وقطعت روشتة الدواء ثم قدمتها لآسر لتغادر على الفور، انتقلت نظرات "أحمد" المحتقنة تجاه "يحيى" الذي تنسدل دمعاته في صمتٍ تام، فقطع المسافة فيما بينهما ليجذبه من تلباب قميصه الابيض، صارخاً به بقسوةٍ:
_أنت عملت أيه؟
إهتز جسد "يحيى" بعنفٍ تجاه دفعة "أحمد" له، فشدد من قبضته المحاطة بجلد رقبته وهو يصيح به:
_وصلت بك الوقاحة لكده، أنت دمرت كل حاجة عملناها.
تدخل "آسر" على الفور ليحيل بينهما، فقال بحزمٍ:
_خلاص يا "أحمد" اللي حصل حصل.
لم ينصاع إليه وحاول أن يمسكه من جديدٍ، وهي يصرخ باندفاعٍ:
_أبقى قابلني لو عرفت تحل اللي أنت عملته.
وقف "آسر" مقابله، ليصده للخلف وقد إرتفعت نبرته بعصبيةٍ شديدة:
_ما قولتلك خلاص هو واحد من الشارع وغلط معاها ده جوزها، فووق.
انتقلت نظراته إليه ثم قال بإلمٍ:
_وأنت شايف حالتها تسمح بكده!
بصرامةٍ أجابه:
_قولتلك خلاص إقفل الموضوع.
_في أيه، صوتكم عالي ليه كده؟
كلمات لاهثة خرجت من "عبد الرحمن" الذي أتى ككل صباح فهرول للأعلى حينما استمع لصوت شجارهم الصاخب، وفور رؤيته دفع "آسر"،" أحمد" بيديه تجاهه وهو يشير إليه:
_خده تحت يا "عبد الرحمن".
لم يستوعب ماذا يحدث بينهما، ولكنه تفهم بحاجة آسر لإبعاده بذاك الوقت، فجذبه للأسفل عنوة، فأغلق"آسر" الباب ثم دنى ليجلس قريباً منه، طافته نظراته قبل أن يسأله بهدوءٍ:
_أيه اللي حصل يا "يحيى" وليه عملت كده؟
رفع عينيه الحمراء من أثر كبته لدموعه المتحجرة فترة طويلة، ليخرج صوته الشاحب كحال قلبه:
_غصب عني والله يا "آسر" أنا معرفش عملت كده إزاي؟ ، يمكن مقدرتش أسيطر على نفسي بسبب اللي بنت ال*** عملته.
ضيق عينيه وهو يتساءل بدهشةٍ:
_عملت أيه؟
أخذ "يحيى" بقص ما حدث على مسمع "آسر" الذي تفهم ما دفعه لفعل ذلك، فقال بغضبٍ:
_بلغ أخوها بوساختها لو معرفش يربيها يقعده جانبه.
قال بحزنٍ شديد:
_والدتها ممكن تروح فيها لو عرفت حاجة زي كده، أنا كفايا عليا إني طردتها من المكتب وخلاص.
رد عليه "آسر" قائلاً:
_معتقدش إن البت دي هتسيبك في حالك يا "بحيى"، لازم تعملها وقفة وحاجز قبل ما تفكر تأذيك تاني.
شرد بحديثه المتعلق بها، ولم يفق الا على صوت" إلهام" الباكي:
_"ماسة" فاقت بتصرخ وبتعيط وأنا مش عارفة أعملها أيه يا أستاذ "يحيى".
ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي عصفت برئتيه فور سماعه لما قالت، فإنتقلت نظرات لآسر الذي حثه على النهوض قائلاً:
_حاول تاني تقرب منها، هتواجه شوية متاعب بس أنا متأكد إنك هتقدر تقربها منك تاني.
أومأ برأسه بهزة خافتة، ثم تحرك تجاه غرفتها يقدم قدم ويؤخر الأخرى حتى ولج للداخل..
************
بالأسفل..
فتح"عبد الرحمن" باب الشقة ثم دفعه للداخل بحدةٍ من عدم استجابته إليه:
_اللي بتعمله ده غلط يا "أحمد"، معرفش أيه اللي حصل بينكم بس مهما كان مينفعش تتكلم بالأسلوب ده مع"يحيى".
رفض"أحمد" دخول الشقة ثم صاح بعنفوانٍ:
_ما أنت متعرفش هو عمل أيه؟
رد عليه بعقلانيةٍ:
_ومش عايز أعرف، بالعقل والتفاهم الأمور هتتصلح لكن مش بالخناق وعلو الصوت يا أحمد.
خرجت "تالين" على صوتهم المرتفع، فدنت منهما، تتساءل في حيرةٍ:
_في أيه، بتتخانقوا ولا أيه؟
ظهرت فاتنة القلب من أمامه، فارتج ثباته أمامها، تباً لتلك الأعين التي هوست التطلع لها، وبالرغم من مراقبته بكل شاردة وورادة تخص تعابير وجهها الا أن شروده لم يمكنه من سماع حوارها المتبادل مع "أحمد" الذي يؤكد لها بأن الأمور على ما يرام، لمحته "تالين" فتسللت تلك الربكة الخافتة لدقات قلبها فتوترت نظراتها تجاهه، ثمة شيئاً بداخلها يشعر بالرضا من نظرات إعجابه، إلى أن أفاق لنفسه فقال وهو يتهرب من مرمى بصرها:
_يلا يا "أحمد" غير هدومك عشان ننزل المصنع.
إنصاع له أخيراً، فتركهما وولج للشقة فترك بابها مفتوحاً، وحينما أختلت الطرقة الفاصلة بين الشقتين بهما إرتبكت فشددت على أصابعها بتوترٍ، بحث عن كلمات مناسبة يفتتح بها الحوار بينهما فبدا كالأبله حينما قال:
_عاملة أيه؟
أجابته على إستحياء:
_بخير الحمد لله..
وأضافت بخجلٍ:
_وأنت كويس.
هز رأسه بابتسامةٍ ساحرة، فأومأت برآسها ثم أشارت على باب الشقة وهي تدنو منه بتعثرٍ:
_هشوف "حور" فين.. عن إذنك.
راق له خجلها وذاك التشتت الذي طغى عليها، فأشار لها بثباتٍ، ببطءٍ شديد أغلقت الباب وكأنها بحيرة من أمرها بأن تغلقه والأخر مازال بالخارج أو تتركه مفتوحاً، فالحالة التي تستحوذ عليها مذرية للغاية، أغلقته ومازالت تسأل ذاتها هل تصرفها صحيح أما ماذا؟
حتى عقلها استحضر ردودها عليه ليؤنبها على حمقاتها بالرد المختصر، ولكن عادت لتشير بعدم مبالاة مصطنعة:
_الله وأنا هصحبه يعني قالي عاملة أيه قولتله كويسة وإنتهينا!
وتوجهت للمطبخ لتتسع ابتسامتها وهي تتأمل السفرة العامرة من أطيب وألذ الطعام وخاصة كعك البرتقال الشهي الذي يميز "حور"، فانتهت الأخيرة من وضع القهوة على السبرتاية الذهبية، لتردد براحةٍ:
_كده كله تمام.
اقتحم صوت"تالين" المطبخ حينما تساءلت بذهولٍ:
_أيه الجمال ده كله يا "حور"؟
ارتسمت بسمة مشرقة لا تفارق شفتيها الوردية:
_بنت حلال كنت لسه هدخل أصحيكِ، يلا اقعدي إفطري عما أصحي"تسنيم"..
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
_تسنيم مين؟
اجابتها وهي تدنو من باب البراد لتخرج زجاجة من المياه:
_دي صحبتي وبايتة معايا من امبارح، فرصة اعرفكم على بعض ده أنا قرفها بيكي وبالكلام عنك.
قالت وهي تتذوق قطعة من الكعك:
_ياريت..
وبالفعل تركتها وولجت لغرفتها، فوجدت" تسنيم" ترتدي حجابها أمام المرآة وتستعد للخروج، فحملت حقيبتها سريعاً ثم قالت بإصرارٍ:
_مفيش خروج من غير فطار يا هانم.
عقدت "تسنيم" الحجاب حول رأسها جيداً ثم قالت بضجرٍ:
_يا بنتي قولتلك ماليش نفس ليه مش بتصدقي، أنا يدوب أجري ألحق الشغل.
ثم أبعدتها عن طريقها لتجذب الحذاء، فقالت "حور" بغضب:
_قولي اللي تحبيه بس بالنهاية هعمل اللي أنا عايزاه..
فتحت باب الغرفة ثم جذبت الحقيبة من يدها لتشير لها باستعطاف:
_مرة تانية عشان متأخرش بالله عليكي يا "حور".
تركت الحقيبة فحملتها"تسنيم" وإتجهت سريعاً لباب الشقة قبل أن تتمكن من إيقافها مجدداً، فإتبعتها لتجذب اسدالها المعلق جوار الباب ثم خرجت لتوقفها على الدرج، فعاتبتها بحزنٍ:
_أنتي بجد هيجيلك قلب تمشي وتزعليني!
استدارت تجاهها ثم قالت:
_غصب عني والله هتتعوض مرة تانية، لازم أنزل عشان ألحق المواصلات والا كده هتأخر خالص عن الشغل يرضيكي أترافد من أول إسبوع كده!
_هتترفدي على التأخير ومديرك لسه مرحش!
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي ترفع عينيها لأعلى الدرج، لتجد "آسر" يقف من أمامها، ومع كل درجة كان يهبطها للأسفل كاد بها قلبها أن يتوقف أكثر من مرةٍ وخاصة حينما أصبح مقابلهما، فشكت له "حور" قائلة:
_إتكلم أنت يا آسر لحسن أنا ريقي نشف معاها..
سلطت عينيه البندقية عليها، ليبتسم رغم جدية حديثه الصارم:
_مفيش حد بيدخل بيت من بيوت كبير الدهاشنة وبيخرج من غير ما واجبه يكون كامل يا "تسنيم".
يا الله، سماع نبرته تردد صوتها زرع الخجل برعشة جسدها الغريبة، بللت شفتيها بلعابها وهي تجاهد بالثبات من أمامهما، فليس ذاك فصل الشتاء القارص ببرودته لترتعش هكذا، فما تلك البرودة التي تضرب أطرافها عكس تلك الحرارة التي تمزق وجنتها، رفعت عينيها تجاهه فوجدته مازال يستكمل حديثه مبتسماً:
_متقلقيش مش هرفدك على سبب تافه زي ده الا لو ناوية على تقيل؟
نفت برأسها عدة اشارات جعلت ابتسامته تتسع حتى برزت أسنانه البيضاء على مظهرها الطفولي، تعجبت"حور" من الحالة الغريبة التي تسيطر على صديقتها وتراها هي لأول مرة، ولكنها تغاضت عن ذلك بوجود آسر، فانتبهت له حينما قال:
_نازلة الجامعة النهاردة يا حور؟
اجابته بتذكرٍ:
_أيوه ربع ساعه ونازلة إن شاء الله.
اومأ برأسه ثم هبط الدرج ليستكمل حديثه الحازم:
_نص ساعة وانزلوا هوصلك للجامعة ونطلع على المصنع.
ثم استدار تجاهها ليشدد عليها بصرامةٍ وعينيه تقصد تسنيم:
_متنزلش من غير أكل، سامعة.
جذبتها من معصمها بالقوة وهي تشير له:
_عنيا يا عمهم، هنأكل وننزل هوا.
منحها ابتسامة صغيرة قبل أن يستكمل الدرج تاركاً الف علامة استفهام تطوف بتلك الشاردة برجولته ووسامته الشرقية.
********
حينما يتعلق الطفل بشخصٍ ويراه بأفضل صورة ومن ثم تتمزق من أمامه ليراه بشكلٍ لم يعهده من قبل، يتحول الحب بداخله لشعلةٍ من الكره والخوف من محاكاته، وها قد استحوذ هذا الشبح على "ماسة"، فحينما رأته يدلف لغرفتها تجمد جسدها على الفراش، حتى صرخات استغاثتها تحجرت على لسانها، فدثت وجهها بين قدميها المتكورة على جسدها وأخذت تراقبه برهبةٍ وخوف لا مثيل له، يعز عليه رؤيتها هكذا؛ ولكنه لم يتوقف فمضى قدماً حتى صار قريباً منها، فجاهد لرسم بسمة آمنة علها تتسلل لأعماقها مثلما كانت تفعل كل مرة، ثم أجلى صوته ليردد:
_" ماسة" مش عايزة تشوفي أنا جبتلك أيه؟
قال كلمته وهو يخرج من جيب جاكيته شوكولا من النوع الذي تعشقه، حدجته بنظرة جافة،فحتى ما يحمله لم يعنيها كثيراً، تحررت تلك الدموع المحتسبة فرغم إنه ترعرع ببيئة أعز قوانينها بأن دمعة الرجل لا يراها عزيز، ولكنها أعز العزيز على قلبه، ماسته الثمينة كاد بأن يحطمها بيديه هو، دمعاته تساقطت لتحرر ما يشعر به بداخله، فصارع حتى الرمق الأخير فتحررت أحباله الصوتية أخيراً:
_ "يحيى" غلطته كبيرة أنتي لازم تسامحيه وهو مش هيعمل كده تاني..
كلماته لم تسكن جفاء النظرات، ليتها البلسم لشفائها أو ترياق تتمكن من تجاوز ما تمر به، أخذ خطوة جريئة وإقترب منها أكثر ثم سمح لذاته بملامسة وجهها، ارتعبت وتحرر صوت بكائها الخافت، حتى جسدها انتفض بعنفٍ بين يديه، تراجع "يحيى" للخلف على الفور، وأخذ يراقب تشنج جسدها ورهبتها بوجوده، لم يحتمل أن يتابع حالتها تلك، فأسرع بالخروج ليردد بخذلان لمن تقف أمامه:
_خليكي جنبها يا "إلهام" متسبهاش.
_اللي تؤمر بيه يا بشمهندس.
قالت كلماتها ثم ولجت للغرفة لتغلق الباب من خلفها، لتختفي من أمام أعينه خلف الباب الموصود وكأنها إشارة لبعد مؤقت سيحتم لفتح طريق ربما به صلاح ولكن لابد من وجود عقبة ستعرقل ساقيه!
*********
رفضت "روجينا" الصعود لنيل قسط من الراحة مثلما فعل الجميع، وصممت على الجلوس أمام المياه التي تتلاطم أمواجها في سباقٍ عاصف لملامسة الشاطئ، تمددت على المقاعد المريحة أمام المياه والفرحة تزين وجهها، فهمست بصوتٍ منخفض:
_وأخيراً حققت حلمي أني أقعد قدام البحر وأزور كل حتة في اسكندرية.
وأخرجت هاتفها سريعاً لتلتقط عدد من الصور السلفي لنفسها أمام المياه، توقف إصبعها عن الضغط على زر التصوير حينما لمحت بهاتفها إنعكاس ذاك الشاب الذي يسبح بمهارةٍ أسفل المياه، دقيقة تليها الأخرى حتى أصبح قريباً من الرمال، فاستقام بقامة جسده الرياضي، ومن ثم خلع القناع الذي يحجب عينيه الرمادية عن المياه، تدلى فكيها السفلي وهي تتأمله بإنبهارٍ، يقال إن إمتلكت المرأة سحراً تتباهي به ولكن الرجل سحقاً لما يتمكن من فعله حينما يتملكه الغرور والثقة الزائدة من نفسه، هكذا ضرب "أيان" عصفوره الذي يراقبه من بعيدٍ بالخفاء، يبتسم خفية مما ينوي لفعله حينما يطبق يديه عليه سيكون هو بنفسه سجان العصفور الأخرق!...
....... يتبع.....
الفصل
الثامن..
(إهداء الفصل للأدمن الجميلة زينب "فرصة للحياة" ..)
اضطر بالجلوس لجوارها بعدما جلست "روجينا" بالخلف جوار إحدى رفيقاتها، جلس على مضضٍ وكأن هناك أشواك تنهش جسده، كان يتوقع أن تستغل الفرصة للحديث معه أو الإعتذار منه، أو على الأقل تريه بشتى الطرق إنها لا تطيق الجلوس لجواره مثلما لم يرغب هو، ولكن ما حدث جعل "بدر" في دهشةٍ وحيرة، فكانت "رؤى" تستند برأسها على نافذة الباص الضخم، تتابع المارة بنظراتٍ ساهمة متصلبة، وكأنها بعالم منعزل لا بشر به ولا شيء غير الخذلان، تحول السخط الذي بداخله تجاهها لذهولٍ من حالتها الغريبة، شعر وكأنها ليست ذاتها الفتاة التي حطمت قلبه منذ سنتين!
ترى ماذا حدث لها لتفقد بهجتها وابتسامتها التي لم تغادر وجهها أبداً، إنقلب الأمر برمته من الكراهية للحيرة فباتت أعينه تراقبها طوال الطريق للإسكندرية وهي بغفلة حتى عن ملاحظة ذلك.
*********
بشقة "يحيى".
وقف الجميع أمام غرفة النوم بإنتظار خروج الطبيبة التي ما أن انتهت من فحصها وإعطائها الأدوية المناسبة، خرجت فهرع"أحمد" إليها ليتساءل بلهفةٍ:
_خير يا دكتورة، "ماسة" مالها؟
تجاهلته الطبيبة ثم دنت حتى إقتربت من "يحيى"، فقالت بتعصبٍ شديد:
_أستاذ"يحيى" أنا من البداية شرحتلك حالة "ماسة" الحرجة، وقولتلك إنك هتتعامل معاها كطفلة مش كزوجة، وأنا كنت سعيدة جداً إنك بدأت تستوعب ده لكن باللي عملته النهاردة فأنت رجعتنا لنقطة الصفر..
وقطعت روشتة الدواء ثم قدمتها لآسر لتغادر على الفور، انتقلت نظرات "أحمد" المحتقنة تجاه "يحيى" الذي تنسدل دمعاته في صمتٍ تام، فقطع المسافة فيما بينهما ليجذبه من تلباب قميصه الابيض، صارخاً به بقسوةٍ:
_أنت عملت أيه؟
إهتز جسد "يحيى" بعنفٍ تجاه دفعة "أحمد" له، فشدد من قبضته المحاطة بجلد رقبته وهو يصيح به:
_وصلت بك الوقاحة لكده، أنت دمرت كل حاجة عملناها.
تدخل "آسر" على الفور ليحيل بينهما، فقال بحزمٍ:
_خلاص يا "أحمد" اللي حصل حصل.
لم ينصاع إليه وحاول أن يمسكه من جديدٍ، وهي يصرخ باندفاعٍ:
_أبقى قابلني لو عرفت تحل اللي أنت عملته.
وقف "آسر" مقابله، ليصده للخلف وقد إرتفعت نبرته بعصبيةٍ شديدة:
_ما قولتلك خلاص هو واحد من الشارع وغلط معاها ده جوزها، فووق.
انتقلت نظراته إليه ثم قال بإلمٍ:
_وأنت شايف حالتها تسمح بكده!
بصرامةٍ أجابه:
_قولتلك خلاص إقفل الموضوع.
_في أيه، صوتكم عالي ليه كده؟
كلمات لاهثة خرجت من "عبد الرحمن" الذي أتى ككل صباح فهرول للأعلى حينما استمع لصوت شجارهم الصاخب، وفور رؤيته دفع "آسر"،" أحمد" بيديه تجاهه وهو يشير إليه:
_خده تحت يا "عبد الرحمن".
لم يستوعب ماذا يحدث بينهما، ولكنه تفهم بحاجة آسر لإبعاده بذاك الوقت، فجذبه للأسفل عنوة، فأغلق"آسر" الباب ثم دنى ليجلس قريباً منه، طافته نظراته قبل أن يسأله بهدوءٍ:
_أيه اللي حصل يا "يحيى" وليه عملت كده؟
رفع عينيه الحمراء من أثر كبته لدموعه المتحجرة فترة طويلة، ليخرج صوته الشاحب كحال قلبه:
_غصب عني والله يا "آسر" أنا معرفش عملت كده إزاي؟ ، يمكن مقدرتش أسيطر على نفسي بسبب اللي بنت ال*** عملته.
ضيق عينيه وهو يتساءل بدهشةٍ:
_عملت أيه؟
أخذ "يحيى" بقص ما حدث على مسمع "آسر" الذي تفهم ما دفعه لفعل ذلك، فقال بغضبٍ:
_بلغ أخوها بوساختها لو معرفش يربيها يقعده جانبه.
قال بحزنٍ شديد:
_والدتها ممكن تروح فيها لو عرفت حاجة زي كده، أنا كفايا عليا إني طردتها من المكتب وخلاص.
رد عليه "آسر" قائلاً:
_معتقدش إن البت دي هتسيبك في حالك يا "بحيى"، لازم تعملها وقفة وحاجز قبل ما تفكر تأذيك تاني.
شرد بحديثه المتعلق بها، ولم يفق الا على صوت" إلهام" الباكي:
_"ماسة" فاقت بتصرخ وبتعيط وأنا مش عارفة أعملها أيه يا أستاذ "يحيى".
ابتلع تلك الغصة المؤلمة التي عصفت برئتيه فور سماعه لما قالت، فإنتقلت نظرات لآسر الذي حثه على النهوض قائلاً:
_حاول تاني تقرب منها، هتواجه شوية متاعب بس أنا متأكد إنك هتقدر تقربها منك تاني.
أومأ برأسه بهزة خافتة، ثم تحرك تجاه غرفتها يقدم قدم ويؤخر الأخرى حتى ولج للداخل..
************
بالأسفل..
فتح"عبد الرحمن" باب الشقة ثم دفعه للداخل بحدةٍ من عدم استجابته إليه:
_اللي بتعمله ده غلط يا "أحمد"، معرفش أيه اللي حصل بينكم بس مهما كان مينفعش تتكلم بالأسلوب ده مع"يحيى".
رفض"أحمد" دخول الشقة ثم صاح بعنفوانٍ:
_ما أنت متعرفش هو عمل أيه؟
رد عليه بعقلانيةٍ:
_ومش عايز أعرف، بالعقل والتفاهم الأمور هتتصلح لكن مش بالخناق وعلو الصوت يا أحمد.
خرجت "تالين" على صوتهم المرتفع، فدنت منهما، تتساءل في حيرةٍ:
_في أيه، بتتخانقوا ولا أيه؟
ظهرت فاتنة القلب من أمامه، فارتج ثباته أمامها، تباً لتلك الأعين التي هوست التطلع لها، وبالرغم من مراقبته بكل شاردة وورادة تخص تعابير وجهها الا أن شروده لم يمكنه من سماع حوارها المتبادل مع "أحمد" الذي يؤكد لها بأن الأمور على ما يرام، لمحته "تالين" فتسللت تلك الربكة الخافتة لدقات قلبها فتوترت نظراتها تجاهه، ثمة شيئاً بداخلها يشعر بالرضا من نظرات إعجابه، إلى أن أفاق لنفسه فقال وهو يتهرب من مرمى بصرها:
_يلا يا "أحمد" غير هدومك عشان ننزل المصنع.
إنصاع له أخيراً، فتركهما وولج للشقة فترك بابها مفتوحاً، وحينما أختلت الطرقة الفاصلة بين الشقتين بهما إرتبكت فشددت على أصابعها بتوترٍ، بحث عن كلمات مناسبة يفتتح بها الحوار بينهما فبدا كالأبله حينما قال:
_عاملة أيه؟
أجابته على إستحياء:
_بخير الحمد لله..
وأضافت بخجلٍ:
_وأنت كويس.
هز رأسه بابتسامةٍ ساحرة، فأومأت برآسها ثم أشارت على باب الشقة وهي تدنو منه بتعثرٍ:
_هشوف "حور" فين.. عن إذنك.
راق له خجلها وذاك التشتت الذي طغى عليها، فأشار لها بثباتٍ، ببطءٍ شديد أغلقت الباب وكأنها بحيرة من أمرها بأن تغلقه والأخر مازال بالخارج أو تتركه مفتوحاً، فالحالة التي تستحوذ عليها مذرية للغاية، أغلقته ومازالت تسأل ذاتها هل تصرفها صحيح أما ماذا؟
حتى عقلها استحضر ردودها عليه ليؤنبها على حمقاتها بالرد المختصر، ولكن عادت لتشير بعدم مبالاة مصطنعة:
_الله وأنا هصحبه يعني قالي عاملة أيه قولتله كويسة وإنتهينا!
وتوجهت للمطبخ لتتسع ابتسامتها وهي تتأمل السفرة العامرة من أطيب وألذ الطعام وخاصة كعك البرتقال الشهي الذي يميز "حور"، فانتهت الأخيرة من وضع القهوة على السبرتاية الذهبية، لتردد براحةٍ:
_كده كله تمام.
اقتحم صوت"تالين" المطبخ حينما تساءلت بذهولٍ:
_أيه الجمال ده كله يا "حور"؟
ارتسمت بسمة مشرقة لا تفارق شفتيها الوردية:
_بنت حلال كنت لسه هدخل أصحيكِ، يلا اقعدي إفطري عما أصحي"تسنيم"..
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
_تسنيم مين؟
اجابتها وهي تدنو من باب البراد لتخرج زجاجة من المياه:
_دي صحبتي وبايتة معايا من امبارح، فرصة اعرفكم على بعض ده أنا قرفها بيكي وبالكلام عنك.
قالت وهي تتذوق قطعة من الكعك:
_ياريت..
وبالفعل تركتها وولجت لغرفتها، فوجدت" تسنيم" ترتدي حجابها أمام المرآة وتستعد للخروج، فحملت حقيبتها سريعاً ثم قالت بإصرارٍ:
_مفيش خروج من غير فطار يا هانم.
عقدت "تسنيم" الحجاب حول رأسها جيداً ثم قالت بضجرٍ:
_يا بنتي قولتلك ماليش نفس ليه مش بتصدقي، أنا يدوب أجري ألحق الشغل.
ثم أبعدتها عن طريقها لتجذب الحذاء، فقالت "حور" بغضب:
_قولي اللي تحبيه بس بالنهاية هعمل اللي أنا عايزاه..
فتحت باب الغرفة ثم جذبت الحقيبة من يدها لتشير لها باستعطاف:
_مرة تانية عشان متأخرش بالله عليكي يا "حور".
تركت الحقيبة فحملتها"تسنيم" وإتجهت سريعاً لباب الشقة قبل أن تتمكن من إيقافها مجدداً، فإتبعتها لتجذب اسدالها المعلق جوار الباب ثم خرجت لتوقفها على الدرج، فعاتبتها بحزنٍ:
_أنتي بجد هيجيلك قلب تمشي وتزعليني!
استدارت تجاهها ثم قالت:
_غصب عني والله هتتعوض مرة تانية، لازم أنزل عشان ألحق المواصلات والا كده هتأخر خالص عن الشغل يرضيكي أترافد من أول إسبوع كده!
_هتترفدي على التأخير ومديرك لسه مرحش!
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي ترفع عينيها لأعلى الدرج، لتجد "آسر" يقف من أمامها، ومع كل درجة كان يهبطها للأسفل كاد بها قلبها أن يتوقف أكثر من مرةٍ وخاصة حينما أصبح مقابلهما، فشكت له "حور" قائلة:
_إتكلم أنت يا آسر لحسن أنا ريقي نشف معاها..
سلطت عينيه البندقية عليها، ليبتسم رغم جدية حديثه الصارم:
_مفيش حد بيدخل بيت من بيوت كبير الدهاشنة وبيخرج من غير ما واجبه يكون كامل يا "تسنيم".
يا الله، سماع نبرته تردد صوتها زرع الخجل برعشة جسدها الغريبة، بللت شفتيها بلعابها وهي تجاهد بالثبات من أمامهما، فليس ذاك فصل الشتاء القارص ببرودته لترتعش هكذا، فما تلك البرودة التي تضرب أطرافها عكس تلك الحرارة التي تمزق وجنتها، رفعت عينيها تجاهه فوجدته مازال يستكمل حديثه مبتسماً:
_متقلقيش مش هرفدك على سبب تافه زي ده الا لو ناوية على تقيل؟
نفت برأسها عدة اشارات جعلت ابتسامته تتسع حتى برزت أسنانه البيضاء على مظهرها الطفولي، تعجبت"حور" من الحالة الغريبة التي تسيطر على صديقتها وتراها هي لأول مرة، ولكنها تغاضت عن ذلك بوجود آسر، فانتبهت له حينما قال:
_نازلة الجامعة النهاردة يا حور؟
اجابته بتذكرٍ:
_أيوه ربع ساعه ونازلة إن شاء الله.
اومأ برأسه ثم هبط الدرج ليستكمل حديثه الحازم:
_نص ساعة وانزلوا هوصلك للجامعة ونطلع على المصنع.
ثم استدار تجاهها ليشدد عليها بصرامةٍ وعينيه تقصد تسنيم:
_متنزلش من غير أكل، سامعة.
جذبتها من معصمها بالقوة وهي تشير له:
_عنيا يا عمهم، هنأكل وننزل هوا.
منحها ابتسامة صغيرة قبل أن يستكمل الدرج تاركاً الف علامة استفهام تطوف بتلك الشاردة برجولته ووسامته الشرقية.
********
حينما يتعلق الطفل بشخصٍ ويراه بأفضل صورة ومن ثم تتمزق من أمامه ليراه بشكلٍ لم يعهده من قبل، يتحول الحب بداخله لشعلةٍ من الكره والخوف من محاكاته، وها قد استحوذ هذا الشبح على "ماسة"، فحينما رأته يدلف لغرفتها تجمد جسدها على الفراش، حتى صرخات استغاثتها تحجرت على لسانها، فدثت وجهها بين قدميها المتكورة على جسدها وأخذت تراقبه برهبةٍ وخوف لا مثيل له، يعز عليه رؤيتها هكذا؛ ولكنه لم يتوقف فمضى قدماً حتى صار قريباً منها، فجاهد لرسم بسمة آمنة علها تتسلل لأعماقها مثلما كانت تفعل كل مرة، ثم أجلى صوته ليردد:
_" ماسة" مش عايزة تشوفي أنا جبتلك أيه؟
قال كلمته وهو يخرج من جيب جاكيته شوكولا من النوع الذي تعشقه، حدجته بنظرة جافة،فحتى ما يحمله لم يعنيها كثيراً، تحررت تلك الدموع المحتسبة فرغم إنه ترعرع ببيئة أعز قوانينها بأن دمعة الرجل لا يراها عزيز، ولكنها أعز العزيز على قلبه، ماسته الثمينة كاد بأن يحطمها بيديه هو، دمعاته تساقطت لتحرر ما يشعر به بداخله، فصارع حتى الرمق الأخير فتحررت أحباله الصوتية أخيراً:
_ "يحيى" غلطته كبيرة أنتي لازم تسامحيه وهو مش هيعمل كده تاني..
كلماته لم تسكن جفاء النظرات، ليتها البلسم لشفائها أو ترياق تتمكن من تجاوز ما تمر به، أخذ خطوة جريئة وإقترب منها أكثر ثم سمح لذاته بملامسة وجهها، ارتعبت وتحرر صوت بكائها الخافت، حتى جسدها انتفض بعنفٍ بين يديه، تراجع "يحيى" للخلف على الفور، وأخذ يراقب تشنج جسدها ورهبتها بوجوده، لم يحتمل أن يتابع حالتها تلك، فأسرع بالخروج ليردد بخذلان لمن تقف أمامه:
_خليكي جنبها يا "إلهام" متسبهاش.
_اللي تؤمر بيه يا بشمهندس.
قالت كلماتها ثم ولجت للغرفة لتغلق الباب من خلفها، لتختفي من أمام أعينه خلف الباب الموصود وكأنها إشارة لبعد مؤقت سيحتم لفتح طريق ربما به صلاح ولكن لابد من وجود عقبة ستعرقل ساقيه!
*********
رفضت "روجينا" الصعود لنيل قسط من الراحة مثلما فعل الجميع، وصممت على الجلوس أمام المياه التي تتلاطم أمواجها في سباقٍ عاصف لملامسة الشاطئ، تمددت على المقاعد المريحة أمام المياه والفرحة تزين وجهها، فهمست بصوتٍ منخفض:
_وأخيراً حققت حلمي أني أقعد قدام البحر وأزور كل حتة في اسكندرية.
وأخرجت هاتفها سريعاً لتلتقط عدد من الصور السلفي لنفسها أمام المياه، توقف إصبعها عن الضغط على زر التصوير حينما لمحت بهاتفها إنعكاس ذاك الشاب الذي يسبح بمهارةٍ أسفل المياه، دقيقة تليها الأخرى حتى أصبح قريباً من الرمال، فاستقام بقامة جسده الرياضي، ومن ثم خلع القناع الذي يحجب عينيه الرمادية عن المياه، تدلى فكيها السفلي وهي تتأمله بإنبهارٍ، يقال إن إمتلكت المرأة سحراً تتباهي به ولكن الرجل سحقاً لما يتمكن من فعله حينما يتملكه الغرور والثقة الزائدة من نفسه، هكذا ضرب "أيان" عصفوره الذي يراقبه من بعيدٍ بالخفاء، يبتسم خفية مما ينوي لفعله حينما يطبق يديه عليه سيكون هو بنفسه سجان العصفور الأخرق!...
....... يتبع.....
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل التاسع
الدهاشنة2... (صراع السلطة والكبرياء..) ..
الفصل_التاسع....
(إهداء الفصل لصديقتي الجميلة نادية أدمن نودي "يوسف وسما محمود"..)
طوال يوم عملها المرهق لم يشغلها سوى معاملة"آسر" الراقية، لوهلةٍ تساءلت هل يوجد رجل شهم كما ظنت بأن لا يوجد سوى أبيها، غيمت عينيها بالدموع حينما رأت شبحاً من أشباح الماضي التعيس كاد بأن يخيم عليها، فزفرت الهواء العالق برئتيها على مهلٍ حتى لا تفقد السيطرة على أعصابها المتوترة، ومن ثم حملت "تسنيم" الحاسوب لتتجه لمكتب "آسر" المجاور لها، طرقت بابه وولجت حينما استمعت لآذن الدخول فوجد أحد السكرتارية بالداخل، فأغلقت الحاسوب الصغير ثم ضمته لصدرها ووقفت تتابع حديثهما بصمتٍ وترقب، فما كان من "آسر" الا أن قال بضيقٍ:
_مهو بالنظام ده مفيش حاجة هتمشي صح، وأنا حالياً الفترة الجاية مضطر انزل البلد أكتر من مرة بالأسبوع لو رجعت لقيت الأمور بالشكل ده مش عارف هقدر أسيطر على كل ده ولا لا..
ومشط الغرفة بعينيه حتى وقعت على من تقف على قرب منه لتكن هدايته بطريقه الضال، فقال بعد تفكير:
_لقيتها.
ثم أشار لها بأن تقترب، ليسألها بجديةٍ:
_"تسنيم" أنتي بتنزلي البلد كل أسبوع صح؟
باستحياءٍ لسماع اسمها منه للمرة التي تناست عددها، أجابت:
_أيوه بنزل كل أخر أسبوع وبرجع على السبت أو الأحد حسب الجامعة.
ابتسم وهو يشير بيديه لمن يقف جواره:
_اتحلت يا "مصطفى" ، "تسنيم" هتبقى حلقة التواصل بينا، كل أخر الأسبوع تظبط الملفات والحسابات وتبعتهم معاها وأنا هوقعهم وأبعتهم.
ابتسم السكرتير ثم قال باستحسانٍ:
_حلو أوي الكلام ده وبكده مش هيكون في شغل واقف لرجوعك.
وحمل الملفات ثم اتجه للخروج، فانتبه "آسر" لنظراتها المرتبكة تجاهه، فرفع يديه إليها مما زادها توتراً، فوزعت نظراتها بين عينيه ويديه الممدودة، إلى أن استوعب اشارته للاب الذي تحمله، فبللت شفتيها بلعابها وهي تضعه بين يديه بارتباكٍ، فتح "آسر" الحاسوب وهو يشمله بنظرةٍ متفحصة، فهز رأسه وهو يردد بصوتٍ منخفض؛ ولكنه مسموع:
_براڤو.. فهمتي الشغل كله بسرعة أهو.
ردت في تلعثم:
_بحاول..
أغلق الحاسوب وهو يجيبها بابتسامةٍ مرحة:
_لو المحاولات هتجيب نتائج مبهرة كده استمري.
ثم رفع عينيه تجاهها ليشير لها بهدوءٍ حازم:
_اقعدي يا "تسنيم".. عايزك..
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي تتطلع للمقعد من أمامه، جلست وهي تترقب ما سيقول بعدما التهى بهاتف المكتب لتستمع لصوته الرجولي يكسر قاعة الصمت وهو يتحدث للهاتف:
_هات عصير وقهوة يا ابني.
وأغلق الهاتف ثم سلط نظراته عليها ليبدأ بالحديث المختار بعنايةٍ:
_أنا إختارتلك أنتي توصليلي الملفات عشان تكون فرصة ليكي إنك تكوني جنب والدك ووالدتك بالبلد وخصوصاً إني عارف ظروف مرضه.
ابتسمت بفرحةٍ لتفكيره بهذا الشطر بالتحديد، فأجلت أحبالها، قائلة:
_شكراً لحضرتك بجد.
وكأنه لم يستمع لكلماتها من الاساس، فكانت حدقتيه شاردة بها إلى أن كرر البوح بما يعتريه من سؤال محير، فقال:
_أيه اللي بيخليكِ تتنكري وأنتي نازلة الغيط، أنا شايف أن اللي بتعمليه عمل عظيم، نازلة بتساعدي والدك اللي ملهوش غيرك!
رغم احساسها بالحرج للحديث عن تلك النقطة بالتحديد الا أنها قالت:
_حضرتك أكتر واحد عارف يا أستاذ"آسر" أن في ناس عندنا بالبلد قاعدة للكلام عن غيرها وبس، وأنا كنت بحاول أرضي والدي أن محدش يتكلم عليا وفي نفس الوقت أرضي نفسي إني مسبهوش بالظروف دي فرضيت باللبس ده لو هيحميني من القيل والقال.
ابتسم وهو يتمعن بكل حرف نطقته، فتحرك لسانه ناطقاً:
_الناس دي موجودة بكل مكان يا "تسنيم" مش بس عندنا، بس لو فكروا صح هيلاقوا أن شرف ليهم أن النماذج المشرفة دي تكون واحدة منهم.
تسللت الحمرة لتستحوذ على وجهها الأبيض، فنهضت عن المقعد ثم جذبت الحاسوب لتشير له بتوترٍ:
_طيب، هروح أنا بقا عشان ألحق أخلص قبل ما أمشي.
ودعها بابتسامةٍ لم تفارق وجهه يوماً حينما يرآها، تلك الابتسامة التي تعد ميثاق للقاء مجدداّ، وكأنها تجدد الأمل بعودة اللقاء، تاركة شرفة القلب موربة لتدفقها من جديد..
***********
إعتاد كل يوم الذهاب لعمله مبكراً؛ ولأول مرة يخالف عاداته فظل حبيس غرفته، الغرفة التي كانت تتراقص طرباً حينما تخطوها، طرح "يحيى" رأسه على مقدمة المقعد الخشبي وعينيه متعلقة بباب غرفته تارة وبفراشه تارة أخرى، يتذكر تلك الليلة بوضوحٍ وزاد وجعه أضعافاً حينما تذكر البشارة السعيدة منذ عامين، وجد ذاته غافل على فراشه، ووجدها تقترب منه على أطراف أصابعها، ومن ثم انحنت لتعبث بخصلات شعره وهي تهمس بحبٍ:
_"يحيى" قووم كل ده نوم، يلا في حاجة لازم تعرفها وحالا.
عبث بعينيه وهو يجيبها بنومٍ:
_بعدين يا "ماسة"، النهاردة يوم اجازتي سبيني أنام براحتي.
ابتسمت بخبثٍ:
_ده مش هيحصل يا حبيبي، لأن أنت ملكي في يوم الأجازة ده..
رفع جفن عينيه الثقيل وهو يمنحها نظرة عابثة،ساخرة:
_يعني مينفعش أخطف ساعة وأبقى ملكك بعدها!
هزت رأسها بنفيٍ وهي تجيبه بدلالٍ:
_ No.
زفر بضيقٍ ثم جلس باستقامةٍ على الفراش، وهو يردد باستسلامٍ:
_مفهاش نوم أنا عارف، تحت أمرك يا حبيبتي.. طلباتك اللي بتكوميها ليوم الجمعة الحيلة.
ابتسمت"ماسة" ثم نهضت لتشير له بيدها على الغرفة:
_لا متقلقش مفيش طلبات كتير، في حاجة أنا مخبياها بالأوضة والمفروض انك هتلاقيها وهتفرح بيها.
كبت غضبه بصعوبةٍ، ثم قال:
_طيب مينفعش تطلعيها وأنا هتفاجئ وهفرح برضه.
دفعته بغيظٍ:
_وبعدين بقا يا "يحيى"، الله!
حدجها بنظرةٍ جافة وهو يتحرك بآليةٍ تامة، يبحث بالخزانة ومن ثم الادراج، فجلس على الأريكة وهو يشير لها بنومٍ:
_مفيش حاجة، هبقى أدور بعدين.
جذبته"ماسة" بغضبٍ ثم دفعته ليجلس على مقعد مكتبه الصغير بجانب الغرفة، ومن ثم فتحت الدرج العالق من أمامه ليجد علبة مغلفة، أخرجها "يحيى" وهو يتفحصها بدهشةٍ:
_أيه ده؟
قالت بتعصبٍ:
_افتحها وشوف بنفسك.
أزاح الغطاء الذي يفصله عنه ليجد زوج من الأحذية الصغيرة، عبث بحاجبيه وهو يسألها بسخطٍ:
_ده أيه! ، متهزريش وتقوليلي إن ده ليا ده ميدخلش في صابع رجلي الصغير يا روحي!
نظراتها الجادة المسلطة عليه جعلته يفكر بشكلٍ جادي، اتنقلت نظراته لبطنها وقد بدت الأمور تكون أكثر وضوحاً، لمعت عينيه بفرحة وعدم استيعاب عظيم فتساءل بجديةٍ:
_بجد يا "ماسة"! ، أنتي آآ... حامل؟
أومأت برأسها بابتسامة جعلت وجهها منيراً كالبدر، تعالت ضحكاته وهو يحتضنها بقوةٍ وسعادة، سعادة تركت أثر لطيف على وجهه الهائم بتلك الذكرى الصغيرة، لتترك له ألم يختلج صدره وزوج حذاء بين يديه وضعه يحيى بالدرج ثم أغلقه وهو يحاول ان يتخطى تذكره لتلك الفرحة التي قلبت لغم لا يقوى حتى تلك اللحظة بتخطيه!
*********
بالصعيد..
رؤية غروب الشمس بهذا الوقت بات عشقها، فإعتادت أن تخطو بباحة منزلها لتأمله، عقدت"راوية" الحجاب جيداً حينما دفعه الهواء برفقٍ فخشيت أن يكشف عن شعرها الطويل المخبئ بعنايةٍ من خلفه، انتبهت لصوت صهيل الخيل بجوارها فاستدارت باحثة عنه وكأنها تعلم جيداً أين ستجده؟
تمعنت بالتطلع لذاك الفارس الذي يعتلي ظهر جواده بثباتٍ وثقة، فعلى الرغم من أن كبر السن قد شق الطريق على معالمه الا أنه مازال يحتفظ ببعض الخصال، هبط "فهد" من أعلاه ثم إقترب منها ليقطع حديث الصمت فيما بينهما حينما قال:
_واقفة كدليه؟
ردت عليه بابتسامةٍ صغيرة:
_حسيت اني مخنوقة فخرجت أتهوى شوية.
خلع جلبابه الخارجي والعمة التي تقيده، ومن ثم قدمهم للخادم الذي يقف لجواره، فأشار بيديه لتتبعه، تمشوا سوياً وسط الزرع الأخضر الذي يحيط بالمنزل من جميع الإتجاهات وكأنهم عشاق مراهقين، فما أن وصلوا لأريكة صغيرة موضوعة بأحد الزوايا حتى جلست "راوية" تاركة الصمت يضع معالمه إلى أن قطعته حينما قالت بشرودٍ:
_تفتكر يا فهد لو أنا مكننش عملت كده باليوم ده كان أيه اللي هيحصل؟
منحها نظرة مشتتة لعدم تمكنه من فهم ما تقصده، فقالت بإيضاحٍ:
_كنت هتكمل في جوازتك؟
تبدلت قسمات وجهه للحدة، ثم قال:
_وأيه لزمتها السيرة دي يا بنت الناس، ما خلاص اللي فات اتدفن!
ابتسمت وهي ترد عليه:
_اللي فات مش بيتنسى يا "فهد" بنفتكره وبيبقى ذكرى وأنا بقا مش قادرة أنسى اليوم ده أبداً لأن بسببه الكل محملني ذنب العداوة اللي بينك وبين المغازية.
وبحزنٍ أضافت:
_بس أنا ميهمنيش حد.، تعادي الدنيا كلها على أني أشوفك مع واحدة غيري، إنشالله يبقى بينك وبين الناس كلها طار.
ضحك حتى برزت أسنانه، ثم قال:
_وده اللي حوصل، عشان تتأكدي إن أهم حاجة عندي أنتي وبس يا "راوية"..
وأمسك يدها فالتفتت يساراً ويميناً وهي تهمس بخجلٍ:
_" فهد" إحنا تحت بطل حركاتك دي..
قرب وجهه منها وهو يهمس بخبثٍ:
_لما تبطلي أنتي كمان حلاوتك الزايدة دي ابقى أفكر بالموضوع.
ابتسمت بفرحةٍ واستسلمت ليديه التي تحتضن يدها، لا تعلم ما الذي دفعها بفتح أبواب الماضي بذاك الوقت بالتحديد علها تشعر بأن ابنتها هي من ستدفع الثمن باهظاً لما فعلته والدتها منذ٢٥ عاماً.
**************
وأخيراً انتهت ساعات دوامها، فنهضت ترتب حقيبتها الصغيرة لتغادر قبل أن يغلق باب السكن من جديد، وضعت "تسنيم" ما يخصها بداخل الحقيبة الجلدية الصغيرة، فانتبهت لهاتفها الصغير يعود للرنين مرة أخرى، رفعته لتعبث بأزراره القديم ثم رفعته على أذنيها قائلة بفتورٍ:
_أيوه يا ماما، بابا كويس ولا في أيه؟
أتاها صوتها يطمنها على والدها، ثم تابعت برغبتها بالإتصال بها لتخبرها بأن خالها وزوجته وأولاده أتوا اليوم بزيارةٍ للبلد ومثلما اعتادوا سيكونوا باستقبالهم أسبوعاً كاملاً، فقدت "تسنيم" النطق للحظات وهي تحاول باستيعابٍ ما استمعت إليه، فخذلتها قدميها عن حملها فأستقر جلوسها على المقعد القابع خلفها، شعرت بذات اللحظة بأن سوط الماضي يجلدها بقوةٍ، كل ذكرى ربطتها بهذا الدنيء جلدتها بقوةٍ لتجعل جلدها ملتهب وكأنها تلقت الضربة فعلياً، أغلقت الهاتف بأصابع مرتعشة، وصدرها يعلو ويهبط بانفعالٍ، مجرد تذكر ذاك الشطر الخفي تعيقها الآلآم..
انهى عمله هو الأخر، فخرج ليهبط لسيارته، كاد باجتياز الطرقة المطولة أمام مكتبه، ولكنه توقف حينما لمحها بالخارج، تجلس على مكتبها شاردة للغاية، إقترب منها "آسر" رافعاً حاجبيه بدهشةٍ:
_أنتِ لسه هنا؟!
لم تنتبه له ولا لما يقول، فعاد ليرفع صوته مجدداً:
_"تسنيم"!
انتبهت له، فنهضت وهي تتساءل بتوترٍ ملحوظ:
_بتقول حاجة يا بشمهندس!
قال باستغرابٍ:
_أنتي مش معايا خالص، في حاجة ولا أيه؟
بارتباكٍ قالت:
_لا آآ.. أنا كنت بحضر حاجتي ونازلة.
وحملت الحقيبة ثم توجهت بالمغادرة، لتتوقف خطاها حينما ارتفع صوته الرجولي منادياً:
_"تسنيم".
توقفت عن المضي قدماً ثم عادت لتقف أمامه، فأشار بعينيه على الهاتف الموضوع على سطح مكتبها، التقطته وهي ترسم بسمة مرتبكة لم تنجح بإقناعه بأنها على ما يرام، غادرت ومازال شبحها يلتهم عينيه، طيفها مازال يلازمه، بداخله شيئاً يؤكد له بأن لها بقلبه شيئاً!
***********
ابتلع الظلام الضوء بجوفه، ليظل ضوئه المرصع هو القائد لتلك الليلة الحاسمة، فانسدل بضوئه الأبيض على أمواج البحر المظلم ومن أمامه جلست "رؤى" تتأمله بأعين قاتمة تعكس ما يدور بداخلها، شرودها طال لدقائق ومن ثم امتد لساعة كاملة، لم تشعر بها من يراقبها من الأعلى، الفتاة التي يشعلها النشاط والحماس منطفئة كالرماد الباقي من جمرات الشعلة الموقدة، عادت لتشغل تفكير "بدر" من جديد؛ ولكن تلك المرة مما أصابها، لم يشعر بقدميه التي سلكت الدرج الجانبي حتى بات قريباً منها، يقف لجوارها وبالرغم من ذلك لم تشعر به، فاض به الصمت والترقب فجذبها من معصمها لتقف أمامه فانتفضت بفزعٍ وخاصة حينما صرخ بها باندفاعٍ:
_أنتي أيه حكايتك بالظبط، من ساعة ما رجعتي وأنتي ساكتة مش بتتكلمي، فيكِ أيه؟
نظراتها وألف آه مما تحمله بين دمعاتها اللامعة بأعينها البندقية، صوتها الذي كان يبغضه تمنى سماعه ليتأكد فقط بأنها على قيد الحياة، فحتى الآن مازالت تتطلع له بصمتٍ، أخفضت "رؤى" نظراتها الياكية لتتعلق بذراعيه المتمسكة بمعصمها بقوةٍ، انتبه "بدر" لذاته وابعد يديه عنها ليسألها بحدةٍ:
_أيه اللي حصلك خسرتي لسانك ولا اتقطع؟
ببسمةٍ تحمل ألم كون بأكمله قالت:
_لا خسرت الأهم منه.
منحها نظرة مهتمة، فاردفت بانكسارٍ:
_خسرت نفسي.
وتركته وكادت بالرحيل، فجذبها لتقف أمامه مجدداً ليخبرها باستهزاءٍ ساخر:
_ومتأثرة ليه انك خسرتيها مش دي كانت رغبتك، أنك تسلمي نفسك لأول شخص تحبيه!
كلماته اللازعة عمقت من جرحها، حاولت التراجع للخلف، الابتعاد عنه وعن ما يفيضه من ألم تحاول العيش قليلاً بدونه، ولكنه حاصرها كلما حاولت الرحيل أو الهرب، فعاد ليسمعها أبشع ما تتغاضاه:
_الغريب انك متأثرة جداً، هو مش ده عندكم شيء عادي ولا أنا غلطان؟
انهمرت دموعها، فرددت بصوتٍ مذبوح:
_سيب أيدي.
رفض تركها وتعمد الضغط على جرحها بأوسع ما امتلكه فقال:
_لما أفهم انتي مالك بالظبط، شايفك مكسورة وضعيفة ها الانسان اللي كفئتيه بنفسك طلع ما يستاهلش ولا أيه؟!
انهمرت الدموع من عينيها فحاولت دفعه بكل ما امتلكته من قوة وهي تصرخ به:
_قولتلك سبني.
ظل متمسك بمعصمها كلما حاولت التحرر، ليستكمل حديثه:
_قولتلك مهما حاولتي تتشبهي بينا عمرك ما هتكوني واحدة مننا..
حدقت به لدقائق قبل أن تخبره بثباتٍ رغم انهيار دمعاتها:
_مش عايزة أكون واحدة منكم، فخور أوي بنفسك وبثقافتكم الشرقية اللي أنا كنت ضحيتها، ممكن يكون تفكيري كان غلط لكن لما فوقت فوقت بعد فوات الاوان..
محاولته لفهم ما ترميه على مسمعه مؤلم أكثر مما قد يخيل له، تحررت اصابعه رويداً رويداً حتى صارت حرة طليقة، أما هو فوقف محله يحاول محاربة عقله الذي خمن معاني كلماته، هل من المعقول أنها تعرضت لحادثة إغتصاب مثلما اوحت كلماتها أم انه طعم جديد لتوقعه في شباكها!
*********
الرغبة بالإنتقام عجلت الهدف ليحصل على مبتغاه سريعاً، لذا أنهى"أيان" اتصاله ليختتمه بقوله الآمر:
_النهاردة تنفذي.
لمعت حدقتيه بشرارة مخيفة وهو ينهي مكالماته الهامة مع "تقى" ثم خرج لشرفة غرفته يراقب البحر الساكن خلسة، وكأنه سيشهد على خطته التي ستستهدف عصب عائلة "الدهاشنة"، وبالفعل شرعت بالتنفيذ فأرسلت رسالة نصية لروجينا تحثها على الهبوط لليخت القريب من الشاطئ لحاجتها للحديث معها سريعاً، نهضت"روجينا" عن فراشها وهي تبرطم بضيقٍ:
_موضوع أيه ده اللي عايزني فيه وش الفجر ده!
وبحثت عن حذائها لتلتقطه من أسفل فراشها ثم جذبت حجابها لترتديه بنومٍ، ومن ثم ألقت نظرة متفحصة على السرير المجاور لها لتتأكد من أن "رؤى" يغلبها النعاس، ثم جذبت مئزرها لترتديه على ثيابها، هبطت للأسفل حتى وقفت أمام المياه تراقب اليخوت بحيرةٍ، حتى اهتدت نظراتها على يختٍ قريب من الشاطئ، يحمل نفس المواصفات التي القتها على مسمعها، لم تفكر "روجينا" كثيراً وصعدت على متنه ثم بدأت برحلة البحث عنها..
أما بالاسفل، وقفت "تقى" جوار "كريم" لتشير له بابتسامةٍ خبيثة:
_قولتلك هقدر اقنعها انها تديك فرصة وأديك شوفت بنفسك أهو.
أجابها بفرحةٍ:
_لسه بحاول استوعب، هروح اتكلم معاها وأقنعها تديني فرصة، أنا بحبها أوي.
كاد بأن يغادر فأمسكت "تقى" يديه ثم قدمت له زجاجة المياه وهي تستطرد بمكر:
_هتسمعك، اشرب بس كده وافهمني.
التقط زجاجة المياه وإرتشف منها والأخرى تراقبه بابتسامة مكر بعدما تجرع ما وضعته من أدوية ذكورية، لتبدأ بالحديث الماكر:
_هو أنا لو مش واثقة انك بتحبها كنت ساعدتك، المهم أنت متحاولش تخليها تنزل من اليخت من غير ما تقولها كل اللي عندك، فاهم.
أشار لها بتأكيدٍ، ثم أسرع لليخت، ليشغل محركه ويتجه به لقاع البحر حتى يضمن محاصرتها لتستمع لما يود قوله..
بحثت "روجينا" عنها بالأسفل، ففزعت حينما شعرت بحركة اليخت، فأسرعت للأعلى وهي تنادي بغضبٍ:
_"تقى" انتي فين الله؟!
تراجعت للخلف بخوفٍ شديد حينما رأته يقف أمامها يقود اليخت لمسافة بعيدة عن الشاطئ، لعقت شفتيها وهي تردد بتوترٍ:
_"كريم"أنت بتعمل أيه هنا؟!
أوقف اليخت بمنتصف المياه ثم اقترب منها وهو يردد بهدوءٍ مخادع:
_دي الطريقة الوحيدة اللي هتسمعيني بيها يا "روجينا"، أرجوكي ادينا فرصة نتكلم ونسمع بعض صدقيني أنا بحبك أوي.
ارتعش جسدها خوفاً مما يهاجمها بتلك اللحظة بالتحديد ومع ذلك بدت قوية متماسكة وهي تردد بحزمٍ:
_مفيش بينا اللي أسمعه يا"كريم" من فضلك ارجع بينا الشط حالاً، أنا أكيد ركبت اليخت الغلط، لو سمحت رجعني.
مسك يدها وهو يترجاها:
_"روجينا" اسمعيني أنا استحق فرصة، مستعد أسافر الصعيد لابوكي واطلبك منه بس أنتي توافقي.
جذبت يدها زهي تصرخ به:
_وأنا مبحبكش ومخطوبة لابن عمي وفرحي أخر الشهر أنت مجنون ولا أيه!
عاونته الحبوب على استحضار شيطان رغباته بتلك اللحظة، فلم يرى سواه، سيطرت عليه طاقة شر لا مثيل لها، فجذبها اليه وهو يردد بفحيحٍ مخيف:
_لو مش هتبقي ليا مش هتبقي لغيري.
رددت بخوفٍ:
_يعني أيه؟!
إجابة سؤالها طرحت مع محاولته الصريحة بالاعتداء عليها، صرخت حتى يستمع لصوتها أحداً ولكن من الذي سيقدم العون لها بقاع البحر وبذاك الوقت، ابتلعت ريقها الجاف وهي تحاول أن تتفاداه، فركضت للأسفل سريعاً ثم أغلقت باب الغرفة السفلية، وهي تحاول البحث عن هاتف أو ما يمكن استخدامه حتى تنجو بذاتها، شهقت رعباً حينما وجدته يحاول كسر الباب الذي بدى لها هاش للغاية، لن يصمد مطولاً أمام ركلته، فصرخت ببكاءٍ:
_كفايا بقا حرام عليك.
انكسر أخر أمالها حينما تحطم باب الغرفة فوجدته يدنو منها، أمسك "كريم" بها ثم حرر حجابها محاولاً خلع ملابسها، فنجحت يدها بالوصول للمزهرية الموضوعة على الكومود لتصيبه برأسه باصابةٍ بالغة ومن ثم ركضت لسطح اليخت مجدداً لتصرخ بصوت مرتفع:
_الحقووني، حد يلحقني.
لم يستمع لصياحها أحداً ورغم تأكدها من ذلك الا أنها لم تستسلم وحاولت أكثر من مرةٍ عل أحداً يستجيب لها، استغل انشغالها بالصياح وانقض عليها، ليقيد حركتها ومن ثم دفعها أرضاً ليهاجمها من جديدٍ، بكت "روجينا" وحاولت بكافة السبل الدفاع عن نفسها؛ ولكنه كان يفوقها بقوته الجسمانية، فحاولت خدش وجهه بأظافرها، وصرخت ألماً حينما هوى بصفعاتٍ متتالية على وجهها جعلت رأسها يدور، وأخر ما رأته أمامها هذا الشاب الذي رأته امس، يحيل بينها وبين هذا الوغد، رأته يكيل له اللكمات القاتلة، فحاولت النهوض بالاستناد على حافة اليخت فخانتها يدها لتستقر بأحضان المياه الباردة، تواجه الموت وتحاربه بكل ما امتلكته من رغبة بالنجاة!
*******
كاد عقله بالتوقف عن التفكير في أمرها، مازال يرفض سفرها الغير مبرر دون أن تعلمه بذلك، خرج "أحمد" لشرفته يستمتع بالهواء النقي بعد آذان الفجر، فتسلل لمسمعه صوت عذب يرتل القرآن الكريم ببراعةٍ، أنصت إليه واتبع مصدره فوجد "حور" تجلس بشرفة غرفتها المجاورة لشرفته، ترتدي اسدالها الأسود وبين يدها المصحف الشريف تقرأه بصوتٍ مسموع، لا يعلم لما أختار التخبئ ومراقبتها، ليجدها بعد أن انتهت من واردها تحمل الكتب لتذاكر لاختباراتها، استوقفته تلك الفتاة بخصالها الطيبة، تمنى بتلك اللحظة لو كانت هي من ستصبح زوجته، لطالما كان الصديق الوفي لروجينا؛ ولكن الآن بات الامر مختلف فأصبح لا يعلم ما الذي تريده حتى الصداقة بينهما لم تصبح كسابق عهدها.
انتبه "أحمد" من غفلته ليجدها تقف أمامه لا يفصلهما سوى السور الفاصل بين الشقتين، وتسأله بدهشةٍ:
_"أحمد" أيه اللي مصحيك دلوقتي!
بلل شفتيه بلعابه وهو يحاول التحكم بانفعالاته، فقال:
_نفس سؤالي، أيه اللي مقعدك بالجو ده!
ردت عليه بابتسامةٍ أشرقت وجهها:
_عندي إمتحان وبذاكر وأنت؟
عبث بخصلات شعره الطويل بحيرةٍ مما سيجيبها، فقال بوجومٍ عابث:
_مفيش حسيت نفسي مخنوق فقولت أطلع أشم هوا.
بلهفةٍ واضحة تساءلت:
_مخنوق من أيه؟
راق له لهفتها وتعجب لذلك، ولكنه تماسك بقوله المتزن:
_مش عارف يمكن لأن أخوكِ عملها وسابني وسافر.
ضحكت وهي تجيبه ساخرة:
_أنت فيها ما تسافرله وأهو بالمرة تكون جنب "روجينا" وتقضوا وقت لطيف.
اكفهرت معالمه حينما ذكرتها، فقال بضيقٍ:
_وهي كانت مهتمية بأمري عشان أسافرلها، دي حتى مهتمتش تعرفني بسفرها وأتفاجئت بيه من برة..
شعرت بضيقه الشديد، فقالت بابتسامةٍ هادئة:
_لا والله أكيد كانت فاكرة تقولك بس تلاقيها نست ما أنت عارفها عندها زهايمر.
قال بجفاء:
_ممكن.
ثم أشار لها كمحاولة للتهرب من الحديث عما يضايقه:
_أنا هدخل أريح شوية قبل ما أنزل المصنع وأنتي ادخلي ذكري جوه الجو برد.
ابتسمت وهي تشير له بالنفي:
_لا موعدكش لو دخلت جوه على السرير هنام، هنا الهوا هيفوقني وهيخليني أركز أكتر.
بابتسامةٍ ساحرة قال:
_ربنا يعينك.
وتركها وولج للداخل، فبقيت محلها عينيها ساهمة بباب شرفته، ليت هذا الحب الأعمى يبصر بداخل قلوبهما ليريهم كم خفق القلب خلسة للاخر!
عادت "حور" لمقعدها، لتحاول بائسة التركيز بمذكراتها مجدداً، فمرت الدقائق وهي تدون ملاحظاتها وفجأة وجدت ذاتها تدون بالقلم إسمه على احدى الصفح البيضاء ومن جواره تضع اسمها، مجرد رؤيتها لأسمائهما جوار بعضهما البعض نبت بداخلها ارتباك عظيم وكأنه يقف لجوارها ويتأمل ما تفعله، وازدداد الامر سوءاً حينما انطلق صوته يغرد:
_"حور".
رفعت رأسها مقابل شرفته، فما أن رأته حتى سقطت الكتب والأقلام أرضاً من فرط ارتباكها، فضحك وهو يردف:
_أيه يا بنتي شوفتي شبح ده أنا إنسان عادي!
بصعوبةٍ رسمت ابتسامة وهي تجيبه بتخبطٍ:
_لا أنا بس كنت مركزة بالمذاكرة ومخدتش بالي انك واقف!
أومأ برأسه ثم رفع الصينية التي يحملها ليناولها لها، التقطتها منه بتلقائية دون ان تعي ما تحمله، فتساءلت بذهولٍ:
_ده أيه؟
حك طرف انفه بتوتر، ثم قال بثباتٍ جاهد التحلي به:
_كنت بعمل لنفسي فطار خفيف كده وكوبية قهوة فقولت أعملك معايا.
ابتسمت وهي تردد على استحياءٍ:
_الف شكر يا "أحمد"، أنا فعلاً كنت جعانه ومكسلة أقوم أعمل حاجة.
رد عليها مازحاً:
_حاولي تشبعي من الرومي واللنشون بقا لاني مبعرفش أعمل غيرهم..
وأشار بيديه بمرحٍ:
_ومتخديش عليها ها، تشيدي حيلك كده قوام قوام عشان لما تخلصي امتحانات تعمليلنا رز معمر وشوية ورق عنب من اللي بتعمليهم دول.
بسعادةٍ كبيرة أجابته:
_بس كده عيوني، أمتحن بس وهظبطكم.
ابتسم وهو يضيف بجديةٍ:
_ربنا يوفقك..
ثم تراجع للخلف ليشير لها على باب الشرفة:
_طب هسيبك بقا عشان تركزي.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة ثم عادت لتجلس على المقعد وهي تحتضن الصينية بفرحةٍ تكسو قلبها قبل شفتيها!
*********
_أنا مش منبه عليكي يا"ماسة" تخفي من السفر الكتير عشان اللي في بطنك، انتي بتستغلي اني مسافر برة مصر ومش واقفلك بالمرصاد يعني ولا أيه؟!
_يا يحيى افهمني لازم اسافر القاهرة عشان الامتحانات قربت ولازم أنقل شوية محاضرات فايتني..
_قولتلك الف مرة متكلمنيش وانتي بتسوقي، لما توصلي كلميني..
_مهو انا مش بلحق اكلمك من يوم ما سافرت وانت مش بتفضلي أصلاً معرفش ليه عمي "فهد" بعتك وأنا على وش ولادة المفروض كان يبعت "عبد الرحمن" زي ما بيعمل.
_والدته تعبانه المرادي مش هيقدر يسيبها، يلا اقفلي نتكلم بعدين.
ترنح لمسمعه صوت شهقاتها ومن ثم صوت صراخها وهي تصيح بألمٍ:
_"يحيـــــــــــــــــــى"..
تمزق قلبه حينما سمع من بعدها صوت حطام السيارة ليفقد من بعدها الاتصال نهائياً..
افاق من نومه وهو يردد بفزعٍ:
_"مــــــــــاسة"!
مرر يديه على عرقه النابض على جبينه، ومن ثم جذب كوب المياه الموضوع على الكومود من جواره ليبلل ريقه الجاف، الحلم بذاك الحادث المؤلم اصبح يلاحقه كاللعنة، فلا يكفيه ما عاناه بتلك الفترة التي فقد بها ابنه وزوجته لا بل تعانده الذكريات لتعهده بتذكره كلما عصف به الألم!
*********
حركت رأسها الثقيل بصعوبةٍ لليسار تارة ولليمين تارة أخرى، أخر ما تذكرته المياه الباردة التي ابتلعت جسدها، وضعت "روجينا" يدها على جبينها تتحسس الصداع المؤلم الذي يهاجمها، فجاهدت ذاتها بفتح عينيها، لتستقر بجلستها، انتفضت حينما وجدت ذاتها على فراش بغرفةٍ وبدون حجابها، حتى ملابسها لم تكن ذاتها التي ارتدتها بالامس، الافكار التي رسمتها بمخيلاتها بتلك اللحظة كانت كفيلة بجعلها تفعل ما فعلته حينما جذبت السكين الموضوع على طبق الفاكهة القريب من الطاولةٍ، ثم فتحت باب الغرفة وخرجت تبحث عن هذا الحقير الذي نبت بداخلها الرغبة بقتله بالحال، شل جسدها باكمله حينما قيدها أحداً من الخلف فكادت بالصراخ لتجد من يهمس له بصوته الرجولي:
_اهدي.
ومن ثم عاد نفس الصوت ليهمس:
_سيبي السكينة وانا هبعد.
هزت رأسها باستسلامٍ فأبعدت السكين عن يدها ليحررها، ابتعدت عنه ثم استدارت لتجد أمامها نفس الشاب الذي رأته ينقذها على متن اليخت، رأته يقف أمامها، لم يكن بأوسع مخيلاتها بإنه نفسه "أيان المغازي"!
............ يتبع.............
الفصل_التاسع....
(إهداء الفصل لصديقتي الجميلة نادية أدمن نودي "يوسف وسما محمود"..)
طوال يوم عملها المرهق لم يشغلها سوى معاملة"آسر" الراقية، لوهلةٍ تساءلت هل يوجد رجل شهم كما ظنت بأن لا يوجد سوى أبيها، غيمت عينيها بالدموع حينما رأت شبحاً من أشباح الماضي التعيس كاد بأن يخيم عليها، فزفرت الهواء العالق برئتيها على مهلٍ حتى لا تفقد السيطرة على أعصابها المتوترة، ومن ثم حملت "تسنيم" الحاسوب لتتجه لمكتب "آسر" المجاور لها، طرقت بابه وولجت حينما استمعت لآذن الدخول فوجد أحد السكرتارية بالداخل، فأغلقت الحاسوب الصغير ثم ضمته لصدرها ووقفت تتابع حديثهما بصمتٍ وترقب، فما كان من "آسر" الا أن قال بضيقٍ:
_مهو بالنظام ده مفيش حاجة هتمشي صح، وأنا حالياً الفترة الجاية مضطر انزل البلد أكتر من مرة بالأسبوع لو رجعت لقيت الأمور بالشكل ده مش عارف هقدر أسيطر على كل ده ولا لا..
ومشط الغرفة بعينيه حتى وقعت على من تقف على قرب منه لتكن هدايته بطريقه الضال، فقال بعد تفكير:
_لقيتها.
ثم أشار لها بأن تقترب، ليسألها بجديةٍ:
_"تسنيم" أنتي بتنزلي البلد كل أسبوع صح؟
باستحياءٍ لسماع اسمها منه للمرة التي تناست عددها، أجابت:
_أيوه بنزل كل أخر أسبوع وبرجع على السبت أو الأحد حسب الجامعة.
ابتسم وهو يشير بيديه لمن يقف جواره:
_اتحلت يا "مصطفى" ، "تسنيم" هتبقى حلقة التواصل بينا، كل أخر الأسبوع تظبط الملفات والحسابات وتبعتهم معاها وأنا هوقعهم وأبعتهم.
ابتسم السكرتير ثم قال باستحسانٍ:
_حلو أوي الكلام ده وبكده مش هيكون في شغل واقف لرجوعك.
وحمل الملفات ثم اتجه للخروج، فانتبه "آسر" لنظراتها المرتبكة تجاهه، فرفع يديه إليها مما زادها توتراً، فوزعت نظراتها بين عينيه ويديه الممدودة، إلى أن استوعب اشارته للاب الذي تحمله، فبللت شفتيها بلعابها وهي تضعه بين يديه بارتباكٍ، فتح "آسر" الحاسوب وهو يشمله بنظرةٍ متفحصة، فهز رأسه وهو يردد بصوتٍ منخفض؛ ولكنه مسموع:
_براڤو.. فهمتي الشغل كله بسرعة أهو.
ردت في تلعثم:
_بحاول..
أغلق الحاسوب وهو يجيبها بابتسامةٍ مرحة:
_لو المحاولات هتجيب نتائج مبهرة كده استمري.
ثم رفع عينيه تجاهها ليشير لها بهدوءٍ حازم:
_اقعدي يا "تسنيم".. عايزك..
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي تتطلع للمقعد من أمامه، جلست وهي تترقب ما سيقول بعدما التهى بهاتف المكتب لتستمع لصوته الرجولي يكسر قاعة الصمت وهو يتحدث للهاتف:
_هات عصير وقهوة يا ابني.
وأغلق الهاتف ثم سلط نظراته عليها ليبدأ بالحديث المختار بعنايةٍ:
_أنا إختارتلك أنتي توصليلي الملفات عشان تكون فرصة ليكي إنك تكوني جنب والدك ووالدتك بالبلد وخصوصاً إني عارف ظروف مرضه.
ابتسمت بفرحةٍ لتفكيره بهذا الشطر بالتحديد، فأجلت أحبالها، قائلة:
_شكراً لحضرتك بجد.
وكأنه لم يستمع لكلماتها من الاساس، فكانت حدقتيه شاردة بها إلى أن كرر البوح بما يعتريه من سؤال محير، فقال:
_أيه اللي بيخليكِ تتنكري وأنتي نازلة الغيط، أنا شايف أن اللي بتعمليه عمل عظيم، نازلة بتساعدي والدك اللي ملهوش غيرك!
رغم احساسها بالحرج للحديث عن تلك النقطة بالتحديد الا أنها قالت:
_حضرتك أكتر واحد عارف يا أستاذ"آسر" أن في ناس عندنا بالبلد قاعدة للكلام عن غيرها وبس، وأنا كنت بحاول أرضي والدي أن محدش يتكلم عليا وفي نفس الوقت أرضي نفسي إني مسبهوش بالظروف دي فرضيت باللبس ده لو هيحميني من القيل والقال.
ابتسم وهو يتمعن بكل حرف نطقته، فتحرك لسانه ناطقاً:
_الناس دي موجودة بكل مكان يا "تسنيم" مش بس عندنا، بس لو فكروا صح هيلاقوا أن شرف ليهم أن النماذج المشرفة دي تكون واحدة منهم.
تسللت الحمرة لتستحوذ على وجهها الأبيض، فنهضت عن المقعد ثم جذبت الحاسوب لتشير له بتوترٍ:
_طيب، هروح أنا بقا عشان ألحق أخلص قبل ما أمشي.
ودعها بابتسامةٍ لم تفارق وجهه يوماً حينما يرآها، تلك الابتسامة التي تعد ميثاق للقاء مجدداّ، وكأنها تجدد الأمل بعودة اللقاء، تاركة شرفة القلب موربة لتدفقها من جديد..
***********
إعتاد كل يوم الذهاب لعمله مبكراً؛ ولأول مرة يخالف عاداته فظل حبيس غرفته، الغرفة التي كانت تتراقص طرباً حينما تخطوها، طرح "يحيى" رأسه على مقدمة المقعد الخشبي وعينيه متعلقة بباب غرفته تارة وبفراشه تارة أخرى، يتذكر تلك الليلة بوضوحٍ وزاد وجعه أضعافاً حينما تذكر البشارة السعيدة منذ عامين، وجد ذاته غافل على فراشه، ووجدها تقترب منه على أطراف أصابعها، ومن ثم انحنت لتعبث بخصلات شعره وهي تهمس بحبٍ:
_"يحيى" قووم كل ده نوم، يلا في حاجة لازم تعرفها وحالا.
عبث بعينيه وهو يجيبها بنومٍ:
_بعدين يا "ماسة"، النهاردة يوم اجازتي سبيني أنام براحتي.
ابتسمت بخبثٍ:
_ده مش هيحصل يا حبيبي، لأن أنت ملكي في يوم الأجازة ده..
رفع جفن عينيه الثقيل وهو يمنحها نظرة عابثة،ساخرة:
_يعني مينفعش أخطف ساعة وأبقى ملكك بعدها!
هزت رأسها بنفيٍ وهي تجيبه بدلالٍ:
_ No.
زفر بضيقٍ ثم جلس باستقامةٍ على الفراش، وهو يردد باستسلامٍ:
_مفهاش نوم أنا عارف، تحت أمرك يا حبيبتي.. طلباتك اللي بتكوميها ليوم الجمعة الحيلة.
ابتسمت"ماسة" ثم نهضت لتشير له بيدها على الغرفة:
_لا متقلقش مفيش طلبات كتير، في حاجة أنا مخبياها بالأوضة والمفروض انك هتلاقيها وهتفرح بيها.
كبت غضبه بصعوبةٍ، ثم قال:
_طيب مينفعش تطلعيها وأنا هتفاجئ وهفرح برضه.
دفعته بغيظٍ:
_وبعدين بقا يا "يحيى"، الله!
حدجها بنظرةٍ جافة وهو يتحرك بآليةٍ تامة، يبحث بالخزانة ومن ثم الادراج، فجلس على الأريكة وهو يشير لها بنومٍ:
_مفيش حاجة، هبقى أدور بعدين.
جذبته"ماسة" بغضبٍ ثم دفعته ليجلس على مقعد مكتبه الصغير بجانب الغرفة، ومن ثم فتحت الدرج العالق من أمامه ليجد علبة مغلفة، أخرجها "يحيى" وهو يتفحصها بدهشةٍ:
_أيه ده؟
قالت بتعصبٍ:
_افتحها وشوف بنفسك.
أزاح الغطاء الذي يفصله عنه ليجد زوج من الأحذية الصغيرة، عبث بحاجبيه وهو يسألها بسخطٍ:
_ده أيه! ، متهزريش وتقوليلي إن ده ليا ده ميدخلش في صابع رجلي الصغير يا روحي!
نظراتها الجادة المسلطة عليه جعلته يفكر بشكلٍ جادي، اتنقلت نظراته لبطنها وقد بدت الأمور تكون أكثر وضوحاً، لمعت عينيه بفرحة وعدم استيعاب عظيم فتساءل بجديةٍ:
_بجد يا "ماسة"! ، أنتي آآ... حامل؟
أومأت برأسها بابتسامة جعلت وجهها منيراً كالبدر، تعالت ضحكاته وهو يحتضنها بقوةٍ وسعادة، سعادة تركت أثر لطيف على وجهه الهائم بتلك الذكرى الصغيرة، لتترك له ألم يختلج صدره وزوج حذاء بين يديه وضعه يحيى بالدرج ثم أغلقه وهو يحاول ان يتخطى تذكره لتلك الفرحة التي قلبت لغم لا يقوى حتى تلك اللحظة بتخطيه!
*********
بالصعيد..
رؤية غروب الشمس بهذا الوقت بات عشقها، فإعتادت أن تخطو بباحة منزلها لتأمله، عقدت"راوية" الحجاب جيداً حينما دفعه الهواء برفقٍ فخشيت أن يكشف عن شعرها الطويل المخبئ بعنايةٍ من خلفه، انتبهت لصوت صهيل الخيل بجوارها فاستدارت باحثة عنه وكأنها تعلم جيداً أين ستجده؟
تمعنت بالتطلع لذاك الفارس الذي يعتلي ظهر جواده بثباتٍ وثقة، فعلى الرغم من أن كبر السن قد شق الطريق على معالمه الا أنه مازال يحتفظ ببعض الخصال، هبط "فهد" من أعلاه ثم إقترب منها ليقطع حديث الصمت فيما بينهما حينما قال:
_واقفة كدليه؟
ردت عليه بابتسامةٍ صغيرة:
_حسيت اني مخنوقة فخرجت أتهوى شوية.
خلع جلبابه الخارجي والعمة التي تقيده، ومن ثم قدمهم للخادم الذي يقف لجواره، فأشار بيديه لتتبعه، تمشوا سوياً وسط الزرع الأخضر الذي يحيط بالمنزل من جميع الإتجاهات وكأنهم عشاق مراهقين، فما أن وصلوا لأريكة صغيرة موضوعة بأحد الزوايا حتى جلست "راوية" تاركة الصمت يضع معالمه إلى أن قطعته حينما قالت بشرودٍ:
_تفتكر يا فهد لو أنا مكننش عملت كده باليوم ده كان أيه اللي هيحصل؟
منحها نظرة مشتتة لعدم تمكنه من فهم ما تقصده، فقالت بإيضاحٍ:
_كنت هتكمل في جوازتك؟
تبدلت قسمات وجهه للحدة، ثم قال:
_وأيه لزمتها السيرة دي يا بنت الناس، ما خلاص اللي فات اتدفن!
ابتسمت وهي ترد عليه:
_اللي فات مش بيتنسى يا "فهد" بنفتكره وبيبقى ذكرى وأنا بقا مش قادرة أنسى اليوم ده أبداً لأن بسببه الكل محملني ذنب العداوة اللي بينك وبين المغازية.
وبحزنٍ أضافت:
_بس أنا ميهمنيش حد.، تعادي الدنيا كلها على أني أشوفك مع واحدة غيري، إنشالله يبقى بينك وبين الناس كلها طار.
ضحك حتى برزت أسنانه، ثم قال:
_وده اللي حوصل، عشان تتأكدي إن أهم حاجة عندي أنتي وبس يا "راوية"..
وأمسك يدها فالتفتت يساراً ويميناً وهي تهمس بخجلٍ:
_" فهد" إحنا تحت بطل حركاتك دي..
قرب وجهه منها وهو يهمس بخبثٍ:
_لما تبطلي أنتي كمان حلاوتك الزايدة دي ابقى أفكر بالموضوع.
ابتسمت بفرحةٍ واستسلمت ليديه التي تحتضن يدها، لا تعلم ما الذي دفعها بفتح أبواب الماضي بذاك الوقت بالتحديد علها تشعر بأن ابنتها هي من ستدفع الثمن باهظاً لما فعلته والدتها منذ٢٥ عاماً.
**************
وأخيراً انتهت ساعات دوامها، فنهضت ترتب حقيبتها الصغيرة لتغادر قبل أن يغلق باب السكن من جديد، وضعت "تسنيم" ما يخصها بداخل الحقيبة الجلدية الصغيرة، فانتبهت لهاتفها الصغير يعود للرنين مرة أخرى، رفعته لتعبث بأزراره القديم ثم رفعته على أذنيها قائلة بفتورٍ:
_أيوه يا ماما، بابا كويس ولا في أيه؟
أتاها صوتها يطمنها على والدها، ثم تابعت برغبتها بالإتصال بها لتخبرها بأن خالها وزوجته وأولاده أتوا اليوم بزيارةٍ للبلد ومثلما اعتادوا سيكونوا باستقبالهم أسبوعاً كاملاً، فقدت "تسنيم" النطق للحظات وهي تحاول باستيعابٍ ما استمعت إليه، فخذلتها قدميها عن حملها فأستقر جلوسها على المقعد القابع خلفها، شعرت بذات اللحظة بأن سوط الماضي يجلدها بقوةٍ، كل ذكرى ربطتها بهذا الدنيء جلدتها بقوةٍ لتجعل جلدها ملتهب وكأنها تلقت الضربة فعلياً، أغلقت الهاتف بأصابع مرتعشة، وصدرها يعلو ويهبط بانفعالٍ، مجرد تذكر ذاك الشطر الخفي تعيقها الآلآم..
انهى عمله هو الأخر، فخرج ليهبط لسيارته، كاد باجتياز الطرقة المطولة أمام مكتبه، ولكنه توقف حينما لمحها بالخارج، تجلس على مكتبها شاردة للغاية، إقترب منها "آسر" رافعاً حاجبيه بدهشةٍ:
_أنتِ لسه هنا؟!
لم تنتبه له ولا لما يقول، فعاد ليرفع صوته مجدداً:
_"تسنيم"!
انتبهت له، فنهضت وهي تتساءل بتوترٍ ملحوظ:
_بتقول حاجة يا بشمهندس!
قال باستغرابٍ:
_أنتي مش معايا خالص، في حاجة ولا أيه؟
بارتباكٍ قالت:
_لا آآ.. أنا كنت بحضر حاجتي ونازلة.
وحملت الحقيبة ثم توجهت بالمغادرة، لتتوقف خطاها حينما ارتفع صوته الرجولي منادياً:
_"تسنيم".
توقفت عن المضي قدماً ثم عادت لتقف أمامه، فأشار بعينيه على الهاتف الموضوع على سطح مكتبها، التقطته وهي ترسم بسمة مرتبكة لم تنجح بإقناعه بأنها على ما يرام، غادرت ومازال شبحها يلتهم عينيه، طيفها مازال يلازمه، بداخله شيئاً يؤكد له بأن لها بقلبه شيئاً!
***********
ابتلع الظلام الضوء بجوفه، ليظل ضوئه المرصع هو القائد لتلك الليلة الحاسمة، فانسدل بضوئه الأبيض على أمواج البحر المظلم ومن أمامه جلست "رؤى" تتأمله بأعين قاتمة تعكس ما يدور بداخلها، شرودها طال لدقائق ومن ثم امتد لساعة كاملة، لم تشعر بها من يراقبها من الأعلى، الفتاة التي يشعلها النشاط والحماس منطفئة كالرماد الباقي من جمرات الشعلة الموقدة، عادت لتشغل تفكير "بدر" من جديد؛ ولكن تلك المرة مما أصابها، لم يشعر بقدميه التي سلكت الدرج الجانبي حتى بات قريباً منها، يقف لجوارها وبالرغم من ذلك لم تشعر به، فاض به الصمت والترقب فجذبها من معصمها لتقف أمامه فانتفضت بفزعٍ وخاصة حينما صرخ بها باندفاعٍ:
_أنتي أيه حكايتك بالظبط، من ساعة ما رجعتي وأنتي ساكتة مش بتتكلمي، فيكِ أيه؟
نظراتها وألف آه مما تحمله بين دمعاتها اللامعة بأعينها البندقية، صوتها الذي كان يبغضه تمنى سماعه ليتأكد فقط بأنها على قيد الحياة، فحتى الآن مازالت تتطلع له بصمتٍ، أخفضت "رؤى" نظراتها الياكية لتتعلق بذراعيه المتمسكة بمعصمها بقوةٍ، انتبه "بدر" لذاته وابعد يديه عنها ليسألها بحدةٍ:
_أيه اللي حصلك خسرتي لسانك ولا اتقطع؟
ببسمةٍ تحمل ألم كون بأكمله قالت:
_لا خسرت الأهم منه.
منحها نظرة مهتمة، فاردفت بانكسارٍ:
_خسرت نفسي.
وتركته وكادت بالرحيل، فجذبها لتقف أمامه مجدداً ليخبرها باستهزاءٍ ساخر:
_ومتأثرة ليه انك خسرتيها مش دي كانت رغبتك، أنك تسلمي نفسك لأول شخص تحبيه!
كلماته اللازعة عمقت من جرحها، حاولت التراجع للخلف، الابتعاد عنه وعن ما يفيضه من ألم تحاول العيش قليلاً بدونه، ولكنه حاصرها كلما حاولت الرحيل أو الهرب، فعاد ليسمعها أبشع ما تتغاضاه:
_الغريب انك متأثرة جداً، هو مش ده عندكم شيء عادي ولا أنا غلطان؟
انهمرت دموعها، فرددت بصوتٍ مذبوح:
_سيب أيدي.
رفض تركها وتعمد الضغط على جرحها بأوسع ما امتلكه فقال:
_لما أفهم انتي مالك بالظبط، شايفك مكسورة وضعيفة ها الانسان اللي كفئتيه بنفسك طلع ما يستاهلش ولا أيه؟!
انهمرت الدموع من عينيها فحاولت دفعه بكل ما امتلكته من قوة وهي تصرخ به:
_قولتلك سبني.
ظل متمسك بمعصمها كلما حاولت التحرر، ليستكمل حديثه:
_قولتلك مهما حاولتي تتشبهي بينا عمرك ما هتكوني واحدة مننا..
حدقت به لدقائق قبل أن تخبره بثباتٍ رغم انهيار دمعاتها:
_مش عايزة أكون واحدة منكم، فخور أوي بنفسك وبثقافتكم الشرقية اللي أنا كنت ضحيتها، ممكن يكون تفكيري كان غلط لكن لما فوقت فوقت بعد فوات الاوان..
محاولته لفهم ما ترميه على مسمعه مؤلم أكثر مما قد يخيل له، تحررت اصابعه رويداً رويداً حتى صارت حرة طليقة، أما هو فوقف محله يحاول محاربة عقله الذي خمن معاني كلماته، هل من المعقول أنها تعرضت لحادثة إغتصاب مثلما اوحت كلماتها أم انه طعم جديد لتوقعه في شباكها!
*********
الرغبة بالإنتقام عجلت الهدف ليحصل على مبتغاه سريعاً، لذا أنهى"أيان" اتصاله ليختتمه بقوله الآمر:
_النهاردة تنفذي.
لمعت حدقتيه بشرارة مخيفة وهو ينهي مكالماته الهامة مع "تقى" ثم خرج لشرفة غرفته يراقب البحر الساكن خلسة، وكأنه سيشهد على خطته التي ستستهدف عصب عائلة "الدهاشنة"، وبالفعل شرعت بالتنفيذ فأرسلت رسالة نصية لروجينا تحثها على الهبوط لليخت القريب من الشاطئ لحاجتها للحديث معها سريعاً، نهضت"روجينا" عن فراشها وهي تبرطم بضيقٍ:
_موضوع أيه ده اللي عايزني فيه وش الفجر ده!
وبحثت عن حذائها لتلتقطه من أسفل فراشها ثم جذبت حجابها لترتديه بنومٍ، ومن ثم ألقت نظرة متفحصة على السرير المجاور لها لتتأكد من أن "رؤى" يغلبها النعاس، ثم جذبت مئزرها لترتديه على ثيابها، هبطت للأسفل حتى وقفت أمام المياه تراقب اليخوت بحيرةٍ، حتى اهتدت نظراتها على يختٍ قريب من الشاطئ، يحمل نفس المواصفات التي القتها على مسمعها، لم تفكر "روجينا" كثيراً وصعدت على متنه ثم بدأت برحلة البحث عنها..
أما بالاسفل، وقفت "تقى" جوار "كريم" لتشير له بابتسامةٍ خبيثة:
_قولتلك هقدر اقنعها انها تديك فرصة وأديك شوفت بنفسك أهو.
أجابها بفرحةٍ:
_لسه بحاول استوعب، هروح اتكلم معاها وأقنعها تديني فرصة، أنا بحبها أوي.
كاد بأن يغادر فأمسكت "تقى" يديه ثم قدمت له زجاجة المياه وهي تستطرد بمكر:
_هتسمعك، اشرب بس كده وافهمني.
التقط زجاجة المياه وإرتشف منها والأخرى تراقبه بابتسامة مكر بعدما تجرع ما وضعته من أدوية ذكورية، لتبدأ بالحديث الماكر:
_هو أنا لو مش واثقة انك بتحبها كنت ساعدتك، المهم أنت متحاولش تخليها تنزل من اليخت من غير ما تقولها كل اللي عندك، فاهم.
أشار لها بتأكيدٍ، ثم أسرع لليخت، ليشغل محركه ويتجه به لقاع البحر حتى يضمن محاصرتها لتستمع لما يود قوله..
بحثت "روجينا" عنها بالأسفل، ففزعت حينما شعرت بحركة اليخت، فأسرعت للأعلى وهي تنادي بغضبٍ:
_"تقى" انتي فين الله؟!
تراجعت للخلف بخوفٍ شديد حينما رأته يقف أمامها يقود اليخت لمسافة بعيدة عن الشاطئ، لعقت شفتيها وهي تردد بتوترٍ:
_"كريم"أنت بتعمل أيه هنا؟!
أوقف اليخت بمنتصف المياه ثم اقترب منها وهو يردد بهدوءٍ مخادع:
_دي الطريقة الوحيدة اللي هتسمعيني بيها يا "روجينا"، أرجوكي ادينا فرصة نتكلم ونسمع بعض صدقيني أنا بحبك أوي.
ارتعش جسدها خوفاً مما يهاجمها بتلك اللحظة بالتحديد ومع ذلك بدت قوية متماسكة وهي تردد بحزمٍ:
_مفيش بينا اللي أسمعه يا"كريم" من فضلك ارجع بينا الشط حالاً، أنا أكيد ركبت اليخت الغلط، لو سمحت رجعني.
مسك يدها وهو يترجاها:
_"روجينا" اسمعيني أنا استحق فرصة، مستعد أسافر الصعيد لابوكي واطلبك منه بس أنتي توافقي.
جذبت يدها زهي تصرخ به:
_وأنا مبحبكش ومخطوبة لابن عمي وفرحي أخر الشهر أنت مجنون ولا أيه!
عاونته الحبوب على استحضار شيطان رغباته بتلك اللحظة، فلم يرى سواه، سيطرت عليه طاقة شر لا مثيل لها، فجذبها اليه وهو يردد بفحيحٍ مخيف:
_لو مش هتبقي ليا مش هتبقي لغيري.
رددت بخوفٍ:
_يعني أيه؟!
إجابة سؤالها طرحت مع محاولته الصريحة بالاعتداء عليها، صرخت حتى يستمع لصوتها أحداً ولكن من الذي سيقدم العون لها بقاع البحر وبذاك الوقت، ابتلعت ريقها الجاف وهي تحاول أن تتفاداه، فركضت للأسفل سريعاً ثم أغلقت باب الغرفة السفلية، وهي تحاول البحث عن هاتف أو ما يمكن استخدامه حتى تنجو بذاتها، شهقت رعباً حينما وجدته يحاول كسر الباب الذي بدى لها هاش للغاية، لن يصمد مطولاً أمام ركلته، فصرخت ببكاءٍ:
_كفايا بقا حرام عليك.
انكسر أخر أمالها حينما تحطم باب الغرفة فوجدته يدنو منها، أمسك "كريم" بها ثم حرر حجابها محاولاً خلع ملابسها، فنجحت يدها بالوصول للمزهرية الموضوعة على الكومود لتصيبه برأسه باصابةٍ بالغة ومن ثم ركضت لسطح اليخت مجدداً لتصرخ بصوت مرتفع:
_الحقووني، حد يلحقني.
لم يستمع لصياحها أحداً ورغم تأكدها من ذلك الا أنها لم تستسلم وحاولت أكثر من مرةٍ عل أحداً يستجيب لها، استغل انشغالها بالصياح وانقض عليها، ليقيد حركتها ومن ثم دفعها أرضاً ليهاجمها من جديدٍ، بكت "روجينا" وحاولت بكافة السبل الدفاع عن نفسها؛ ولكنه كان يفوقها بقوته الجسمانية، فحاولت خدش وجهه بأظافرها، وصرخت ألماً حينما هوى بصفعاتٍ متتالية على وجهها جعلت رأسها يدور، وأخر ما رأته أمامها هذا الشاب الذي رأته امس، يحيل بينها وبين هذا الوغد، رأته يكيل له اللكمات القاتلة، فحاولت النهوض بالاستناد على حافة اليخت فخانتها يدها لتستقر بأحضان المياه الباردة، تواجه الموت وتحاربه بكل ما امتلكته من رغبة بالنجاة!
*******
كاد عقله بالتوقف عن التفكير في أمرها، مازال يرفض سفرها الغير مبرر دون أن تعلمه بذلك، خرج "أحمد" لشرفته يستمتع بالهواء النقي بعد آذان الفجر، فتسلل لمسمعه صوت عذب يرتل القرآن الكريم ببراعةٍ، أنصت إليه واتبع مصدره فوجد "حور" تجلس بشرفة غرفتها المجاورة لشرفته، ترتدي اسدالها الأسود وبين يدها المصحف الشريف تقرأه بصوتٍ مسموع، لا يعلم لما أختار التخبئ ومراقبتها، ليجدها بعد أن انتهت من واردها تحمل الكتب لتذاكر لاختباراتها، استوقفته تلك الفتاة بخصالها الطيبة، تمنى بتلك اللحظة لو كانت هي من ستصبح زوجته، لطالما كان الصديق الوفي لروجينا؛ ولكن الآن بات الامر مختلف فأصبح لا يعلم ما الذي تريده حتى الصداقة بينهما لم تصبح كسابق عهدها.
انتبه "أحمد" من غفلته ليجدها تقف أمامه لا يفصلهما سوى السور الفاصل بين الشقتين، وتسأله بدهشةٍ:
_"أحمد" أيه اللي مصحيك دلوقتي!
بلل شفتيه بلعابه وهو يحاول التحكم بانفعالاته، فقال:
_نفس سؤالي، أيه اللي مقعدك بالجو ده!
ردت عليه بابتسامةٍ أشرقت وجهها:
_عندي إمتحان وبذاكر وأنت؟
عبث بخصلات شعره الطويل بحيرةٍ مما سيجيبها، فقال بوجومٍ عابث:
_مفيش حسيت نفسي مخنوق فقولت أطلع أشم هوا.
بلهفةٍ واضحة تساءلت:
_مخنوق من أيه؟
راق له لهفتها وتعجب لذلك، ولكنه تماسك بقوله المتزن:
_مش عارف يمكن لأن أخوكِ عملها وسابني وسافر.
ضحكت وهي تجيبه ساخرة:
_أنت فيها ما تسافرله وأهو بالمرة تكون جنب "روجينا" وتقضوا وقت لطيف.
اكفهرت معالمه حينما ذكرتها، فقال بضيقٍ:
_وهي كانت مهتمية بأمري عشان أسافرلها، دي حتى مهتمتش تعرفني بسفرها وأتفاجئت بيه من برة..
شعرت بضيقه الشديد، فقالت بابتسامةٍ هادئة:
_لا والله أكيد كانت فاكرة تقولك بس تلاقيها نست ما أنت عارفها عندها زهايمر.
قال بجفاء:
_ممكن.
ثم أشار لها كمحاولة للتهرب من الحديث عما يضايقه:
_أنا هدخل أريح شوية قبل ما أنزل المصنع وأنتي ادخلي ذكري جوه الجو برد.
ابتسمت وهي تشير له بالنفي:
_لا موعدكش لو دخلت جوه على السرير هنام، هنا الهوا هيفوقني وهيخليني أركز أكتر.
بابتسامةٍ ساحرة قال:
_ربنا يعينك.
وتركها وولج للداخل، فبقيت محلها عينيها ساهمة بباب شرفته، ليت هذا الحب الأعمى يبصر بداخل قلوبهما ليريهم كم خفق القلب خلسة للاخر!
عادت "حور" لمقعدها، لتحاول بائسة التركيز بمذكراتها مجدداً، فمرت الدقائق وهي تدون ملاحظاتها وفجأة وجدت ذاتها تدون بالقلم إسمه على احدى الصفح البيضاء ومن جواره تضع اسمها، مجرد رؤيتها لأسمائهما جوار بعضهما البعض نبت بداخلها ارتباك عظيم وكأنه يقف لجوارها ويتأمل ما تفعله، وازدداد الامر سوءاً حينما انطلق صوته يغرد:
_"حور".
رفعت رأسها مقابل شرفته، فما أن رأته حتى سقطت الكتب والأقلام أرضاً من فرط ارتباكها، فضحك وهو يردف:
_أيه يا بنتي شوفتي شبح ده أنا إنسان عادي!
بصعوبةٍ رسمت ابتسامة وهي تجيبه بتخبطٍ:
_لا أنا بس كنت مركزة بالمذاكرة ومخدتش بالي انك واقف!
أومأ برأسه ثم رفع الصينية التي يحملها ليناولها لها، التقطتها منه بتلقائية دون ان تعي ما تحمله، فتساءلت بذهولٍ:
_ده أيه؟
حك طرف انفه بتوتر، ثم قال بثباتٍ جاهد التحلي به:
_كنت بعمل لنفسي فطار خفيف كده وكوبية قهوة فقولت أعملك معايا.
ابتسمت وهي تردد على استحياءٍ:
_الف شكر يا "أحمد"، أنا فعلاً كنت جعانه ومكسلة أقوم أعمل حاجة.
رد عليها مازحاً:
_حاولي تشبعي من الرومي واللنشون بقا لاني مبعرفش أعمل غيرهم..
وأشار بيديه بمرحٍ:
_ومتخديش عليها ها، تشيدي حيلك كده قوام قوام عشان لما تخلصي امتحانات تعمليلنا رز معمر وشوية ورق عنب من اللي بتعمليهم دول.
بسعادةٍ كبيرة أجابته:
_بس كده عيوني، أمتحن بس وهظبطكم.
ابتسم وهو يضيف بجديةٍ:
_ربنا يوفقك..
ثم تراجع للخلف ليشير لها على باب الشرفة:
_طب هسيبك بقا عشان تركزي.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة ثم عادت لتجلس على المقعد وهي تحتضن الصينية بفرحةٍ تكسو قلبها قبل شفتيها!
*********
_أنا مش منبه عليكي يا"ماسة" تخفي من السفر الكتير عشان اللي في بطنك، انتي بتستغلي اني مسافر برة مصر ومش واقفلك بالمرصاد يعني ولا أيه؟!
_يا يحيى افهمني لازم اسافر القاهرة عشان الامتحانات قربت ولازم أنقل شوية محاضرات فايتني..
_قولتلك الف مرة متكلمنيش وانتي بتسوقي، لما توصلي كلميني..
_مهو انا مش بلحق اكلمك من يوم ما سافرت وانت مش بتفضلي أصلاً معرفش ليه عمي "فهد" بعتك وأنا على وش ولادة المفروض كان يبعت "عبد الرحمن" زي ما بيعمل.
_والدته تعبانه المرادي مش هيقدر يسيبها، يلا اقفلي نتكلم بعدين.
ترنح لمسمعه صوت شهقاتها ومن ثم صوت صراخها وهي تصيح بألمٍ:
_"يحيـــــــــــــــــــى"..
تمزق قلبه حينما سمع من بعدها صوت حطام السيارة ليفقد من بعدها الاتصال نهائياً..
افاق من نومه وهو يردد بفزعٍ:
_"مــــــــــاسة"!
مرر يديه على عرقه النابض على جبينه، ومن ثم جذب كوب المياه الموضوع على الكومود من جواره ليبلل ريقه الجاف، الحلم بذاك الحادث المؤلم اصبح يلاحقه كاللعنة، فلا يكفيه ما عاناه بتلك الفترة التي فقد بها ابنه وزوجته لا بل تعانده الذكريات لتعهده بتذكره كلما عصف به الألم!
*********
حركت رأسها الثقيل بصعوبةٍ لليسار تارة ولليمين تارة أخرى، أخر ما تذكرته المياه الباردة التي ابتلعت جسدها، وضعت "روجينا" يدها على جبينها تتحسس الصداع المؤلم الذي يهاجمها، فجاهدت ذاتها بفتح عينيها، لتستقر بجلستها، انتفضت حينما وجدت ذاتها على فراش بغرفةٍ وبدون حجابها، حتى ملابسها لم تكن ذاتها التي ارتدتها بالامس، الافكار التي رسمتها بمخيلاتها بتلك اللحظة كانت كفيلة بجعلها تفعل ما فعلته حينما جذبت السكين الموضوع على طبق الفاكهة القريب من الطاولةٍ، ثم فتحت باب الغرفة وخرجت تبحث عن هذا الحقير الذي نبت بداخلها الرغبة بقتله بالحال، شل جسدها باكمله حينما قيدها أحداً من الخلف فكادت بالصراخ لتجد من يهمس له بصوته الرجولي:
_اهدي.
ومن ثم عاد نفس الصوت ليهمس:
_سيبي السكينة وانا هبعد.
هزت رأسها باستسلامٍ فأبعدت السكين عن يدها ليحررها، ابتعدت عنه ثم استدارت لتجد أمامها نفس الشاب الذي رأته ينقذها على متن اليخت، رأته يقف أمامها، لم يكن بأوسع مخيلاتها بإنه نفسه "أيان المغازي"!
............ يتبع.............
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل العاشر
لدهاشنة2... (صراع السلطة والكبرياء..)..
الفصل_العاشر..
(إهداء الفصل للقارئة الجميلة "تقى حسام" ..)
أبعدها "أيان" عنه تدريجياً، فأصبحت مقابله تستكشف بعينيها المكان ومن ثم حررت عقدة لسانها بصعوبةٍ، لتتساءل بخوفٍ:
_أنا فين وأنت مين؟!
منحها نظرة صامتة طالت بتأملها ومن ثم قال بصوتٍ أخشونت نبرته:
_أنا اللي أنقذتك من السافل اللي كان بيتهاجم عليكي في عرض البحر.
رفعت يدها على جبهتها تقاوم صداع الرأس الذي كاد بأن يقتلها وهي تهمس بألمٍ:
_أنا أخر حاجة كنت فكراها وأنا بقع بالمية وآآ..
بدت مشوشة كثيراً، فقطع توترها حينما استكمل قائلاً:
_أنا اللي أنقذتك من الموت ورجعتك على الاوتيل.
سحبت نظراتها عنه ثم سلطتها على الملابس التي ترتديها ليتملكها الشك، فقال "أيان" بهدوءٍ مخادع:
_متقلقيش، طلبت بنت من الروم سيرفس وهي اللي غيرتلك هدومك.
ابتسامة تسللت لشفتيها وهي تردد بصوتٍ خافت اتبعه دمعات لا تتوقف:
_الحمد لله...
ومن ثم اتجهت نظراتها إليه، لتردد بإمتنان كبير:
_مش عارفة أشكرك ازاي على اللي عملته معايا.
تعمق بالتطلع إليها قبل أن يخبرها بثباتٍ:
_مفيش داعي أنك تشكريني بس أبقي خلي بالك بعد كده من الإنسان ده.
بدموعٍ تدفقت على وجنتها قالت:
_أنا كنت راحة أقابل صديقة ليا والظاهر أتلخبطت باليخت بس الحمد لله ربنا بعتك ليا بالوقت المناسب.
أخفى ابتسامة الشر النابعة على وجهه، ومن ثم أخرج كارت صغير من جيب بنطاله الرمادي، ليقدمه لها، حملته وهي تقرأ إسمه ببهجة عارمة تهاجمها، ثم تطلعت له بعدم فهم فقال:
_ده رقمي لو حبيتي تقدمي بلاغ ضد الكلب ده مستعد أساعدك بشهادتي.
أجابتها بارتباكٍ:
_لا بلاغ لا، انت متعرفش لو أهلي عرفوا اللي حصل ممكن يعملوا أيه فيه!
سألها بثباتٍ مخادع:
_وده المطلوب ولا أنتي عايزاه ينفد بعملته؟
هزت رأسها نافية ثم قالت بتوضيحٍ:
_مش بالظبط بس بابا ممكن يمنعني إني أنزل القاهرة تاني وأنا مش عايزة ده يحصل.
وجحظت عينيها بصدمةٍ وهي تردد:
_يا خبر أنا فضلت هنا طول الليل زمان ابن عمي قالب الدنيا عليا.
وأسرعت تجاه باب الغرفة ثم عادت خطوتين للخلف حينما تذكرت بقائها بدون الحجاب، احمر وجهها خجلاً من وقوفها أمامه طوال تلك المدة بدون حجابها، بحثت بالغرفة بعينيها عما يمكن استبداله بالحجاب، فوجدت مفرش خفيف موضوع على حافة المقعد القريب منها فجذبته ومن ثم عقدته حول شعرها الطويل ومن ثم ودعته بنظرةٍ ممتنة قبل أن تغادر الغرفة سريعاً، تبدلت ابتسامته الصغيرة لملامح متصلبة، ليهمس بصوتٍ يحف بالشر:
_كان قدامي فرصتين أنتقم منك لما شوفت بنتك بتغرق قدام عيني ساعدتها لأن الموت مش هدفي ولا انتقامي يا فهد، والفرصة التانية لما كانت قدامي وكنت أقدر ألوث شرفك بإيدي وهيحصل فعلاً بس برغبتها هي، في فرق بين العشق والاغتصاب وده هتعرفه لما هدفي يتحقق!.
واتسعت ابتسامته الماكرة وكأنها تتشكل بعهد الانتقام القاتل!
**********
خرج "يحيى" من غرفته سريعاً يبحث عنها بلهفة، سكنت نظراته وأحاطتها الراحة حينما رأها تجلس بالخارج وتشاهد البرنامج الكرتوني المفضل لها على التلفاز، استند بجسده على الحائط وهو يتابعها بحزنٍ، انتبهت "ماسة" لوجوده لجوارها فانتفضت بجلستها بذعرٍ ثم كادت بالنهوض لتترك الأريكة، أسرع "يحيى" تجاهها ثم ركع على ركبتيه ليخرج صوته المختنق:
_"ماسة" عشان خاطري سامحيني، أنا مقصدتش، مش عايز منك غير فرصة واحدة بس أصلح بيها اللي عملته.
بدت غير مستوعبة لما يقوله، فاستجمع شتاته ليبدأ بالحديث العقلاني عما يوجهه لها فقال:
_طب أيه رأيك منزلش الشغل النهاردة وننزل الملاهي مع بعض زي ما اتعودنا!
ضحكت عينيها حتى وإن كانت تحارب خوفها، فتمسك بالأمل ليعود بإستكمال حديثه:
_وهجبلك كل اللعب اللي عايزاها.
خرج صوتها المرتعش بخوف:
_ولو جيت معاك مش هتعمل كده تاني!
تمزق قلبه فكادت دمعاته بأن تنفلت، ليجيبها بألمٍ غزى صوته المحطم:
_لا يا روحي مش هعمل كده أبداً أوعدك.
وفتح يديه لها، ليشير لها بالإقتراب وقلبه يخفق خوفاً من أن تبتعد عنه من جديد، لحظات انتظرها بقلب يعلو نبضاته بتخوفٍ وإرتباك، فأخفضت قدميها عن الأريكة ومن ثم تمايلت بجسدها الهزيل لتضع يدها بعد محاولات مترددة بين يديه، عادت الحياة باسمة إليه من جديد، فاحتضنها بقوةٍ وهو يردد بفرحةٍ تختلجها الدموع:
_حبيبتي! ... والله ما هعمل أي حاجة تضايقك تاني..
ابتسمت بطفولية ومن ثم رفعت يدها لتشدد من احتضانه، فعاد الهواء لينعش رئتيه من جديدٍ، فابتعدت عنه وهي تردد بابتسامةٍ واسعة:
_هخلي "إلهام" تلبسني الفستان الجديد وتكوي شعري.
أومأ برأسه ثم نهض عن الأرض ليشير لها بابتسامة تنبع بعشقها:
_وأنا هلبس عشان ننزل بسرعة.
تعلقت عينيه بها وهي تهرول بعيداً عنه، والفرحة تغزو عينيه الدمعتين، بعد أن فقد الأمل بعودتها إليه مجدداً، ها قد منحه القدر فرصة لا تعوض!
*************
وقفت على بعد من غرفتها، تراقب غرفة ابن عمها المجاورة لغرفتها، ومن ثم هرولت لتطرق على باب الغرفة طرقات متتالية، فما أن فتحت "رؤى" الباب حتى هرولت "روجينا" للداخل لتغلق الباب من خلفها قبل أن يلمحها "بدر"، خلعت"روجينا" الحجاب ثم جلست على الفراش تلتقط أنفاسها التي كادت بالتوقف من خوفها الشديد، فأسرعت "رؤى" اليها لتتساءل في لهفة وقلق:
_انتي كنتي فين من امبارح يا "روجينا" أنا دورت عليكي في كل مكان وكنت هموت من القلق عليكي حتى موبيلك سايباه هنا، واترعبت أقول لبدر حاجة.
التقطت انفاسها بصوتٍ مسموع وهي تخبرها:
_الحمدلله انك مقولتهولش حاجة.
تجاهلت ما قالته ثم سألتها باهتمامٍ:
_إنتي روحتي فين؟!
بحزنٍ شديد قالت:
_أنا ربنا نجدني يا "رؤى"..
كلماتها المبهمة جعلتها تعود بسؤالها بعدم استيعاب:
_أيه اللي حصل!
تملكتها الدموع وهي تقص لها:
_" كريم" زميلي اللي كلمتك عنه قبل كده، اتهجم عليا امبارح ولولا شاب ربنا بعته ليا أنقذني من تحت أيده كان زماني وقعت في كارثة مفيش مخرج منها.
برقت بعينيها وهي تتساءل في هلعٍ:
_وأنتي كويسة؟!
علمت ما تقصده بتلميحاتها فقالت:
_ملحقش يعمل حاجة، الشاب ده أنقذني مرتين، مرة من الحقير اللي اسمه "كريم" ده والمرة التانية لما وقعت في المياة.
وبهيام أضافت:
_أنا معرفتش أشكره كويس على اللي عمله معايا، كل اللي فكرت فيه اني أرجع بسرعة قبل ما "بدر" يأخد باله إني مش موجودة، أنتي عارفة لو عرف حاجة زي كده ممكن يعمل أيه؟!
احتضنتها "رؤى" بجسد مرتجف وهي تردد بارتباكٍ عصف بها:
_مش مهم كل ده المهم انك بخير الحمد لله ربنا بيحبك عشان كده بعتلك اللي ينجدك.
ومن ثم ابعدتها عنها، لتحاوط وجنتها بأصبعيها وهي تستكمل بدمعات غزت وجهها الأبيض:
_أنتي متعرفيش أد أيه الاحساس ده صعب إنك تعيشه، أصعب من الموت بمراحل وميعرفهوش غير اللي عاشه وإختبره.
منحتها "روجينا" نظرة شك أنهتها بسؤالها الصريح:
_أنتي فيكِ أيه يا "رؤى" من يوم ما رجعتي مصر وأنتي مش طبيعية، حتى طريقتك وكلامك!
ابتعدت عنها ومن ثم جلست على الفراش، لتبكي بصمتٍ مما أكد للأخرى صدق حدسها، فاتبعتها لتجلس جوارها ومن ثم قالت بخوفٍ:
_في أيه؟!
خرجت عن صمتها أخيراً لتبوح عما يضيق بصدرها:
_أنا اتعرضت لنفس اللي انتي واجهتيه يا "روجينا" بس الفرق بينا إنك لقيتي اللي يساعدك لكن أنا لأ.
جحظت عينيها في صدمة، فلطمت وجهها وهي تهمس بعدم استيعاب:
_يا نهار أسود، أيه اللي بتقوليه ده، ازاي وأمته وفين؟!
ردت عليها بدموعٍ تدفقت لتفيق الآلآم بداخلها:
_كنت بحاول أنسى الإنسان اللي حبيته ففقدت نفسي..
ورفعت وجهها مقابلها وهي توضح لها بانكسارٍ:
_عيشتي في أمريكا أثرت عليا وغصب عني اندمجت بعادتهم وبقيت زيهم، لدرجة إني بقيت متقبلة إن فقدان العذرية مع الشخص اللي بحبه مش شرط يكون بعقد جواز..
وتطلعت لها وهي تسترسل بحرجٍ:
_ولما حبيت وجيت أعمل كده الإنسان اللي حبيته رفضني ورفض تفكيري ده، حسيت وقتها إنه بنى آدم متخلف وراجعي..
أجابتها بسخطٍ:
_متخلف وراجعي! .. ده راجل بجد وحبك بجد وأكيد كان هيصونك!
أغلقت عينيها بإلمٍ وكأنها تحارب تلك الغصة المؤلمة التي هاجمتها لتو، ومن ثم استطردت لتفيض بما يعيقها:
_لما رجعت كنت عايزة أنتقم من اللي عمله بس مكنتش أعرف إني بنتقم من نفسي، إحساس انعدام الثقة برفضه ليا خلاني زي المجنونة اللي عايزة تسلم نفسها لأي حد لمجرد إنها تأكد لنفسها إنها جميلة ومرغوب فيها!
صعقت مما استمعت اليه ومع ذلك تماسكت وهي تسألها بإهتمامٍ:
_وبعدين؟
التقطت نفس عميق قبل أن تجيبها:
_قابلت شاب من مصر وبيدرس معانا بنفس الجامعة، كان معجب بيا وأنا حسيتها فرصة أحاول بيها أنسى اللي حبيته وخروجة في التانية طلب مني أروحله حفلة عيد ميلاده، وفعلاً روحت وكان هناك عدد بسيط من أصدقائه ونصهم كانوا من نيويورك، قدملي مشروب ولما شربته حسيت بجسمي بيتخدر، ومحستش بأي حاجة بعدها غير وهو بياخدني أوضته اللي كان فيها اتنين من أصحابه، وأنا مصدومه ومش قادرة حتى اني أصرخ، والغريبة بقا انه مش شايف نفسه عمل حاجة لأنه متأكد إن الشرف عند الامريكان مش شيء مهم زي مانا كنت فاهمه، حسيت ان ربنا بيعاقبني على طريقة تفكيري وعلى خسارتي الكبيرة للشخص اللي حبيته، أنا من اللحظة دي يا روجينا فقدت نفسي وحياتي بقت بتضيق عليا، إحساس الإنكسار بشع وأنا انكسرت أكتر من مرة وفوقت بس متأخر.
خيم الحزن على وجه "روجينا"، فكلماتها غزت قلبها بسهام قاتلة، فكيف للمرأة أن لا تشعر بألم إمرأة مثلها، احتضنتها وهي تردد بصوتٍ باكي:
_وخبيتي عليا كل ده يا"رؤى" ، أنا كان قلبي حاسس إن أنتي فيكِ حاجة مش مظبوطة ودلوقتي اتاكدت..
شددت الأخرى من احتضنها لتترك العنان لشهقات دمعاتها المكبوتة بالإنفلات، بكت بصوتٍ مرتفع كاد بأن يذبح "روجينا" التي حاولت بكافة الطرق تهدئتها، فأبعدتها عنها وهي تزيح دموعها ثم قالت بحزنٍ:
_ليه سكتي عن حقك مرفعتيش قضية عليه ليه وبهدلتي الدنيا؟
ابتسمت ساخرةٍ:
_مش دي كانت رغبتي من الأول، يمكن ربنا عمل كده علشان أحس باللي كنت ناوية أعمله بنفسي، وأعرف قيمة الشخص اللي ضيعته من إيدي بمنتهى السهولة.
تطلعت لها مطولاً، ثم سألتها بتريثٍ:
_مين الشخص ده؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ وكأنها لا تملك الجرءة الكافية لإجابتها، ومع ذلك أصرت "روجينا" بسؤالها من جديد:
_مين يا "رؤى"؟
أطبقت على شفتيها وهي تجاهد بنطق اسمه، وحينما استسلمت قالت بانهزامٍ:
_" بدر".
ذهلت للغاية، ورددت بصدمةٍ:
_"بدر"!!... أنتي بتهزري صح؟
ردت عليها بضيقٍ:
_تفتكري هيجيلي نفس أهزر وأنا بتكلم عن موضوع زي ده!
قالت مسرعة:
_مقصدش يا حبيبتي بس "بدر" طبعه صعب وأنتي أكيد عارفة ده كويس، إزاي قدرتي تقوليله كده!
عبست بنظراتها الحزينة وهي تجيبها:
_معرفش، قولتلك كنت متأثرة بعادتهم وأنا لا شكلهم ولا زيهم.
استوقفتها ذاتها للحظات، وكأنها تخطو على نفس منهجها حينما كانت تلحق خطى صديقة السوء "تقى"، تذكرت كم إنخلع قلبها حينما ازاح هذا الحقير حجابها الذي حاولت الاخرى اقناعها بالتخلي عنه، فحينما غاب عنها شعرت وكأنها عارية، ربما لأنها لا تشبههم، لا تعلم لما عاد حديث"حور" ليلمع بعقلها بتلك اللحظة عن صاحبة السوء، ومن ثم تم الغزو على عقلها بتذكرها لذاك الشاب الوسيم الذي سلب مفتاح قلبها المغلق، ليعلقه بين يديه، ليعيد من أمامها ملامح وجهه الرجولي الذي احتفظت بها لنفسها، وخاصة إسمه الذي بات مميزاً لها باللحظة التي قرأته عينيها!
***********
كان عليه العودة للبلد قبلهما لأموراً هامة متعلقة بأمور مزارع الفواكه التابعة إليهم، فأوصى السكرتير الخاص به بإرسال الملفات اللازمة بصحبةٍ تسنيم التي تستعد للسفر بالغد، فذهبت للمصنع لتحصل على الأوراق اللازمة لتحضرها بالحقيبة الصغيرة التي وضعها "آسر" على سطح مكتبه، اضطرت للبقاء بمكتبه لفترة طويلة حتى ترتب ما ستحتاج إليه حينما تأتي بالغد، وبتلك الحجة بقيت لوقت طويل بداخل مكتبه، لا تعلم ما الذي يصيب جسدها كلما لامست غرض يخصه، جتى قلمه المعلق من أمامها!
مقعده يشعرها بحنان غريب وكأنه هو من يحتضنها برفقٍ، إحساس الأمان والدفء الغريب الذي استأنست به بداخل غرفة مكتبه جعلتها تشعر بأن هناك ما يربطها به، فربما أصبحت تحبه، لا هل هذا العشق الذي يتنقل على لسان قيس وليلى؟.. أم روميو وجوليت؟!
*********
ولجت "حور" للمصعد ثم كادت بأن تغلق بابه لتستعد بالصعود لشقة الفتيات، فاوقفه "أحمد" ومن ثم ولج للداخل، فرسمت الابتسامة على وجهه وهو يردد بحماسٍ:
_"حور".. عملتي أيه في الامتحان؟
ابتسمت حينما رأته يقف أمامها ، فتلعثمت بقول:
_الحمد لله الامتحان كان سهل وكل اللي ذكرته لقيته.
تعالت ضحكاته وهو يخبرها بغرورٍ:
_دي بركات الأكل اللي عملته والقهوة اللي خليتك تركزي كده.
قالت بمرحٍ:
_شكله كده، وتقديراً للي عملته هطلع أغير هدومي وأعملك أحلى طاجن ورق عنب باللحمة.
ضحك وهو يشير لها:
_كده هصحى اعملك فطار وقهوة كل يوم.
قالت بمرح:
_خلاص أنت عليك الفطار وأنا الغدا.
فتح باب المصعد بعدما توقف، وهو يجيبها:
_معنديش مانع مدام هناكل اكلة ترم العضم.
استدارت تجاهه قبل ان تدس مفتاحها بالباب، لتخبره على استحياء:
_قولي بس على الغدا اللي تحبه وأنا عيوني ليك يا "أحمد" والله.
انخطف قلبه مع تردديها لأسمه بصوتها الرقيق، منحها ابتسامة مصطنعة قبل ان يدلف لشقته المقابلة لها، فجلس على أقرب مقعد وكل تفكيره مركز بها، وبكل ما يخصها، حتى صوتها وارتدائها لخمار فضفاض، ببساطةٍ لم يترك شاردة وواردة تخصها الا وفكر بها عن دون قصد وكأن قلبه اصبح متصل بها هي على غير عادته!
***********
بعدما ذهبت لغرفته باحثة عنها، علمت من خدمة الغرف بأنه يجلس بالأسفل، فبحثت عنه بعينيها حتى اهتدت بمحله، لتجده يجلس بطلته الخاطفة للانفاس ويرتشف من كوب العصير الموضوع من أمامه بثباتٍ يفتك بقلبها الضعيف، ارتبكت "روجينا" وأخذت تعدل من حجابها ومن ثم يزداد عقلها تشتت بالتفكير عما ستبدأ بقوله، ارتسمت ابتسامة خبيثة على وجهه وهو يتابع انعكاس صورتها بالمرآة من أمامه، ومازال لا يمنحها اهتماماً يجلس باتزانٍ وثقة تجعله مرغوب به، يعلم كيف يستغل وسامته وثقته بذاته في الفتك بقلوبهن، وكأنه كان على ثقة بأنها من ستتأخذ الخطوة الاولى، وجدها تقترب منه حتى أصبحت بمرمى بصره، فابتسمت وهي تردد على استحياء:
_كنت بدور عليك.
وضع "أيان" كوب العصير من يديه وهو يردد بثباتٍ:
_عني انا؟ ، ليه خير!
عبثت بأصابع يدها بارتباكٍ وخاصة حينما قال:
_قررتي تقدمي بلاغ ولا أيه؟
ارتبكت "روجينا" للغاية وكأنه اكتشف حجتها للقاء به مجدداً، فقالت بتوترٍ:
_لا بس كنت حابة أشكرك اتاني مرة على اللي عملته معايا.. عن أذنك.
وكادت بالمغادرة، فنهض "أيان" ليقف أمامها ومن ثم قال وهو يسبل بنظراته بعينيه الرمادية الفتاكة:
_طيب الشكر بيبقى بالجفاء ده!
كسى وجهها لون احمر قاتم، فبللت شفتيها بلعابها وهي تتساءل بعدم فهم:
_إزاي!
قال بنظرة ماكرة تعمقت بالتتطلع لعينيها:
_أقصد انك على الاقل تشربي معايا حاجة.
تنفست بارتياح لفهم مقصده، فأشار بيديه على المقعد المجاور له، فجلست وهي تراقبه باهتمامٍ وقلبها يتراقص طرباً لقربها منه، لا تعلم كيف اعجبت به سريعاً هكذا، على الرغم من إنها ترتدي دبلة تخص رجلاً غيره، بقت نظراته الثاقبة مسلطة عليها، الى ان قاطع الصمت بينهما بصوته الرجولي الخشن:
_تحبي تشربي أيه؟
أجابته بعد تفكير:
_عصير برتقان..
أومأ براسه ثم رفع إصابعيه للنادل الذي اتى مسرعاً ليردد باحترام:
_تحت أمرك يا "أيان" باشا.
أخبره بمطلبه ليغادر سريعاً، فقالت "روجينا" بتخمينٍ:
_واضح انها مش اول مرة ليك بالفندق هنا؟!
ابتسم وهو يجيبها:
_أغلب الصفقات اللي بتممها مع العملاء بتكون هنا، شغلي متنقل بين القاهرة وإسكندرية والصعيد.
بكل اهتمام تساءلت:
_ليه بتشتغل أيه؟
منحها نظرة مطولة قبل أن يجيبها:
_رجل أعمال وتجارتي الاساسية مصانع للأعلاف..
نظراتها كمنت بالأعجاب تجاه هذا الشخص الذي حمل صفات مشتركة من فتى أحلامها، وضع النادل العصير من امامها فأشار لها "أيان" بتناوله، فارتشفت منه بضع قطرات ليعم الصمت من جديد، ليكسره هو حينما تساءل:
_طمنيني ابن عمك زعقلك او قالك حاجة على بياتك بره؟
قالت وهي تطلع له:
_لا الحمد لله معرفش.
رفع حاجبيه وهو يخبرها بهدوءٍ:
_طب كويس.
ابتسمت بارتباكٍ وهي تحارب للنهوض والمغادرة وبداخلها رغبة بالبقاء معه لوقتٍ أطول، وبالنهاية انتصرت فنهضت وهي تخبره بارتباكٍ:
_أنا لازم امشي... عن أذنك..
نهض ليقف من أمامها ثم قال بصوتٍ جعله متلهف:
_طب مش هشوفك تاني، انا حتى معرفش اسمك ايه؟
خطفتها السعادة وهي تخبره بابتسامة رقيقة:
_"روجينا"... اسمي "روجينا".
قال بهمس ساحر:
_اسمك جميل.
اخفت ابتسامتها بصعوبةٍ وهي تغادر من أمام نظراته الساهمة، فما أن اختفت من امامه حتى عاد وجهه ليتصلب بحدةٍ من جديدٍ...
**********
ما أن وصل للبلد حتى هرع لجواده الذي اشتاق إليه، فمرر"آسر" يديه على جسده الأبيض ليحني رأسه للأرض اشتياق له، ابتسم "آسر" وهو يداعبه ثم قال:
_أكتر حاجة بتوحشني بالمكان ده أنت يا "همام"، بس ببقى عارف اني مهما ابعد واطول هرجع ألقيك مستنيني..
صهل الخيل كتعبير عن حبه الشديد اليه، فابتسم" آسر"وهو يخبره بمشاكسة:
_أممم، شكلي موحشتكش أد ما مهجة وحشتك، انت خبيث وماكر بس ماشي هجبهالك.
وخرج "آسر" ليجذب المهرة "مهجة" ومن ثم ربطها جواره فبدى الاخير سعيداً للغاية، راقبهما "آسر" عن بعد وقد هامت به الذكريات وحنت إليها، فشعر بأن قلبه يحواطه برودة وجفاء لوحدة رؤياها، وكأنه يستأنس باحتضان نظراته لها... زفر وهو يردد بصوت منخفض ساخر:
_شكلي أنا كمان مشتاق للقرب زيك!
*********
ملت بالجلوس أمام البحر لساعاتٍ مطولة، فصعدت للغرفة حتى ترتاح قليلاً، كادت "رؤى" بتخطي الطرقة الفاصلة بين غرفتها وغرفة "بدر" فتفاجئت ببابها يفتح ومن ثم بذراعٍ قوي يجذبها للداخل، لينغلق الباب من خلفها، ابتلعت ريقها بصعوبة حينما كمم فمها ليصبح مقابلها، يحدجها بنظرةٍ مخيفة، ثم أبعد يديه عنها وهو يردد بلهجةٍ حازمة:
_مش هتخرجي من هنا غير لما تجاوبيني على كل أسئلتي.. فاهمة؟.
............. يتبع..............
الفصل_العاشر..
(إهداء الفصل للقارئة الجميلة "تقى حسام" ..)
أبعدها "أيان" عنه تدريجياً، فأصبحت مقابله تستكشف بعينيها المكان ومن ثم حررت عقدة لسانها بصعوبةٍ، لتتساءل بخوفٍ:
_أنا فين وأنت مين؟!
منحها نظرة صامتة طالت بتأملها ومن ثم قال بصوتٍ أخشونت نبرته:
_أنا اللي أنقذتك من السافل اللي كان بيتهاجم عليكي في عرض البحر.
رفعت يدها على جبهتها تقاوم صداع الرأس الذي كاد بأن يقتلها وهي تهمس بألمٍ:
_أنا أخر حاجة كنت فكراها وأنا بقع بالمية وآآ..
بدت مشوشة كثيراً، فقطع توترها حينما استكمل قائلاً:
_أنا اللي أنقذتك من الموت ورجعتك على الاوتيل.
سحبت نظراتها عنه ثم سلطتها على الملابس التي ترتديها ليتملكها الشك، فقال "أيان" بهدوءٍ مخادع:
_متقلقيش، طلبت بنت من الروم سيرفس وهي اللي غيرتلك هدومك.
ابتسامة تسللت لشفتيها وهي تردد بصوتٍ خافت اتبعه دمعات لا تتوقف:
_الحمد لله...
ومن ثم اتجهت نظراتها إليه، لتردد بإمتنان كبير:
_مش عارفة أشكرك ازاي على اللي عملته معايا.
تعمق بالتطلع إليها قبل أن يخبرها بثباتٍ:
_مفيش داعي أنك تشكريني بس أبقي خلي بالك بعد كده من الإنسان ده.
بدموعٍ تدفقت على وجنتها قالت:
_أنا كنت راحة أقابل صديقة ليا والظاهر أتلخبطت باليخت بس الحمد لله ربنا بعتك ليا بالوقت المناسب.
أخفى ابتسامة الشر النابعة على وجهه، ومن ثم أخرج كارت صغير من جيب بنطاله الرمادي، ليقدمه لها، حملته وهي تقرأ إسمه ببهجة عارمة تهاجمها، ثم تطلعت له بعدم فهم فقال:
_ده رقمي لو حبيتي تقدمي بلاغ ضد الكلب ده مستعد أساعدك بشهادتي.
أجابتها بارتباكٍ:
_لا بلاغ لا، انت متعرفش لو أهلي عرفوا اللي حصل ممكن يعملوا أيه فيه!
سألها بثباتٍ مخادع:
_وده المطلوب ولا أنتي عايزاه ينفد بعملته؟
هزت رأسها نافية ثم قالت بتوضيحٍ:
_مش بالظبط بس بابا ممكن يمنعني إني أنزل القاهرة تاني وأنا مش عايزة ده يحصل.
وجحظت عينيها بصدمةٍ وهي تردد:
_يا خبر أنا فضلت هنا طول الليل زمان ابن عمي قالب الدنيا عليا.
وأسرعت تجاه باب الغرفة ثم عادت خطوتين للخلف حينما تذكرت بقائها بدون الحجاب، احمر وجهها خجلاً من وقوفها أمامه طوال تلك المدة بدون حجابها، بحثت بالغرفة بعينيها عما يمكن استبداله بالحجاب، فوجدت مفرش خفيف موضوع على حافة المقعد القريب منها فجذبته ومن ثم عقدته حول شعرها الطويل ومن ثم ودعته بنظرةٍ ممتنة قبل أن تغادر الغرفة سريعاً، تبدلت ابتسامته الصغيرة لملامح متصلبة، ليهمس بصوتٍ يحف بالشر:
_كان قدامي فرصتين أنتقم منك لما شوفت بنتك بتغرق قدام عيني ساعدتها لأن الموت مش هدفي ولا انتقامي يا فهد، والفرصة التانية لما كانت قدامي وكنت أقدر ألوث شرفك بإيدي وهيحصل فعلاً بس برغبتها هي، في فرق بين العشق والاغتصاب وده هتعرفه لما هدفي يتحقق!.
واتسعت ابتسامته الماكرة وكأنها تتشكل بعهد الانتقام القاتل!
**********
خرج "يحيى" من غرفته سريعاً يبحث عنها بلهفة، سكنت نظراته وأحاطتها الراحة حينما رأها تجلس بالخارج وتشاهد البرنامج الكرتوني المفضل لها على التلفاز، استند بجسده على الحائط وهو يتابعها بحزنٍ، انتبهت "ماسة" لوجوده لجوارها فانتفضت بجلستها بذعرٍ ثم كادت بالنهوض لتترك الأريكة، أسرع "يحيى" تجاهها ثم ركع على ركبتيه ليخرج صوته المختنق:
_"ماسة" عشان خاطري سامحيني، أنا مقصدتش، مش عايز منك غير فرصة واحدة بس أصلح بيها اللي عملته.
بدت غير مستوعبة لما يقوله، فاستجمع شتاته ليبدأ بالحديث العقلاني عما يوجهه لها فقال:
_طب أيه رأيك منزلش الشغل النهاردة وننزل الملاهي مع بعض زي ما اتعودنا!
ضحكت عينيها حتى وإن كانت تحارب خوفها، فتمسك بالأمل ليعود بإستكمال حديثه:
_وهجبلك كل اللعب اللي عايزاها.
خرج صوتها المرتعش بخوف:
_ولو جيت معاك مش هتعمل كده تاني!
تمزق قلبه فكادت دمعاته بأن تنفلت، ليجيبها بألمٍ غزى صوته المحطم:
_لا يا روحي مش هعمل كده أبداً أوعدك.
وفتح يديه لها، ليشير لها بالإقتراب وقلبه يخفق خوفاً من أن تبتعد عنه من جديد، لحظات انتظرها بقلب يعلو نبضاته بتخوفٍ وإرتباك، فأخفضت قدميها عن الأريكة ومن ثم تمايلت بجسدها الهزيل لتضع يدها بعد محاولات مترددة بين يديه، عادت الحياة باسمة إليه من جديد، فاحتضنها بقوةٍ وهو يردد بفرحةٍ تختلجها الدموع:
_حبيبتي! ... والله ما هعمل أي حاجة تضايقك تاني..
ابتسمت بطفولية ومن ثم رفعت يدها لتشدد من احتضانه، فعاد الهواء لينعش رئتيه من جديدٍ، فابتعدت عنه وهي تردد بابتسامةٍ واسعة:
_هخلي "إلهام" تلبسني الفستان الجديد وتكوي شعري.
أومأ برأسه ثم نهض عن الأرض ليشير لها بابتسامة تنبع بعشقها:
_وأنا هلبس عشان ننزل بسرعة.
تعلقت عينيه بها وهي تهرول بعيداً عنه، والفرحة تغزو عينيه الدمعتين، بعد أن فقد الأمل بعودتها إليه مجدداً، ها قد منحه القدر فرصة لا تعوض!
*************
وقفت على بعد من غرفتها، تراقب غرفة ابن عمها المجاورة لغرفتها، ومن ثم هرولت لتطرق على باب الغرفة طرقات متتالية، فما أن فتحت "رؤى" الباب حتى هرولت "روجينا" للداخل لتغلق الباب من خلفها قبل أن يلمحها "بدر"، خلعت"روجينا" الحجاب ثم جلست على الفراش تلتقط أنفاسها التي كادت بالتوقف من خوفها الشديد، فأسرعت "رؤى" اليها لتتساءل في لهفة وقلق:
_انتي كنتي فين من امبارح يا "روجينا" أنا دورت عليكي في كل مكان وكنت هموت من القلق عليكي حتى موبيلك سايباه هنا، واترعبت أقول لبدر حاجة.
التقطت انفاسها بصوتٍ مسموع وهي تخبرها:
_الحمدلله انك مقولتهولش حاجة.
تجاهلت ما قالته ثم سألتها باهتمامٍ:
_إنتي روحتي فين؟!
بحزنٍ شديد قالت:
_أنا ربنا نجدني يا "رؤى"..
كلماتها المبهمة جعلتها تعود بسؤالها بعدم استيعاب:
_أيه اللي حصل!
تملكتها الدموع وهي تقص لها:
_" كريم" زميلي اللي كلمتك عنه قبل كده، اتهجم عليا امبارح ولولا شاب ربنا بعته ليا أنقذني من تحت أيده كان زماني وقعت في كارثة مفيش مخرج منها.
برقت بعينيها وهي تتساءل في هلعٍ:
_وأنتي كويسة؟!
علمت ما تقصده بتلميحاتها فقالت:
_ملحقش يعمل حاجة، الشاب ده أنقذني مرتين، مرة من الحقير اللي اسمه "كريم" ده والمرة التانية لما وقعت في المياة.
وبهيام أضافت:
_أنا معرفتش أشكره كويس على اللي عمله معايا، كل اللي فكرت فيه اني أرجع بسرعة قبل ما "بدر" يأخد باله إني مش موجودة، أنتي عارفة لو عرف حاجة زي كده ممكن يعمل أيه؟!
احتضنتها "رؤى" بجسد مرتجف وهي تردد بارتباكٍ عصف بها:
_مش مهم كل ده المهم انك بخير الحمد لله ربنا بيحبك عشان كده بعتلك اللي ينجدك.
ومن ثم ابعدتها عنها، لتحاوط وجنتها بأصبعيها وهي تستكمل بدمعات غزت وجهها الأبيض:
_أنتي متعرفيش أد أيه الاحساس ده صعب إنك تعيشه، أصعب من الموت بمراحل وميعرفهوش غير اللي عاشه وإختبره.
منحتها "روجينا" نظرة شك أنهتها بسؤالها الصريح:
_أنتي فيكِ أيه يا "رؤى" من يوم ما رجعتي مصر وأنتي مش طبيعية، حتى طريقتك وكلامك!
ابتعدت عنها ومن ثم جلست على الفراش، لتبكي بصمتٍ مما أكد للأخرى صدق حدسها، فاتبعتها لتجلس جوارها ومن ثم قالت بخوفٍ:
_في أيه؟!
خرجت عن صمتها أخيراً لتبوح عما يضيق بصدرها:
_أنا اتعرضت لنفس اللي انتي واجهتيه يا "روجينا" بس الفرق بينا إنك لقيتي اللي يساعدك لكن أنا لأ.
جحظت عينيها في صدمة، فلطمت وجهها وهي تهمس بعدم استيعاب:
_يا نهار أسود، أيه اللي بتقوليه ده، ازاي وأمته وفين؟!
ردت عليها بدموعٍ تدفقت لتفيق الآلآم بداخلها:
_كنت بحاول أنسى الإنسان اللي حبيته ففقدت نفسي..
ورفعت وجهها مقابلها وهي توضح لها بانكسارٍ:
_عيشتي في أمريكا أثرت عليا وغصب عني اندمجت بعادتهم وبقيت زيهم، لدرجة إني بقيت متقبلة إن فقدان العذرية مع الشخص اللي بحبه مش شرط يكون بعقد جواز..
وتطلعت لها وهي تسترسل بحرجٍ:
_ولما حبيت وجيت أعمل كده الإنسان اللي حبيته رفضني ورفض تفكيري ده، حسيت وقتها إنه بنى آدم متخلف وراجعي..
أجابتها بسخطٍ:
_متخلف وراجعي! .. ده راجل بجد وحبك بجد وأكيد كان هيصونك!
أغلقت عينيها بإلمٍ وكأنها تحارب تلك الغصة المؤلمة التي هاجمتها لتو، ومن ثم استطردت لتفيض بما يعيقها:
_لما رجعت كنت عايزة أنتقم من اللي عمله بس مكنتش أعرف إني بنتقم من نفسي، إحساس انعدام الثقة برفضه ليا خلاني زي المجنونة اللي عايزة تسلم نفسها لأي حد لمجرد إنها تأكد لنفسها إنها جميلة ومرغوب فيها!
صعقت مما استمعت اليه ومع ذلك تماسكت وهي تسألها بإهتمامٍ:
_وبعدين؟
التقطت نفس عميق قبل أن تجيبها:
_قابلت شاب من مصر وبيدرس معانا بنفس الجامعة، كان معجب بيا وأنا حسيتها فرصة أحاول بيها أنسى اللي حبيته وخروجة في التانية طلب مني أروحله حفلة عيد ميلاده، وفعلاً روحت وكان هناك عدد بسيط من أصدقائه ونصهم كانوا من نيويورك، قدملي مشروب ولما شربته حسيت بجسمي بيتخدر، ومحستش بأي حاجة بعدها غير وهو بياخدني أوضته اللي كان فيها اتنين من أصحابه، وأنا مصدومه ومش قادرة حتى اني أصرخ، والغريبة بقا انه مش شايف نفسه عمل حاجة لأنه متأكد إن الشرف عند الامريكان مش شيء مهم زي مانا كنت فاهمه، حسيت ان ربنا بيعاقبني على طريقة تفكيري وعلى خسارتي الكبيرة للشخص اللي حبيته، أنا من اللحظة دي يا روجينا فقدت نفسي وحياتي بقت بتضيق عليا، إحساس الإنكسار بشع وأنا انكسرت أكتر من مرة وفوقت بس متأخر.
خيم الحزن على وجه "روجينا"، فكلماتها غزت قلبها بسهام قاتلة، فكيف للمرأة أن لا تشعر بألم إمرأة مثلها، احتضنتها وهي تردد بصوتٍ باكي:
_وخبيتي عليا كل ده يا"رؤى" ، أنا كان قلبي حاسس إن أنتي فيكِ حاجة مش مظبوطة ودلوقتي اتاكدت..
شددت الأخرى من احتضنها لتترك العنان لشهقات دمعاتها المكبوتة بالإنفلات، بكت بصوتٍ مرتفع كاد بأن يذبح "روجينا" التي حاولت بكافة الطرق تهدئتها، فأبعدتها عنها وهي تزيح دموعها ثم قالت بحزنٍ:
_ليه سكتي عن حقك مرفعتيش قضية عليه ليه وبهدلتي الدنيا؟
ابتسمت ساخرةٍ:
_مش دي كانت رغبتي من الأول، يمكن ربنا عمل كده علشان أحس باللي كنت ناوية أعمله بنفسي، وأعرف قيمة الشخص اللي ضيعته من إيدي بمنتهى السهولة.
تطلعت لها مطولاً، ثم سألتها بتريثٍ:
_مين الشخص ده؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ وكأنها لا تملك الجرءة الكافية لإجابتها، ومع ذلك أصرت "روجينا" بسؤالها من جديد:
_مين يا "رؤى"؟
أطبقت على شفتيها وهي تجاهد بنطق اسمه، وحينما استسلمت قالت بانهزامٍ:
_" بدر".
ذهلت للغاية، ورددت بصدمةٍ:
_"بدر"!!... أنتي بتهزري صح؟
ردت عليها بضيقٍ:
_تفتكري هيجيلي نفس أهزر وأنا بتكلم عن موضوع زي ده!
قالت مسرعة:
_مقصدش يا حبيبتي بس "بدر" طبعه صعب وأنتي أكيد عارفة ده كويس، إزاي قدرتي تقوليله كده!
عبست بنظراتها الحزينة وهي تجيبها:
_معرفش، قولتلك كنت متأثرة بعادتهم وأنا لا شكلهم ولا زيهم.
استوقفتها ذاتها للحظات، وكأنها تخطو على نفس منهجها حينما كانت تلحق خطى صديقة السوء "تقى"، تذكرت كم إنخلع قلبها حينما ازاح هذا الحقير حجابها الذي حاولت الاخرى اقناعها بالتخلي عنه، فحينما غاب عنها شعرت وكأنها عارية، ربما لأنها لا تشبههم، لا تعلم لما عاد حديث"حور" ليلمع بعقلها بتلك اللحظة عن صاحبة السوء، ومن ثم تم الغزو على عقلها بتذكرها لذاك الشاب الوسيم الذي سلب مفتاح قلبها المغلق، ليعلقه بين يديه، ليعيد من أمامها ملامح وجهه الرجولي الذي احتفظت بها لنفسها، وخاصة إسمه الذي بات مميزاً لها باللحظة التي قرأته عينيها!
***********
كان عليه العودة للبلد قبلهما لأموراً هامة متعلقة بأمور مزارع الفواكه التابعة إليهم، فأوصى السكرتير الخاص به بإرسال الملفات اللازمة بصحبةٍ تسنيم التي تستعد للسفر بالغد، فذهبت للمصنع لتحصل على الأوراق اللازمة لتحضرها بالحقيبة الصغيرة التي وضعها "آسر" على سطح مكتبه، اضطرت للبقاء بمكتبه لفترة طويلة حتى ترتب ما ستحتاج إليه حينما تأتي بالغد، وبتلك الحجة بقيت لوقت طويل بداخل مكتبه، لا تعلم ما الذي يصيب جسدها كلما لامست غرض يخصه، جتى قلمه المعلق من أمامها!
مقعده يشعرها بحنان غريب وكأنه هو من يحتضنها برفقٍ، إحساس الأمان والدفء الغريب الذي استأنست به بداخل غرفة مكتبه جعلتها تشعر بأن هناك ما يربطها به، فربما أصبحت تحبه، لا هل هذا العشق الذي يتنقل على لسان قيس وليلى؟.. أم روميو وجوليت؟!
*********
ولجت "حور" للمصعد ثم كادت بأن تغلق بابه لتستعد بالصعود لشقة الفتيات، فاوقفه "أحمد" ومن ثم ولج للداخل، فرسمت الابتسامة على وجهه وهو يردد بحماسٍ:
_"حور".. عملتي أيه في الامتحان؟
ابتسمت حينما رأته يقف أمامها ، فتلعثمت بقول:
_الحمد لله الامتحان كان سهل وكل اللي ذكرته لقيته.
تعالت ضحكاته وهو يخبرها بغرورٍ:
_دي بركات الأكل اللي عملته والقهوة اللي خليتك تركزي كده.
قالت بمرحٍ:
_شكله كده، وتقديراً للي عملته هطلع أغير هدومي وأعملك أحلى طاجن ورق عنب باللحمة.
ضحك وهو يشير لها:
_كده هصحى اعملك فطار وقهوة كل يوم.
قالت بمرح:
_خلاص أنت عليك الفطار وأنا الغدا.
فتح باب المصعد بعدما توقف، وهو يجيبها:
_معنديش مانع مدام هناكل اكلة ترم العضم.
استدارت تجاهه قبل ان تدس مفتاحها بالباب، لتخبره على استحياء:
_قولي بس على الغدا اللي تحبه وأنا عيوني ليك يا "أحمد" والله.
انخطف قلبه مع تردديها لأسمه بصوتها الرقيق، منحها ابتسامة مصطنعة قبل ان يدلف لشقته المقابلة لها، فجلس على أقرب مقعد وكل تفكيره مركز بها، وبكل ما يخصها، حتى صوتها وارتدائها لخمار فضفاض، ببساطةٍ لم يترك شاردة وواردة تخصها الا وفكر بها عن دون قصد وكأن قلبه اصبح متصل بها هي على غير عادته!
***********
بعدما ذهبت لغرفته باحثة عنها، علمت من خدمة الغرف بأنه يجلس بالأسفل، فبحثت عنه بعينيها حتى اهتدت بمحله، لتجده يجلس بطلته الخاطفة للانفاس ويرتشف من كوب العصير الموضوع من أمامه بثباتٍ يفتك بقلبها الضعيف، ارتبكت "روجينا" وأخذت تعدل من حجابها ومن ثم يزداد عقلها تشتت بالتفكير عما ستبدأ بقوله، ارتسمت ابتسامة خبيثة على وجهه وهو يتابع انعكاس صورتها بالمرآة من أمامه، ومازال لا يمنحها اهتماماً يجلس باتزانٍ وثقة تجعله مرغوب به، يعلم كيف يستغل وسامته وثقته بذاته في الفتك بقلوبهن، وكأنه كان على ثقة بأنها من ستتأخذ الخطوة الاولى، وجدها تقترب منه حتى أصبحت بمرمى بصره، فابتسمت وهي تردد على استحياء:
_كنت بدور عليك.
وضع "أيان" كوب العصير من يديه وهو يردد بثباتٍ:
_عني انا؟ ، ليه خير!
عبثت بأصابع يدها بارتباكٍ وخاصة حينما قال:
_قررتي تقدمي بلاغ ولا أيه؟
ارتبكت "روجينا" للغاية وكأنه اكتشف حجتها للقاء به مجدداً، فقالت بتوترٍ:
_لا بس كنت حابة أشكرك اتاني مرة على اللي عملته معايا.. عن أذنك.
وكادت بالمغادرة، فنهض "أيان" ليقف أمامها ومن ثم قال وهو يسبل بنظراته بعينيه الرمادية الفتاكة:
_طيب الشكر بيبقى بالجفاء ده!
كسى وجهها لون احمر قاتم، فبللت شفتيها بلعابها وهي تتساءل بعدم فهم:
_إزاي!
قال بنظرة ماكرة تعمقت بالتتطلع لعينيها:
_أقصد انك على الاقل تشربي معايا حاجة.
تنفست بارتياح لفهم مقصده، فأشار بيديه على المقعد المجاور له، فجلست وهي تراقبه باهتمامٍ وقلبها يتراقص طرباً لقربها منه، لا تعلم كيف اعجبت به سريعاً هكذا، على الرغم من إنها ترتدي دبلة تخص رجلاً غيره، بقت نظراته الثاقبة مسلطة عليها، الى ان قاطع الصمت بينهما بصوته الرجولي الخشن:
_تحبي تشربي أيه؟
أجابته بعد تفكير:
_عصير برتقان..
أومأ براسه ثم رفع إصابعيه للنادل الذي اتى مسرعاً ليردد باحترام:
_تحت أمرك يا "أيان" باشا.
أخبره بمطلبه ليغادر سريعاً، فقالت "روجينا" بتخمينٍ:
_واضح انها مش اول مرة ليك بالفندق هنا؟!
ابتسم وهو يجيبها:
_أغلب الصفقات اللي بتممها مع العملاء بتكون هنا، شغلي متنقل بين القاهرة وإسكندرية والصعيد.
بكل اهتمام تساءلت:
_ليه بتشتغل أيه؟
منحها نظرة مطولة قبل أن يجيبها:
_رجل أعمال وتجارتي الاساسية مصانع للأعلاف..
نظراتها كمنت بالأعجاب تجاه هذا الشخص الذي حمل صفات مشتركة من فتى أحلامها، وضع النادل العصير من امامها فأشار لها "أيان" بتناوله، فارتشفت منه بضع قطرات ليعم الصمت من جديد، ليكسره هو حينما تساءل:
_طمنيني ابن عمك زعقلك او قالك حاجة على بياتك بره؟
قالت وهي تطلع له:
_لا الحمد لله معرفش.
رفع حاجبيه وهو يخبرها بهدوءٍ:
_طب كويس.
ابتسمت بارتباكٍ وهي تحارب للنهوض والمغادرة وبداخلها رغبة بالبقاء معه لوقتٍ أطول، وبالنهاية انتصرت فنهضت وهي تخبره بارتباكٍ:
_أنا لازم امشي... عن أذنك..
نهض ليقف من أمامها ثم قال بصوتٍ جعله متلهف:
_طب مش هشوفك تاني، انا حتى معرفش اسمك ايه؟
خطفتها السعادة وهي تخبره بابتسامة رقيقة:
_"روجينا"... اسمي "روجينا".
قال بهمس ساحر:
_اسمك جميل.
اخفت ابتسامتها بصعوبةٍ وهي تغادر من أمام نظراته الساهمة، فما أن اختفت من امامه حتى عاد وجهه ليتصلب بحدةٍ من جديدٍ...
**********
ما أن وصل للبلد حتى هرع لجواده الذي اشتاق إليه، فمرر"آسر" يديه على جسده الأبيض ليحني رأسه للأرض اشتياق له، ابتسم "آسر" وهو يداعبه ثم قال:
_أكتر حاجة بتوحشني بالمكان ده أنت يا "همام"، بس ببقى عارف اني مهما ابعد واطول هرجع ألقيك مستنيني..
صهل الخيل كتعبير عن حبه الشديد اليه، فابتسم" آسر"وهو يخبره بمشاكسة:
_أممم، شكلي موحشتكش أد ما مهجة وحشتك، انت خبيث وماكر بس ماشي هجبهالك.
وخرج "آسر" ليجذب المهرة "مهجة" ومن ثم ربطها جواره فبدى الاخير سعيداً للغاية، راقبهما "آسر" عن بعد وقد هامت به الذكريات وحنت إليها، فشعر بأن قلبه يحواطه برودة وجفاء لوحدة رؤياها، وكأنه يستأنس باحتضان نظراته لها... زفر وهو يردد بصوت منخفض ساخر:
_شكلي أنا كمان مشتاق للقرب زيك!
*********
ملت بالجلوس أمام البحر لساعاتٍ مطولة، فصعدت للغرفة حتى ترتاح قليلاً، كادت "رؤى" بتخطي الطرقة الفاصلة بين غرفتها وغرفة "بدر" فتفاجئت ببابها يفتح ومن ثم بذراعٍ قوي يجذبها للداخل، لينغلق الباب من خلفها، ابتلعت ريقها بصعوبة حينما كمم فمها ليصبح مقابلها، يحدجها بنظرةٍ مخيفة، ثم أبعد يديه عنها وهو يردد بلهجةٍ حازمة:
_مش هتخرجي من هنا غير لما تجاوبيني على كل أسئلتي.. فاهمة؟.
............. يتبع..............
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الحادي عشر
الدهاشنة2...(صراع السلطة والكبرياء...)...
الفصل الحادي عشر..
(إهداء الفصل للقارئة الجميلة بسمة محمود.. بشكرك على ريفيوهاتك الجميلة وبامنى أكون عند حسن ظنك دائماً).
صرخاتها احتبست خلف لائحة يديه التي يضغط بها على شفتيها، حدقتيها استوعبت من يقف أمامها فهدأت حدتها تدريجياً، وجدته يغلق باب غرفته ثم انتصب بوقفته مقابلها ليردد بشرارةٍ اكتسحت معالمه:
_مش هتخرجي من هنا غير لما أعرف مالك بالظبط.. فاهمه؟
وأزاح يديه عن شفتيها على مهلٍ، فالتقطت "رؤى" أنفاسها الثقيلة بصوتٍ مسموع، ودمعاتها اسُتحضرت بتلك اللحظة، فأجلت صوتها المتقطع:
_وهتفرق في أيه..
وتركته وكادت بفتح الباب لتغادر، فجذبها لتقف أمامه بعنوةٍ لتنفلت كلماته الحادة من بين اصطكاك أسنانه:
_كلامنا مخلصش.
رفعت عينيها البائسة تجاهه، ثم قالت بإنكسار:
_خلص من زمان يا "بدر" ، وختامه في كلمتين اتنين إن ربنا انتقملك مني فمش هتحتاج إنك تنتقم من تاني.
تمزق قلبه من كلماتها التي تحمل ألم استطاع إن يلمسه بصوتها، ومع ذاك بدى صلباً لا تهزه ما تقول، فقال بتريثٍ:
_معرفتش اللي حصلك برضه!.. متهربيش من إجابتي.
ومنحها نظرة متفحصة قبل ان يضيف ساخراً:
_أيه لقيتي الشخص اللي يستحق عذريتك ومطلعش اد المسؤولية!
أغلقت عينيها بقوةٍ تحتمل كلماتها التي ذبحت فؤادها قبل أن تنهال منها، فتمزقت أوردتها من فرط كبتها للدموع التي قررت البوح له عما يشعل هذا الجسد الضعيف، دموعها الصادقة طرقت أبواب قلبه بكل ما تحمله بقوةٍ، لتنهزم من أمامه، شفتيها المتحجرة تخلت عن بعضها لتخبره بوجعٍ:
_في فرق لما تحب شخص وتبقى عايزه باردتك وفرق تاني لما تكون مجبور وعاجز حتى إنك تصرخ وتستنجد بحد يخلصك من كلاب استباحت لحمك وعرضك حتى بعد ما أخدوا اللي عايزينه أنت برضه عاجز إنك تصرخ وتتكلم عن اللي حصلك لاني بالنهاية كانت دي طريقة تفكيري اللي المفروض بتتماشى مع البلد اللي اتربيت فيها.
تحررت يديه المتمسكة بها، وانفرجت شفتيه بصدمةٍ وهو يتابع ما تقوله بعدم استيعاب، رفعت "رؤى" يديها لتزيح دموعها التي الهبت وجهها الأبيض، لتضيف بحزنٍ:
_الغريبة إنهم بيفكروا أن الموضوع ده عادي لكن انا بعد اللي حصلي محستش بده...
وبدأت بشرح ما خاضته، قائلة:
_حسيت إني انتهيت ومبقاش ليا كيان، فقدت نفسي اللي ملقتهاش لحد دلوقتي يا "بدر"..
وسقطت أرضاً أسفل قدميه تبكي بانهيارٍ، لتشير بأصبعيها تجاه صدرها وهي تستكمل بصوتها الموجع:
_حتى قلبي قتلته الف مرة لما ضيعتك من ايدي...
وبابتسامةٍ جاهدت لرسمها استرسلت:
_بس أنا أستاهل كل ده، ده عقاب ربنا ليا عن الاستهتار اللي كنت فيه، عقاب عن الصح اللي كنت ببقى عرفاه وبحلله بحكم البلد اللي عيشت فيها،عقاب عن حاجات كتيرة أوي وأولهم اللي عملته مع الإنسان الوحيد اللي حبيته وحبني بدون ما يستنى مني مقابل أو شيء.
واخفت وجهها بيديها معاً وهي تصرخ بصوتٍ مزق جسدها كالأبر التي تخترقه:
_أيوه أنا أستاهل كل ده.
أيا قلب أين قسوة قلبك التي رجوته بالتحلي بها؟! .. إذاً ما الذي حدث لك الآن واليوم هو انتصارك العظيم ممن أستباح أوجاعك وسرق النوم من أعينك؟! ... ما الذي حدث الآن؟ .. لماذا يزداد الألم أكثر من ذي قبل؟، تراجع" بدر" للخلف خطوة ومن ثم استدار ليخفي تلك الدمعة اللعينة من مرمي بصرها، فكلما أجبر قدميه عن الابتعاد أستوقفته دمعاتها وصراخها المتقطع، تباً لذاك الحب الذي يستضعفه رغم قوة بنيته، استدار بوجهه تجاهها وهو يقاوم رغبته بالابتعاد والرحيل، وبين الاقتراب أسقط عقله بتلك الحرب الدامية، وانحنى!.. أجل انحنى لأجلها... انحنى وقد الزمه عقله بضرورةٍ الوقوف ورفع رأسه بكبرياءٍ لم يختاره ذاك العاشق الذي تمرد قلبه بما يخبئه لها من حبٍ، الا يكفيها ما نالته من قسوة العقاب الأثم؟!
توقفت عن البكاء بصدمةٍ حينما شعرت بأصابعه تبعد خصلات شعرها الأصفر عن وجهها، فرفعت رأسها المستند على ذراعيها لتجده أمامها، يطالعه بنظرات تلمع بدموع الألم الذي رأته بارزاً في نظراته، عادت أصابعه لتلامس وجهها،فأبعد الدموع عنه وكأنه يرفض رؤيتها بتلك الحالة التي تصيبه في مقتل رويداً رويداً، وزعت نظراتها بين عينيه ويديه التي تمسح دموعها ومن ثم منحته نظرة تحمل سؤال ورجاء خافت بأن يضمها لصدره فربما يترمم الجرح النازف بداخلها، تخشى ان تتعلق به فيتركها خائبة الامل ويبعدها عنه مجدداً، منحها ما هو الأجمل بالموافقة حينما جذبها لداخل حصنه المنيع، يحتضنها بداخله، فتسللت نبضات قلبه المختبئة خلف صدره إلى أذنيها التي تستند على صدره القاسي، فارتعش جسدها من لوعة عشقها له، وكأنها احتضنتها الفرحة لتعيق بينها وبين الحزن والألم بسد منيع، ما كان سراً يؤلمها الاحتفاظ به بمفردها ها أصبح أحداً يشاركها به ويربت على ظهرها بحنانٍ ليخبرها بأنه لا بأس، مر الأمر... يربت عليها ويخبرها بأنها على ما يرام الآن، انفطرت دموعها وشهقاتها الخافتة فاهتز جسدها من فرط البكاء بين احضانها، كأنها تشاركه ما مرت به من أوجاعٍ وهو يستقبل ما تلقيه بصدرٍ رحب، وكلما شعر بترنح جسدها شدد من احتضانه، ليخرج صوته الرخيم:
_يارتني كنت جانبك مكنتش هسمح لمخلوق يمس شعرة منك .
تعلقت بقميصه الأبيض الذي احتفظ بدمعاتها وهي تردد بصوتٍ هامس:
_أنا السبب يا "بدر".. انا اللي عملت كده في نفسي... آآ.... آنا السبب..
وانهت كلماتها ليترنح رأسها الثقيل للخلف، ففزع حينما رأها فقدت الوعي، لطم وجنتها بهدوءٍ وهو يناديها:
_" رؤى"!
الصمت والسكون تغلب عليها فجعلها كالجثة التي فارقت الحياة، انكمشت ملامحه بذعرٍ فانحنى ليضع يديه من أسفلها ليحملها سريعاً لفراشه ومن ثم أسرع للسراحة ليجذب عطره الخاص ومن ثم نثر منه على لائحة يديه ليقربها من انفها وهو يؤمرها بحدةٍ:
_فووقي يا "رؤى"، إفتحي عيونك.
هزت رأسها للجهة الأخرى وكأنها تشعر بالتقزز من رائحة هذا البرفنيوم الذي يساعدها على افاقة وعيها في حين أنها اختارت الهروب من مواجهته، وكلما استدار بوجهها للجهة الاخرى اسرع بيديه خلفها حتى فتحت عينيها الثقيلة لتقابل نظراتها المتلهفة للإطمئنان عليها، فحاولت الاستناد بلائحة يدها على الفراش لتستقيم بجلستها، فكادت بأن يختل توازنها ليساندها" بدر" حتى جلست بالطريقة التي أرحتها، فجذب كأس المياه المسكوب ثم قدمه لها قائلاً بثباتٍ عجيب:
_اشربي.
تناولته منه ثم ارتشفت بضع قطرات وأعادته اليها فوضعه على الكومود، ثم تطلع لها قبل ان يردد بغضبٍ متخفي بصوته الهادئ:
_هو مين؟ ... أنا أعرفه؟
جزت على شفتيها السفلية بأسنانها حينما تذكرت هذا الأرعن ثم قالت بدموعٍ سبقتها بالحديث:
_معرفش كل اللي أعرفه إنه اسمه "مروان" ومن مصر كان بيدرس عندنا، هو صديق "مارثا" صاحبتي وهي اللي عرفتني عليه وكنا بنتقابل كلنا في مكان عام..
ومسحت دموعها وهي تسترسل:
_هو كان بيحاول يتقرب مني وانا اديته الفرصة بس مكنتش متوقعة إنه يعمل فيا كده..
وبكت بحرقةٍ حينما تذكرت هذا اليوم المشؤم، فقال بحزنٍ:
_ليه عملتي في نفسك كده يا "رؤى"؟
نهضت عن الفراش لتقف مقابله وهي تطلع له بصدمة من سؤاله الذي يفترض به معرفة الاجابة، فخرج صوتها متقطع كحالها:
_كنت بحاول أنساك ومعرفتش.
ومسحت دمعاتها وهي تبتسم بإلمٍ:
_لو كان في امل بسيط إني أرجع واعتذرلك وأحاول أرجع علاقتنا زي الاول فالأمل ده انتهى بعد اللي حصلي يا" بدر"..
واخفضت عينيها أرضاً ثم اسرعت بالخروج من أمامه، فأغلقت الباب من خلفها لتعود لغرفتها محطمة القلب وإن كان فؤادها قد داوه حضنه الدافئ..
***********
اسندت جسدها العلوي على سور الشرفة، ويدها تعبث بخصلات شعرها القصير بعض الشيء بابتسامةٍ حالمة به، حديثه القليل ومظهره الرجولي أفتك بها، تلاشت تلك الابتسامة حينما لمحت عينيها الدبلة التي ترتديها بأصبع يدها، فاستوقفتها اللحظة لتعاتبها بأنها تعتبر على ذمة رجل أخر، أنبت "روجينا" نفسها ألف مرة على السماح لنفسها بالتفكير لغيره، فهمست بصوتٍ مختنق بالدموع:
_أيه اللي أنا بعمله ده واحد وأتقذني من الموت وشكرته خلاص الموضوع انتهى، ليه شاغلة نفسي بالتفكير فيه كل ده.
وأبعدت تلك الخصلة المتمردة على عينيها بغضبٍ فشعرت بأنها مشتتة وبحاجة لأن تهتدي لضالتها، لذا أسرعت لهاتفها فجذبته لتضغط على زر الاتصال الخاص به، ورفعته بلهفةٍ لسماع صوته عل قلبها يهتدي على من ينبغي عليها حبه عوضاً عن هذا الغريب الذي اقتحم اساورها العالية..
انزعج من نومه على صوت هاتفه، فقربه إليه ليتسلل الضيق لمعالمه حينما رأى اسمها، فتح "أحمد" الهاتف وهو يجيبها بجفاءٍ:
_خير، أيه اللي فكرك بيا؟
اتاه ردها الحاد:
_وأنت اللي بتسأل يعني!
قال بابتسامةٍ ساخرة:
_مش لما أعرف خطيبتي فين أبقى أسأل، انتي مش واخدة بالك من تصرفاتك يا "روجينا" ولا أيه؟!
_تصرفاتي!!، أنا عملت أيه عشان تكلمني باسلوبك ده؟!
سحب الغطاء عن جسده ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه وهو يجيبها بتعصبٍ شديد:
_انتي مش شايفة نفسك غلط لما تسافري كده من غير ما تعرفيني وأدرى من "بدر" انك مسافرة اسكندرية!
قالت باستغرابٍ:
_وأخد اذنك ليه ما أنا استأذنت من أخويا ووافق، انت عايز تتحكم فيا من دلوقتي يا "أحمد"..
طعنته كلماتها، فقال:
_لا لسه ممتلكتش الحق اللي يخليني اتحكم فيكي ولكن على الاقل أعرف انتي راحة فين وبتعملي أيه، عموماً استمتعي برحلتك ونتكلم لما ترجعي يا بنت عمي.
واغلق الهاتف وهو يحاول ابتلاع كلماتها الحادة، يشعر بأنه لم يعد يملك المقدرة على استكمال تلك العلاقة المخادعة، ولكنه مجبور على ذلك فكيف سيفعل ذلك بابنة عمه بعد خطوبة دامت لاكثر من ثلاثة أعوام، أفاق"أحمد" من شروده المطول على صوت رنين باب الشقة، فنهض ليفتح الباب فتفاجئ بها تقف من أمامه باسدال الصلاة الذي يزيدها جمالاً وحشمة، أشارت له "حور" بضيقٍ:
_أنت فين يا "احمد" الاكل برد وانا برن عليك الجرس من الصبح مش بترد!
أجابها بابتسامة عابثة:
_راحت عليا نومة في الوقت الغلط، اوعي تكونوا مكملتوش حسابي.
أجابته سريعاً:
_لا طبعاً أنا شلتلك اكلك.
وأشارت له على باب الشقة قائلة:
_يالا تعالى..
اتبعها بعدما أغلق الباب، فولج من بعدها ليردد بمرحٍ وهو يتأمل السفرة:
_ده الحبايب كلهم هنا أهو..
التهم "عبد الرحمن" قطعة الدجاج من أمامه وهو يجيبه بمزحٍ:
_حد يفوت أكلة من إيد "حور"!
جاهد لرسم ابتسامة مخادعة ليخفي بها غيرته الغامضة، فوزعت انظاره لماسة التي تجلس جوار" يحيى" يطعمها بيديه ويا للعجب تتناول طعامها بقبولٍ تام له، فإقترب "أحمد" منهما وهو يشير ليحيى بعدم فهم، فابتسم وهو يجيبه بكلماتٍ مبهمة لماشة؛ ولكن تفهمها أحمد ومن حوله:
_"حور" صممت مننزلش الا لما نتغدى، بس أحنا هناكل كل الاكل ده وننزل الملاهي زي ما اتفقنا صح يا "ماسة"؟
أجابته بحماسٍ وفرحة:
_ ومش هنأخد"طارق" الوحش معانا، صح يا "يحيى"؟
تعالت ضحكات الجميع، ليجيبها"يحيى" وهو يمسح حبات الارز على جانبي شفتيها:
_صح يا روح "يحيى"، يلا خلصي أكلك بسرعة قبل ما ينزل ويشوفنا.
التهمت قطعة الدجاج بيديه بسرعةٍ وهي تشير له بانصياعٍ، فاتسعت ابتسامة" أحمد" الذي أومأ برأسه ليحيى وهو يخبره:
_الحمد لله إنها تخطت المرحلة دي.
بادله الابتسامة ثم انشغل بها، فنادته "حور" مجدداً:
_انت لسه واقف يا "احمد" اقعد.
جلس على المقعد التي أشارت اليه، ثم جذب أحد الأطباق وكاد بأن يضع قطعة من الدجاج وقطعة من المعكرونة، فأسرعت اليه "حور" لتجذب الطبق من أمامه ثم وضعت الطاجن الذي يغطيه السلوفان قائلة بسخريةٍ:
_انت نسيت الاتفاق ولا ايه؟
حرر السلوفان وهو يردد بعدم تصديق:
_أيه ده لحقتي تعملي ورق العنب بالسرعة دي..
وضعت "تالين" السلطة من يدها على الطاولة وهي تجيبه بدلاً عنها:
_هي راضية تقعد من ساعتها ولا حتى تخليني أساعدها، دي من ساعة ما رجعت من الامتحان وهي مطلعتش من المطبخ..
قال "عبد الرحمن" وهو يلوك طعامه بتلذذٍ:
_لا بس بصراحة تسلم ايدها الأكل مالوش حل.
ابتسمت بفرحةٍ:
_الف هنا.
ثم اتنقلت نظراتها المتلهفة اليه، لسماع رأيه هو الأخر، فغمس "احمد" الشوكة في أحدى لفات ورق العنب الشهي وتذوقها ومن ثم رفع وجهه مقابلها ليشير برأسه بابتسامة عذباء، سعدت للغاية بما أخبرتها بها عينيه، فانتبهت "حور" لمراقبة "تالين" لها، فشعرت وكأنها ترتكب ذنب أو جرماً ما، فالهت ذاتها بتناول الطعام ومن ثم أسرعت بلم الاطباق حينما انتهوا جميعاً من تناوله، فأستأذن "يحيى" بالإنصراف، واصطحب "ماسة" لسيارته، أما "عبد الرحمن" فجلس جوار "أحمد" بالصالون بانتظار الشاي الذي وعدتهم "تالين" بإعداده..
*********
بالمطبخ..
تهربت "حور" من نظرات "تالين" المحاصرة لها، فاشغلت ذاتها بتنظيف الأطباق، وتركتها تحضر الشاي، وضعت "تالين" ملعقة من السكر في كل كوب وانتظرت الشاي حتى ينضج، فقالت "حور" بلهفةٍ:
_"احمد" بيحب الشاي يكون فيه معلقتين سكر مش واحدة..
تخلت "تالين" عن صمتها، قائلة بشكٍ:
_أنتي مركزة مع كل حاجة بيحبها أحمد بطريقة مش معقولة يا حور!
تلاشت ابتسامتها وتطلعت لها بارتباكٍ شديد، فقالت بتلعثمٍ واضح:
_لا بس عملته الشاي مع بدر ويحيى اكتر من مرة فأكيد عارفة كل واحد منهم بيشرب بكام معلقة سكر!
رفعت يدها على كتفيها بحنانٍ، ثم قالت بابتسامةٍ هادئة:
_يا حبيبتي أنا مقصدش حاجة، لاني عارفة إن مستحيل يكون في بينكم حاجة خصوصاً إن احمد مرتبط بروجينا من سنين وفرحهم بعد شهرين، أنا بس بحذرك عشان تخدي بالك ممكن "روجينا" تفهم اهتمامك ده غلط وأنتي نيتك صافية ومش بدماغك حاجة.
شعرت بأن هناك سوط حاد يجلدها بقوةٍ، فتماسكت وهي تجيبها ببسمةٍ تتعلق بها بتشبث:
_عارفة، وأنتي على فكرة بتتكلمي صح.
ثم أشارت لها كمحاولة للتهرب من ذاك الألم الطاعن لروحها قبل أن يلمس قلبها العاشق:
_الحقي الشاي غلي.
واغلقت "حور" النيران ثم حملت البراد وسكبت منه بالأكواب، لتصفن بكلماتها من جديدٍ، حتى انها لم تنتبه للكوب الذي إمتلأ لأخره بالشاي الساخن، فصرخت بها تالين، فمن غفلتها تركت البراد لتمسك الكوب فسقط على قدميها ليهتز جسدها بقوةٍ من شدة الألم فأهتز الكوب الذي تحمله ليتساقط على يدها، فتعالت صرخاتها المتوجعة، ومن خلفها "تالين" التي تحاول ابعاد الاسدال عن قدميها حتى لا يلتصق بجلدها المحروق، هرول "عبد الرحمن" للداخل و"احمد" الذي تساءل بفزعٍ:
_في أيه؟
اجابته "تالين" ببكاءٍ:
_البراد حرق أيدها ورجليها.
دون عقل أو تفكير فيما سيظنه من حوله، هرع إليها ليجد الجروح بالغة للغاية، لم يتردد لحظة واحدة وحملها ليدلف بها للحمام المجاور للمطبخ، فوضع الماء على يدها ومن ثم جذب الدش المتنقل ليسقطه على قدميها، فتعلقت بجاكيت بذلته الأسود وهي تبكي بألمٍ، لم يتحمل رؤيتها هكذا فقال:
_لازم نروح المستشفى، الحرق مش عادي.
قالت بصوتٍ مرتعش:
_لا بلاش مستشفى بالله عليك.. أنا خايفة.
أجابها "عبد الرحمن" من خلفها بحزمٍ:
_مينفعش يا "حور" ده حرق مش لعب عيال..
وأشار لاحمد بجديةٍ:
_هاتها يا "أحمد" عما أجيب العربية تحت العمارة.
أومأ برأسه وحملها بخفةٍ من جديد فأسرعت "تالين" لتفتح الباب اليه، ثم صرخت به قائلة بدموع:
_استنى يا "احمد" لما اغير هدومي وأجي معاكم.
اشار لها وهو يتخطى الدرج:
_خليكي هنا وانا هبقى اطمنك بالتليفون.
واستكمل خطاه السريع للاسفل، فوضعها بالمقعد برفقٍ وحذر، ثم صعد جوار "عبد الرحمن" وعينيه لم تتركها لحظة واحدة..
*********
كلما يزحف القطار من بلدتها يتمزق قلبها ارباً وكأنها تقترب من حتفها، أغلقت "تسنيم" عينيها المتورمة من أثر عدم النوم وهي تحاول التقاط انفاسها على مهلٍ، تخشى رؤية خالها البغيض مجدداً، تمقت صلة القرابة التي تحتمها على قبوله بالاجبار، مازالت تلك الرجفة القاسية تكتسح جسدها حينما تتذكره فكيف إذا رأته؟!
عادت تلك الذكرى لتهيم عليها من جديد تذكرت حينما ولجت لغرفة والدتها وقالت تلك الفتاة البالغة من العمر خمسة عشر عاماً:
_ماما كنت عايزة أقولك على حاجة ومش عارفة أقولك ازاي؟
انتبهت الأم لصغيرتها، فكفت عن ترتيب الفراش ثم وقفت مقابلها لتبدأ بتخمنياتها:
_قولي يا "تسنيم" في أيه... اوعي تكوني وقعتي فلوس الدرس زي الشهر اللي فات انتي عارفة ان ابوكي مبعتلناش فلوس الشهر ده!
أشارت بإصبعها الصغير:
_لا يا ماما مش كده.
قالت الاخيرة:
_امال في أيه؟
أجابتها بخوفٍ من ردة فعلها:
_خالو يا ماما بيبصلي بصات وحشة اوي، وكل ما يشوفني يحضني ويمشي ايده على جسمي بطريقة وحشة.
التهبت عين الأم، لتلكزها بذراعيها بقوةٍ وبتعصبٍ شديد قالت:
_اخرسي قطع لسانك عيلة منحطة ومشوفتيش تربية، خالك ده هو اللي مربيكي وبيعتبرك زي بنته، عيب تتكلمي عنه كده، بيحضنك زيك زي مريم بنته..
ودفعتها على الفراش وهي تصرخ بها بشراسةٍ:
_ بطلي هبل واوعي تقولي الكلام ده لابوكي لما يتصل تولعي النار بينهم، خالك ده هو اللي فتحلنا بيته لما ابوكي سافر ومتخلاش عننا عيب عليكي تتكلمي عنه كده.
وتركتها وغادرت الغرفة لتنهمر الدموع على وجنت الصغيرة، والآن تنتقل الدموع على وجنة تلك الشابة البالغة من العمر الثانية والعشرون عاماً، انقبض قلب "تسنيم" حينما توقف القطار، فهبطت واتجهت لمنزلها ومع كل خطوة تخطوها يرتحف قلبها خوفاً من رؤياه، وحينما وصلت للمنزل حمدت الله كثيراً حينما اخبرتها زوجة خالها بأنه بالخارج وسيعود بعد قليل، فاستأذنت من والدتها بالذهاب لوالدها لتساعده بعمل الحقول بعدما علمت بأنه ذهب منذ ساعة ولم يعد، أبدلت ثيابها لجلباب رجالي أسود ثم احكمت الشال الابيض لتخفي ملامحها واتجهت سريعاً للحقول، لا تعلم بأن من منحها تفكير معاكس عن طبيعة الرجال ستلقاه الآن وربما يكون المسكن لذاك الوجع الغائر!.
**********
بمنزل كبير الدهاشنة.
انتهى "آسر" من تبديل ثيابه، ثم أغلق الخزانة ليصفف شعره بعنايةٍ، انتبه لانعكاس صورة والدته بالمرآة، فاستدار وهو يردد بابتسامة مشرقة:
_ست الكل اللي وحشاني.
وضعت "راوية" القدح الذي يحمل البخور على الكومود، ومن ثم اقتربت منه لتخبره بضيقٍ مصطنع:
_ست الكل أيه بقا، انت من ساعة ما جيت وأنت مقضيها بالاسطبل ودلوقتي غيرت هدومك ونازل مفيش وقت ليا أصلاً..
ترك ما بيديه وهرع اليها، لينحنى على ركبتيه ومن ثم طبع قبلة على كف يدها وهو يردد بمكرٍ:
_أنا لو علسا والله ما عايز اتنقل من جنبك بس هعمل أيه جوزك اللي ساعة ما بيشوف خلقتي بيمشورني هنا وهناك وعلى يدك أهو ملحقتش اريح شوية باعتني الغيط اتطمن الامور ماشية ازاي..
نجح بتبديل ضيقها لعطف وتودد حينما قالت بحنوٍ:
_معلش يا روح قلبي هو برضه مش بيثق في حد غير فيك، وبعدين أنت ابنه الوحيد هيعتمد على مين غيرك؟
ابتسم وهو يحتضنها:
_وانا متقبل ده وأخدمه بعيوني، بس لازم ست الكل تديني عذر ولا أيه؟
تعالت ضحكات "راوية" لتحتضنه وهي تردد بعدم استيعاب:
_انت مكار وخبيث..
أجابها بغمزةٍ من عينيه الساحرة:
_بس بحبك ولا أيه..
_بتعمل أيه عنديك يا واد أنت، أني مش بعتك الغيط تشوف مصالحنا واجف عندك تتمرع وتحب في أمك من غير ما تستحي.
سلطت الاعين على من يقف أمام باب الغرفة يشير لهما بعصاه الانبوسية بضيقٍ شديد، ابتعد "آسر" عنها وهو يهمس بخبثٍ:
_نسيت أن الحاج بيغير فكريني او حذريني أقفل الباب مثلاً!
تعالت ضحكات "راوية" حتى أحمر وجهها، فنهضت عن المقعد ثم اقتربت من "فهد" قائلة بحنقٍ:
_وبعدين معاك يا "فهد" انت مش هتبطل طريقة كلامك دي.
تجاهل حديثها، ثم لكز بعصاه صدر آسر ليخبره بغيظٍ:
_هم بقولك، روح شوف حالنا.
كبت ضحكاته بصعوبةٍ ورفع يديه يخبره:
_تحت أمرك يا كبيرنا... اعتبرني مشيت..
وتخطاه ليهبط على الدرج الضخم الذي يتوسط الثرايا فلحقت به "راوية" لتناديه ومن ثم حذرته بتذكر تعليماتها:
_الأبيض خد بالك.
تطلع لقميصه ومن ثم رفع صوته لتستمع له:
_متقلقيش حفظت القواعد الابيض أحطه في عنيا من جوه عشان غسيله بيهري القلب من بره.
تعالت ضحكاتها حينما قلد لهجتها، فاستدارت لتغادر فوجدت "فهد" يقف من أمامها بنظراتٍ لا توحي بالخير، اقتربت منه وتفحصت الطريق قبل ان عدل من جلبابه الكحلي ومن ثم ارتفعت يدها لعمته البيضاء فعدلتها، وأنحنت بجسدها تحتضنه وهي تردد بهمسٍ:
_انت اللي في القلب والروح.
ابتسم "فهد" وضمها اليه ليجيبها بصوتٍ منخفض:
_واثق من ده بس برضه متزديش في محبتك لابنك وبنتك اعدلي بينا، اتفقنا؟
ازدادت ضحكاتها وهي تجيبه بصعوبةٍ بالحديث:
_نفسي حد من الصعيد يسمع كبيرهم ويشوفوه وهو غيرن من ولاده!
وتركته وهبطت للاسفل لتشير له:
_هنزل أشوف ورانا أيه أحسن ما الحاجة "هنية" تعلقني جنب "نادين".
التصقت بها نظراته وكأنها تحرس عشقه الوفي الذي طال لسنواتٍ ومازال يستمر حتى أن تودعه الروح وتفارق جسده، فاكمل طريقه هو الاخر للمندارة الخارجية.
**********
تلقت"حور" عناية طبية، فتم تضميد جرح قدميها ويدها، فوضع الطبيب المحاليل الطبية بذراعها السليم ثم أخبر "عبد الرحمن" و"أحمد"بأنها ستتمكن من المغادرة فور انتهاء المحلول، فولج "أحمد" للداخل، ثم جلس على المقعد القريب منها، وقال باهتمامٍ:
_طمنيني يا "حور" عاملة أيه دلوقتي؟
ابتسمت وهي تجيبه بامتنانٍ:
_الحمد لله، الوجع خف بالمرهم اللي الدكتور حطه.
اومأ برأسه وهو يردد برضا:
_الحمد لله.
سألته بانزعاج:
_هنمشي أمته بقا، بقالنا هنا ساعتين.
قال بهدوءٍ:
_لما المحلول يخلص هنمشي، متقلقيش.
هزت رأسها ومن ثم تعلقت أعينها بباب الغرفة الذي فتحه "عبد الرحمن" فولج الاخير ليخبرها بابتسامةٍ مرحة:
_أيه يا حور حسدناكي ولا أيه؟
ابتسمت وهي تخبره:
_حد بيهرب من اللي مكتوبله يا "عبد الرحمن"، الحمد لله على كل شيء.
_الحمد لله، المهم انك تاخدي بالك من نفسك بعد كده.. أنا هنزل أجيب عصير وأجي.
وتركهما وغادر، فشعر"أحمد" بانزعاج "حور" من حجابها، لم يفهم ببدء الأمر ما يزعجها فانتبه بأنها تحاول اخفاء خصلات شعرها الظاهرة من أسفل حجابها الغير منظم، فتحاول بيدها الملفوفة بالشاش ان تخفيه واليد الاخرى المحلول مدثوث بعروقها، انتقلت نظراتها للحائل الزجاجي فوجدت الطبيب على وشك الدلوف، كسر احمد حاجز صمته ونهض ليقترب منها ومن ثم أخفى خصلات شعرها الحريري الذي استطاع أن يلامسه بيديه، فاخفاه خلف الحجاب وهو يردد:
_خليني أساعدك.
انتهى مما يفعله وعينيه هائمة بعينيها، فلعق شفتيه وهو يتراجع لمقعده بارتباكٍ، حتى هي خفق قلبها بسرعةٍ جعلتها تستشعر بأنها ركضت لالف ميل دون أن تلتقط انفاسها، انتبهت لحالتها الغريبة حينما قال الطبيب:.
_المحلول خلص، تقدروا تروحوا بس الاهم انها تواظب على العلاج والمرهم اللي كتبتوا.
صافحه احمد وهو يخبرها بابتسامة عملية:
_الف شكر يا دكتور.
ومن ثم قدم يديه لها ثم قال:
_يلا يا "حور".
وزعت نظراتها بينه وبين يديه ومن ثم قدمتله يدها بحرجٍ شديد، فهي غير قادرة على الإتكاء على قدميها بالفعل هي بحاجة للمساعدة، هبطت عن الفراش ببطءٍ فحينما استندت على قدميها صرخت ألم، فرفعها أحمد سريعاً عن الأرض ثم قال:
_الدكتور قالك متحمليش عليها.
وجدها تقرب يدها السليمة من رقبته بارتباكٍ، وكأنها لا تريد وضعها فتحرك بها ليجدها تلف يدها حول رقبته، هبط بها للاسفل وعينيه لا ترى سواها، وحينما وصل للاسفل لم بجد السيارة باستقباله كما كان متوقع، فردد بضيقٍ:
_راح فين ده؟
ثم قال:
_" حور" موبيلي في جيب الجاكت حاولي تسحبيه.
احمر وجهها خجلاً وهي تقرب يدها من جيب جاكيته، فجذبته ومن ثم رفعته له، فاخبرها الرقم السري لتفتحه، اندهشت معالمها حينما رأته يضع صورة تجمعه بروجينا منذ الصغر لا تعلم لما شعرت بالحزن بتلك اللحظة ولكنها تناست عمداً ما رأته واجرت اتصالاً بعبد الرحمن كما طلب منها، فخرج من المشفى ليحضر السيارة ولذاك الوقت أبى أحمد أن يتركها تقف على الارض لحينما يأتي عبد الرحمن بل ظل يحملها حتى وضعها بالسيارة وعاد بها للمنزل.
***********
وقف "يحيى" يتابعها بضحكة أنارت وجهه المنطفئ، وهي تتأرجح على ذاك الحصان الذي يدور يساراً ويميناً، وتتناول غزل البنات الذي تحمله بين يدها، ابتسامته تتسع أكثر فأكثر كلما ضحكت هي، وفجأة انكمشت ملامحه حينما وجدها تضع يدها على رأسها وكأنها ستفقد وعيها، فأسرع اليها ليساعدها على الهبوط من الارجيحة وهو يتساءل بخوفٍ:
_مالك يا حبيبتي؟
كادت "ماسة" بأن تجيبه ولكن التقيأ اوقفها عن الحديث، افرغت ما بجوفها ومازال يحيى يتمسك بها لينبع بداخله خوفاً لا مثيل له من الشكوك التي هاجمته بتلك اللحظة حيال أمر حملها!!
**********
مر بسيارته على حقل العم "فضل"، فرقصت ملامح وجهه فرحاً حينما رآها، حتى وإن كانت تتنكر بما ترتديه؛ يعرفها قلبه جيداً، ركن" آسر"سيارته على قربٍ منهما ومن ثم هبط، فقال وعينيه تتابع من تحاول قطف الحشائش من الأرض:
_أزيك يا عم "فضل"، عامل أيه؟
انتبه العجوز اليه، فقال بفرحةٍ:
_بشمنهدس" آسر".. منور البلد كلتها.
ابتسم وهو يجيبه:
_منورة بأهلها يا راجل يا طيب، طمني رجلك بقت كويسة ولا أيه؟
قال بحمد:
_أهو أحسن من الاول الحمد لله..
_تستاهل الحمد.
واستدار برأسه تجاهها ثم قال بثباتٍ:
_ازيك يا ريس؟
تهجمت معالمها وإن كانت سرت باحتفاظه بسرها أمام والدها، فأشارت برأسها، فأقترب آسر منها ثم جذب منها السيف الغليظ الذي يستعمله الفلاح لجني الحشائش، ثم قال وهو يشير لها بعينيه:
_عنك يا ريس..
رفع عم فضل صوته البعيد عنهما:
_ميصحش يا بشمهندس ده أحنا اللي نخدمك برموش عنينا..
أشمر عن ساعديه وانحنى يجني الحشائش وهو يجيبه:
_عيب يا عم فضل، انا مش ابنك ولا أيه؟
لم يجد العم فضل الكلمات المناسبة التي قد تشكره على كرمه السخي، عمل "آسر" بنشاطٍ وكانت تسنيم تحاول مساعدته بأن تجمع ما يجنيه وتضعه على العربة، فانحنى للخلف ليراقب العم قبل ان يهمس لها:
_هو عم فضل ميعرفش انك بتشتغلي معايا ولا ايه؟
اجابته وهي تراقب والدها هي الاخرى:
_لا، بابا ميعرفش اني بشتغل أرجوك يا بشمهندس آسر متقولوش حاجة..
رفع حاجبه وهو يردد بذهولٍ:
_أقول أيه بس هو أنا أعرفك يا ريس؟!
ابتسمت "تسنيم" وهي توزع نظراتها بينه وبين والدها، فغمز لها "آسر" وهو يستكمل عمله، انتهى من عمله سريعاً ليضع أخر حزمة من الحشائش على العربة، فاقتربت منه بالحزمة التي تحملها، فالتقطتها آسر منها، تعجب للغاية حينما شعر برجفة جسدها وقتما تلامست يديه بيدها دون قصد منه ولكنه لم يشغل تفكيره فوضع الحزمة من يديه على العربة فوجدها تهمس له بحذرٍ:
_مش عارفة أشكرك ازاي بجد تعبتك معايا.
تفحص بنظراته عم فضل المشغول بتجهيز الفرس، ثم همس لها:
_لا ده دين وهترديه.
جحظت عينيها في ذهولٍ ، فاسترسل موضحاً وهو يشير على قميصه:
_القميص اتوسخ ولو الحاجة شافتني هتقتلني وتقتل عم "فضل" الراجل الطيب ده، وطبعاً ده ميخلصكيش فكده كده انتي هتيجي بالملفات العصر هخبي القميص وتعيدي تجدديه قبل ما الحاجة تشم خبر، موافقة يا بنت الحلال؟
كبتت ضحكاتها بصعوبةٍ خشية من أن يستمع والدها لها، ثم قالت بصعوبةٍ:
_لا ميخلصنيش... حاضر.
منحها ابتسامة صافية قبل ان يشير لعم فضل بيديه قائلاً:
_لو عوزت حاجة ابقى كلمني يا عم فضل..
قال بوجهاً بشوش:
_منحرمش منك يا ابني.
والتفت تجاهها ثم غمز نفس غمزته المعتادة وهو يقول:
_مش عايز حاجة يا ريس..
كبتت ضحكاتها وهي تشير له بالنفي، فغادر لسيارته ثم صعد للمقعد ليتحرك بسيارته وعينيه متعلقة بالمرآة التي تختم صورتها من خلفه، وكلما تقدم بالسيارة استودع انعكاسها الذي يتباعد رويداً رويداً حتى اختفى وكان لإختفائه ألم موجع لقلبه ومشاعره!
.......... يتبع..........
الفصل الحادي عشر..
(إهداء الفصل للقارئة الجميلة بسمة محمود.. بشكرك على ريفيوهاتك الجميلة وبامنى أكون عند حسن ظنك دائماً).
صرخاتها احتبست خلف لائحة يديه التي يضغط بها على شفتيها، حدقتيها استوعبت من يقف أمامها فهدأت حدتها تدريجياً، وجدته يغلق باب غرفته ثم انتصب بوقفته مقابلها ليردد بشرارةٍ اكتسحت معالمه:
_مش هتخرجي من هنا غير لما أعرف مالك بالظبط.. فاهمه؟
وأزاح يديه عن شفتيها على مهلٍ، فالتقطت "رؤى" أنفاسها الثقيلة بصوتٍ مسموع، ودمعاتها اسُتحضرت بتلك اللحظة، فأجلت صوتها المتقطع:
_وهتفرق في أيه..
وتركته وكادت بفتح الباب لتغادر، فجذبها لتقف أمامه بعنوةٍ لتنفلت كلماته الحادة من بين اصطكاك أسنانه:
_كلامنا مخلصش.
رفعت عينيها البائسة تجاهه، ثم قالت بإنكسار:
_خلص من زمان يا "بدر" ، وختامه في كلمتين اتنين إن ربنا انتقملك مني فمش هتحتاج إنك تنتقم من تاني.
تمزق قلبه من كلماتها التي تحمل ألم استطاع إن يلمسه بصوتها، ومع ذاك بدى صلباً لا تهزه ما تقول، فقال بتريثٍ:
_معرفتش اللي حصلك برضه!.. متهربيش من إجابتي.
ومنحها نظرة متفحصة قبل ان يضيف ساخراً:
_أيه لقيتي الشخص اللي يستحق عذريتك ومطلعش اد المسؤولية!
أغلقت عينيها بقوةٍ تحتمل كلماتها التي ذبحت فؤادها قبل أن تنهال منها، فتمزقت أوردتها من فرط كبتها للدموع التي قررت البوح له عما يشعل هذا الجسد الضعيف، دموعها الصادقة طرقت أبواب قلبه بكل ما تحمله بقوةٍ، لتنهزم من أمامه، شفتيها المتحجرة تخلت عن بعضها لتخبره بوجعٍ:
_في فرق لما تحب شخص وتبقى عايزه باردتك وفرق تاني لما تكون مجبور وعاجز حتى إنك تصرخ وتستنجد بحد يخلصك من كلاب استباحت لحمك وعرضك حتى بعد ما أخدوا اللي عايزينه أنت برضه عاجز إنك تصرخ وتتكلم عن اللي حصلك لاني بالنهاية كانت دي طريقة تفكيري اللي المفروض بتتماشى مع البلد اللي اتربيت فيها.
تحررت يديه المتمسكة بها، وانفرجت شفتيه بصدمةٍ وهو يتابع ما تقوله بعدم استيعاب، رفعت "رؤى" يديها لتزيح دموعها التي الهبت وجهها الأبيض، لتضيف بحزنٍ:
_الغريبة إنهم بيفكروا أن الموضوع ده عادي لكن انا بعد اللي حصلي محستش بده...
وبدأت بشرح ما خاضته، قائلة:
_حسيت إني انتهيت ومبقاش ليا كيان، فقدت نفسي اللي ملقتهاش لحد دلوقتي يا "بدر"..
وسقطت أرضاً أسفل قدميه تبكي بانهيارٍ، لتشير بأصبعيها تجاه صدرها وهي تستكمل بصوتها الموجع:
_حتى قلبي قتلته الف مرة لما ضيعتك من ايدي...
وبابتسامةٍ جاهدت لرسمها استرسلت:
_بس أنا أستاهل كل ده، ده عقاب ربنا ليا عن الاستهتار اللي كنت فيه، عقاب عن الصح اللي كنت ببقى عرفاه وبحلله بحكم البلد اللي عيشت فيها،عقاب عن حاجات كتيرة أوي وأولهم اللي عملته مع الإنسان الوحيد اللي حبيته وحبني بدون ما يستنى مني مقابل أو شيء.
واخفت وجهها بيديها معاً وهي تصرخ بصوتٍ مزق جسدها كالأبر التي تخترقه:
_أيوه أنا أستاهل كل ده.
أيا قلب أين قسوة قلبك التي رجوته بالتحلي بها؟! .. إذاً ما الذي حدث لك الآن واليوم هو انتصارك العظيم ممن أستباح أوجاعك وسرق النوم من أعينك؟! ... ما الذي حدث الآن؟ .. لماذا يزداد الألم أكثر من ذي قبل؟، تراجع" بدر" للخلف خطوة ومن ثم استدار ليخفي تلك الدمعة اللعينة من مرمي بصرها، فكلما أجبر قدميه عن الابتعاد أستوقفته دمعاتها وصراخها المتقطع، تباً لذاك الحب الذي يستضعفه رغم قوة بنيته، استدار بوجهه تجاهها وهو يقاوم رغبته بالابتعاد والرحيل، وبين الاقتراب أسقط عقله بتلك الحرب الدامية، وانحنى!.. أجل انحنى لأجلها... انحنى وقد الزمه عقله بضرورةٍ الوقوف ورفع رأسه بكبرياءٍ لم يختاره ذاك العاشق الذي تمرد قلبه بما يخبئه لها من حبٍ، الا يكفيها ما نالته من قسوة العقاب الأثم؟!
توقفت عن البكاء بصدمةٍ حينما شعرت بأصابعه تبعد خصلات شعرها الأصفر عن وجهها، فرفعت رأسها المستند على ذراعيها لتجده أمامها، يطالعه بنظرات تلمع بدموع الألم الذي رأته بارزاً في نظراته، عادت أصابعه لتلامس وجهها،فأبعد الدموع عنه وكأنه يرفض رؤيتها بتلك الحالة التي تصيبه في مقتل رويداً رويداً، وزعت نظراتها بين عينيه ويديه التي تمسح دموعها ومن ثم منحته نظرة تحمل سؤال ورجاء خافت بأن يضمها لصدره فربما يترمم الجرح النازف بداخلها، تخشى ان تتعلق به فيتركها خائبة الامل ويبعدها عنه مجدداً، منحها ما هو الأجمل بالموافقة حينما جذبها لداخل حصنه المنيع، يحتضنها بداخله، فتسللت نبضات قلبه المختبئة خلف صدره إلى أذنيها التي تستند على صدره القاسي، فارتعش جسدها من لوعة عشقها له، وكأنها احتضنتها الفرحة لتعيق بينها وبين الحزن والألم بسد منيع، ما كان سراً يؤلمها الاحتفاظ به بمفردها ها أصبح أحداً يشاركها به ويربت على ظهرها بحنانٍ ليخبرها بأنه لا بأس، مر الأمر... يربت عليها ويخبرها بأنها على ما يرام الآن، انفطرت دموعها وشهقاتها الخافتة فاهتز جسدها من فرط البكاء بين احضانها، كأنها تشاركه ما مرت به من أوجاعٍ وهو يستقبل ما تلقيه بصدرٍ رحب، وكلما شعر بترنح جسدها شدد من احتضانه، ليخرج صوته الرخيم:
_يارتني كنت جانبك مكنتش هسمح لمخلوق يمس شعرة منك .
تعلقت بقميصه الأبيض الذي احتفظ بدمعاتها وهي تردد بصوتٍ هامس:
_أنا السبب يا "بدر".. انا اللي عملت كده في نفسي... آآ.... آنا السبب..
وانهت كلماتها ليترنح رأسها الثقيل للخلف، ففزع حينما رأها فقدت الوعي، لطم وجنتها بهدوءٍ وهو يناديها:
_" رؤى"!
الصمت والسكون تغلب عليها فجعلها كالجثة التي فارقت الحياة، انكمشت ملامحه بذعرٍ فانحنى ليضع يديه من أسفلها ليحملها سريعاً لفراشه ومن ثم أسرع للسراحة ليجذب عطره الخاص ومن ثم نثر منه على لائحة يديه ليقربها من انفها وهو يؤمرها بحدةٍ:
_فووقي يا "رؤى"، إفتحي عيونك.
هزت رأسها للجهة الأخرى وكأنها تشعر بالتقزز من رائحة هذا البرفنيوم الذي يساعدها على افاقة وعيها في حين أنها اختارت الهروب من مواجهته، وكلما استدار بوجهها للجهة الاخرى اسرع بيديه خلفها حتى فتحت عينيها الثقيلة لتقابل نظراتها المتلهفة للإطمئنان عليها، فحاولت الاستناد بلائحة يدها على الفراش لتستقيم بجلستها، فكادت بأن يختل توازنها ليساندها" بدر" حتى جلست بالطريقة التي أرحتها، فجذب كأس المياه المسكوب ثم قدمه لها قائلاً بثباتٍ عجيب:
_اشربي.
تناولته منه ثم ارتشفت بضع قطرات وأعادته اليها فوضعه على الكومود، ثم تطلع لها قبل ان يردد بغضبٍ متخفي بصوته الهادئ:
_هو مين؟ ... أنا أعرفه؟
جزت على شفتيها السفلية بأسنانها حينما تذكرت هذا الأرعن ثم قالت بدموعٍ سبقتها بالحديث:
_معرفش كل اللي أعرفه إنه اسمه "مروان" ومن مصر كان بيدرس عندنا، هو صديق "مارثا" صاحبتي وهي اللي عرفتني عليه وكنا بنتقابل كلنا في مكان عام..
ومسحت دموعها وهي تسترسل:
_هو كان بيحاول يتقرب مني وانا اديته الفرصة بس مكنتش متوقعة إنه يعمل فيا كده..
وبكت بحرقةٍ حينما تذكرت هذا اليوم المشؤم، فقال بحزنٍ:
_ليه عملتي في نفسك كده يا "رؤى"؟
نهضت عن الفراش لتقف مقابله وهي تطلع له بصدمة من سؤاله الذي يفترض به معرفة الاجابة، فخرج صوتها متقطع كحالها:
_كنت بحاول أنساك ومعرفتش.
ومسحت دمعاتها وهي تبتسم بإلمٍ:
_لو كان في امل بسيط إني أرجع واعتذرلك وأحاول أرجع علاقتنا زي الاول فالأمل ده انتهى بعد اللي حصلي يا" بدر"..
واخفضت عينيها أرضاً ثم اسرعت بالخروج من أمامه، فأغلقت الباب من خلفها لتعود لغرفتها محطمة القلب وإن كان فؤادها قد داوه حضنه الدافئ..
***********
اسندت جسدها العلوي على سور الشرفة، ويدها تعبث بخصلات شعرها القصير بعض الشيء بابتسامةٍ حالمة به، حديثه القليل ومظهره الرجولي أفتك بها، تلاشت تلك الابتسامة حينما لمحت عينيها الدبلة التي ترتديها بأصبع يدها، فاستوقفتها اللحظة لتعاتبها بأنها تعتبر على ذمة رجل أخر، أنبت "روجينا" نفسها ألف مرة على السماح لنفسها بالتفكير لغيره، فهمست بصوتٍ مختنق بالدموع:
_أيه اللي أنا بعمله ده واحد وأتقذني من الموت وشكرته خلاص الموضوع انتهى، ليه شاغلة نفسي بالتفكير فيه كل ده.
وأبعدت تلك الخصلة المتمردة على عينيها بغضبٍ فشعرت بأنها مشتتة وبحاجة لأن تهتدي لضالتها، لذا أسرعت لهاتفها فجذبته لتضغط على زر الاتصال الخاص به، ورفعته بلهفةٍ لسماع صوته عل قلبها يهتدي على من ينبغي عليها حبه عوضاً عن هذا الغريب الذي اقتحم اساورها العالية..
انزعج من نومه على صوت هاتفه، فقربه إليه ليتسلل الضيق لمعالمه حينما رأى اسمها، فتح "أحمد" الهاتف وهو يجيبها بجفاءٍ:
_خير، أيه اللي فكرك بيا؟
اتاه ردها الحاد:
_وأنت اللي بتسأل يعني!
قال بابتسامةٍ ساخرة:
_مش لما أعرف خطيبتي فين أبقى أسأل، انتي مش واخدة بالك من تصرفاتك يا "روجينا" ولا أيه؟!
_تصرفاتي!!، أنا عملت أيه عشان تكلمني باسلوبك ده؟!
سحب الغطاء عن جسده ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه وهو يجيبها بتعصبٍ شديد:
_انتي مش شايفة نفسك غلط لما تسافري كده من غير ما تعرفيني وأدرى من "بدر" انك مسافرة اسكندرية!
قالت باستغرابٍ:
_وأخد اذنك ليه ما أنا استأذنت من أخويا ووافق، انت عايز تتحكم فيا من دلوقتي يا "أحمد"..
طعنته كلماتها، فقال:
_لا لسه ممتلكتش الحق اللي يخليني اتحكم فيكي ولكن على الاقل أعرف انتي راحة فين وبتعملي أيه، عموماً استمتعي برحلتك ونتكلم لما ترجعي يا بنت عمي.
واغلق الهاتف وهو يحاول ابتلاع كلماتها الحادة، يشعر بأنه لم يعد يملك المقدرة على استكمال تلك العلاقة المخادعة، ولكنه مجبور على ذلك فكيف سيفعل ذلك بابنة عمه بعد خطوبة دامت لاكثر من ثلاثة أعوام، أفاق"أحمد" من شروده المطول على صوت رنين باب الشقة، فنهض ليفتح الباب فتفاجئ بها تقف من أمامه باسدال الصلاة الذي يزيدها جمالاً وحشمة، أشارت له "حور" بضيقٍ:
_أنت فين يا "احمد" الاكل برد وانا برن عليك الجرس من الصبح مش بترد!
أجابها بابتسامة عابثة:
_راحت عليا نومة في الوقت الغلط، اوعي تكونوا مكملتوش حسابي.
أجابته سريعاً:
_لا طبعاً أنا شلتلك اكلك.
وأشارت له على باب الشقة قائلة:
_يالا تعالى..
اتبعها بعدما أغلق الباب، فولج من بعدها ليردد بمرحٍ وهو يتأمل السفرة:
_ده الحبايب كلهم هنا أهو..
التهم "عبد الرحمن" قطعة الدجاج من أمامه وهو يجيبه بمزحٍ:
_حد يفوت أكلة من إيد "حور"!
جاهد لرسم ابتسامة مخادعة ليخفي بها غيرته الغامضة، فوزعت انظاره لماسة التي تجلس جوار" يحيى" يطعمها بيديه ويا للعجب تتناول طعامها بقبولٍ تام له، فإقترب "أحمد" منهما وهو يشير ليحيى بعدم فهم، فابتسم وهو يجيبه بكلماتٍ مبهمة لماشة؛ ولكن تفهمها أحمد ومن حوله:
_"حور" صممت مننزلش الا لما نتغدى، بس أحنا هناكل كل الاكل ده وننزل الملاهي زي ما اتفقنا صح يا "ماسة"؟
أجابته بحماسٍ وفرحة:
_ ومش هنأخد"طارق" الوحش معانا، صح يا "يحيى"؟
تعالت ضحكات الجميع، ليجيبها"يحيى" وهو يمسح حبات الارز على جانبي شفتيها:
_صح يا روح "يحيى"، يلا خلصي أكلك بسرعة قبل ما ينزل ويشوفنا.
التهمت قطعة الدجاج بيديه بسرعةٍ وهي تشير له بانصياعٍ، فاتسعت ابتسامة" أحمد" الذي أومأ برأسه ليحيى وهو يخبره:
_الحمد لله إنها تخطت المرحلة دي.
بادله الابتسامة ثم انشغل بها، فنادته "حور" مجدداً:
_انت لسه واقف يا "احمد" اقعد.
جلس على المقعد التي أشارت اليه، ثم جذب أحد الأطباق وكاد بأن يضع قطعة من الدجاج وقطعة من المعكرونة، فأسرعت اليه "حور" لتجذب الطبق من أمامه ثم وضعت الطاجن الذي يغطيه السلوفان قائلة بسخريةٍ:
_انت نسيت الاتفاق ولا ايه؟
حرر السلوفان وهو يردد بعدم تصديق:
_أيه ده لحقتي تعملي ورق العنب بالسرعة دي..
وضعت "تالين" السلطة من يدها على الطاولة وهي تجيبه بدلاً عنها:
_هي راضية تقعد من ساعتها ولا حتى تخليني أساعدها، دي من ساعة ما رجعت من الامتحان وهي مطلعتش من المطبخ..
قال "عبد الرحمن" وهو يلوك طعامه بتلذذٍ:
_لا بس بصراحة تسلم ايدها الأكل مالوش حل.
ابتسمت بفرحةٍ:
_الف هنا.
ثم اتنقلت نظراتها المتلهفة اليه، لسماع رأيه هو الأخر، فغمس "احمد" الشوكة في أحدى لفات ورق العنب الشهي وتذوقها ومن ثم رفع وجهه مقابلها ليشير برأسه بابتسامة عذباء، سعدت للغاية بما أخبرتها بها عينيه، فانتبهت "حور" لمراقبة "تالين" لها، فشعرت وكأنها ترتكب ذنب أو جرماً ما، فالهت ذاتها بتناول الطعام ومن ثم أسرعت بلم الاطباق حينما انتهوا جميعاً من تناوله، فأستأذن "يحيى" بالإنصراف، واصطحب "ماسة" لسيارته، أما "عبد الرحمن" فجلس جوار "أحمد" بالصالون بانتظار الشاي الذي وعدتهم "تالين" بإعداده..
*********
بالمطبخ..
تهربت "حور" من نظرات "تالين" المحاصرة لها، فاشغلت ذاتها بتنظيف الأطباق، وتركتها تحضر الشاي، وضعت "تالين" ملعقة من السكر في كل كوب وانتظرت الشاي حتى ينضج، فقالت "حور" بلهفةٍ:
_"احمد" بيحب الشاي يكون فيه معلقتين سكر مش واحدة..
تخلت "تالين" عن صمتها، قائلة بشكٍ:
_أنتي مركزة مع كل حاجة بيحبها أحمد بطريقة مش معقولة يا حور!
تلاشت ابتسامتها وتطلعت لها بارتباكٍ شديد، فقالت بتلعثمٍ واضح:
_لا بس عملته الشاي مع بدر ويحيى اكتر من مرة فأكيد عارفة كل واحد منهم بيشرب بكام معلقة سكر!
رفعت يدها على كتفيها بحنانٍ، ثم قالت بابتسامةٍ هادئة:
_يا حبيبتي أنا مقصدش حاجة، لاني عارفة إن مستحيل يكون في بينكم حاجة خصوصاً إن احمد مرتبط بروجينا من سنين وفرحهم بعد شهرين، أنا بس بحذرك عشان تخدي بالك ممكن "روجينا" تفهم اهتمامك ده غلط وأنتي نيتك صافية ومش بدماغك حاجة.
شعرت بأن هناك سوط حاد يجلدها بقوةٍ، فتماسكت وهي تجيبها ببسمةٍ تتعلق بها بتشبث:
_عارفة، وأنتي على فكرة بتتكلمي صح.
ثم أشارت لها كمحاولة للتهرب من ذاك الألم الطاعن لروحها قبل أن يلمس قلبها العاشق:
_الحقي الشاي غلي.
واغلقت "حور" النيران ثم حملت البراد وسكبت منه بالأكواب، لتصفن بكلماتها من جديدٍ، حتى انها لم تنتبه للكوب الذي إمتلأ لأخره بالشاي الساخن، فصرخت بها تالين، فمن غفلتها تركت البراد لتمسك الكوب فسقط على قدميها ليهتز جسدها بقوةٍ من شدة الألم فأهتز الكوب الذي تحمله ليتساقط على يدها، فتعالت صرخاتها المتوجعة، ومن خلفها "تالين" التي تحاول ابعاد الاسدال عن قدميها حتى لا يلتصق بجلدها المحروق، هرول "عبد الرحمن" للداخل و"احمد" الذي تساءل بفزعٍ:
_في أيه؟
اجابته "تالين" ببكاءٍ:
_البراد حرق أيدها ورجليها.
دون عقل أو تفكير فيما سيظنه من حوله، هرع إليها ليجد الجروح بالغة للغاية، لم يتردد لحظة واحدة وحملها ليدلف بها للحمام المجاور للمطبخ، فوضع الماء على يدها ومن ثم جذب الدش المتنقل ليسقطه على قدميها، فتعلقت بجاكيت بذلته الأسود وهي تبكي بألمٍ، لم يتحمل رؤيتها هكذا فقال:
_لازم نروح المستشفى، الحرق مش عادي.
قالت بصوتٍ مرتعش:
_لا بلاش مستشفى بالله عليك.. أنا خايفة.
أجابها "عبد الرحمن" من خلفها بحزمٍ:
_مينفعش يا "حور" ده حرق مش لعب عيال..
وأشار لاحمد بجديةٍ:
_هاتها يا "أحمد" عما أجيب العربية تحت العمارة.
أومأ برأسه وحملها بخفةٍ من جديد فأسرعت "تالين" لتفتح الباب اليه، ثم صرخت به قائلة بدموع:
_استنى يا "احمد" لما اغير هدومي وأجي معاكم.
اشار لها وهو يتخطى الدرج:
_خليكي هنا وانا هبقى اطمنك بالتليفون.
واستكمل خطاه السريع للاسفل، فوضعها بالمقعد برفقٍ وحذر، ثم صعد جوار "عبد الرحمن" وعينيه لم تتركها لحظة واحدة..
*********
كلما يزحف القطار من بلدتها يتمزق قلبها ارباً وكأنها تقترب من حتفها، أغلقت "تسنيم" عينيها المتورمة من أثر عدم النوم وهي تحاول التقاط انفاسها على مهلٍ، تخشى رؤية خالها البغيض مجدداً، تمقت صلة القرابة التي تحتمها على قبوله بالاجبار، مازالت تلك الرجفة القاسية تكتسح جسدها حينما تتذكره فكيف إذا رأته؟!
عادت تلك الذكرى لتهيم عليها من جديد تذكرت حينما ولجت لغرفة والدتها وقالت تلك الفتاة البالغة من العمر خمسة عشر عاماً:
_ماما كنت عايزة أقولك على حاجة ومش عارفة أقولك ازاي؟
انتبهت الأم لصغيرتها، فكفت عن ترتيب الفراش ثم وقفت مقابلها لتبدأ بتخمنياتها:
_قولي يا "تسنيم" في أيه... اوعي تكوني وقعتي فلوس الدرس زي الشهر اللي فات انتي عارفة ان ابوكي مبعتلناش فلوس الشهر ده!
أشارت بإصبعها الصغير:
_لا يا ماما مش كده.
قالت الاخيرة:
_امال في أيه؟
أجابتها بخوفٍ من ردة فعلها:
_خالو يا ماما بيبصلي بصات وحشة اوي، وكل ما يشوفني يحضني ويمشي ايده على جسمي بطريقة وحشة.
التهبت عين الأم، لتلكزها بذراعيها بقوةٍ وبتعصبٍ شديد قالت:
_اخرسي قطع لسانك عيلة منحطة ومشوفتيش تربية، خالك ده هو اللي مربيكي وبيعتبرك زي بنته، عيب تتكلمي عنه كده، بيحضنك زيك زي مريم بنته..
ودفعتها على الفراش وهي تصرخ بها بشراسةٍ:
_ بطلي هبل واوعي تقولي الكلام ده لابوكي لما يتصل تولعي النار بينهم، خالك ده هو اللي فتحلنا بيته لما ابوكي سافر ومتخلاش عننا عيب عليكي تتكلمي عنه كده.
وتركتها وغادرت الغرفة لتنهمر الدموع على وجنت الصغيرة، والآن تنتقل الدموع على وجنة تلك الشابة البالغة من العمر الثانية والعشرون عاماً، انقبض قلب "تسنيم" حينما توقف القطار، فهبطت واتجهت لمنزلها ومع كل خطوة تخطوها يرتحف قلبها خوفاً من رؤياه، وحينما وصلت للمنزل حمدت الله كثيراً حينما اخبرتها زوجة خالها بأنه بالخارج وسيعود بعد قليل، فاستأذنت من والدتها بالذهاب لوالدها لتساعده بعمل الحقول بعدما علمت بأنه ذهب منذ ساعة ولم يعد، أبدلت ثيابها لجلباب رجالي أسود ثم احكمت الشال الابيض لتخفي ملامحها واتجهت سريعاً للحقول، لا تعلم بأن من منحها تفكير معاكس عن طبيعة الرجال ستلقاه الآن وربما يكون المسكن لذاك الوجع الغائر!.
**********
بمنزل كبير الدهاشنة.
انتهى "آسر" من تبديل ثيابه، ثم أغلق الخزانة ليصفف شعره بعنايةٍ، انتبه لانعكاس صورة والدته بالمرآة، فاستدار وهو يردد بابتسامة مشرقة:
_ست الكل اللي وحشاني.
وضعت "راوية" القدح الذي يحمل البخور على الكومود، ومن ثم اقتربت منه لتخبره بضيقٍ مصطنع:
_ست الكل أيه بقا، انت من ساعة ما جيت وأنت مقضيها بالاسطبل ودلوقتي غيرت هدومك ونازل مفيش وقت ليا أصلاً..
ترك ما بيديه وهرع اليها، لينحنى على ركبتيه ومن ثم طبع قبلة على كف يدها وهو يردد بمكرٍ:
_أنا لو علسا والله ما عايز اتنقل من جنبك بس هعمل أيه جوزك اللي ساعة ما بيشوف خلقتي بيمشورني هنا وهناك وعلى يدك أهو ملحقتش اريح شوية باعتني الغيط اتطمن الامور ماشية ازاي..
نجح بتبديل ضيقها لعطف وتودد حينما قالت بحنوٍ:
_معلش يا روح قلبي هو برضه مش بيثق في حد غير فيك، وبعدين أنت ابنه الوحيد هيعتمد على مين غيرك؟
ابتسم وهو يحتضنها:
_وانا متقبل ده وأخدمه بعيوني، بس لازم ست الكل تديني عذر ولا أيه؟
تعالت ضحكات "راوية" لتحتضنه وهي تردد بعدم استيعاب:
_انت مكار وخبيث..
أجابها بغمزةٍ من عينيه الساحرة:
_بس بحبك ولا أيه..
_بتعمل أيه عنديك يا واد أنت، أني مش بعتك الغيط تشوف مصالحنا واجف عندك تتمرع وتحب في أمك من غير ما تستحي.
سلطت الاعين على من يقف أمام باب الغرفة يشير لهما بعصاه الانبوسية بضيقٍ شديد، ابتعد "آسر" عنها وهو يهمس بخبثٍ:
_نسيت أن الحاج بيغير فكريني او حذريني أقفل الباب مثلاً!
تعالت ضحكات "راوية" حتى أحمر وجهها، فنهضت عن المقعد ثم اقتربت من "فهد" قائلة بحنقٍ:
_وبعدين معاك يا "فهد" انت مش هتبطل طريقة كلامك دي.
تجاهل حديثها، ثم لكز بعصاه صدر آسر ليخبره بغيظٍ:
_هم بقولك، روح شوف حالنا.
كبت ضحكاته بصعوبةٍ ورفع يديه يخبره:
_تحت أمرك يا كبيرنا... اعتبرني مشيت..
وتخطاه ليهبط على الدرج الضخم الذي يتوسط الثرايا فلحقت به "راوية" لتناديه ومن ثم حذرته بتذكر تعليماتها:
_الأبيض خد بالك.
تطلع لقميصه ومن ثم رفع صوته لتستمع له:
_متقلقيش حفظت القواعد الابيض أحطه في عنيا من جوه عشان غسيله بيهري القلب من بره.
تعالت ضحكاتها حينما قلد لهجتها، فاستدارت لتغادر فوجدت "فهد" يقف من أمامها بنظراتٍ لا توحي بالخير، اقتربت منه وتفحصت الطريق قبل ان عدل من جلبابه الكحلي ومن ثم ارتفعت يدها لعمته البيضاء فعدلتها، وأنحنت بجسدها تحتضنه وهي تردد بهمسٍ:
_انت اللي في القلب والروح.
ابتسم "فهد" وضمها اليه ليجيبها بصوتٍ منخفض:
_واثق من ده بس برضه متزديش في محبتك لابنك وبنتك اعدلي بينا، اتفقنا؟
ازدادت ضحكاتها وهي تجيبه بصعوبةٍ بالحديث:
_نفسي حد من الصعيد يسمع كبيرهم ويشوفوه وهو غيرن من ولاده!
وتركته وهبطت للاسفل لتشير له:
_هنزل أشوف ورانا أيه أحسن ما الحاجة "هنية" تعلقني جنب "نادين".
التصقت بها نظراته وكأنها تحرس عشقه الوفي الذي طال لسنواتٍ ومازال يستمر حتى أن تودعه الروح وتفارق جسده، فاكمل طريقه هو الاخر للمندارة الخارجية.
**********
تلقت"حور" عناية طبية، فتم تضميد جرح قدميها ويدها، فوضع الطبيب المحاليل الطبية بذراعها السليم ثم أخبر "عبد الرحمن" و"أحمد"بأنها ستتمكن من المغادرة فور انتهاء المحلول، فولج "أحمد" للداخل، ثم جلس على المقعد القريب منها، وقال باهتمامٍ:
_طمنيني يا "حور" عاملة أيه دلوقتي؟
ابتسمت وهي تجيبه بامتنانٍ:
_الحمد لله، الوجع خف بالمرهم اللي الدكتور حطه.
اومأ برأسه وهو يردد برضا:
_الحمد لله.
سألته بانزعاج:
_هنمشي أمته بقا، بقالنا هنا ساعتين.
قال بهدوءٍ:
_لما المحلول يخلص هنمشي، متقلقيش.
هزت رأسها ومن ثم تعلقت أعينها بباب الغرفة الذي فتحه "عبد الرحمن" فولج الاخير ليخبرها بابتسامةٍ مرحة:
_أيه يا حور حسدناكي ولا أيه؟
ابتسمت وهي تخبره:
_حد بيهرب من اللي مكتوبله يا "عبد الرحمن"، الحمد لله على كل شيء.
_الحمد لله، المهم انك تاخدي بالك من نفسك بعد كده.. أنا هنزل أجيب عصير وأجي.
وتركهما وغادر، فشعر"أحمد" بانزعاج "حور" من حجابها، لم يفهم ببدء الأمر ما يزعجها فانتبه بأنها تحاول اخفاء خصلات شعرها الظاهرة من أسفل حجابها الغير منظم، فتحاول بيدها الملفوفة بالشاش ان تخفيه واليد الاخرى المحلول مدثوث بعروقها، انتقلت نظراتها للحائل الزجاجي فوجدت الطبيب على وشك الدلوف، كسر احمد حاجز صمته ونهض ليقترب منها ومن ثم أخفى خصلات شعرها الحريري الذي استطاع أن يلامسه بيديه، فاخفاه خلف الحجاب وهو يردد:
_خليني أساعدك.
انتهى مما يفعله وعينيه هائمة بعينيها، فلعق شفتيه وهو يتراجع لمقعده بارتباكٍ، حتى هي خفق قلبها بسرعةٍ جعلتها تستشعر بأنها ركضت لالف ميل دون أن تلتقط انفاسها، انتبهت لحالتها الغريبة حينما قال الطبيب:.
_المحلول خلص، تقدروا تروحوا بس الاهم انها تواظب على العلاج والمرهم اللي كتبتوا.
صافحه احمد وهو يخبرها بابتسامة عملية:
_الف شكر يا دكتور.
ومن ثم قدم يديه لها ثم قال:
_يلا يا "حور".
وزعت نظراتها بينه وبين يديه ومن ثم قدمتله يدها بحرجٍ شديد، فهي غير قادرة على الإتكاء على قدميها بالفعل هي بحاجة للمساعدة، هبطت عن الفراش ببطءٍ فحينما استندت على قدميها صرخت ألم، فرفعها أحمد سريعاً عن الأرض ثم قال:
_الدكتور قالك متحمليش عليها.
وجدها تقرب يدها السليمة من رقبته بارتباكٍ، وكأنها لا تريد وضعها فتحرك بها ليجدها تلف يدها حول رقبته، هبط بها للاسفل وعينيه لا ترى سواها، وحينما وصل للاسفل لم بجد السيارة باستقباله كما كان متوقع، فردد بضيقٍ:
_راح فين ده؟
ثم قال:
_" حور" موبيلي في جيب الجاكت حاولي تسحبيه.
احمر وجهها خجلاً وهي تقرب يدها من جيب جاكيته، فجذبته ومن ثم رفعته له، فاخبرها الرقم السري لتفتحه، اندهشت معالمها حينما رأته يضع صورة تجمعه بروجينا منذ الصغر لا تعلم لما شعرت بالحزن بتلك اللحظة ولكنها تناست عمداً ما رأته واجرت اتصالاً بعبد الرحمن كما طلب منها، فخرج من المشفى ليحضر السيارة ولذاك الوقت أبى أحمد أن يتركها تقف على الارض لحينما يأتي عبد الرحمن بل ظل يحملها حتى وضعها بالسيارة وعاد بها للمنزل.
***********
وقف "يحيى" يتابعها بضحكة أنارت وجهه المنطفئ، وهي تتأرجح على ذاك الحصان الذي يدور يساراً ويميناً، وتتناول غزل البنات الذي تحمله بين يدها، ابتسامته تتسع أكثر فأكثر كلما ضحكت هي، وفجأة انكمشت ملامحه حينما وجدها تضع يدها على رأسها وكأنها ستفقد وعيها، فأسرع اليها ليساعدها على الهبوط من الارجيحة وهو يتساءل بخوفٍ:
_مالك يا حبيبتي؟
كادت "ماسة" بأن تجيبه ولكن التقيأ اوقفها عن الحديث، افرغت ما بجوفها ومازال يحيى يتمسك بها لينبع بداخله خوفاً لا مثيل له من الشكوك التي هاجمته بتلك اللحظة حيال أمر حملها!!
**********
مر بسيارته على حقل العم "فضل"، فرقصت ملامح وجهه فرحاً حينما رآها، حتى وإن كانت تتنكر بما ترتديه؛ يعرفها قلبه جيداً، ركن" آسر"سيارته على قربٍ منهما ومن ثم هبط، فقال وعينيه تتابع من تحاول قطف الحشائش من الأرض:
_أزيك يا عم "فضل"، عامل أيه؟
انتبه العجوز اليه، فقال بفرحةٍ:
_بشمنهدس" آسر".. منور البلد كلتها.
ابتسم وهو يجيبه:
_منورة بأهلها يا راجل يا طيب، طمني رجلك بقت كويسة ولا أيه؟
قال بحمد:
_أهو أحسن من الاول الحمد لله..
_تستاهل الحمد.
واستدار برأسه تجاهها ثم قال بثباتٍ:
_ازيك يا ريس؟
تهجمت معالمها وإن كانت سرت باحتفاظه بسرها أمام والدها، فأشارت برأسها، فأقترب آسر منها ثم جذب منها السيف الغليظ الذي يستعمله الفلاح لجني الحشائش، ثم قال وهو يشير لها بعينيه:
_عنك يا ريس..
رفع عم فضل صوته البعيد عنهما:
_ميصحش يا بشمهندس ده أحنا اللي نخدمك برموش عنينا..
أشمر عن ساعديه وانحنى يجني الحشائش وهو يجيبه:
_عيب يا عم فضل، انا مش ابنك ولا أيه؟
لم يجد العم فضل الكلمات المناسبة التي قد تشكره على كرمه السخي، عمل "آسر" بنشاطٍ وكانت تسنيم تحاول مساعدته بأن تجمع ما يجنيه وتضعه على العربة، فانحنى للخلف ليراقب العم قبل ان يهمس لها:
_هو عم فضل ميعرفش انك بتشتغلي معايا ولا ايه؟
اجابته وهي تراقب والدها هي الاخرى:
_لا، بابا ميعرفش اني بشتغل أرجوك يا بشمهندس آسر متقولوش حاجة..
رفع حاجبه وهو يردد بذهولٍ:
_أقول أيه بس هو أنا أعرفك يا ريس؟!
ابتسمت "تسنيم" وهي توزع نظراتها بينه وبين والدها، فغمز لها "آسر" وهو يستكمل عمله، انتهى من عمله سريعاً ليضع أخر حزمة من الحشائش على العربة، فاقتربت منه بالحزمة التي تحملها، فالتقطتها آسر منها، تعجب للغاية حينما شعر برجفة جسدها وقتما تلامست يديه بيدها دون قصد منه ولكنه لم يشغل تفكيره فوضع الحزمة من يديه على العربة فوجدها تهمس له بحذرٍ:
_مش عارفة أشكرك ازاي بجد تعبتك معايا.
تفحص بنظراته عم فضل المشغول بتجهيز الفرس، ثم همس لها:
_لا ده دين وهترديه.
جحظت عينيها في ذهولٍ ، فاسترسل موضحاً وهو يشير على قميصه:
_القميص اتوسخ ولو الحاجة شافتني هتقتلني وتقتل عم "فضل" الراجل الطيب ده، وطبعاً ده ميخلصكيش فكده كده انتي هتيجي بالملفات العصر هخبي القميص وتعيدي تجدديه قبل ما الحاجة تشم خبر، موافقة يا بنت الحلال؟
كبتت ضحكاتها بصعوبةٍ خشية من أن يستمع والدها لها، ثم قالت بصعوبةٍ:
_لا ميخلصنيش... حاضر.
منحها ابتسامة صافية قبل ان يشير لعم فضل بيديه قائلاً:
_لو عوزت حاجة ابقى كلمني يا عم فضل..
قال بوجهاً بشوش:
_منحرمش منك يا ابني.
والتفت تجاهها ثم غمز نفس غمزته المعتادة وهو يقول:
_مش عايز حاجة يا ريس..
كبتت ضحكاتها وهي تشير له بالنفي، فغادر لسيارته ثم صعد للمقعد ليتحرك بسيارته وعينيه متعلقة بالمرآة التي تختم صورتها من خلفه، وكلما تقدم بالسيارة استودع انعكاسها الذي يتباعد رويداً رويداً حتى اختفى وكان لإختفائه ألم موجع لقلبه ومشاعره!
.......... يتبع..........
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الثاني عشر
الدهاشنة2..(صراع السلطة والكبرياء..)
الفصل الثاني عشر..
عادت لمنزلها هائمة بهذا الآسر الذي استولى على عصابةٍ تفكيرها، وتربع بداخل قلبها، فتارة ترتسم على شفتيها ابتسامة تداعبها بخلسةٍ وتارة أخرى تنفض تفكيرها وتحاول الهاء عينيها بتأمل الخضرة مبدعة الجمال المنثورة على الجانبين أثناء تحرك العربة بين الحقول والمزارع بطريق عودتها للمنزل، وليتها تمكنت من السيطرة فمازالت كلماته المرحة تضحكها بين الحين والآخر، حتى أصبحت تتساءل عن كناية شخصيته الغامضة بالنسبة إليها؟!.
هل هو هذا الشخص الحازم المتفاني في عمله؟... أم هو ذاك الشخص الذي يمتلك قلبٍ أبيض وروح من ذهب تتبع تلك الإبتسامة التي لا تفارقه أينما كان؟.. بالطبع هو مختلف كلياً عما قد تظن به أنها تعلمه..
أفاقت "تسنيم" من غفلتها الشاردة بالآسر الوسيم على صوت توقف العربة، فإنخفضت عنها ثم عاونت والدها على اخلاء العربة من الحشائش ومن ثم صعدت للأعلى لتغتسل ومن ثم تذهب لثرايا "فزاع الدهشان" لتنجز عملها، توقفت قدميها عن متابعة الصعود، حينما نادتها والدتها التي تقطن بالدور الأسفل الخاص بالطهي وإستقبال الضيوف عوضاً عن الأعلى الخاص بغرف النوم، وتابعت بندائها وهي تضيف بحنقٍ:
_كده يا بت تطلعي من غير ما تسلمي على خالك!
ارتعشت اطرافها وهي تواجه ما هو أسوء من الموت، بالاستدارة للخلف لرؤية ملامحه التي قد تسوء حالتها الغير مستقرة، ومع ذلك ضغطت على شفتيها السفلية واستدارت وهي تردد بابتسامةٍ مصطنعة:
_أهلاً يا خالو... نورت.
لوى فمه الغليظ وهو يعدل أطراف شاربه الكبير، مشيراً بإصبعيه لشقيقته بحزنٍ مصطنع:
_شايفة بنتك مش مستعنية تيجي تسلم على خالها، لا بصراحة عرفتي تربي..
التهبت عين وولدتها بغضبٍ لا وصف له، فصاحت بها بعصبية شديدة:
_ما تنزلي يا بت هنا وتسلمي على خالك، أيه المياعة دي..
انقبض قلبها وهي تستمع لكلمات والدتها القاسية، فإن كانت لا تعلم ما الذي تواجهه ابنتها او ربما لم يستعب عقلها الطبيعي ما أخبرتها به سابقاً فهي بنهايةٍ الامر تمتلك الف عذر، ومع كل خطوة خطتها "تسنيم" تجاهه وكأنها تجني الشوك بين يدها فتدلى ليلامس بطن قدميها حتى انتهى بها الحال امامه، فمدت يدها المرتجفة من امامه وهي تبتسم بوجعٍ:
_ازيك يا خالي..
احتضنها بصورةٍ مفاجئة ومن ثم مرر يدها على ظهرها وكأنه يحتضنها بشوقٍ، وبأنفاسٍ كريهة ردد:
_وحشتيني يا بنت الغالية..
ابتعدت عنه "تسنيم" وهي ترتجف دون توقف، فمنحها نظرة دانيئة جابت كل أنحاء جسدها وهو يردد بشهوانيةٍ مريضة:
_كبرتي وبقيتي عروسة وعايزة الجواز اهو.
تعالت ضحكات والدتها وهي تجيبه بحنان:
_أيوه امال ايه وهنلاقي مين أحسن من خالها اللي يسلمها لجوزها وبيت عدالها..
انتقلت نظرات "تسنيم" الغاضبة تجاهها ومن ثم قالت بصوتٍ يحبس الدموع:
_ويسلمني هو ليه وأبويا عايش.. ربنا يديه طولة العمر ويباركلنا فيه.
ولم تترك المجال لسماع اللازع منهما، فصعدت للأعلى سريعاً وما أن ولجت لغرفتها حتى أغلقتها بالمفتاح لتسقط من خلفه باكية، منكسرة، محطمة الفؤاد... عادت تلك الحالة الشنيعة تهاجمها من جديد، فينخر البرد عظامها وكأنها في فصل الشتاء وليس الخريف، دقائق مضت عليها قاسية وهي تحاول بها استجماع شجعاتها للسيطرة عما يحاربها ولكن ماذا بيدها وهو أقوى منها ومن طاقتها الضيئلة بالمحاربة؟!.
********
توقفت سيارة "يحيى" أمام العمارة، فهبط ومن ثم فتح باب السيارة، ليجذبها برفقٍ، حملت "ماسة" الألعاب بفرحةٍ ثم لحقت به فما أن ولج بها للداخل، حتى وجد "إلهام" بانتظاره كما أخبرها هاتفياً، أشار لها "يحيى" قائلاً:
_خدي "ماسة" وخليها ترتاح وأنا هطمن على "حور" وهجي وراكم.
أومأت الأخيرة برأسها ثم جذبتها للأعلى، فقصد "يحيى" الشقة الخاصة بالفتيات، طرق عدة مرات، ففتح "عبد الرحمن" الباب، ثم قال:
_لحقت... ادخل.
ولج وهو يتمتم بغيظٍ:
_يعني هعرف اللي حصل ومش هرجع!
اتبعه، ثم أشار له على غرفة الضيافة، فوجد "أحمد" بالداخل هو الأخير، فقال:
_طمنوني "حور" عاملة أيه دلوقتي؟
رد عليه "أحمد" بحزنٍ:
_أحسن... بترتاح جوا في أوضتها فسبناها على راحتها وخصوصاً لأن الجرح في رجليها.
تفهم "يحيى" الوضع، فتغاضى عن فكرته بالدخول للإطمئنان عليها، فتساءل باهتمامٍ:
_هي جوه لوحدها، مفيش حد معاها؟
أجابه "عبد الرحمن" بهيام مع نطق حروف إسمها:
_"تالين" جوه معاها.
أومأ "يحيى" برأسه ثم عاد الصمت ليختزل معالمه من جديدٍ، والأخير يراقبه بتمعنٍ ولدقائق طالت لتكسر بسؤاله:
_أنت كويس؟ ، حصل حاجه ولا أيه؟
اتجهت نظرات "أحمد" تجاهه ليستكشف الأمر فور سماع عبد الرحمن، ابتلع "يحيى" ريقه بارتباكٍ من أن تسوء العلاقة بينه وبين أحمد مجدداً بعد سماع الشكوك التي تراوده وبالأخير يظل مجرد شك، فمن الممكن أن يكون أصابها دور برد عادي لذا كان حريصاً حينما أجابه:
_مفيش، الواحد حزين بس على "حور" طول عمرها جدعة وبتخدمنا من غير ما نطلب منها ده.
أجابه "عبد الرحمن" بتأييدٍ:
_ومن سمعك كلنا زعلانين عشانها بس الحمد لله الدكتور طمنا وقالنا الجرح مش عميق يعني أسبوع أو إتنين وهتبقى زي الفل.
هز رأسه وهو يردد:
_ إن شاء الله.
********"
الخروج من هذا المنزل الذي أصبح يسكنه هذا البغيض بات من أسمى أمنياتها، ولحسن حظها بأنها لم تخفي عن والدتها أمر عملها بمصنع عائلة "الدهاشنة" فبات أمر خروجها من المنزل أمراً عادياً، وأخيراً بعد طريقها الطويل وصلت أمام البوابة الضخمة التي تحمل لقبهم باعتزاز وكأنه شيئاً ثمين، لعقت شفتيها بلعابها بارتباكٍ، ومن ثم فتحت البوابة لتدلف للداخل، غمرها الاسترخاء وهي تتأمل المساحات الخضراء التي تحد هذا المنزل الضخم، الذي على الرغم من ثراء أهله الا أنه مازال من الطراز القديم، وكأن أهله يسعدون بقدم طرازه كتذكار بأعمدة عائلة "الدهاشنة" وأصولها التي تمتد للجد الأكبر ليليه الابن ومن ثم "فزاع الدهشان" وصولاً لفهد ولاحقاً بالآسر..
راق لها تمسكهم بالطراز القديم كثيراً، فقد رسمت صورة معاكسة لما ستجده بالداخل، ظنت بأنها ستجد فلة أو قصراً يميل لطراز البندر، انتبهت "تسنيم" لذاتها الشاردة، فاستكملت طريقها للأعلى، حتى طرقت الجرس العالق على الحائط الجانبي وانتظرت قليلاً حتى فتحت أحدى الخادمات حيث كانت كبيرة بالعمر ويبدو عليها الوقار، فتساءلت باستغرابٍ لرؤية تلك الفتاة للمرة الأولى، فعلى الرغم من الصداقة القوية التي تجمعها بحور الا أنها لم تفكر بزيارتها يوماً بمنزلها:
_أجدر أساعدك في حاجه يابتي؟
أجلت صوتها قائلة بارتباكٍ:
_أنا من قسم المحاسبة الخاص بالمصانع وعندي معاد مع بشمهندس "آسر"..
أومأت الخادمة برأسها عدة مرات، وهي تجيب بتذكرٍ لما قاله:
_آيوه ايوه يا الف مرحب بيكي يا حبيتي، اتفضلي عما أدي البشمهندس خبر.
اتبعتها على استحياء فأشارت لها على غرفة بالأسفل، ففطنت بأنها غرفة المكتب، لم تتردد كثيراً وفتحت بابها ثم ولجت للداخل، لتختار الجلوس على المقعد المقابل للباب الذي تركته مفتوحاً على مصراعيه، انتبهت"تسنيم" لامرأة فاتنة الجمال، على ما يبدو بالعقد الرابع من عمرها، تدلف من الباب الخارجي من المنزل وعلى ما يبدو عليها الإرهاق الشديد مما تحمله من أكياس ثقيلة، فرفعت صوتها تنادي:
_"نعمة" أنتي فين، تعالي خدي مني..
لم تجيبها الخادمة فكانت بالأعلى تنادي "آسر" لم تتردد "تسنيم" في مساعدة أحداً عاجز يحتاج لها، فأسرعت تجاهها لتحمل الأكياس التي كادت بالتساقط أرضاً، رفعت "رواية" رأسها لتشكر من عاونها فانكمشت معالمها بذهولٍ من تلك الفتاة الجميلة، ابتسمت "تسنيم" من تعجبها الشديد ثم قالت:
_أنا "تسنيم" بنت عم "فضل" وبشتغل في قسم المحاسبة اللي تبع بشمهندس "آسر".
ارتسمت بسمة رقيقة على وجه"راوية" فقالت بترحابٍ:
_يا أهلاً وسهلاً بيكِ يا حبيبتي..
ثم وضعت الأكياس التي تحملها على الأريكة، لتجذب الأغراض من يدها قائلة بحرجٍ:
_طب والله فيكِ الخير، عنك دول تقال أنا خلاص شلت الأكياس من إيدي.
تراجعت بجسدها للخلف وهي تجيبها بتصميمٍ:
_لا مش تقيلة خالص، قوليلي بس أحطهم فين وأنا مع حضرتك.
اتسعت ابتسامتها، فأشارت بيدها على الرواق البعيد عنهما:
_طيب مدام مصممة المطبخ من هنا وأنا وراكي أهو.
منحتها ابتسامة صغيرة ثم اتجهت بالاتجاه الذي أشارت لها عليه، فحملت "رواية" باقي الأغراض ثم لحقت بها بالطرقة الطويلة، حتى وصلوا سوياً للمطبخ، فوضعت الأغراض من يدها على الطاولة لتصيح بضيقٍ شديد لمن تقفن أمامها:
_أيه يا جماعة بنادي من الصبح أنتوا نايمين على ودانكم ولا أيه؟
نهضت "ريم" عن الأرض، لتجفف يدها من بقايا صلصة الأرز المحشي الذي تعده بذاتها، ثم أسرعت لتحمل الاغراض من يدهما وهي تبرر لها بلهفةٍ:
_والله يا حبيبتي ما سمعتك، معلشي.
استدارت "نادين" تجاهها بيدها المتسخة بالصابون، لتخبرها بسخريةٍ:
_ورحمة الرغوة الطاهرة دي مسمعناكي يا غالية..
تعالت الضحكات فيما بينهما، حتى "تسنيم" ابتسمت هي الاخرى وهي تتايع حوارهما بمحبةٍ، سُلطت انظار "نادين" تجاهها، فتساءلت بدهشةٍ:
_مين المزة الجامدة دي؟
وضعت "تسنيم" الأكياس من يدها بحرجٍ من تعريفها عن كناياتها لأكثر من مرتين، فعرفتهم بها "رواية" بالنيابة عنها، تبادلت "نادين" السلام الحارق معها، أما "ريم" فقالت بابتسامةٍ هادئة:
_كان ودي أسلم عليكي يا حببتي بس زي مانتي شايفة اكده ملبوخة بالمحشي والوكل لازمن يبقى جاهز قبل المغرب..
بتذكر أضافت "رواية":
_يا خبر هو انتوا لسه مخلصتوش؟
أجابتها"نواره" وهي تدنو من المطبخ:
_أنا أهو خلصت المعمر والفراخ شويتها برة بالفرن..
قالت "ريم":
_لا انا لسالي شوية، بس في أمل الحلتين اللي على النار قربوا يستوا..
اضافت" نواره":
_طب اني هجهز العصاير قبل ما الضيوف يوصلوا..
اقتربت "تسنيم" من ريم ومن ثم انحنت لتجلس مقابلها ثم شرعت بمساعدتها، فقالت الاخيرة باعتراضٍ:
_بتعملي ايه يا بتي ميصحش.
ردت عليها بابتسامة لطيفة:
_حضرتك زي والدتي ولو اتحطت بالموقف ده اكيد هساعدها وبعدين انا بستنى البشمهندس لما بنزل هسيبك تكملي وهخرج.
ابتسمت ريم باعجابٍ شديد:
_شكلك بنت أصول يا بنتي والله.
قالت "رواية" بثناء:
_ومش هتبقى بنت اصول ليه وهي بنت عم "فضل" الراجل الطيب اللي العيبة مبطلعش منه.
ثم أضافت قائلة وهي تهم بالخروج:
_ هطلع أغير هدومي وأجي أساعدكم.
وبالفعل اتجهت للأعلى، فرددت"نادين" بتعبٍ:
_ربنا هيتوب علينا أمته بقا من الاكل اللي يكفي 100فرد ده، كل يوم ناس داخلة وناس طالعة..
اجابتها "نواره" بعتاب:
_ربنا يجعل بيت الكبير عامر بالخير دايماً، تعب الوقفة والطبيخ بيروح لما الناس تاكل وتنبسط.
تابعت "تسنيم" الحوار المتبادل فيما بينهما باعجابٍ شديد، فشعرت بألفة عجيبة وهي تستمع لحديثهما، شعرت بالدفء والحنان والحب الذي ينتقل فيما بينهما، شعرت لوهلة وإنها تجلس بين أفراد عائلتها، الابتسامة لم تفارق وجهها..
هبط "آسر" للأسفل، فإتجه لغرفة مكتبه، فانكمشت ملامح وجهه حينما لم يجد سوى حقيبتها، فاستدار ليتساءل باستغرابٍ:
_هي فين يا "نعمة"؟
قالت وهي تتفحص الغرفة بدهشةٍ:
_كانت هنا يا بشمهندس والله.
خرج من الغرفة باحثاً عنها، فاستمع لصوت الضحكات المرتفع القادم من الرواق، سلكه" آسر"حتى وصل للمطبخ، فوجدها تجلس جوار "ريم" تعاونها باعداد الطعام والابتسامة ترتسم على وجهها برقةٍ سلبت زمام تركيزه، فتسلل لمسمعه صوت "نادين" المتساءل:
_بتعمل أيه هنا يا آسورة.
انتبهوا جميعاً اليه، فانتصب بوقفته ثم قال بجديةٍ يحاول الإتسام بها:
_هنقضي الشغل في المطبخ ولا أيه؟ ، لو كده تمام أنا معنديش مشكلة بس معتقدش الكرنب وورق العنب هينجز الأوراق اللي مستانية توقيع دي!
ضحكت "ريم" ثم قالت:
_والله حبناها اوي، ما شاء الله عسولة وبنت ناس.
منحتها "تسنيم" ابتسامة ممتنة، ثم نهضت لتغسل يدها جيداً ومن ثم وقفت مقابل هذا الهائم الذي تناسي كونه يحجب الباب بجسده، عبث أصابعها بفستانها الأسود الطويل بتوترٍ، التمسه من نظرات عينيها، فانتبه لوقفته ليتنحى جانباً مشيراً لها بالمرور، أسرعت بتخطيه لتتجه للخارج، فسلكت منعطف خاطئ من فرط ارتباكها، التقطت اذنيها صوته الرخيم الذي أسيل أغورها، وهو يناديها:
_"تسنيم".
وقفت محلها ثم استدارت لتقابله بوجهها الأحمر من فرط خجلها، فأشار بيديه على الباب الذي تكاد على تخطيه، عقدت حاجبيها بعدم فهم، فقال بابتسامةٍ صغيرة:
_من هنا.
تطلعت لما يشير اليه، فازداد ارتباكها وتوترها أضعافاً، اتبعته لغرفة مكتبه فما أن ولجوا سوياً حتى أغلق الباب من خلفهما، فتوقفت عن الخطى ثم قالت بخوفٍ شعر به "آسر" بوضوحٍ:
_حضرتك قفلت الباب ليه، سيبه مفتوح أفضل.
لثاني مرة يرى الخوف يدمس عينيها لسببٍ ظنه عادياً بالنسبة لفتاة وشاب يجمعهما غرفة واحدة، ومع ذلك فتح الباب على مصرعيه مجدداً وهو يردد بهدوءٍ:
_أنا بس كنت حابب اننا نركز لأن هنا ناس داخلة وناس طالعه..
أومأت برأسها بتفهمٍ، فأشار لها بالجلوس، جلست وهي تراقبه بدهشةٍ حينما رفض الجلوس على المقعد الأساسي لمكتبه وفضل الجلوس أمامها، حاولت أن تشغل ذاتها بفتح الحقيبة وهي تعدل حجابها بارتباكٍ، أخرجت الملفات جميعاً فكادت بعضها بالسقوط أرضاً، فنهض سريعاً لينتشلها منها مردداً بهمسٍ:
_حاسبي.
قربه منها جعل جسدها يرتجف بصورةٍ غير طبيعية، فجذبت الملفات التي يساندها بيديه ليشعر بتلك الرجفة الغريبة، فوضعتهما فوق الطاولة الصغيرة التي تفصلها عنه، عاد "آسر" للجلوس محله وهو يتطلع لها باستغرابٍ، قدمت له أول ملف، فشغل ذاته بقراءته قبل أن يوقعه، وأحياناً كان يراجع على الحسابات من أمامه..
طرقت "نعمة" على الباب، ثم تقدمت منهما لتضع صينية العصير على سطح المكتب وقبل أن تغادر أغلقت الباب من خلفها كما اعتادت الدخول لأي غرفة من غرف المنزل، انقبض قلب "تسنيم" بشكلٍ مبالغ به، فوزعت نظراتها بين الباب تارة والعصير الموضوع من أمامها تارة أخرى، كان يراقبها من أسفل الملف الموضوع من أمامه، فنهض ليشير له بتهذبٍ:
_أيه رأيك نقعد برة في الحديقة جنب الاسطبل وبالمرة أعرفك على "همام" و"مهجة".
كانت تعلم بأنه اقترح ذلك للخوف الذي يستحوذ عليها وراق لها موقفه الرجولي كثيراً، فأعادت الملفات للحقيبة مجدداً، بينما حمل "آسر" العصير ليرافقها للخارج، فسألته باستغرابٍ:
_مين "همام" و"مهجة"دول؟
ابتسم وهو يردد:
_لما نوصل هقولك.
أشارت له برأسها بهدوءٍ ثم اتبعته للخارج، فوقفت على مسافة بعيدة عنه، تراقبه وهو يضع الطاولة المستديرة جوار الاسطبل ويعاونه أحد العمالين بالثرايا، فوضع الكراسي ثم أشار لها بالاقتراب، اقتربت منه ووضعت الحقيبة عليها فأشار بيديه على الفرس الاصيل من جواره، لتتبعه لهجة فخر واعتزاز:
_ده يا ستي "همام" واللي جنبه دي "مهجة"..
تعلقت انظارها بهما فأحبتهما كثيراً، مررت يدها على جسد الفرس الأبيض وهي تتساءل بترددٍ:
_شكلك بتحب الخيل.
قال بشغفٍ:
_جداً، وبالأخص"همام".
وقال كلماته وهو يمرر يديه على جسده، ثم تابع بقول:
_مامته ماتت وهي بتولده وكان ضعيف جداً بس أنا كنت جنبه ومسبتوش غير لما بقا زي ما أنتي شايفة.
ربما لم تستمع لنص حديثه، فكانت شاردة به وهو يتحدث إليها، تمنت لو بقي العمر بأكمله يتحدث وهي تستمع إليه هكذا، باتت لا تعلم ما الذي يصيب قلبها بوجوده، بالرغم من نفورها من صنف الرجال جميعاً، ثمة شيئاً بداخلها يخبرها بأنه ليس مثلهما، بل منفرد وإختلافه تكتشفه يوماً عن يوم، صفقها صوته الذي ارتفع حينما ردد:
_" تسنيـــــــــم"
تمتمت بشرودٍ:
_هاا..
ابتسم ساخراً:
_ها أيه بناديكي من بدري.. تعالي يلا نخلص الملفات اللي حمضت دي.
ابتسمت واتبعته لتجلس مقابله فشرعوا بالعمل سوياً..
**********
انتشل يديه من بين يدها وهو يردد بتعصبٍ شديد:
_خبر أيه يا "رواية" ساحبة بقرة وراكي وأيه كل الرسايل اللي على التليفون دي!
كبتت ضحكاتها وهي تشير له بالصمت قائلة بحماسٍ:
_ما انت مش هتطلع معايا غير كده والموضوع مهم ومستعجل.
تطلع للشرفة ثم قال ساخراً:
_والموضوع المهم هيتقال إهنه!
هزت رأسها بدلالٍ ومن ثم أشارت بيدها على الحدائق وبالأخص المكان المجاور للاسطبل، فتطلع "فهد" تجاه ما تشير، فوجد ابنه يجلس جوار فتاة ما ويتابع عدد من الأوراق الموضوعة من أمامه، فقال بعدم فهم:
_أبص على أيه، ولدك وبيشتغل أيه اللي يشد في كده؟!
لوت شفتيها بتذمرٍ:
_بالذمة بصتك دي قدرت تحلل الموقف، أنت طول عمرك مش مدي لنفسك فرصة تتمعن وتتفحص الامور.
ابتسم وهو يداعبها بالحديث المرن:
_طب قوليلي انتي شايفة أيه؟
هام هو بها وهامت هي بما تراه على متن مترات منها:
_شايفة نظرات اعجاب في عين ابنك، وإن يكن مش حب بس على الاقل البنت مناسبة ليه يا "فهد" لما تتكلم معاها هترتحلها جداً.
ترك التطلع بها ثم تساءل بجدية:
_هو انتي تعرفيها؟
كبتت ابتسامته من التحليل القاتم التي ستستمع له عقب ما ستتفوه به، فقالت:
_آه.
منحها نظرة شك فقالت بتوضيحٍ:
_لسه متعرفة عليها من شوية، بت زي العسل يا فهد جمال وأدب ده كفايا انها بنت عم "فضل".
اتنقلت نظرات" فهد" تجاههم ثم قال بعد صمت وتفكير:
_أنا معنديش مانع بس ابنك جاهز للخطوة دي؟... يمكن ميكنش بيفكر بيها بالشكل ده من الاساس..
ابتسمت بفرحةٍ حينما تابع الحديث معها بلهجتها، فيزداد عشقها له أضعافاً حتى ولو أصبحت على عتبة الموت، انتبهت من غفلتها وهي تخبره:
_متقلقش هتكلم معاه وهعرف اللي في قلبه بالظبط.
منحها ابتسامة مهلكة، ومن ثم طبع قبلة صغيرة على جبينها ليهمس بحبٍ:
_طيب يا حبيبتي اتكلمي معاه ولو كده هدخله انا ونشوف هنعمل أيه!.
أومأت برأسها بفرحةٍ لمسها "فهد" الذي ابتعد ليتجه للمندارة، فتابعها وهي تتطلع لآسر بفرحة وتمنى، فابتسم رغماً عنه وهو يهمس بصوتٍ لا يسمعه سواه هو:
_يارب يفرحك دايماً يا نور جلبي.
**********
انتهت "تسنيم" من عملها، فنهضت ثم جمعت الملفات بحقيبتها، قائلة بابتسامةٍ صغيرة:
_كده كل الورق تمام، عن أذن حضرتك.
وكادت بتخطيه، فأسرعت "رواية" بالاقتراب منها ثم قالت بحزمٍ:
_على فين ان شاء الله؟ ... أنتي مش هتخطي خطوة بره البيت ده من غير ما تتغدي معانا.
كادت بأن تعترض سريعاً، فوجهت "رواية" حديثها لابنها قائلة بغضبٍ:
_من أمته وضيوفنا بيمشوا من غير الواجب يا "آسر"..
رفع كتفيه وهو يردد بقلة حيلة:
_معاها معتقدش، منك ليها أوكي.
لم تستعب ما قاله، ولكنها لم تبالي بل جذبتها للداخل عنوة، فقالت تسنيم:
_والله ما هقدر أنا أكلت قبل ما أجي.
قالت بصرامةٍ:
_مفيش حد بيدخل هنا وبيخرج كده، وبعدين يا ستي لمتنا هتفتح نفسك مش كده ولا أيه يا آسر.
رغم تعجبه لمعاملة والدته المميزة لها الا انه قال:
_صح... اللمة بتجوع إساليني أنا.
وجدت ذاتها تنخضع اليها، فلحقت بهما للداخل على استحياءٍ فلا مجال للهروب من عند وضع طرفيه أمام فرد من الدهاشنة.
******
شعرت بإختناق صدرها، فلم تعد تجد ما يخفف عنها، أو يجرف تفكيرها بعيداً عن هذا الرجل الغامض الذي ظهر لها من العدم، فتمكن مما فشل معشوق طفولنها من فعله، لم تعد تعلم ما الذي يتوجب عليها فعله، فلم تعد تملك التحكم بعقلها الذي يفكر به كل دقيقة، وكلما حاولت تشتت ذهنها بالتفكير بخطيبها تعود للتفكير به من جديدٍ، جلست"روجينا" على الرمال المترسلة على مياه البحر، تتأمل الأمواج الثائرة من أمامها وكأنها تحاربها او تذكرها بأن ما تفكر به لن يحدث أبداً، وكأن هناك مصباح لتحقيق الأمنيات، او ربما حورية تتدلل بين صفحات البحر فاستمعت لدموع تلك الفتاة البائسة، الحائرة، فمنحتها تحقيق لامنيتها، وها قد أتي صوته الرجولي العميق من خلفها يردد:
_مش قولنا نبعد عن اليخوت والبحر، ناوية تنخطفي تاني ولا أيه؟
فتحت عينيها على مصرعيها ثم التفتت للخلف لتجده يقف مقابلها بطالته التي لم تفشل يوماً بالسيطرة عليها، نهضت عن الرمال وهي تردد بابتسامةٍ مشتتة:
_انت!
وضع "أيان" يديه بجيوب بنطاله القصير، ومن ثم اقترب وهو يردد:
_أيوه أنا..
ثم منحها نظرة أربكتها قبل أن يستطرد:
_اتعودي انك هتشوفيني كل ما هتتهوري وتركبي يخت غلط او تفكري تقربي من المياة.
ابتسمت على دعبته اللطيفة وإن كانت تحمل معنى مبطن بقلقه عليها، ربما يشعرها بأنها تعني له، انتبهت لذاتها الهائمة به كالبلهاء، فلعقت شفتيها بارتباكٍ، ساد الصمت ليقطعه "أيان" حينما قال بخبثٍ:
_شكلك مش مرتاحة لوجودي، أشوفك بعدين.
وكاد بالمغادرة، فركضت لتجتاز طريقه وهي تردد بلهفةٍ:
_لا بالعكس أنا فرحت إنك هنا.
توقف عن المضي قدماً ثم تطلع لها فوجدها تغلق عينيها باحراجٍ شديد ومن ثم سمحت لذاتها بالجلوس أرضاً، ثم أخذت تردد بتشتت:
_أنا مش عارفة مالي بجد، من ساعة ما شوفتك وأنا متلخبطة..
والتقطت نفس طويل قبل أن تتابع بضيقٍ:
_بحاول أخرجك من دماغي مش عارفة، ومستغربة لاني مشفتكش غير كام مرة.
ورفعت عينيها اللامعة بالدموع تجاهه وهي تشير بأصبعها تجاهه:
_أنا مخطوبة وهتجوز كمان شهرين والمفروض اني بحب خطيبي، طب ليه بفكر فيك دايماً.
ابتسم "أيان" وهو يتابعها بمكرٍ وعدم تصديق لنجاحه السريع بخطته التي لم تكلفه عناءٍ، انخفض لمستواها ثم عاونها على الوقوف، ليمنحها نظرة واثقة، كسرها بعد دقيقة من الصمت حينما قال:
_هتصدقيني لو قولتلك اني لما شوفتك حسيت بشيء غريب.
ورفع شفتيه بعدم اكتثار:
_يعني واحدة بتتعرض لاعتداء وساعدتها، واتعرضت للموت قدام عيوني وجايز لو نزلت المية وراها بوقت زي ده مكنتش أطلع حي وبالرغم من كده خاطرت بحياتي وانا معرفش ايه اللي ممكن يربطني بيها.
ثم ابتسم بمكرٍ:
_بس ده ميمنعش انك طلعتي جميلة.
ابتسمت "روجينا" ثم قالت:
_أنا مش فاهمه انت عايز تقول ايه؟
اعتلت معالمه الجدية وهو يردد بثباتٍ مخيف:
_اللي قصده بكلامي أن القدر بيلعب لعبته احياناً، أوقات بنقابل أشخاص وبيختلط علينا الاعجاب بالحب، وأحياناً بينفرض علينا كره أشخاص من قبل حتى ما بنشوفهم، يمكن لو اتقابلوا في ظروف تانية غير دي كان ممكن يكون في أمل ان الحياة ما بينهم تبقى طبيعية..
شتتها كلماته الغامضة، فودعها بابتسامة خبيثة وهو يشير لها بيديه:
_الجو برد، أشوفك بعدين.
وتركها ملبكة فيما قاله وغادر والابتسامة تتسع وجهه المنتصر!
********
تناولت الطعام في جو من الالفة، وسط نساء الدهاشنة، ارتحت للحديث برفقة "رواية" وريم، وأحبت "نادين" بمرحها الذي يصنع البهجة، ودت لو جلست معهن العمر بأكمله، الى أن حان وقت الرحيل، هبطت "تسنيم" من الأعلى لتغادر فانخطف لونها وتشنجت قدميها عن المضي قدماً حينما رأت أمامها صورة معلقة تحمل أخر شخص توقعت رؤياه!!
تلك الفتاة الهزيلة تحمل بقلبها ضغينة من الاسرار والمتاهات التي جعلتها أسيرة مقيدة، وهاجسها كره الرجال حد الموت، فلم تواجه بشاعة رجل واحد بل نخر القدر عظامها لتكون الشاهدة الوحيدة على وقعة ستهز أرجاء منزل كبير الدهاشنة فماذا اذا اصبحت منهما؟ والسؤال المهم هل ستتمكن بالبوح بالسر المرتبط بصاحب تلك الصورة، لم تكن الاجابات الكافية لمثل تلك الاسئلة اللعينة فسقطت أرضاً بباحة منزل الكبير "فزاع الدهشان" فاقدة للوعي ولتلك الحقيقة البشعة!!..
الفصل الثاني عشر..
عادت لمنزلها هائمة بهذا الآسر الذي استولى على عصابةٍ تفكيرها، وتربع بداخل قلبها، فتارة ترتسم على شفتيها ابتسامة تداعبها بخلسةٍ وتارة أخرى تنفض تفكيرها وتحاول الهاء عينيها بتأمل الخضرة مبدعة الجمال المنثورة على الجانبين أثناء تحرك العربة بين الحقول والمزارع بطريق عودتها للمنزل، وليتها تمكنت من السيطرة فمازالت كلماته المرحة تضحكها بين الحين والآخر، حتى أصبحت تتساءل عن كناية شخصيته الغامضة بالنسبة إليها؟!.
هل هو هذا الشخص الحازم المتفاني في عمله؟... أم هو ذاك الشخص الذي يمتلك قلبٍ أبيض وروح من ذهب تتبع تلك الإبتسامة التي لا تفارقه أينما كان؟.. بالطبع هو مختلف كلياً عما قد تظن به أنها تعلمه..
أفاقت "تسنيم" من غفلتها الشاردة بالآسر الوسيم على صوت توقف العربة، فإنخفضت عنها ثم عاونت والدها على اخلاء العربة من الحشائش ومن ثم صعدت للأعلى لتغتسل ومن ثم تذهب لثرايا "فزاع الدهشان" لتنجز عملها، توقفت قدميها عن متابعة الصعود، حينما نادتها والدتها التي تقطن بالدور الأسفل الخاص بالطهي وإستقبال الضيوف عوضاً عن الأعلى الخاص بغرف النوم، وتابعت بندائها وهي تضيف بحنقٍ:
_كده يا بت تطلعي من غير ما تسلمي على خالك!
ارتعشت اطرافها وهي تواجه ما هو أسوء من الموت، بالاستدارة للخلف لرؤية ملامحه التي قد تسوء حالتها الغير مستقرة، ومع ذلك ضغطت على شفتيها السفلية واستدارت وهي تردد بابتسامةٍ مصطنعة:
_أهلاً يا خالو... نورت.
لوى فمه الغليظ وهو يعدل أطراف شاربه الكبير، مشيراً بإصبعيه لشقيقته بحزنٍ مصطنع:
_شايفة بنتك مش مستعنية تيجي تسلم على خالها، لا بصراحة عرفتي تربي..
التهبت عين وولدتها بغضبٍ لا وصف له، فصاحت بها بعصبية شديدة:
_ما تنزلي يا بت هنا وتسلمي على خالك، أيه المياعة دي..
انقبض قلبها وهي تستمع لكلمات والدتها القاسية، فإن كانت لا تعلم ما الذي تواجهه ابنتها او ربما لم يستعب عقلها الطبيعي ما أخبرتها به سابقاً فهي بنهايةٍ الامر تمتلك الف عذر، ومع كل خطوة خطتها "تسنيم" تجاهه وكأنها تجني الشوك بين يدها فتدلى ليلامس بطن قدميها حتى انتهى بها الحال امامه، فمدت يدها المرتجفة من امامه وهي تبتسم بوجعٍ:
_ازيك يا خالي..
احتضنها بصورةٍ مفاجئة ومن ثم مرر يدها على ظهرها وكأنه يحتضنها بشوقٍ، وبأنفاسٍ كريهة ردد:
_وحشتيني يا بنت الغالية..
ابتعدت عنه "تسنيم" وهي ترتجف دون توقف، فمنحها نظرة دانيئة جابت كل أنحاء جسدها وهو يردد بشهوانيةٍ مريضة:
_كبرتي وبقيتي عروسة وعايزة الجواز اهو.
تعالت ضحكات والدتها وهي تجيبه بحنان:
_أيوه امال ايه وهنلاقي مين أحسن من خالها اللي يسلمها لجوزها وبيت عدالها..
انتقلت نظرات "تسنيم" الغاضبة تجاهها ومن ثم قالت بصوتٍ يحبس الدموع:
_ويسلمني هو ليه وأبويا عايش.. ربنا يديه طولة العمر ويباركلنا فيه.
ولم تترك المجال لسماع اللازع منهما، فصعدت للأعلى سريعاً وما أن ولجت لغرفتها حتى أغلقتها بالمفتاح لتسقط من خلفه باكية، منكسرة، محطمة الفؤاد... عادت تلك الحالة الشنيعة تهاجمها من جديد، فينخر البرد عظامها وكأنها في فصل الشتاء وليس الخريف، دقائق مضت عليها قاسية وهي تحاول بها استجماع شجعاتها للسيطرة عما يحاربها ولكن ماذا بيدها وهو أقوى منها ومن طاقتها الضيئلة بالمحاربة؟!.
********
توقفت سيارة "يحيى" أمام العمارة، فهبط ومن ثم فتح باب السيارة، ليجذبها برفقٍ، حملت "ماسة" الألعاب بفرحةٍ ثم لحقت به فما أن ولج بها للداخل، حتى وجد "إلهام" بانتظاره كما أخبرها هاتفياً، أشار لها "يحيى" قائلاً:
_خدي "ماسة" وخليها ترتاح وأنا هطمن على "حور" وهجي وراكم.
أومأت الأخيرة برأسها ثم جذبتها للأعلى، فقصد "يحيى" الشقة الخاصة بالفتيات، طرق عدة مرات، ففتح "عبد الرحمن" الباب، ثم قال:
_لحقت... ادخل.
ولج وهو يتمتم بغيظٍ:
_يعني هعرف اللي حصل ومش هرجع!
اتبعه، ثم أشار له على غرفة الضيافة، فوجد "أحمد" بالداخل هو الأخير، فقال:
_طمنوني "حور" عاملة أيه دلوقتي؟
رد عليه "أحمد" بحزنٍ:
_أحسن... بترتاح جوا في أوضتها فسبناها على راحتها وخصوصاً لأن الجرح في رجليها.
تفهم "يحيى" الوضع، فتغاضى عن فكرته بالدخول للإطمئنان عليها، فتساءل باهتمامٍ:
_هي جوه لوحدها، مفيش حد معاها؟
أجابه "عبد الرحمن" بهيام مع نطق حروف إسمها:
_"تالين" جوه معاها.
أومأ "يحيى" برأسه ثم عاد الصمت ليختزل معالمه من جديدٍ، والأخير يراقبه بتمعنٍ ولدقائق طالت لتكسر بسؤاله:
_أنت كويس؟ ، حصل حاجه ولا أيه؟
اتجهت نظرات "أحمد" تجاهه ليستكشف الأمر فور سماع عبد الرحمن، ابتلع "يحيى" ريقه بارتباكٍ من أن تسوء العلاقة بينه وبين أحمد مجدداً بعد سماع الشكوك التي تراوده وبالأخير يظل مجرد شك، فمن الممكن أن يكون أصابها دور برد عادي لذا كان حريصاً حينما أجابه:
_مفيش، الواحد حزين بس على "حور" طول عمرها جدعة وبتخدمنا من غير ما نطلب منها ده.
أجابه "عبد الرحمن" بتأييدٍ:
_ومن سمعك كلنا زعلانين عشانها بس الحمد لله الدكتور طمنا وقالنا الجرح مش عميق يعني أسبوع أو إتنين وهتبقى زي الفل.
هز رأسه وهو يردد:
_ إن شاء الله.
********"
الخروج من هذا المنزل الذي أصبح يسكنه هذا البغيض بات من أسمى أمنياتها، ولحسن حظها بأنها لم تخفي عن والدتها أمر عملها بمصنع عائلة "الدهاشنة" فبات أمر خروجها من المنزل أمراً عادياً، وأخيراً بعد طريقها الطويل وصلت أمام البوابة الضخمة التي تحمل لقبهم باعتزاز وكأنه شيئاً ثمين، لعقت شفتيها بلعابها بارتباكٍ، ومن ثم فتحت البوابة لتدلف للداخل، غمرها الاسترخاء وهي تتأمل المساحات الخضراء التي تحد هذا المنزل الضخم، الذي على الرغم من ثراء أهله الا أنه مازال من الطراز القديم، وكأن أهله يسعدون بقدم طرازه كتذكار بأعمدة عائلة "الدهاشنة" وأصولها التي تمتد للجد الأكبر ليليه الابن ومن ثم "فزاع الدهشان" وصولاً لفهد ولاحقاً بالآسر..
راق لها تمسكهم بالطراز القديم كثيراً، فقد رسمت صورة معاكسة لما ستجده بالداخل، ظنت بأنها ستجد فلة أو قصراً يميل لطراز البندر، انتبهت "تسنيم" لذاتها الشاردة، فاستكملت طريقها للأعلى، حتى طرقت الجرس العالق على الحائط الجانبي وانتظرت قليلاً حتى فتحت أحدى الخادمات حيث كانت كبيرة بالعمر ويبدو عليها الوقار، فتساءلت باستغرابٍ لرؤية تلك الفتاة للمرة الأولى، فعلى الرغم من الصداقة القوية التي تجمعها بحور الا أنها لم تفكر بزيارتها يوماً بمنزلها:
_أجدر أساعدك في حاجه يابتي؟
أجلت صوتها قائلة بارتباكٍ:
_أنا من قسم المحاسبة الخاص بالمصانع وعندي معاد مع بشمهندس "آسر"..
أومأت الخادمة برأسها عدة مرات، وهي تجيب بتذكرٍ لما قاله:
_آيوه ايوه يا الف مرحب بيكي يا حبيتي، اتفضلي عما أدي البشمهندس خبر.
اتبعتها على استحياء فأشارت لها على غرفة بالأسفل، ففطنت بأنها غرفة المكتب، لم تتردد كثيراً وفتحت بابها ثم ولجت للداخل، لتختار الجلوس على المقعد المقابل للباب الذي تركته مفتوحاً على مصراعيه، انتبهت"تسنيم" لامرأة فاتنة الجمال، على ما يبدو بالعقد الرابع من عمرها، تدلف من الباب الخارجي من المنزل وعلى ما يبدو عليها الإرهاق الشديد مما تحمله من أكياس ثقيلة، فرفعت صوتها تنادي:
_"نعمة" أنتي فين، تعالي خدي مني..
لم تجيبها الخادمة فكانت بالأعلى تنادي "آسر" لم تتردد "تسنيم" في مساعدة أحداً عاجز يحتاج لها، فأسرعت تجاهها لتحمل الأكياس التي كادت بالتساقط أرضاً، رفعت "رواية" رأسها لتشكر من عاونها فانكمشت معالمها بذهولٍ من تلك الفتاة الجميلة، ابتسمت "تسنيم" من تعجبها الشديد ثم قالت:
_أنا "تسنيم" بنت عم "فضل" وبشتغل في قسم المحاسبة اللي تبع بشمهندس "آسر".
ارتسمت بسمة رقيقة على وجه"راوية" فقالت بترحابٍ:
_يا أهلاً وسهلاً بيكِ يا حبيبتي..
ثم وضعت الأكياس التي تحملها على الأريكة، لتجذب الأغراض من يدها قائلة بحرجٍ:
_طب والله فيكِ الخير، عنك دول تقال أنا خلاص شلت الأكياس من إيدي.
تراجعت بجسدها للخلف وهي تجيبها بتصميمٍ:
_لا مش تقيلة خالص، قوليلي بس أحطهم فين وأنا مع حضرتك.
اتسعت ابتسامتها، فأشارت بيدها على الرواق البعيد عنهما:
_طيب مدام مصممة المطبخ من هنا وأنا وراكي أهو.
منحتها ابتسامة صغيرة ثم اتجهت بالاتجاه الذي أشارت لها عليه، فحملت "رواية" باقي الأغراض ثم لحقت بها بالطرقة الطويلة، حتى وصلوا سوياً للمطبخ، فوضعت الأغراض من يدها على الطاولة لتصيح بضيقٍ شديد لمن تقفن أمامها:
_أيه يا جماعة بنادي من الصبح أنتوا نايمين على ودانكم ولا أيه؟
نهضت "ريم" عن الأرض، لتجفف يدها من بقايا صلصة الأرز المحشي الذي تعده بذاتها، ثم أسرعت لتحمل الاغراض من يدهما وهي تبرر لها بلهفةٍ:
_والله يا حبيبتي ما سمعتك، معلشي.
استدارت "نادين" تجاهها بيدها المتسخة بالصابون، لتخبرها بسخريةٍ:
_ورحمة الرغوة الطاهرة دي مسمعناكي يا غالية..
تعالت الضحكات فيما بينهما، حتى "تسنيم" ابتسمت هي الاخرى وهي تتايع حوارهما بمحبةٍ، سُلطت انظار "نادين" تجاهها، فتساءلت بدهشةٍ:
_مين المزة الجامدة دي؟
وضعت "تسنيم" الأكياس من يدها بحرجٍ من تعريفها عن كناياتها لأكثر من مرتين، فعرفتهم بها "رواية" بالنيابة عنها، تبادلت "نادين" السلام الحارق معها، أما "ريم" فقالت بابتسامةٍ هادئة:
_كان ودي أسلم عليكي يا حببتي بس زي مانتي شايفة اكده ملبوخة بالمحشي والوكل لازمن يبقى جاهز قبل المغرب..
بتذكر أضافت "رواية":
_يا خبر هو انتوا لسه مخلصتوش؟
أجابتها"نواره" وهي تدنو من المطبخ:
_أنا أهو خلصت المعمر والفراخ شويتها برة بالفرن..
قالت "ريم":
_لا انا لسالي شوية، بس في أمل الحلتين اللي على النار قربوا يستوا..
اضافت" نواره":
_طب اني هجهز العصاير قبل ما الضيوف يوصلوا..
اقتربت "تسنيم" من ريم ومن ثم انحنت لتجلس مقابلها ثم شرعت بمساعدتها، فقالت الاخيرة باعتراضٍ:
_بتعملي ايه يا بتي ميصحش.
ردت عليها بابتسامة لطيفة:
_حضرتك زي والدتي ولو اتحطت بالموقف ده اكيد هساعدها وبعدين انا بستنى البشمهندس لما بنزل هسيبك تكملي وهخرج.
ابتسمت ريم باعجابٍ شديد:
_شكلك بنت أصول يا بنتي والله.
قالت "رواية" بثناء:
_ومش هتبقى بنت اصول ليه وهي بنت عم "فضل" الراجل الطيب اللي العيبة مبطلعش منه.
ثم أضافت قائلة وهي تهم بالخروج:
_ هطلع أغير هدومي وأجي أساعدكم.
وبالفعل اتجهت للأعلى، فرددت"نادين" بتعبٍ:
_ربنا هيتوب علينا أمته بقا من الاكل اللي يكفي 100فرد ده، كل يوم ناس داخلة وناس طالعة..
اجابتها "نواره" بعتاب:
_ربنا يجعل بيت الكبير عامر بالخير دايماً، تعب الوقفة والطبيخ بيروح لما الناس تاكل وتنبسط.
تابعت "تسنيم" الحوار المتبادل فيما بينهما باعجابٍ شديد، فشعرت بألفة عجيبة وهي تستمع لحديثهما، شعرت بالدفء والحنان والحب الذي ينتقل فيما بينهما، شعرت لوهلة وإنها تجلس بين أفراد عائلتها، الابتسامة لم تفارق وجهها..
هبط "آسر" للأسفل، فإتجه لغرفة مكتبه، فانكمشت ملامح وجهه حينما لم يجد سوى حقيبتها، فاستدار ليتساءل باستغرابٍ:
_هي فين يا "نعمة"؟
قالت وهي تتفحص الغرفة بدهشةٍ:
_كانت هنا يا بشمهندس والله.
خرج من الغرفة باحثاً عنها، فاستمع لصوت الضحكات المرتفع القادم من الرواق، سلكه" آسر"حتى وصل للمطبخ، فوجدها تجلس جوار "ريم" تعاونها باعداد الطعام والابتسامة ترتسم على وجهها برقةٍ سلبت زمام تركيزه، فتسلل لمسمعه صوت "نادين" المتساءل:
_بتعمل أيه هنا يا آسورة.
انتبهوا جميعاً اليه، فانتصب بوقفته ثم قال بجديةٍ يحاول الإتسام بها:
_هنقضي الشغل في المطبخ ولا أيه؟ ، لو كده تمام أنا معنديش مشكلة بس معتقدش الكرنب وورق العنب هينجز الأوراق اللي مستانية توقيع دي!
ضحكت "ريم" ثم قالت:
_والله حبناها اوي، ما شاء الله عسولة وبنت ناس.
منحتها "تسنيم" ابتسامة ممتنة، ثم نهضت لتغسل يدها جيداً ومن ثم وقفت مقابل هذا الهائم الذي تناسي كونه يحجب الباب بجسده، عبث أصابعها بفستانها الأسود الطويل بتوترٍ، التمسه من نظرات عينيها، فانتبه لوقفته ليتنحى جانباً مشيراً لها بالمرور، أسرعت بتخطيه لتتجه للخارج، فسلكت منعطف خاطئ من فرط ارتباكها، التقطت اذنيها صوته الرخيم الذي أسيل أغورها، وهو يناديها:
_"تسنيم".
وقفت محلها ثم استدارت لتقابله بوجهها الأحمر من فرط خجلها، فأشار بيديه على الباب الذي تكاد على تخطيه، عقدت حاجبيها بعدم فهم، فقال بابتسامةٍ صغيرة:
_من هنا.
تطلعت لما يشير اليه، فازداد ارتباكها وتوترها أضعافاً، اتبعته لغرفة مكتبه فما أن ولجوا سوياً حتى أغلق الباب من خلفهما، فتوقفت عن الخطى ثم قالت بخوفٍ شعر به "آسر" بوضوحٍ:
_حضرتك قفلت الباب ليه، سيبه مفتوح أفضل.
لثاني مرة يرى الخوف يدمس عينيها لسببٍ ظنه عادياً بالنسبة لفتاة وشاب يجمعهما غرفة واحدة، ومع ذلك فتح الباب على مصرعيه مجدداً وهو يردد بهدوءٍ:
_أنا بس كنت حابب اننا نركز لأن هنا ناس داخلة وناس طالعه..
أومأت برأسها بتفهمٍ، فأشار لها بالجلوس، جلست وهي تراقبه بدهشةٍ حينما رفض الجلوس على المقعد الأساسي لمكتبه وفضل الجلوس أمامها، حاولت أن تشغل ذاتها بفتح الحقيبة وهي تعدل حجابها بارتباكٍ، أخرجت الملفات جميعاً فكادت بعضها بالسقوط أرضاً، فنهض سريعاً لينتشلها منها مردداً بهمسٍ:
_حاسبي.
قربه منها جعل جسدها يرتجف بصورةٍ غير طبيعية، فجذبت الملفات التي يساندها بيديه ليشعر بتلك الرجفة الغريبة، فوضعتهما فوق الطاولة الصغيرة التي تفصلها عنه، عاد "آسر" للجلوس محله وهو يتطلع لها باستغرابٍ، قدمت له أول ملف، فشغل ذاته بقراءته قبل أن يوقعه، وأحياناً كان يراجع على الحسابات من أمامه..
طرقت "نعمة" على الباب، ثم تقدمت منهما لتضع صينية العصير على سطح المكتب وقبل أن تغادر أغلقت الباب من خلفها كما اعتادت الدخول لأي غرفة من غرف المنزل، انقبض قلب "تسنيم" بشكلٍ مبالغ به، فوزعت نظراتها بين الباب تارة والعصير الموضوع من أمامها تارة أخرى، كان يراقبها من أسفل الملف الموضوع من أمامه، فنهض ليشير له بتهذبٍ:
_أيه رأيك نقعد برة في الحديقة جنب الاسطبل وبالمرة أعرفك على "همام" و"مهجة".
كانت تعلم بأنه اقترح ذلك للخوف الذي يستحوذ عليها وراق لها موقفه الرجولي كثيراً، فأعادت الملفات للحقيبة مجدداً، بينما حمل "آسر" العصير ليرافقها للخارج، فسألته باستغرابٍ:
_مين "همام" و"مهجة"دول؟
ابتسم وهو يردد:
_لما نوصل هقولك.
أشارت له برأسها بهدوءٍ ثم اتبعته للخارج، فوقفت على مسافة بعيدة عنه، تراقبه وهو يضع الطاولة المستديرة جوار الاسطبل ويعاونه أحد العمالين بالثرايا، فوضع الكراسي ثم أشار لها بالاقتراب، اقتربت منه ووضعت الحقيبة عليها فأشار بيديه على الفرس الاصيل من جواره، لتتبعه لهجة فخر واعتزاز:
_ده يا ستي "همام" واللي جنبه دي "مهجة"..
تعلقت انظارها بهما فأحبتهما كثيراً، مررت يدها على جسد الفرس الأبيض وهي تتساءل بترددٍ:
_شكلك بتحب الخيل.
قال بشغفٍ:
_جداً، وبالأخص"همام".
وقال كلماته وهو يمرر يديه على جسده، ثم تابع بقول:
_مامته ماتت وهي بتولده وكان ضعيف جداً بس أنا كنت جنبه ومسبتوش غير لما بقا زي ما أنتي شايفة.
ربما لم تستمع لنص حديثه، فكانت شاردة به وهو يتحدث إليها، تمنت لو بقي العمر بأكمله يتحدث وهي تستمع إليه هكذا، باتت لا تعلم ما الذي يصيب قلبها بوجوده، بالرغم من نفورها من صنف الرجال جميعاً، ثمة شيئاً بداخلها يخبرها بأنه ليس مثلهما، بل منفرد وإختلافه تكتشفه يوماً عن يوم، صفقها صوته الذي ارتفع حينما ردد:
_" تسنيـــــــــم"
تمتمت بشرودٍ:
_هاا..
ابتسم ساخراً:
_ها أيه بناديكي من بدري.. تعالي يلا نخلص الملفات اللي حمضت دي.
ابتسمت واتبعته لتجلس مقابله فشرعوا بالعمل سوياً..
**********
انتشل يديه من بين يدها وهو يردد بتعصبٍ شديد:
_خبر أيه يا "رواية" ساحبة بقرة وراكي وأيه كل الرسايل اللي على التليفون دي!
كبتت ضحكاتها وهي تشير له بالصمت قائلة بحماسٍ:
_ما انت مش هتطلع معايا غير كده والموضوع مهم ومستعجل.
تطلع للشرفة ثم قال ساخراً:
_والموضوع المهم هيتقال إهنه!
هزت رأسها بدلالٍ ومن ثم أشارت بيدها على الحدائق وبالأخص المكان المجاور للاسطبل، فتطلع "فهد" تجاه ما تشير، فوجد ابنه يجلس جوار فتاة ما ويتابع عدد من الأوراق الموضوعة من أمامه، فقال بعدم فهم:
_أبص على أيه، ولدك وبيشتغل أيه اللي يشد في كده؟!
لوت شفتيها بتذمرٍ:
_بالذمة بصتك دي قدرت تحلل الموقف، أنت طول عمرك مش مدي لنفسك فرصة تتمعن وتتفحص الامور.
ابتسم وهو يداعبها بالحديث المرن:
_طب قوليلي انتي شايفة أيه؟
هام هو بها وهامت هي بما تراه على متن مترات منها:
_شايفة نظرات اعجاب في عين ابنك، وإن يكن مش حب بس على الاقل البنت مناسبة ليه يا "فهد" لما تتكلم معاها هترتحلها جداً.
ترك التطلع بها ثم تساءل بجدية:
_هو انتي تعرفيها؟
كبتت ابتسامته من التحليل القاتم التي ستستمع له عقب ما ستتفوه به، فقالت:
_آه.
منحها نظرة شك فقالت بتوضيحٍ:
_لسه متعرفة عليها من شوية، بت زي العسل يا فهد جمال وأدب ده كفايا انها بنت عم "فضل".
اتنقلت نظرات" فهد" تجاههم ثم قال بعد صمت وتفكير:
_أنا معنديش مانع بس ابنك جاهز للخطوة دي؟... يمكن ميكنش بيفكر بيها بالشكل ده من الاساس..
ابتسمت بفرحةٍ حينما تابع الحديث معها بلهجتها، فيزداد عشقها له أضعافاً حتى ولو أصبحت على عتبة الموت، انتبهت من غفلتها وهي تخبره:
_متقلقش هتكلم معاه وهعرف اللي في قلبه بالظبط.
منحها ابتسامة مهلكة، ومن ثم طبع قبلة صغيرة على جبينها ليهمس بحبٍ:
_طيب يا حبيبتي اتكلمي معاه ولو كده هدخله انا ونشوف هنعمل أيه!.
أومأت برأسها بفرحةٍ لمسها "فهد" الذي ابتعد ليتجه للمندارة، فتابعها وهي تتطلع لآسر بفرحة وتمنى، فابتسم رغماً عنه وهو يهمس بصوتٍ لا يسمعه سواه هو:
_يارب يفرحك دايماً يا نور جلبي.
**********
انتهت "تسنيم" من عملها، فنهضت ثم جمعت الملفات بحقيبتها، قائلة بابتسامةٍ صغيرة:
_كده كل الورق تمام، عن أذن حضرتك.
وكادت بتخطيه، فأسرعت "رواية" بالاقتراب منها ثم قالت بحزمٍ:
_على فين ان شاء الله؟ ... أنتي مش هتخطي خطوة بره البيت ده من غير ما تتغدي معانا.
كادت بأن تعترض سريعاً، فوجهت "رواية" حديثها لابنها قائلة بغضبٍ:
_من أمته وضيوفنا بيمشوا من غير الواجب يا "آسر"..
رفع كتفيه وهو يردد بقلة حيلة:
_معاها معتقدش، منك ليها أوكي.
لم تستعب ما قاله، ولكنها لم تبالي بل جذبتها للداخل عنوة، فقالت تسنيم:
_والله ما هقدر أنا أكلت قبل ما أجي.
قالت بصرامةٍ:
_مفيش حد بيدخل هنا وبيخرج كده، وبعدين يا ستي لمتنا هتفتح نفسك مش كده ولا أيه يا آسر.
رغم تعجبه لمعاملة والدته المميزة لها الا انه قال:
_صح... اللمة بتجوع إساليني أنا.
وجدت ذاتها تنخضع اليها، فلحقت بهما للداخل على استحياءٍ فلا مجال للهروب من عند وضع طرفيه أمام فرد من الدهاشنة.
******
شعرت بإختناق صدرها، فلم تعد تجد ما يخفف عنها، أو يجرف تفكيرها بعيداً عن هذا الرجل الغامض الذي ظهر لها من العدم، فتمكن مما فشل معشوق طفولنها من فعله، لم تعد تعلم ما الذي يتوجب عليها فعله، فلم تعد تملك التحكم بعقلها الذي يفكر به كل دقيقة، وكلما حاولت تشتت ذهنها بالتفكير بخطيبها تعود للتفكير به من جديدٍ، جلست"روجينا" على الرمال المترسلة على مياه البحر، تتأمل الأمواج الثائرة من أمامها وكأنها تحاربها او تذكرها بأن ما تفكر به لن يحدث أبداً، وكأن هناك مصباح لتحقيق الأمنيات، او ربما حورية تتدلل بين صفحات البحر فاستمعت لدموع تلك الفتاة البائسة، الحائرة، فمنحتها تحقيق لامنيتها، وها قد أتي صوته الرجولي العميق من خلفها يردد:
_مش قولنا نبعد عن اليخوت والبحر، ناوية تنخطفي تاني ولا أيه؟
فتحت عينيها على مصرعيها ثم التفتت للخلف لتجده يقف مقابلها بطالته التي لم تفشل يوماً بالسيطرة عليها، نهضت عن الرمال وهي تردد بابتسامةٍ مشتتة:
_انت!
وضع "أيان" يديه بجيوب بنطاله القصير، ومن ثم اقترب وهو يردد:
_أيوه أنا..
ثم منحها نظرة أربكتها قبل أن يستطرد:
_اتعودي انك هتشوفيني كل ما هتتهوري وتركبي يخت غلط او تفكري تقربي من المياة.
ابتسمت على دعبته اللطيفة وإن كانت تحمل معنى مبطن بقلقه عليها، ربما يشعرها بأنها تعني له، انتبهت لذاتها الهائمة به كالبلهاء، فلعقت شفتيها بارتباكٍ، ساد الصمت ليقطعه "أيان" حينما قال بخبثٍ:
_شكلك مش مرتاحة لوجودي، أشوفك بعدين.
وكاد بالمغادرة، فركضت لتجتاز طريقه وهي تردد بلهفةٍ:
_لا بالعكس أنا فرحت إنك هنا.
توقف عن المضي قدماً ثم تطلع لها فوجدها تغلق عينيها باحراجٍ شديد ومن ثم سمحت لذاتها بالجلوس أرضاً، ثم أخذت تردد بتشتت:
_أنا مش عارفة مالي بجد، من ساعة ما شوفتك وأنا متلخبطة..
والتقطت نفس طويل قبل أن تتابع بضيقٍ:
_بحاول أخرجك من دماغي مش عارفة، ومستغربة لاني مشفتكش غير كام مرة.
ورفعت عينيها اللامعة بالدموع تجاهه وهي تشير بأصبعها تجاهه:
_أنا مخطوبة وهتجوز كمان شهرين والمفروض اني بحب خطيبي، طب ليه بفكر فيك دايماً.
ابتسم "أيان" وهو يتابعها بمكرٍ وعدم تصديق لنجاحه السريع بخطته التي لم تكلفه عناءٍ، انخفض لمستواها ثم عاونها على الوقوف، ليمنحها نظرة واثقة، كسرها بعد دقيقة من الصمت حينما قال:
_هتصدقيني لو قولتلك اني لما شوفتك حسيت بشيء غريب.
ورفع شفتيه بعدم اكتثار:
_يعني واحدة بتتعرض لاعتداء وساعدتها، واتعرضت للموت قدام عيوني وجايز لو نزلت المية وراها بوقت زي ده مكنتش أطلع حي وبالرغم من كده خاطرت بحياتي وانا معرفش ايه اللي ممكن يربطني بيها.
ثم ابتسم بمكرٍ:
_بس ده ميمنعش انك طلعتي جميلة.
ابتسمت "روجينا" ثم قالت:
_أنا مش فاهمه انت عايز تقول ايه؟
اعتلت معالمه الجدية وهو يردد بثباتٍ مخيف:
_اللي قصده بكلامي أن القدر بيلعب لعبته احياناً، أوقات بنقابل أشخاص وبيختلط علينا الاعجاب بالحب، وأحياناً بينفرض علينا كره أشخاص من قبل حتى ما بنشوفهم، يمكن لو اتقابلوا في ظروف تانية غير دي كان ممكن يكون في أمل ان الحياة ما بينهم تبقى طبيعية..
شتتها كلماته الغامضة، فودعها بابتسامة خبيثة وهو يشير لها بيديه:
_الجو برد، أشوفك بعدين.
وتركها ملبكة فيما قاله وغادر والابتسامة تتسع وجهه المنتصر!
********
تناولت الطعام في جو من الالفة، وسط نساء الدهاشنة، ارتحت للحديث برفقة "رواية" وريم، وأحبت "نادين" بمرحها الذي يصنع البهجة، ودت لو جلست معهن العمر بأكمله، الى أن حان وقت الرحيل، هبطت "تسنيم" من الأعلى لتغادر فانخطف لونها وتشنجت قدميها عن المضي قدماً حينما رأت أمامها صورة معلقة تحمل أخر شخص توقعت رؤياه!!
تلك الفتاة الهزيلة تحمل بقلبها ضغينة من الاسرار والمتاهات التي جعلتها أسيرة مقيدة، وهاجسها كره الرجال حد الموت، فلم تواجه بشاعة رجل واحد بل نخر القدر عظامها لتكون الشاهدة الوحيدة على وقعة ستهز أرجاء منزل كبير الدهاشنة فماذا اذا اصبحت منهما؟ والسؤال المهم هل ستتمكن بالبوح بالسر المرتبط بصاحب تلك الصورة، لم تكن الاجابات الكافية لمثل تلك الاسئلة اللعينة فسقطت أرضاً بباحة منزل الكبير "فزاع الدهشان" فاقدة للوعي ولتلك الحقيقة البشعة!!..
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الثالث عشر
الدهاشنة2.....(صراع السلطة والكبرياء...)
الفصل الثالث عشر..
لأول مرة يشعر بالتشتت هكذا، تائه هو بصحراءٍ قاحلة لا يأويها مطر ولا قطرة مياه، يصفع بها ذاته ويعنفها ما بين عتاب ورحمة بما تعرضت له تلك الفتاة، بات قلبه رحيماً بها بعدما كان ناقماً عليها، لا يعلم كم ظل حبيس غرفته منذ أخر لقاء جمعه بها، فبمعرفته الحقيقة تلاقى ضربة عصفت برأسه وقلبه، فتح"بدر" عينيه على مهلٍ وهو يتأمل الحائط الصغير المجاور لباب غرفته، فعاد المشهد ليتجسد أمامه للمرة الثلاثون، عاد ليرى دموعها ويتذكر صراخها وبكائها، لم يحتمل ذاك الالم الغادر الذي يتغلب عليه دون أي شفقة منه على حاله، نهض عن فراشه ومن ثم جذب قميصه ليرتديه على عجلةٍ، ليتجه لغرفتها، ضم يديه معاً ليقربهما من الباب بترددٍ، فالوقت وإن لم يكن متأخر كثيراً ولكنه لا يصح لها الطرق على بابها ليلاً، تراجع عما يهاجمه وكاد بالعودة لغرفته، فتوقف محله بذهولٍ حينما وجد "روجينا" أمامه، انخطف لونها وبات جسدها كالثليج حينما رأته ومع ذلك حافظت على ثباتها، وتقدمت للغرفة، وقف مقابلها وهو يتساءل بحدةٍ:
_كنتِ فين لحد دلوقتي؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ قبل أن تجيبه:
_كنت آآ...
قطعت كلماتها حينما فُتح باب غرفتها، لتظهر "رؤى" من أمامهم ثم اقتحمت حديثهما قائلة بخبثٍ:
_ها يا "روجينا" اتطمنتي عليها؟
تطلعت لها بعدم فهم، فاستكملت الاخرى حديثها مشددة على كلماتها الاخيرة:
_"تقى" بقت كويسة ولا لسه تعبانه؟
استوعبت "روجينا" ما تحاول "رؤى" فعله، فقالت باستيعابٍ:
_آه.. الحمد لله بقت أحسن، اخدت ادويتها ونامت..
أومأت برأسها وهي تشير لها:
_طب الحمد لله، ادخلي يالا.
اتبعتها للداخل و"بدر"يشيعها بنظرةٍ تناست حوارهما وتعمقت ببقبق عينيها الحزين، ود لو ظل عمراً بأكمله يتأملها، ود لو حصل على فرصة الحديث معها على انفرادٍ، يكفي أن يكن على علم بأنه سيحظى بفرصٍ ليصلح خطأ القدر القاسي!
************
فتحت جفنها الثقيل بصعوبةٍ، بعدما شعرت برائحة برفنيوم قوي يعيد ادراكها الحسي، فتحت "تسنيم" عينيها على مهلٍ وهي تحارب ذاك الألم القاتل الذي يحارب رأسها، أخر ما تتذكره رؤياها لصورة تضم رجلين احداهما يخصه ذكريات سيئة تحتفظ بها لنفسها هي، ظنت للحظة أن الماضي يعود للخلف ادارجاً فعاد هذا الرجل ليتجسد من أمامها، شعرت به يقترب ويقترب، فنهضت مرتعبة مما رأته، تلهث من فرط أنفاسها المتقطعة، وجدت من يحتضنها وصوتها الحنون يردد:
_اسم الله عليكي يا بنتي..
ابتعدت عنها وهي تتفحص وجهها بخوفٍ، فهدأت حينما وجدت "رواية" جوارها ومن الجهة الأخرى "ريم" و"نادين"، استقامت بجلستها بحرجٍ مما أصابها، فقالت وهي تهم بارتداء حذائها:
_انا آسفة قلقتكم عليا، أنا مش عارفة أيه اللي حصلي يمكن من السفر وضغط اليوم..
وقفت "ريم" قبالتها ثم قالت بعتابٍ:
_بتتأسفي على أيه يابتي، ده بيتك وانتي زي بناتنا بالظبط، ارتاحي ولما تبقي كويسة ابقى قومي.
ردت عليها بابتسامةٍ صغيرة:
_عارفة والله بس انا لازم ارجع البيت لحسن ماما زمانها قلقانه عليا أوي.
قالت "رواية" بتفهم:
_خلاص يا حبيبتي احنا مش هنضغط عليكي بس على الاقل عم "صابر" يوصلك ونعمة تبقى معاكي عشان نطمن اكتر..
اتسعت ابتسامة "تسنيم" وهي تتأمل تلك المرأة الحنونة، فأجلت صوتها قائلة:
_كنت حاسة إن والدتي جنبي طول الوقت، ولما فتحت عيوني ولقيتك مستغربتش انتي بجد طيبة وأنا حبيتك أوي..
احتضنتها "رواية" وهي تردد بفرحةٍ:
_وأنا والله يا حبيبتي ارتاحتلك جداً.
منحتها ابتسامة صافية، قبل أن تتبع "نعمة" التي سترافقها للمنزل، وقبل أن تغادر الغرفة استدارت لتمنحهم نظرة ممتنة قبل أن تضيف:
_شكراً ليكم على اليوم الجميل ده، عمره بجد ما هيتعوض بالنسبالي.
يكفي الابتسامات الصادقة التي رأتها على وجوههم، فأمسكت يد نعمة لتستند عليها، مروا من الرواق الطويل، ومن ثم اقتربوا من الدرج، وبالأخص المحل الذي فقدت به وعيها، جاهدت "تسنيم" برفع رأسها تجاه تلك الصورة مجدداً، ولكنها لم تستطيع، فاهتز جسدها بعنفٍ شعرت به نعمة فقالت بقلقٍ:
_أنتي كويسة يا حبيبتي، لو لسه تعبانه أدخلي ريحي.
قالت وعينيها مازالت مسلطة على الصورة:
_لا أنا كويسة.
ثم تساءلت بثباتٍ جاهدت للتحلي به:
_هو مين اللي في الصورة ده؟
ليتها كانت تحوي شخصاً واحد لما وضعت بتلك الحيرة التي وضعتها به نعمة حينما قالت:
_ده "وهدان" بيه أبو كبيرنا الله يرحمه ، واللي حداه يبقى ابن عمه "مهران" بيه.
ودت لو سألتها أياً منهما والد "فهد الدهشان" ولكنها خشيت أن يفضح أمر اهتمامها بمعرفة أدق التفاصيل الخاصة بهما، فاتبعتها للأسفل وعقلها وذهنها متعلق بتلك الصورة البشعة التي لن تنساها مهما مرت الأعوام، انتبهت من غفلتها على السيارة السوداء المصفوفة أمام البوابة الخارجية، فاتبعت "نعمة" ثم كادت بالصعود ولكنها توقفت حينما استمعت لصوت تطرب آذنيها لسماعه، فبات المحبب والمقرب إليها، حينما نادها قائلاً:
_"تسنيم".. أنتي كويسة؟
استدارت للخلف فوجدته يقف مقابلها، الخوف والإهتمام يسود حدقتي عينيه، ود لو تمكن من البقاء بالغرفة لحين إستعادتها للوعي، ولكن هنا العادات والتقاليد تضع الف حاجز أخلاقي لا يتعداه كبيراً ولا صغيراً، النظرات كانت تتحدث لبعضها البعض رغم دهشة السائق والخادمة من صمتهما، فقررت "تسنيم" قطعه حينما قالت بارتباكٍ:
_الحمد لله بقيت أحسن..
ثم قالت بحرجٍ:
_آسفة اني قلقتكم عليا.
قال بلهفةٍ:
_المهم انك بقيتي بخير، ممكن نطلب الدكتورة لو لسه حاسة نفسك تعبانة.
نفت اقتراحه بلطفٍ:
_لا مالوش داعي انا فعلاً بقيت كويسة.
ثم تحملت على يد نعمة قائلة بإبتسامةٍ صغيرة:
_عن إذن حضرتك..
وصعدت للسيارة وعينيها مازالت تودعه بنظرات تخطفها بين الحين والآخر، غادرت السيارة وبقى هو من خلفها يتأملها حتى اختفت من أمامه، فاستدار ليعود للمنزل فتفاجئ بأبيه يقف بالشرفة العلوية للمنزل ويراقبه بنظراتٍ خبيثة، اتبعتها اشارة له بالصعود بالحال..
*********
كالتائه هو لم يعد يعلم ماذا يريد قلبه؟ ، شغل تفكيره قلقه الزائد عليها، نعم هي بالنهاية ابنة عمه ولكنه يشعر بأن ما بداخله ليس مجرد خوف طبيعي، هناك أمراً يتجاهله عمداً، ربما يخشى التفكير به، فكيف سيفعلها وهي لا تحل له!
من المفترض به أن يفكر بمن ستكون قسمتها به، ولكنه في كل مرة يجد نفسه يفكر بها هي.. "حور" اسمها يتردد بأعماق قلبه وكأنه يعرفها جيداً، ليت قلبه يستوعب بأنه ليس من المنطقي الوقوع في حب فتاة أخرى غير خطيبته، خرج "أحمد" لشرفته عل الهواء النقي يزيل همومه، فردد بصوتٍ مهموم:
_لا مستحيل أكون بحبها!
********
صعد "آسر" للأعلى، ثم طرق باب الغرفة فولج حينما استمع إذن الدخول، أغلق الباب من خلفه واقترب من "فهد" ثم قال:
_خير يا كبيرنا.
تطلع له بنظرةٍ ثاقبة،طوفته من رأسه حتى أخمص قدميه، والاخر يترقب سماع ما سيقول، فطوى صوته الرخيم صفحات الصمت حينما قال:
_تعالى اهنه وأقف جدامي.
انصاع له "آسر" وإقترب حتى أصبح قبالته، يتمعن له باهتمامٍ أحاط به فور رؤية جديته الصارمة، درس "فهد" عين ابنه جيداً قبل أن يطرح سؤاله الذي حصد على اجابته من قبل أن يخبره به، فقال:
_قولي بقا أيه حكايتك مع الموظفة دي.
بلل شفتيه بلعابه وهو يجيبه:
_حكاية أيه يابوي!
ابتسامة صغيرة ظهرت على جانبي شفتيه قبل أن يردد:
_فاكر أبوك اهبل إياك!
رد سريعاً:
_العفو... أنا بس مش عارف أيه اللي وصل لحضرتك.
طالت بتأمله وملامحه ثابتة دون ان تفشي شيئاً، ففاجئه حينما رفع يديه على كتفيه ليخبره بحنانٍ:
_أني مبنصبلكش محكمة يا ولدي، الموضوع وما فيه إني عايز أفرح بيك أني وأمك، وبصريح العبارة اكده البت عاجبه أمك وشكلها كده عجباك أنت كمان.
ابتسم وهو يجيبه بمكرٍ:
_من نحية عجباني فهي عجباني، يعني حلوة ومحترمة وبنت ناس...لكن الموضوع موصلش للحب والكلام ده،يمكن اعجاب بالبداية لاني على اقتناع تام أن الحب بيجي من العشرة بين الزوجين زيك كده أنت ووالدتي.
أنصت "فهد" لتحليله بنظرةٍ فخر كونه نجح في زرع بعض السمات الطيبة بابنه الوحيد ومن ثم قال بصرامةٍ:
_السبوع الجاي هنروح نطلبها من أبوها.
رفع حاجبيه باستنكارٍ:
_بالسرعة دي!.
خلع العمة التي تضيق برأسه بعد يوماً جاد، ثم قال بحزمٍ دون أن يتطلع له:
_روح نام عشان ورانا مشاغل كتير بكره.
علم بأنه تلاقى الكلمة الاخيرة فلم يعد يملك الحق للحديث بذاك الامر، فابتسم بفرحةٍ لذاك النبأ العظيم..
**********
اشتاق كلاً منهن لتلك الجلسة السرية التي تعد حدث هام للحديث عما مضى من حياتهن وصحبتهن التي دامت لأكثر من ثلاثون عاماً، فقالت "نادين" بمرحٍ:
_أنا مش خايفة من اني اكبر بالسن، الخوف لما تلاقي العيال داخلة عليكي ويقولولك عايزين نتجوز وهب دب تلاقي عيل سقيل بيقولك تيتا كده يبقى كبرنا رسمي نصبي فهمي.
تعالت ضحكات "رواية" و"ريم" على تفكيرها الأحمق، فقالت "ريم":
_مفيش فايدة فيكي والله عمرك ما هتتغيري، أني مش عارفة ربنا صبر"سليم" عليكي المدة دي كلتها ازاي..
لم تفهم مغزى كلماتها الا حينما استرسلت "نواره" ما بدأته "ريم":
_أه والله معكي حق، أني قولت سليم اكيد هيعملها وهيتجوز عليها بس باينه واقع لشوشته.
لكزتها بغضبٍ فتعالت الضحكات فيما بينهما، فقالت بسخريةٍ:
_يقدر يعملها كنت قتلته..
وبغرورٍ مرح قالت:
_انتي متعرفيش يا صعيدية منك ليها القاهروية تقدر تعمل ايه واديكم شوفتوا اللي حصل مع فهد ورواية زمان، وازاي اتراجع على اخر لحظة وكسر كلام كبار البلد كلها عشان"رواية".
فور تذكر هذا الحادث المسجل بتاريخ الدهاشنة، تطلعوا جميعاً بابتسامة حالمة لرواية التي بادلتهن الابتسامة حينما تذكرت ذاك اليوم الذي لا ينسى، اضافت" ريم" بجدية:
_الحمد لله ان فهد فاق، ولولا برضه ان عمي مهران اتجوز البنت مكنش الموضوع هيتحل بين العيلتين ولا كان اتضح ان اللي قتل عمي "وهدان" الله يرحمه يبقى من المغازيه مش من عيلة البنت دي.
رددت نواره بحزنٍ:
_ربنا جبر بخاطرها واهي عايشه معاه الوقتي مرتاحة ومعاها واد وبت،اللي شافته كان صعب جوزها الاولني يموت بعد الفرح بشهور وجوازتها التانيه تتفشكل وتتجوز راجل كبير اد ابوها..
ردت عليها ريم:
_مهي لو مكنتش اتجوزته يا نواره كان اهل البلد مبطلوش في سيرتها واللي استغربته ان فهد مفكرش بالنقطة دي.
ثم تطلعت لرواية وابتسمت وهي تستطرد:
_مهمهوش غير حبيبة الجلب.
اصطبغ وجه "رواية" بحمرة الخجل، من حديثهما الذي يعيد ذكريات حبها من جديد، فخشيت ان يفضحها خجلها فيجعلها كالمرهقة من أمامهم، لذا استأذنت وتوجهت لجناحها فما أن ولجت للداخل حتى خرجت لشرفتها، واختارت الجلوس على أقرب اريكة لترفرف بذكريات الماضي الحالم...
##
_أنا مش مجبرة أفضل هنا أنت سامع ولا لا!
قالت كلماتها المتعصبة وهي تضع ثيابها بحقيبة السفر الكبيرة، ثم عادت لتجذب متعلقاتها الشخصية، فأتى من خلفها ليلقي بالحقيبة أرضا وهو يصيح بعصبيةٍ تامة:
_يوووه احنا اتكلمنا بالموضوع ده كام مرة يا رواية حاولي تفهمي وتقدري الوضع اللي انا فيه ؟
ابتسامة منكسرة ارتمست على وجهها المتورم من أثر البكاء، اتبعها صوت موجوع:
_أنا فعلاً مش فاهمه ولا عايزة أفهم، اخرج من هنا يا فهد، انزل لعروستك وسيبني لحالي.
جذبها من مرفقها ثم قربها اليه وهو يردد بصدمةٍ:
_حالك!!... أنا حالك، راح فين حبك ليا؟ ، كنتي دايماً بتقوليلي انك هتفضلي جنبي وعمرك ما هتتخلي عني ودلوقتي عايزة تسيبني يا رواية؟
انهمرت الدموع التي احتجزتها اطول وقت تمكنت منه، فرفعت عينيها تجاهه ثم قالت بوجعٍ شق صدره:
_طول عمري وانا جنبك ومعاك يا فهد، بس المرادي لا، مش هقدر أكون جنبك وأنت بتسن السكينة وبتدبحني بدم بارد، آسفة مش هقدر أساندك وانت بتدوس على قلبي وبتكسر كل حاجة حلوة اتولدت جوايا ليك..
قرب يديه ليحتضن وجهها، فأزاح دمعاتها بيديه معاً، فتحررت أحباله الصوتية الغليظة:
_أنا بكسر قلبي قبل ما بكسرك يا رواية، صدقيني أنا مجبور أعمل كده، الست دي انا كنت السبب في موت جوزها وانتي عارفة الناس هنا مبترحمش.
صرخت به بصوتٍ متقطع:
_ومفيش عوض ليها غير انك تتجوزها!
اغلق عينيه بقوةٍ يجاهد بها بالتحلي بثباته ومن ثم قال بصلابةٍ:
_الكلام معتش له لازمة يا رواية الفرح النهاردة والمأذون تحت!
انسدلت دمعاتها دون توقف مع سماع اخر كلماته، فتمسكت بيديه التي تحتضن يدها ثم رددت ببكاءٍ:
_لسه في فرصة يا فهد، أنا مقدرش أعيش من غيرك ولا أتخيلك مع واحدة غيري، انا عارفة انك بتحبني بس انت لازم تثبتلي ده، تعالى ناخد آسر وروجينا ونمشي من هنا..
سحب يديه المحتضنة لوجهها وهو يطالعها بصدمةٍ:
_أهرب يعني!!..انتي متخيلة اللي بتقوليه يا رواية، شايفاني عيل بيغلط ويهرب من غلطه! .... عايزاني اصغر جدي وكبار العيلة؟
اطبقت على معصمها بغلٍ، ففاض بها الصمت لتصرخ بصوتها المذبوح:
_لا انزل واتجوز وافرح بس خليك متأكد ان بمجرد ما توقع على القسيمة هتكون بكده خسرتني انا وعيالك يا فهد..
وجذبت الحقيبة الملقاة ارضاً ومن ثم اعادت وضع الملابس امام عينيه ثم غادرت لغرفة ابنائها، فما ان ولجت للداخل حتى سمحت لذاتها بالانهيار حينما استمعت لخطوات قدميه التي تهبط الدرج، ففتحت ذراعيها لمن يراقبها بخوفٍ، فهرع الصغار الى حضنها، لتهمس روجينا بطفوليةٍ:
_بتعيطي ليه يا ماما، بابا زعلك صح؟
ابعدتها عنها بحنانٍ ثم عبثت بخصلات شعرها الحريري وهي تردد بانكسار:
_لا يا روحي انا زعلانه لان بابا مشغول ومش هيعرف يسافر معانا.
ضيق آسر عينيه بضيقٍ:
_وهو احنا لازم نسافر يا ماما؟
انفلتت دمعاتها فاحتضنت الصغير وهي تردد بوجعٍ يعصف بصدرها:
_ايوه يا حبيبي.
ثم مسحت دمعاتها وابعدتهما عنها، لتشير لهما بابتسامة مصطنعة:
_يلا عشان منتاخرش.
وحملت الصغيرة ثم تمسكت بيديه ليغادر المنزل سوياً، وكلاً من به لا يملك الجرأة لإيقافها، خرجت للحديقة الامامية واتبعت طريقها نحو الخروج بقلبٍ متصلب يأبي الابتعاد عن معشوقه حتى وإن عاش بعيداً ولكن تحت سقف منزل واحد، توقفت عن المضي قدماً حينما وجدت ذاتها تمر من أمام المخيم الذي يضم المأذون والرجال، فوجدته يجلس على الطاولة من جواره، تعلقت أعينها به مطولاً وكأنها تبحث بتلك الأعين عن الإنسان الذي عشقته بجنون، تعلم بأن تلك المنطقة باتت محظورة بذاك الزفاف لانها تخص الرجال فقط، ولكن لا طريق للخروج سواه، تعلقت اعين الجميع بها وعلى ما بدى لهما بانها تغادر زوجها في ليلة زفافه اعتراضاً عليه، كانت خطوة جريئة لم تمتلكها البعض في مثل ذاك المجتمع الذي يجبر النساء على العيش لأجل تربية الابناء، فأغلبهن يرضى بالذل والمهانة لاجل الصغار وبعضهن يقبلن بالزوجة الثانية في سبيل الحفاظ على الزواج الغير متكامل من الاساس!
أطبقت "رواية" أصابعها على يد آسر ومن ثم استكملت طريقها للخارج، وكأن بخطاها الذي يبتعد عنه رويداً رويداً كان كالسوط الذي جلد روحه قبل ان يوقظ قلبه الذي يئن لاجل كل قطرة تسقط من عينيها، ترك القلم الذي كاد بأن يدمر به حياته ليسقط من يديه، ومن ثم ابعد الطاولة لينهض بكل عزم وهو يردد بصوتٍ وصل لمسمعها رغم ابتعادها عنه:
_الجوازة دي مستحيل هتم واللي يحصل يحصل.
تصنمت محلها، فحاولت انعاش رئتيها بالهواء ثم قرصت ذاتها وكأنها تحاول إن تثبت لذاتها بانها لا تتوهم، فاستدارت لتجده يقف وسط الرجال وهو يستكمل حديثه بشجاعة:
_انا ممكن اكون السبب في اللي هي فيه بس انا مقصدتش اقتل جوزها، وكمان ميرضيش ربنا اني عشان ارجعلها حياتها اقوم اخرب بيتي بايدي!
واستكمل بصرامةٍ:
_انا ممكت اعوضها بالفلوس او أي حاجة بعيد عن اني اتجوزها وادمر عيلتي، ده اخر كلام عندي.
اغلقت عينيها بقوةٍ وهي تستمع اخر كلماته، فابتسمت براحةٍ بعد عناء حاولت به أن توصله لتلك المرحلة وها قد تخطاها، لم تجد اي شيء تفعله بذاك الوقت الا الاقتراب منه مثلما كان يقترب منها، فاحتضنته دون أن تعبئ بعدد الرجال من حولها، احتضنته وشهقات بكائها مزقت القلوب من حولها، لم تعد قادرة على الصمود أكثر من ذلك، فالحرب التي خاصتها فتكت بقلبها وطاقتها، فهمست جوار اذنيه ببكاءٍ يحمل نبرة توسل من الاعين التي تتربص بها :
_خدني من هنا يا "فهد".
لم يتردد ثانية واحدة، فحملها وصعد بها لمنزلها مرة اخرى ومن خلفه اتبعه آسر وروجينا، وعلمت بعد ذلك بأن عمه" مهران" تزوج بتلك الفتاة وقد انتهت العداوة التي كادت بأن تتعمق بين العائلتين لتصبح أكثر حدة بينهما وبين المغازية لسببٍ لا يعلمه الكثير!
********
وأخيراً حظيت ببعض الراحة بعدما أنهت والدتها تحقيقاتها حول تأخرها بثرايا "الدهاشنة"، هي الآن بمفردها تسترجع تلك الذكرى المؤلمة التي باتت متعلقة بطفولتها، أغلقت"تسنيم" جفن عينيها بقوةٍ وهي تردد بصوتٍ شاحب من بين شهقات بكائها الحارق:
_معقول الشيطان ده يبقى جد "آسر"!..
##
منذ طفولتها اعتادت الذهاب مع والدها إلى الحقول، كانت ترافقه أينما ذهب، ارتباطها به جعلها تشعر بالآمان الذي فقدته، كانت تلك الصغيرة تعتاد على مداعبة والدها الدائمة لها وأخرهما لعبة الاختباء التي كانت وسيلتهما للترفيه، فتلك المرة أرادت"تسنيم" أن لا يتغلب عليها والدها ويجدها بسهولة مثلما يفعل كل مرة، فركضت بعيداً عن الحقول بمسافةٍ كبيرة، ثم اختارت مكان قريب من تلك البحيرة البعيدة عن الحقول، فاختبأت خلف أحد فروع الأشجار الضخمة ثم كبتت أنفاسها بيدها لتضمن الا يصل أييها اليها، وأخذت تراقب الطريق بلهفةٍ وحماس، فزع جسد الصغيرة حينما استمعت لصوت صرخات مكبوتة ومن ثم ضوضاء مخيفة تأتي من الإتجاه المعاكس لها، فاستدارت تجاه ذلك الحقل القريب من تلك البحيرة تتفحص باهتمامٍ مصدر هذا الصوت الغريب، جحظت عين الصغيرة في صدمةٍ حقيقية حينما وجدت امرأة ملقاة أرضاً، ويدها وقدميها مقيدان بحبلٍ غليظ للغاية، ومن خلفها رجل ملامحه محفوظة بذاكرتها لتلك اللحظة، كان يحاول تقيد فمها بقطعة من القماشٍ، وبالفعل تمكن من ذلك، رأته تسنيم يجذبها من خصلات شعرها الأسود كسواد الليل الحالك ثم اخذ يتحدث اليها بغضبٍ بدى على معالم وجهه المقبضة، استغاثت تلك السيدة به بأن يدعها وشأنها، فانتفض جسد تسنيم حينما رأته يجرد تلك المرأة من ثيابها ومن ثم اعتدى عليها بوحشية تامة.
طفلة لا يتعدى عمرها الحادية عشر، تتعرض لمحاولات اعتداء من خالها والآن ترى بعينيها اغتصاب وحشي لإمرأة عاجزة لا حول لها ولا قوة، وكأن العالم القاسي يشعرها بأن تلك المعاملة هي المعتادة بين النساء، ارتجف جسدها الصغير بعنفٍ ويدها تشدد من كبت صرخاتها وبكائها خشية من أن تصدر أي صوتاً قد يعرضها لنفس مصير تلك المرأة الغامضة، نصف ساعة مرت عليها كالنيران التي تنهش قلبها الصغير قبل أن تتمكن من جسدها، رأت ذاك الشيطان بعدما فرغ من أمر تلك المرأة يعقد حجابها الذي دنسه حول رقبتها ثم ازداد من ضغطه عليها حتى استكانت حركتها فأصبحت هادئة لا تعافر ولا تتوسل للنجاة، ليته اكتفى بذلك، بل جرها بقسوةٍ ليلقي بها بتلك البحيرة، ثم مضى بطريقه وكأن شيئاً لم يكن!
تاركاً من خلفه أعين تلك الصغيرة التي اختتم الحادث ذكرياتها فجعلها تعيش اسوء طفولة، بل اصطحبها لتظل تعذب حتى الآن..
عادت من ذكرياتها بدموعٍ تلمع بحدقتيها الخضراء، وكأن بتذكارها لما حدث بتلك الليلة دفعها لعيشها من جديد، لا تعرف من تلك المرأة ولكن من المؤكد بأن أهلها حالهما لا يقل عن حالها، فالجميع ضحايا لذلك الشيطان الذي خيل لها بأنه "وهدان الدهشان"!
***********
الجميع يصرخ ويبكي بشكلٍ جعل هذا الصغير الذي لا يتعدى الخامسة عشر مفزوع يحارب فكرة الخروج لمشاهدة ما يحدث بالخارج، وبعد دقائق من المحاربة انتصر فضوله فخرج يتسلل ليتأمل ما يحدث بالخارج، تصلبت معالمه وجحظت عينيه المتورمة من أثر البكاء اشتياقاً لوالدته المتغيبة منذ الصباح ليجدها الآن ملقاة أرضاً جثة هامدة، ملابسها متمزقة تظهر جسدها بشكلٍ مقبض، حجابها الذي خرجت به بالصباح معقود حول عنقها، والمياه تتساقط منها بغزارة بعدما انتشل احد المزراعين جثمانها من البحيرة....
نهض من نومه مفزوعاً، العرق يتصبب من جسده بغزارة وكأنه كان بسباق حاد، ترك الفراش وهم الاقتراب من البراد الصغير الموضوع لجواره، جذب الزجاجة الباردة ومن ثم تجرع نصفها والقى نصفها الاخر على وجهه، ثم القاها ارضاً وهو يردد بصوت كفحيح الأفاعي السامة:
_نهايتك ونهاية الدهاشنة كلها قربت يا"فهد"، هانت وشرفك هيبقى تحت رجلي...... تحت رجل" أيان المغازي"........
............. يتبع............
الفصل الثالث عشر..
لأول مرة يشعر بالتشتت هكذا، تائه هو بصحراءٍ قاحلة لا يأويها مطر ولا قطرة مياه، يصفع بها ذاته ويعنفها ما بين عتاب ورحمة بما تعرضت له تلك الفتاة، بات قلبه رحيماً بها بعدما كان ناقماً عليها، لا يعلم كم ظل حبيس غرفته منذ أخر لقاء جمعه بها، فبمعرفته الحقيقة تلاقى ضربة عصفت برأسه وقلبه، فتح"بدر" عينيه على مهلٍ وهو يتأمل الحائط الصغير المجاور لباب غرفته، فعاد المشهد ليتجسد أمامه للمرة الثلاثون، عاد ليرى دموعها ويتذكر صراخها وبكائها، لم يحتمل ذاك الالم الغادر الذي يتغلب عليه دون أي شفقة منه على حاله، نهض عن فراشه ومن ثم جذب قميصه ليرتديه على عجلةٍ، ليتجه لغرفتها، ضم يديه معاً ليقربهما من الباب بترددٍ، فالوقت وإن لم يكن متأخر كثيراً ولكنه لا يصح لها الطرق على بابها ليلاً، تراجع عما يهاجمه وكاد بالعودة لغرفته، فتوقف محله بذهولٍ حينما وجد "روجينا" أمامه، انخطف لونها وبات جسدها كالثليج حينما رأته ومع ذلك حافظت على ثباتها، وتقدمت للغرفة، وقف مقابلها وهو يتساءل بحدةٍ:
_كنتِ فين لحد دلوقتي؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ قبل أن تجيبه:
_كنت آآ...
قطعت كلماتها حينما فُتح باب غرفتها، لتظهر "رؤى" من أمامهم ثم اقتحمت حديثهما قائلة بخبثٍ:
_ها يا "روجينا" اتطمنتي عليها؟
تطلعت لها بعدم فهم، فاستكملت الاخرى حديثها مشددة على كلماتها الاخيرة:
_"تقى" بقت كويسة ولا لسه تعبانه؟
استوعبت "روجينا" ما تحاول "رؤى" فعله، فقالت باستيعابٍ:
_آه.. الحمد لله بقت أحسن، اخدت ادويتها ونامت..
أومأت برأسها وهي تشير لها:
_طب الحمد لله، ادخلي يالا.
اتبعتها للداخل و"بدر"يشيعها بنظرةٍ تناست حوارهما وتعمقت ببقبق عينيها الحزين، ود لو ظل عمراً بأكمله يتأملها، ود لو حصل على فرصة الحديث معها على انفرادٍ، يكفي أن يكن على علم بأنه سيحظى بفرصٍ ليصلح خطأ القدر القاسي!
************
فتحت جفنها الثقيل بصعوبةٍ، بعدما شعرت برائحة برفنيوم قوي يعيد ادراكها الحسي، فتحت "تسنيم" عينيها على مهلٍ وهي تحارب ذاك الألم القاتل الذي يحارب رأسها، أخر ما تتذكره رؤياها لصورة تضم رجلين احداهما يخصه ذكريات سيئة تحتفظ بها لنفسها هي، ظنت للحظة أن الماضي يعود للخلف ادارجاً فعاد هذا الرجل ليتجسد من أمامها، شعرت به يقترب ويقترب، فنهضت مرتعبة مما رأته، تلهث من فرط أنفاسها المتقطعة، وجدت من يحتضنها وصوتها الحنون يردد:
_اسم الله عليكي يا بنتي..
ابتعدت عنها وهي تتفحص وجهها بخوفٍ، فهدأت حينما وجدت "رواية" جوارها ومن الجهة الأخرى "ريم" و"نادين"، استقامت بجلستها بحرجٍ مما أصابها، فقالت وهي تهم بارتداء حذائها:
_انا آسفة قلقتكم عليا، أنا مش عارفة أيه اللي حصلي يمكن من السفر وضغط اليوم..
وقفت "ريم" قبالتها ثم قالت بعتابٍ:
_بتتأسفي على أيه يابتي، ده بيتك وانتي زي بناتنا بالظبط، ارتاحي ولما تبقي كويسة ابقى قومي.
ردت عليها بابتسامةٍ صغيرة:
_عارفة والله بس انا لازم ارجع البيت لحسن ماما زمانها قلقانه عليا أوي.
قالت "رواية" بتفهم:
_خلاص يا حبيبتي احنا مش هنضغط عليكي بس على الاقل عم "صابر" يوصلك ونعمة تبقى معاكي عشان نطمن اكتر..
اتسعت ابتسامة "تسنيم" وهي تتأمل تلك المرأة الحنونة، فأجلت صوتها قائلة:
_كنت حاسة إن والدتي جنبي طول الوقت، ولما فتحت عيوني ولقيتك مستغربتش انتي بجد طيبة وأنا حبيتك أوي..
احتضنتها "رواية" وهي تردد بفرحةٍ:
_وأنا والله يا حبيبتي ارتاحتلك جداً.
منحتها ابتسامة صافية، قبل أن تتبع "نعمة" التي سترافقها للمنزل، وقبل أن تغادر الغرفة استدارت لتمنحهم نظرة ممتنة قبل أن تضيف:
_شكراً ليكم على اليوم الجميل ده، عمره بجد ما هيتعوض بالنسبالي.
يكفي الابتسامات الصادقة التي رأتها على وجوههم، فأمسكت يد نعمة لتستند عليها، مروا من الرواق الطويل، ومن ثم اقتربوا من الدرج، وبالأخص المحل الذي فقدت به وعيها، جاهدت "تسنيم" برفع رأسها تجاه تلك الصورة مجدداً، ولكنها لم تستطيع، فاهتز جسدها بعنفٍ شعرت به نعمة فقالت بقلقٍ:
_أنتي كويسة يا حبيبتي، لو لسه تعبانه أدخلي ريحي.
قالت وعينيها مازالت مسلطة على الصورة:
_لا أنا كويسة.
ثم تساءلت بثباتٍ جاهدت للتحلي به:
_هو مين اللي في الصورة ده؟
ليتها كانت تحوي شخصاً واحد لما وضعت بتلك الحيرة التي وضعتها به نعمة حينما قالت:
_ده "وهدان" بيه أبو كبيرنا الله يرحمه ، واللي حداه يبقى ابن عمه "مهران" بيه.
ودت لو سألتها أياً منهما والد "فهد الدهشان" ولكنها خشيت أن يفضح أمر اهتمامها بمعرفة أدق التفاصيل الخاصة بهما، فاتبعتها للأسفل وعقلها وذهنها متعلق بتلك الصورة البشعة التي لن تنساها مهما مرت الأعوام، انتبهت من غفلتها على السيارة السوداء المصفوفة أمام البوابة الخارجية، فاتبعت "نعمة" ثم كادت بالصعود ولكنها توقفت حينما استمعت لصوت تطرب آذنيها لسماعه، فبات المحبب والمقرب إليها، حينما نادها قائلاً:
_"تسنيم".. أنتي كويسة؟
استدارت للخلف فوجدته يقف مقابلها، الخوف والإهتمام يسود حدقتي عينيه، ود لو تمكن من البقاء بالغرفة لحين إستعادتها للوعي، ولكن هنا العادات والتقاليد تضع الف حاجز أخلاقي لا يتعداه كبيراً ولا صغيراً، النظرات كانت تتحدث لبعضها البعض رغم دهشة السائق والخادمة من صمتهما، فقررت "تسنيم" قطعه حينما قالت بارتباكٍ:
_الحمد لله بقيت أحسن..
ثم قالت بحرجٍ:
_آسفة اني قلقتكم عليا.
قال بلهفةٍ:
_المهم انك بقيتي بخير، ممكن نطلب الدكتورة لو لسه حاسة نفسك تعبانة.
نفت اقتراحه بلطفٍ:
_لا مالوش داعي انا فعلاً بقيت كويسة.
ثم تحملت على يد نعمة قائلة بإبتسامةٍ صغيرة:
_عن إذن حضرتك..
وصعدت للسيارة وعينيها مازالت تودعه بنظرات تخطفها بين الحين والآخر، غادرت السيارة وبقى هو من خلفها يتأملها حتى اختفت من أمامه، فاستدار ليعود للمنزل فتفاجئ بأبيه يقف بالشرفة العلوية للمنزل ويراقبه بنظراتٍ خبيثة، اتبعتها اشارة له بالصعود بالحال..
*********
كالتائه هو لم يعد يعلم ماذا يريد قلبه؟ ، شغل تفكيره قلقه الزائد عليها، نعم هي بالنهاية ابنة عمه ولكنه يشعر بأن ما بداخله ليس مجرد خوف طبيعي، هناك أمراً يتجاهله عمداً، ربما يخشى التفكير به، فكيف سيفعلها وهي لا تحل له!
من المفترض به أن يفكر بمن ستكون قسمتها به، ولكنه في كل مرة يجد نفسه يفكر بها هي.. "حور" اسمها يتردد بأعماق قلبه وكأنه يعرفها جيداً، ليت قلبه يستوعب بأنه ليس من المنطقي الوقوع في حب فتاة أخرى غير خطيبته، خرج "أحمد" لشرفته عل الهواء النقي يزيل همومه، فردد بصوتٍ مهموم:
_لا مستحيل أكون بحبها!
********
صعد "آسر" للأعلى، ثم طرق باب الغرفة فولج حينما استمع إذن الدخول، أغلق الباب من خلفه واقترب من "فهد" ثم قال:
_خير يا كبيرنا.
تطلع له بنظرةٍ ثاقبة،طوفته من رأسه حتى أخمص قدميه، والاخر يترقب سماع ما سيقول، فطوى صوته الرخيم صفحات الصمت حينما قال:
_تعالى اهنه وأقف جدامي.
انصاع له "آسر" وإقترب حتى أصبح قبالته، يتمعن له باهتمامٍ أحاط به فور رؤية جديته الصارمة، درس "فهد" عين ابنه جيداً قبل أن يطرح سؤاله الذي حصد على اجابته من قبل أن يخبره به، فقال:
_قولي بقا أيه حكايتك مع الموظفة دي.
بلل شفتيه بلعابه وهو يجيبه:
_حكاية أيه يابوي!
ابتسامة صغيرة ظهرت على جانبي شفتيه قبل أن يردد:
_فاكر أبوك اهبل إياك!
رد سريعاً:
_العفو... أنا بس مش عارف أيه اللي وصل لحضرتك.
طالت بتأمله وملامحه ثابتة دون ان تفشي شيئاً، ففاجئه حينما رفع يديه على كتفيه ليخبره بحنانٍ:
_أني مبنصبلكش محكمة يا ولدي، الموضوع وما فيه إني عايز أفرح بيك أني وأمك، وبصريح العبارة اكده البت عاجبه أمك وشكلها كده عجباك أنت كمان.
ابتسم وهو يجيبه بمكرٍ:
_من نحية عجباني فهي عجباني، يعني حلوة ومحترمة وبنت ناس...لكن الموضوع موصلش للحب والكلام ده،يمكن اعجاب بالبداية لاني على اقتناع تام أن الحب بيجي من العشرة بين الزوجين زيك كده أنت ووالدتي.
أنصت "فهد" لتحليله بنظرةٍ فخر كونه نجح في زرع بعض السمات الطيبة بابنه الوحيد ومن ثم قال بصرامةٍ:
_السبوع الجاي هنروح نطلبها من أبوها.
رفع حاجبيه باستنكارٍ:
_بالسرعة دي!.
خلع العمة التي تضيق برأسه بعد يوماً جاد، ثم قال بحزمٍ دون أن يتطلع له:
_روح نام عشان ورانا مشاغل كتير بكره.
علم بأنه تلاقى الكلمة الاخيرة فلم يعد يملك الحق للحديث بذاك الامر، فابتسم بفرحةٍ لذاك النبأ العظيم..
**********
اشتاق كلاً منهن لتلك الجلسة السرية التي تعد حدث هام للحديث عما مضى من حياتهن وصحبتهن التي دامت لأكثر من ثلاثون عاماً، فقالت "نادين" بمرحٍ:
_أنا مش خايفة من اني اكبر بالسن، الخوف لما تلاقي العيال داخلة عليكي ويقولولك عايزين نتجوز وهب دب تلاقي عيل سقيل بيقولك تيتا كده يبقى كبرنا رسمي نصبي فهمي.
تعالت ضحكات "رواية" و"ريم" على تفكيرها الأحمق، فقالت "ريم":
_مفيش فايدة فيكي والله عمرك ما هتتغيري، أني مش عارفة ربنا صبر"سليم" عليكي المدة دي كلتها ازاي..
لم تفهم مغزى كلماتها الا حينما استرسلت "نواره" ما بدأته "ريم":
_أه والله معكي حق، أني قولت سليم اكيد هيعملها وهيتجوز عليها بس باينه واقع لشوشته.
لكزتها بغضبٍ فتعالت الضحكات فيما بينهما، فقالت بسخريةٍ:
_يقدر يعملها كنت قتلته..
وبغرورٍ مرح قالت:
_انتي متعرفيش يا صعيدية منك ليها القاهروية تقدر تعمل ايه واديكم شوفتوا اللي حصل مع فهد ورواية زمان، وازاي اتراجع على اخر لحظة وكسر كلام كبار البلد كلها عشان"رواية".
فور تذكر هذا الحادث المسجل بتاريخ الدهاشنة، تطلعوا جميعاً بابتسامة حالمة لرواية التي بادلتهن الابتسامة حينما تذكرت ذاك اليوم الذي لا ينسى، اضافت" ريم" بجدية:
_الحمد لله ان فهد فاق، ولولا برضه ان عمي مهران اتجوز البنت مكنش الموضوع هيتحل بين العيلتين ولا كان اتضح ان اللي قتل عمي "وهدان" الله يرحمه يبقى من المغازيه مش من عيلة البنت دي.
رددت نواره بحزنٍ:
_ربنا جبر بخاطرها واهي عايشه معاه الوقتي مرتاحة ومعاها واد وبت،اللي شافته كان صعب جوزها الاولني يموت بعد الفرح بشهور وجوازتها التانيه تتفشكل وتتجوز راجل كبير اد ابوها..
ردت عليها ريم:
_مهي لو مكنتش اتجوزته يا نواره كان اهل البلد مبطلوش في سيرتها واللي استغربته ان فهد مفكرش بالنقطة دي.
ثم تطلعت لرواية وابتسمت وهي تستطرد:
_مهمهوش غير حبيبة الجلب.
اصطبغ وجه "رواية" بحمرة الخجل، من حديثهما الذي يعيد ذكريات حبها من جديد، فخشيت ان يفضحها خجلها فيجعلها كالمرهقة من أمامهم، لذا استأذنت وتوجهت لجناحها فما أن ولجت للداخل حتى خرجت لشرفتها، واختارت الجلوس على أقرب اريكة لترفرف بذكريات الماضي الحالم...
##
_أنا مش مجبرة أفضل هنا أنت سامع ولا لا!
قالت كلماتها المتعصبة وهي تضع ثيابها بحقيبة السفر الكبيرة، ثم عادت لتجذب متعلقاتها الشخصية، فأتى من خلفها ليلقي بالحقيبة أرضا وهو يصيح بعصبيةٍ تامة:
_يوووه احنا اتكلمنا بالموضوع ده كام مرة يا رواية حاولي تفهمي وتقدري الوضع اللي انا فيه ؟
ابتسامة منكسرة ارتمست على وجهها المتورم من أثر البكاء، اتبعها صوت موجوع:
_أنا فعلاً مش فاهمه ولا عايزة أفهم، اخرج من هنا يا فهد، انزل لعروستك وسيبني لحالي.
جذبها من مرفقها ثم قربها اليه وهو يردد بصدمةٍ:
_حالك!!... أنا حالك، راح فين حبك ليا؟ ، كنتي دايماً بتقوليلي انك هتفضلي جنبي وعمرك ما هتتخلي عني ودلوقتي عايزة تسيبني يا رواية؟
انهمرت الدموع التي احتجزتها اطول وقت تمكنت منه، فرفعت عينيها تجاهه ثم قالت بوجعٍ شق صدره:
_طول عمري وانا جنبك ومعاك يا فهد، بس المرادي لا، مش هقدر أكون جنبك وأنت بتسن السكينة وبتدبحني بدم بارد، آسفة مش هقدر أساندك وانت بتدوس على قلبي وبتكسر كل حاجة حلوة اتولدت جوايا ليك..
قرب يديه ليحتضن وجهها، فأزاح دمعاتها بيديه معاً، فتحررت أحباله الصوتية الغليظة:
_أنا بكسر قلبي قبل ما بكسرك يا رواية، صدقيني أنا مجبور أعمل كده، الست دي انا كنت السبب في موت جوزها وانتي عارفة الناس هنا مبترحمش.
صرخت به بصوتٍ متقطع:
_ومفيش عوض ليها غير انك تتجوزها!
اغلق عينيه بقوةٍ يجاهد بها بالتحلي بثباته ومن ثم قال بصلابةٍ:
_الكلام معتش له لازمة يا رواية الفرح النهاردة والمأذون تحت!
انسدلت دمعاتها دون توقف مع سماع اخر كلماته، فتمسكت بيديه التي تحتضن يدها ثم رددت ببكاءٍ:
_لسه في فرصة يا فهد، أنا مقدرش أعيش من غيرك ولا أتخيلك مع واحدة غيري، انا عارفة انك بتحبني بس انت لازم تثبتلي ده، تعالى ناخد آسر وروجينا ونمشي من هنا..
سحب يديه المحتضنة لوجهها وهو يطالعها بصدمةٍ:
_أهرب يعني!!..انتي متخيلة اللي بتقوليه يا رواية، شايفاني عيل بيغلط ويهرب من غلطه! .... عايزاني اصغر جدي وكبار العيلة؟
اطبقت على معصمها بغلٍ، ففاض بها الصمت لتصرخ بصوتها المذبوح:
_لا انزل واتجوز وافرح بس خليك متأكد ان بمجرد ما توقع على القسيمة هتكون بكده خسرتني انا وعيالك يا فهد..
وجذبت الحقيبة الملقاة ارضاً ومن ثم اعادت وضع الملابس امام عينيه ثم غادرت لغرفة ابنائها، فما ان ولجت للداخل حتى سمحت لذاتها بالانهيار حينما استمعت لخطوات قدميه التي تهبط الدرج، ففتحت ذراعيها لمن يراقبها بخوفٍ، فهرع الصغار الى حضنها، لتهمس روجينا بطفوليةٍ:
_بتعيطي ليه يا ماما، بابا زعلك صح؟
ابعدتها عنها بحنانٍ ثم عبثت بخصلات شعرها الحريري وهي تردد بانكسار:
_لا يا روحي انا زعلانه لان بابا مشغول ومش هيعرف يسافر معانا.
ضيق آسر عينيه بضيقٍ:
_وهو احنا لازم نسافر يا ماما؟
انفلتت دمعاتها فاحتضنت الصغير وهي تردد بوجعٍ يعصف بصدرها:
_ايوه يا حبيبي.
ثم مسحت دمعاتها وابعدتهما عنها، لتشير لهما بابتسامة مصطنعة:
_يلا عشان منتاخرش.
وحملت الصغيرة ثم تمسكت بيديه ليغادر المنزل سوياً، وكلاً من به لا يملك الجرأة لإيقافها، خرجت للحديقة الامامية واتبعت طريقها نحو الخروج بقلبٍ متصلب يأبي الابتعاد عن معشوقه حتى وإن عاش بعيداً ولكن تحت سقف منزل واحد، توقفت عن المضي قدماً حينما وجدت ذاتها تمر من أمام المخيم الذي يضم المأذون والرجال، فوجدته يجلس على الطاولة من جواره، تعلقت أعينها به مطولاً وكأنها تبحث بتلك الأعين عن الإنسان الذي عشقته بجنون، تعلم بأن تلك المنطقة باتت محظورة بذاك الزفاف لانها تخص الرجال فقط، ولكن لا طريق للخروج سواه، تعلقت اعين الجميع بها وعلى ما بدى لهما بانها تغادر زوجها في ليلة زفافه اعتراضاً عليه، كانت خطوة جريئة لم تمتلكها البعض في مثل ذاك المجتمع الذي يجبر النساء على العيش لأجل تربية الابناء، فأغلبهن يرضى بالذل والمهانة لاجل الصغار وبعضهن يقبلن بالزوجة الثانية في سبيل الحفاظ على الزواج الغير متكامل من الاساس!
أطبقت "رواية" أصابعها على يد آسر ومن ثم استكملت طريقها للخارج، وكأن بخطاها الذي يبتعد عنه رويداً رويداً كان كالسوط الذي جلد روحه قبل ان يوقظ قلبه الذي يئن لاجل كل قطرة تسقط من عينيها، ترك القلم الذي كاد بأن يدمر به حياته ليسقط من يديه، ومن ثم ابعد الطاولة لينهض بكل عزم وهو يردد بصوتٍ وصل لمسمعها رغم ابتعادها عنه:
_الجوازة دي مستحيل هتم واللي يحصل يحصل.
تصنمت محلها، فحاولت انعاش رئتيها بالهواء ثم قرصت ذاتها وكأنها تحاول إن تثبت لذاتها بانها لا تتوهم، فاستدارت لتجده يقف وسط الرجال وهو يستكمل حديثه بشجاعة:
_انا ممكن اكون السبب في اللي هي فيه بس انا مقصدتش اقتل جوزها، وكمان ميرضيش ربنا اني عشان ارجعلها حياتها اقوم اخرب بيتي بايدي!
واستكمل بصرامةٍ:
_انا ممكت اعوضها بالفلوس او أي حاجة بعيد عن اني اتجوزها وادمر عيلتي، ده اخر كلام عندي.
اغلقت عينيها بقوةٍ وهي تستمع اخر كلماته، فابتسمت براحةٍ بعد عناء حاولت به أن توصله لتلك المرحلة وها قد تخطاها، لم تجد اي شيء تفعله بذاك الوقت الا الاقتراب منه مثلما كان يقترب منها، فاحتضنته دون أن تعبئ بعدد الرجال من حولها، احتضنته وشهقات بكائها مزقت القلوب من حولها، لم تعد قادرة على الصمود أكثر من ذلك، فالحرب التي خاصتها فتكت بقلبها وطاقتها، فهمست جوار اذنيه ببكاءٍ يحمل نبرة توسل من الاعين التي تتربص بها :
_خدني من هنا يا "فهد".
لم يتردد ثانية واحدة، فحملها وصعد بها لمنزلها مرة اخرى ومن خلفه اتبعه آسر وروجينا، وعلمت بعد ذلك بأن عمه" مهران" تزوج بتلك الفتاة وقد انتهت العداوة التي كادت بأن تتعمق بين العائلتين لتصبح أكثر حدة بينهما وبين المغازية لسببٍ لا يعلمه الكثير!
********
وأخيراً حظيت ببعض الراحة بعدما أنهت والدتها تحقيقاتها حول تأخرها بثرايا "الدهاشنة"، هي الآن بمفردها تسترجع تلك الذكرى المؤلمة التي باتت متعلقة بطفولتها، أغلقت"تسنيم" جفن عينيها بقوةٍ وهي تردد بصوتٍ شاحب من بين شهقات بكائها الحارق:
_معقول الشيطان ده يبقى جد "آسر"!..
##
منذ طفولتها اعتادت الذهاب مع والدها إلى الحقول، كانت ترافقه أينما ذهب، ارتباطها به جعلها تشعر بالآمان الذي فقدته، كانت تلك الصغيرة تعتاد على مداعبة والدها الدائمة لها وأخرهما لعبة الاختباء التي كانت وسيلتهما للترفيه، فتلك المرة أرادت"تسنيم" أن لا يتغلب عليها والدها ويجدها بسهولة مثلما يفعل كل مرة، فركضت بعيداً عن الحقول بمسافةٍ كبيرة، ثم اختارت مكان قريب من تلك البحيرة البعيدة عن الحقول، فاختبأت خلف أحد فروع الأشجار الضخمة ثم كبتت أنفاسها بيدها لتضمن الا يصل أييها اليها، وأخذت تراقب الطريق بلهفةٍ وحماس، فزع جسد الصغيرة حينما استمعت لصوت صرخات مكبوتة ومن ثم ضوضاء مخيفة تأتي من الإتجاه المعاكس لها، فاستدارت تجاه ذلك الحقل القريب من تلك البحيرة تتفحص باهتمامٍ مصدر هذا الصوت الغريب، جحظت عين الصغيرة في صدمةٍ حقيقية حينما وجدت امرأة ملقاة أرضاً، ويدها وقدميها مقيدان بحبلٍ غليظ للغاية، ومن خلفها رجل ملامحه محفوظة بذاكرتها لتلك اللحظة، كان يحاول تقيد فمها بقطعة من القماشٍ، وبالفعل تمكن من ذلك، رأته تسنيم يجذبها من خصلات شعرها الأسود كسواد الليل الحالك ثم اخذ يتحدث اليها بغضبٍ بدى على معالم وجهه المقبضة، استغاثت تلك السيدة به بأن يدعها وشأنها، فانتفض جسد تسنيم حينما رأته يجرد تلك المرأة من ثيابها ومن ثم اعتدى عليها بوحشية تامة.
طفلة لا يتعدى عمرها الحادية عشر، تتعرض لمحاولات اعتداء من خالها والآن ترى بعينيها اغتصاب وحشي لإمرأة عاجزة لا حول لها ولا قوة، وكأن العالم القاسي يشعرها بأن تلك المعاملة هي المعتادة بين النساء، ارتجف جسدها الصغير بعنفٍ ويدها تشدد من كبت صرخاتها وبكائها خشية من أن تصدر أي صوتاً قد يعرضها لنفس مصير تلك المرأة الغامضة، نصف ساعة مرت عليها كالنيران التي تنهش قلبها الصغير قبل أن تتمكن من جسدها، رأت ذاك الشيطان بعدما فرغ من أمر تلك المرأة يعقد حجابها الذي دنسه حول رقبتها ثم ازداد من ضغطه عليها حتى استكانت حركتها فأصبحت هادئة لا تعافر ولا تتوسل للنجاة، ليته اكتفى بذلك، بل جرها بقسوةٍ ليلقي بها بتلك البحيرة، ثم مضى بطريقه وكأن شيئاً لم يكن!
تاركاً من خلفه أعين تلك الصغيرة التي اختتم الحادث ذكرياتها فجعلها تعيش اسوء طفولة، بل اصطحبها لتظل تعذب حتى الآن..
عادت من ذكرياتها بدموعٍ تلمع بحدقتيها الخضراء، وكأن بتذكارها لما حدث بتلك الليلة دفعها لعيشها من جديد، لا تعرف من تلك المرأة ولكن من المؤكد بأن أهلها حالهما لا يقل عن حالها، فالجميع ضحايا لذلك الشيطان الذي خيل لها بأنه "وهدان الدهشان"!
***********
الجميع يصرخ ويبكي بشكلٍ جعل هذا الصغير الذي لا يتعدى الخامسة عشر مفزوع يحارب فكرة الخروج لمشاهدة ما يحدث بالخارج، وبعد دقائق من المحاربة انتصر فضوله فخرج يتسلل ليتأمل ما يحدث بالخارج، تصلبت معالمه وجحظت عينيه المتورمة من أثر البكاء اشتياقاً لوالدته المتغيبة منذ الصباح ليجدها الآن ملقاة أرضاً جثة هامدة، ملابسها متمزقة تظهر جسدها بشكلٍ مقبض، حجابها الذي خرجت به بالصباح معقود حول عنقها، والمياه تتساقط منها بغزارة بعدما انتشل احد المزراعين جثمانها من البحيرة....
نهض من نومه مفزوعاً، العرق يتصبب من جسده بغزارة وكأنه كان بسباق حاد، ترك الفراش وهم الاقتراب من البراد الصغير الموضوع لجواره، جذب الزجاجة الباردة ومن ثم تجرع نصفها والقى نصفها الاخر على وجهه، ثم القاها ارضاً وهو يردد بصوت كفحيح الأفاعي السامة:
_نهايتك ونهاية الدهاشنة كلها قربت يا"فهد"، هانت وشرفك هيبقى تحت رجلي...... تحت رجل" أيان المغازي"........
............. يتبع............
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الرابع عشر
الدهاشنة2... (صراع السلطة والكبرياء...)
الفصل الرابع عشر...
غاب الظلام عن هذا الليل الذي طالت أحداثه، وسطعت شمس يوماً جديد يصطحب أشعتها بين يديه لتشرق بضيائها المعتاد، فنسخت من خيوطها نقطة التقاء مع أمواج البحر الزرقاء في منظر تقشعر له الأبدان، فراقبها من يتمدد على المقعد المسطح من أمامه بأعينٍ قاتمة خالية من الحياة، يصعب ذاك المنظر النابض بالنشاط والحيوية أن يمس عتمة قلبه بشيءٍ، وكأنه كان ينتظر الصباح ليتمكن من الاتصال بها، فجذب هاتفه ومن ثم مرر اتصالاً هاتفياً يجمعه بها، دقيقة وأتاه صوتها المتوتر حينما قالت باستغرابٍ:
_"أيان"!
بسمة مغترة تسللت على شفتيه الغليظة، ومن ثم تمرد صوته المحتبس ليجيبها بخبثٍ:
_مستغربتش إنك محتفظة برقمي على موبيلك.
غاب عنه صوتها وكأنه لمس حالة الإرتباك التي ابتلعتها، فصمت هو الأخير لقليل من الوقت وعاد ليسترسل قائلاً:
_أنا على البلاچ.. هستانكي.
وأغلق الهاتف دون أن يستمع لردها على إقتراحه المقدم، ثم اقترب ليقف أمام المياه واضعاً كلتا يديه بجيوب سرواله القصير، ليتأمل المياه الساكنة بنظراتٍ شاردة تسرد له بعض الكلمات التي كانت تختصه بها خالته حتى لا ينسى الماضي.
«وهدان الدهشان هو اللي إغتصب أمك وقتلها...»
«تارنا منتهاش بموته تارنا مع عيلة الدهاشنة كلتها لازمن يدوقوا الذل والعار اللي هما كان السبب فيه، دهرهم لازمن ينكسر العمر كله ..»..
_"أيان"!
نادته "روجينا" أكثر من مرةٍ وهو ساكن لا يجيبها، فاقتربت منه ثم قربت يدها من ذراعيه بترددٍ لتناديه بارتباكٍ:
_"أيان".
سلطت نظراته عليها لدقيقة كاملة، استطاع بها رؤية ذاك الإرتباك النابض بين حدقتها، كان من الممتع له أن يرى حبها الأهوج يرفرف كرأية الاستسلام بعينيها، خرج عن صمته المطول بتأملها حينما قال وعينيه تتعمق بالتطلع لعينيها:
_النهاردة أخر يوم في رحلتك وأكيد مش هنقدر نشوف بعض تاني.
تلألأت الدموع بعينيها، فاستكمل بنظرةٍ جريئة تغلغلت لأعماقها:
_ممكن يكون اللي حصل معاكِ غريب بس بالنسبالي لا، الحب مش بالعشرة ولا بفترة تعارف، الحب نظرة وبعدها دقة قلب مضطربة بتهمس لصاحبها إن في شيء غريب بيجمعه بالشخص ده أو هيجمعه بيه..
ورفع يديه ليضعها على خديها وهي تتابعه بصدمةٍ وعدم استيعاب:
_اللي انتي حسيتي بيه نحيتي ده حب يا روجينا، بس للأسف مش ممكن يستمر لأن العلاقة دي مستحيل تكمل.
وتركها ثم ابتعد عنها، متخذ وجهة الرحيل، فركضت خلفه وهي تتساءل بعدم فهم:
_ليه مش ممكن يكمل، أنا ممكن أسيب خطيبي..
توقف عن المضي قدماً ثم استدار ليمنحها ابتسامة ساخرة، اتبعها قوله الصادم:
_اللي بينا صعب بالدرجة اللي تخلي مستحيل حد يقبل بالعلاقة اللي ممكن تجمعنا.
رفعت حاجبيها وهي تتساءل بدهشةٍ:
_أنت تقصد أيه؟
أطال التطلع لها، ثم شدد على كل كلمة تخرج على لسانه:
_أنا إسمي "أيان المغازي" يا روجينا، يعني من عيلة المغازية إن مكنتش أساسها وعمودها..
قالت بتشتتٍ:
_وفيها أيه؟
كان متفاجئ بعدم معرفتها بما يخص عائلته، ولكن هذا لن يخمد نيران ثورته المشتعلة، عليه أن يخطو تلك الخطوة التي رسمها بخطته ليضمن نجاح ما يود فعله، فقال بغموضٍ:
_إسألي حد من عيلتك أيه اللي بين "الدهاشنة" و"المغازية".
وتركها وغادر ولكن تلك المرة لم يستدير للخلف، شعرت بأن هناك أمراً كارثي يضم العائلتين، فانهمرت الدمعات على وجنتها، جلست "روجينا" على أقرب مقعد قريب منها وهي تحاول استيعاب تلك الصدمات التي تتعرض لها، من سيصدق ما تمر به؟
اي عاقل هذا الذي قد يؤمن بما تعتقده هي، أتت الى هنا برحلة ترفهية لتلتقي بهذا الشخص الغامض، الذي استولى على قلبها منذ أول لقاء في حين أنها مضت أعوام بجوار "أحمد" صديق طفولتها ومن المفترض بأنه سيصبح زوجها لذا كان عليها ان تحبه هو بدل عن هذا الذي مر بحياتها كظهور ضيوف الشرف بعمل مكتمل أبطاله، ولكنها تجد ذاتها منجذبة اليه بشكلٍ لم تجد له تفسيراً أو تجده منطقي!
*********
شعرت بيديه اللعينة تلامس جسدها بتماديٍ، كادت بالصراخ ولكن فمها مقيد بإحكامٍ، فتحت "تسنيم" عينيها بفزعٍ وهي تجذب الغطاء على جسدها ومن ثم طوفت بنظراتها المرتعبة الغرفة، بحثت بكل إنشن بها فما أن تأكدت بأنها مجرد أوهام تهاجمها التقطت انفاسها الثقيلة بصورةٍ مسموعة، فلم تستطيع بتلك اللحظة أن توقف دموعها التي هبطت كشلال جف من فرط أحزانه، فجذبت هاتفها لتبحث عن رقم رفيقتها وما ان استمعت لصوتها حتى رددت ببكاءٍ:
_"حور"..أنا مش قادرة أفضل هنا معاه في بيت واحد.
أجابتها رفيقتها بحزنٍ:
_متضغطيش على نفسك يا "تسنيم"، إتحججي بالمذكرة والامتحانات وانزلي القاهرة في أقرب وقت.
بدى لها بأن صوتها متغير على غير عادتها، فتساءلت بقلقٍ:
_ماله صوتك، أنتي فيكي أيه؟
ابتسمت وهي تعلم بأنها ستكشف أمرها مهما حاولت ان تصطنع صوتها المصطنع، فقالت:
_مفيش والله يا حبيبتي، أنا بس غصب عني وقعت الشاي السخن عليا بس الحمد لله مفيش غير رجلي وايدي اللي اتحرقت وحرق بسيط وهيروح مع الادوية ان شاء الله..
هلع قلبها لسماع ما قالته، فصرخت بها بعتابٍ:
_كل ده حصل معاكي ومتقوليليش!
=يا تسنيم الموضوع بسيط وبعدين كفايا الضغط النفسي اللي انتي فيه.
_أنا مش عايزة اسمع مبرر ممكن يعصبني اكتر، أنا هسافرلك النهاردة بإذن الله..
وأغلقت الهاتف سريعاً ومن ثم نهضت، لتجذب حقيبتها ثم اعدتها، ولجت والدتها بتلك اللحظة لتخبرها بصوتها المرتفع:
_يا تسنيم بنادي عليكي من الصبح يا بنتي، يالا الفطار جاهز.
انعقد حاجبيها بذهولٍ حينما رأته تعد حقيبتها، فقالت باستغرابٍ:
_أنتي بتعملي أيه؟!
حملت بعض الثياب ثم وضعتها بالحقيبة وهي تجيبها:
_لازم انزل القاهرة حالا.
اقتربت منها ثم قالت بصدمةٍ:
_انتي لحقتي! ، وبعدين لسه على امتحاناتك اسبوع بحاله!
قالت والدموع تسبقها:
_" حور" الشاي وقع عليها وحرق ايدها ورجلها لازم انزل عشان اطمن عليها..
لطمت على صدرها بفزعٍ:
_يا خبر، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم...
ثم استرسلت بسؤالها المتلهف:
_ طب طمنيني يا بنتي هي عاملة ايه الوقتي.
قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة:
_معرفش يا ماما لما هروح هبقى أطمنك بالتليفون.
أجابتها بتفهمٍ:
_ماشي يا حبيبتي، ومتقلقيش عليها ان شاء الله هتبقى كويسة.
تعلم جيداً ماذا تعنى حور بالنسبة لابنتها، الصداقة التي استمرت لثمانية عشر عاماً تجعل من حولها يكن لهما احتراماً وتفهم لمشاعر الخوف والقلق لكلاً منهن، ارتدت "تسنيم" ثيابها ثم جلست على المقعد وهي تتحدث لذاتها بتوترٍ:
_طب المفروض دلوقتي أعرف بشمنهدس آسر أني نازلة القاهرة ولا أعمل أيه؟!..
ثم عادت لتردد:
_مهو أكيد لازم يعرف عشان يتابع شغله بنفسه أو جايز يكون عايز يبعت معايا حاجة لمصطفى السكرتير، اعمل ايه بس يا ربي!
لم تجد حل يخرجها من تفكيرها العميق سوى الذهاب إليه لتخبره بأمر رحيلها، ولتكن صادقة مع نفسها كان هناك شيئاً بداخلها يشجعها على قرار الذهاب لتتمكن من رؤيته، فبرؤياه تشعر بأمان تفتقده حتى وهي وسط عائلتها والأغرب بأنها باتت تؤمن بذلك!
********
كان من الصعب أن تظل معه بغرفته كسابق، وهو يعلم ذلك جيداً ولم يشعر بالضجر لذلك، يكفي انها تقبلت وجوده لجوارها من جديد، وبالرغم من ذلك شدد "يحيى" بتعليماته على "الهام" بمراقبة "ماسة" جيداً، فما يساور شكوكه جعله يفارق النوم طوال الليل حتى الصباح، خرج "يحيى" من غرفته ثم طرق على غرفتها ففتحت الخادمة، لتواجه صوته المضطرب:
_"ماسة"كويسة؟
إن تكن تشعر بالغرابة لإهتمامه الزائد بحالتها ولكنها أجابته باحترامٍ:
_كويسة، بحضرلها الحمام وخارجة.
أومأ برأسه بتفهمٍ، ثم عاد ليجلس بالخارج ينتظرها، دقائق محدودة واستمع لدقات قدميها السريعة تقترب منه، فسلطت نظراته تجاه تلك الفاتنة التي تقترب منه بفستانها الأزرق الطويل، وخصلات شعرها التي تتدلى من خلفها بإنسيابٍ، للحظة ظنها زوجته التي فقدها منذ أعوام ولكن حينما هزت رأسها وهي تحدثه بطفولة جعلته يعد لأرض واقعه سريعاً:
_هنخرج تاني يا "يحيى"؟
ابتسم وهو يمسك يدها ليخطو بها تجاه الطاولة التي تضم طعام الفطور والعصائر الطبيعية، ثم جاوبها ويديه تلامس تلك الخصلة المتمردة على عينيها:
_لا يا روح قلب يحيى، أنا لازم انزل المصنع النهاردة لكن بكره إن شاء الله هنخرج.
أدلت شفتيها السفلية بحزنٍ، ومن ثم رددت باستياءٍ:
_وعد؟
قال بتأكيدٍ:
_وعد يا روحي، يالا بقا إفطري عشان تاخدي أدويتك.
هزت رأسها باستسلام ومن ثم التقطت الخبز لتغمسه بالعسل الابيض كما تعشقه، لتتذوقه بابتسامةٍ هادئة، جعلت الراحة تتسلل لأعماقه فذهبت شكوكه للجحيم، وبات الامر منطقي بالنسبة اليه فإن ما حدث لها من دوار وتقيء كان عائد للأرجيحة التي صعدت لمتنها.
********
رائحة الشاي الساخن عبقت المنزل لتناشد ذاك الصباح النشيط، وخاصة على الطاولة العتيقة المطولة، جلست العائلة تتناول الطعام بجوٍ من السكينة والهدوء، حرصت"رواية" على اعداد كوب القهوة لزوجها ومن ثم جلست على مقربةٍ منه لتستكمل طعامها، فسألها "عمر" وهو يبحث بين الوجوه باستغرابٍ:
_أمال فين "آسر"؟
ردت عليه بضيقٍ شديد:
_بالاسطبل، مش بيتحرك من هناك خالص يا"عمر" ومفيش فايدة من الكلام معاه.
تدخل "فهد" بالحديث قائلاً:
_همليه يقعد مكان مهو حابب ده مضيقك في أيه؟
استدارت تجاهه ثم قالت بعدم تصديق لسؤاله الذي بدى لها غريباً:
_مضايقني طبعاً، مهو أغلب وقته بعيد عني حتى لما يجي هنا مستكتر يقعد معايا.
ابتسم "سليم" وهو يخبرها:
_كلتها أيام وكلهم هتلاقيهم اهنه يا مرت أخوي.
همست بحنين:
_يارب يعدوا بسرعة نفسي أشوف "روجينا" وحشتني اوي..
قطع الحديث المتبادل بينهما صوت "نادين" الباكي، وهي تهم بالهبوط للاسفل مسرعة حتى كادت أن تتعثر، وصوتها يرتفع بندائه:
_"سليـــــــم".
انقبض قلبه وهو يراها بتلك الحالة التي بدت صدمة للجميع الذي اعتاد رؤية الابتسامة لا تفارق وجهها، نهض "سليم" عن الطاولة ثم أسرع بالاقتراب منها متسائلا بلهفةٍ:
_في أيه يا نادين؟
قالت والدموع تلاحق صوتها المذبذب:
_انا لازم انزل القاهرة حالا، الشاي وقع على ايد حور وحرقها..
أمسك بيدها وهو يهدء من روعها قائلاً:
_يحيى طمني وقالي اصابة بسيطة متقلقيش نفسك.
هزت رأسها بالرفض وهي تردد بإصرار:
_انا لازم اشوفها واطمن عليها بنفسي مش هستنى لأخر الاسبوع لما تيجي..
ربتت "ريم" على ظهرها وهي تخبرها بحزنٍ:
_طب اهدي بس يا نادين، لو كانت حاجة كبيرة لا سمح الله كان زمان أحمد أو بدر اتصل وقالنا، هتلاقي الموضوع بسيط.
هزت رأسها بانفعالٍ، فنهض "فهد" عن الطاولة ثم قال بثباتٍ:
_خد مرتك وانزل مصر يا "سليم"، مش هترتاح غير لما تطمن عليها..
أومأ برأسه ثم دفعها برفقٍ لتمضي معه للأعلى ليستعد كلاً منهما للسفر، فاقتربت" رواية" منه ثم قالت:
_هنزل معاهم يا "فهد" عشان اطمن على روجينا ورؤى وريناد..
أجابها بصوتٍ منخفض بعض الشيء:
_روجينا ورؤى بسكندرية تبع جامعتها..
عقدت حاجبيها باستغرابٍ:
_وأنا معرفش ليه!
حدجها بنظرةٍ مطولة أنهاها ساخراً:
_والله أسألي بنتك..
وتركها وصعد للأعلى والأخرى تقف محلها يكاد الحزن يقتلها، مازالت تعاقبها بالابتعاد عنها، فحينما تراسلها لا تجيبها أبداً، تخفت رواية عن الاعين حتى لا يرى أحداً دمعاتها، ولكنها لم تشعر بنواره التي تلاحقها، حتى أصبحوا منفردين بالغرفة، فقالت بحزنٍ:
_مالك يا "رواية" انتي كمان؟
وكأنها كانت بحاجة للحديث، فقالت بانكسارٍ:
_مش عارفة بنتي لسه بتعاقبني على أيه يا "نواره" ، هو أيه واجب الأم غير أنها تشوف المناسب لمصلحة بنتها، ومصلحتها كانت بجوازها من أحمد.
حينما تحدثت رواية عن ذاك الموضوع السري المرتبط بينهما، أغلقت نواره الباب سريعاً حتى لا يستمع اليهما احداً ومن ثم جلست جوارها على الاريكةٍ الخشبية، فربتت على فخذيها وهي تردد بحكمةٍ:
_مغلطتيش يخيتي اللي عملتيه عين العقل، لو كان أبوها درى باللي هتقوله كانت هتبقى حريقة، وبعدين اني مستغربة ايه اللي غيرها اكده، ما طول عمرهم بيحبوا بعض وعلى طول سوا فجأة اكده تقول مش عايزاه!
هزت رأسها باستياء هي الاخرى وهي تخبرها:
_حقيقي مش عارفة انا بقالي ٨شهور بحاول أخليها تقتنع والغريبة كل ما الفرح بيقرب معاده بتصمم اكتر.
تساءلت نواره باهتمامٍ:
_طب محاولتيش تسأليها عن السبب اللي مخليها عايزة تسيبه.
ردت على الفور:
_سألتها ولو كنت لقيت منها سبب مقنع كنت هتكلم مع فهد وهوقف الجوازة دي، بس اللي قالته سبب تافه انها عايزة تتجوز واحد من القاهرة لانها بتكره العيشة في الصعيد.
ضيقت عينيها بغضبٍ:
_ماله الصعيد أهلها وناسها..
منحتها نظرة بائسة قبل أن تردد:
_هو أنا بأخد رأيك في اللي قالته يا نواره!..
اشفقت على حالتها، فربتت بيدها على ظهرها وهي تردف بحنان:
_متزعليش يا رواية، يمكن عيشتها وسط اهل البندر خلتها تتعود عليهم، و أن كانت حابة القعدة هناك نخلي احمد ياخدها معاه هناك زي ما يحيى ولدي عمل.
ثبتت تفكيرها بأكمله على تلك النقطة فوجدت ذاتها تائهة ضائعة، لا تعلم إن كانت نقطة البقاء بالصعيد او القاهرة هو ما يهم ابنتها فعلاً أم انها مجرد حجة تتحجج بها لتبتعد عنه، وخاصة بأن أحمد وباقي الشباب ينتقلون بين القاهرة والصعيد، فبات الأمر محيراً بالنسبة لها وكأنها عادت لنفس النقطة من جديد..
*********
وصلت "تسنيم" أمام البوابة الخارجية ومن ثم ولجت للداخل، مرت من جوار الثرايا، فكادت بأن تصعد على الدرج لتنتبه للصوت الرجولي الخشن القادم من الخلف، مردداً:
_يا أهلاً بيكِ يا بنتي، نورتي الدنيا كلتها.
استدارت للخلف ببطءٍ، فوجدت "فهد" يجلس على أريكة خشبية موضوعة وسط الحشائش الخضراء ومن جواره عدة أرئك يتوسطها طاولة صغيرة دائرية الشكل، موضوع عليها عدد من المشروبات الساخنة، اقتربت منه على استحياء ثم قالت بخجل:
_منور بكبيره وأهل بيته.
بدت له لابقة باختيار كلماتها ونال هذا إعجابه كثيراً، فقطع نظراته الثابتة كالسهم الذي يعلم الطريق لمستقره حينما قال باتزانٍ:
_عايزة ولدي؟
اربكتها كلمته كثيراً وإن كانت منطقية بعض الشيء لعملها المرتبط به، ولكن رغماً عنها توردت وجنتها، فأومأت برأسها وهي تتابع بارتباكٍ:
_أيوه لازم أبلغه حاجة ضروري.
شبح ابتسامة ارتسمت على طرفي شفتيه، فدارت عينيه على "نعمة" التي تحمل المياه وتقترب لتضعها على الطاولة، كان من الممكن ان يجعلها تستدعي "آسر" ولكن تعمق تفكيره وضعه بمنطقة حيادية، فقال بمكرٍ مختبئ خلف ثبات نبرته:
_بالاسطبل، انتي مش غريبة البيت بيتك..
وأشار لها على الإتجاه الصحيح للاسطبل، بللت شفتيها بلعابها وهي توزع نظراتها بين الاتجاه المشار اليه وبينه، ومن ثم رسمت ابتسامة صغيرة قبل ان تردد بحرجٍ:
_عن إذن حضرتك.
قال وهو يتابعها تبتعد بخبثٍ يشمل لهجته:
_إذنك معاكِ يا بنتي.
ابتعدت عنه رويداً رويداً وهي تبحث بعينيها حائرة بتلك المساحات الشاسعة، فحينما ذهبت معه للاسطبل سلكوا باب جانبي من مكتبه فما هي الا مسافة صغيرة حتى وصلوا إليه، وهي الآن تخطو بين مساحات كبيرة للغاية لا تعرف طريق قد يودي بها اليه، استمعت لصوت صهيل خيل قادم من الاتجاه الذي تسلكه فتأكدت بأن وجهتها صحيحة، فوجدت من أمامها مساحة شاسعة تحفها سرداب من الخشب ليصنع مساحة خاصة للخيل، رفعت صوتها وهي تتفحص المكان باحثة عنه:
_بشمهندس "آسر".
لم يأتيها رده وكيف سيستمع لها وهو بمكانٍ ضخم كهذا، لم تجد تسنيم حلول بديلة الا ولوجها للداخل، ففتحت الباب القصير المنحدر على جنبي السرداب ومن ثم ولجت تقدم قدماً وتؤخر الأخرى بخوفٍ من منظر الخيول المريب بالنسبة إليها أو لأي فتاة قد يرهبها رؤية قط أو فأر فماذا اذا وجدت ذاتها محاصرة بعدد من الخيل الاصيل، ربما لو رأت خيل واحد لا بأس فهي بالطبع تتعامل معه من على بعدٍ تاركة باقي المهام لوالدها، توقفت عن الخطى حينما لمحت فرس صغير على ما يبدو بأنه حديث الولادة، لونه أبيض كبياض الثلج وجبهته ينقرها اللون البني، أعجبت بيها للغاية، فلم تستطيع الا تقترب منها وتلامس جلدها الناعم، فتحت تسنيم الباب الصغير الذي يفصل الفرس الصغير عن باقي الاسطبل ومن ثم مررت يدها على جلده بابتسامةٍ حنونه، راق لها هذا الفرس كثيراً وخاصة بأنه مسالم، ارتعب قلبها فجأة حينما استمعت لصهيل قوي غاضب يأتي من خلفها، ففور ان استدارت وجدت الخيل الذي يلقبه آسر ب" همام" يرفع قدميه تجاهها غضباً، تراجعت للخلف بخوفٍ وهي تحاول أن تتفاداه ولكنه كان يتبعها، ومازال يرفع قدميه عن الارض بحركاتٍ مندفعة عنيفة، رفعت يديها معاً لتحمي وجهها وهي تصرخ بفزعٍ وحينما استمعت لصوته رفعتهما لتجده يقف أمامه ويتمسك بقدميه ومن ثم دفعه للخلف وهو يصيح بها بانفعالٍ:
_همام اهدى!
تراجع الفرس للخلف قليلاً وكأنه شعر بالأمان على ابنه الصغير لوجود فارسه، فعاد ليقف جوار فرسته الجامحة "مهجة" وهو بتأمل صغيره عن بعدٍ، أسرع "آسر" تجاه "تسنيم" ومن ثم عاونها على الوقوف وهو يتساءل بلهفةٍ:
_انتي كويسة؟
أومأت برأسها عدة مرات وعينيها تتابع "همام" بخوفٍ، والأخر يتابعها بنظراتٍ حائرة لا يعرف كيف أتت الى هنا ولكنه سعيد لرؤياها مجدداً، انتبهت تسنيم لنظرات آسر لها وليديه التي مازالت تتمسك بها خشية من أن تسقط من جديدٍ، فتراجعت للخلف وهي تعدل حقيبتها الصغيرة بخجلٍ، ومن ثم قالت بتوترٍ:
_انا آسفة جداً مكنتش اعرف انه هيضايق كده، آآ... آنا كنت جاية عشان اقول لحضرتك اني لازم انزل القاهرة فلو حابب تبعت حاجة تبع الشغل معايا، او على الاقل تبقى عارف بسفري فآآ... وأنا داخلة شوفت "فهد" بيه وهو اللي دلني على الاسطبل وانا بدور على حضرتك شوفت الحصان الجميل ده فبعتذر على اللي حصل..
حديثها المرتبك كان غير مرتب، يعكس ما تشعر به من حرجٍ وتوتر، نعم فهم من مغزى حديثها مهمة أبيه الماكرة ولكنه احب ذلك كثيراً، تحرر لسانه ناطقاً باتزانٍ:
_محصلش اي حاجة لكل ده، ممكن تهدي بس وتاخدي نفسك وبعدين نكمل كلامنا.
رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، فرأته يخرج من السرداب الصغير، فقالت بفزعٍ:
_حضرتك رايح فين؟
ابتسم على خوفها البادي على وجهها قبل ان يتبع صوتها، فأشار لها:
_هجيب كرسين وأجي متقلقيش همام مش ممكن يهاجمك تاني، كده عرف انك تخصيني.
وتركها وغادر وقلبها يخفق باضطراب من أخر جملته، وإن كانت أسرتها قبل أن تأسر قلبها وروحها، صفنت به وهو يقترب منها حامل المقعدين ومن ثم وضعهما جوار الخيل الصغير لتتمكن هي من رؤياه بعدما صرحت بإعجابها به، أشار لها بالجلوس، فجلست على استحياء ومن ثم حرر لجام الصغير ليدفعه برفقٍ ليقترب منها، فوزعت نظراتها بينه وبين همام بخوفٍ، فتعالت ضحكاته الرجولية وهو يتابع بقوله الشبه حازم:
_قولتلك متخافيش!
رفعت يدها ومازالت نظراتها تحوم بين همام ومهجة، فوجدتهما هدئين متقبلين لوجودها برفقة "آسر"، فمررت يدها على جسد الصغير بفرحةٍ غمرتها، ومن ثم قالت بإعجابٍ شديد:
_ما شاء الله جميل اوي.
تعمق بالتطلع لها قبل أن يخرج صوته الرخيم:
_إختاريله أسم بقا.
نظرة مرتبكة تقابلت مع نظراته الفاتنة بجمالها، فازدرت ريقها وهي تجيبه بارتباكٍ:
_مش عارفة بصراحة.
قال ومازالت نظراته متعلقة بها:
_حاولي.
سحبت نظراتها المتعلقة به ومن ثم تأملت الصغير وهي تردد بابتسامة صغيرة:
_ممكن برق..
ابتسم وهو يردد:
_مش هيكون اسمه غير كده.
اصطبغ وجهها بلون حبات الكرز، وهي تتطلع له بتوترٍ، فنهضت وهي تعدل حقيبتها ثم قالت:
_همشي بقا عشان معاد القطر.
تساءل باستغراب:
_مش المفروض انك هتسافري بعد يومين؟
اجابته وعينيها منشغلة بتأمل حقيبتها كمحاولة من التهرب من لقاء عينيه:
_أيوه، بس لازم أسافر عشان أطمن على حور.
أومأ برأسه بتفهمٍ ثم قال:
_طب استني لحظة، هجيب من والدي الملف اللي كان بيوقعه عشان توصليه لبشمهندس يحيى.
هزت رأسها بهدوءٍ ثم وقفت تنتظر عودته جوار ذاك الفرس الصغير الذي سيشهد على قصة عشق ستهز أرجاء الصعيد، قصة ستتحدى عادات وتقاليد الرجل الشرقي ذو العرق الصعيدي، وربما لتوضح للعالم بأن الصعايدة ليس كما يقال عنهم بل هم أصل النُبل والرجولة!
********
وصل "يحيى" للمصنع ومن ثم اتجه لغرفة مكتبه، وحينما دلف للداخل انكمشت معالمه بعدم تصديق لما يرأه او ربما عقله لم يستطيع تفسير من انها تتملك كل تلك الجرءة لتقف أمامه من جديد بعد ما ارتكبته من ذنبٍ فاضح لا غفران له!
*********
عاد "آسر" حاملاً الملف المنشود ثم قدمه لها، فحملته وتوجهت للخروج بعدما ودعته بابتسامةٍ صغيرة، تحمل مغزى يخترق قلبه من دون سابق انذار، تشتت أفكاره التي تخطر له بتلك اللحظة، فلحق بها وقبل أن تصل للبوابة الخارجية اوقفها منادياً:
_"تسنيم".
استدارت لتقابله وهي تتساءل بدهشةٍ:
_نسيت حاجة يا بشمهندس؟.
مرر يديه على رقبته وكأنما يحجب تلك الكلمات التي تكاد على التحرر ولكنه فشل بذلك، فقال:
_خلي بالك من نفسك.
بقت تتطلع له للحظات لا تعلم بماذا ستجيبه؟ ، وذاك فكر اخر هاجمها أيحل له قول ذلك لها لانه رب عملها او لا يحل له؟ ، لطالما كانت جافة بالتعامل مع صنف الرجال جميعاً حتى مع اساتذة الجامعة وغيرهما، ولكنه حالة خاصة وفريدة بالنسبة لها، حالة لا تجد لها تفسيراً منطقي له او لما يحدث لها، بللت شفتيها الجافة بلعابها وهي تجيبه بتوترٍ:
_حاضر، عن إذن حضرتك.
وتركته وغادرت بقلبٍ يكاد يتوقف من فرط الارتباك، فتوقفت مرة اخرى حينما وجدت نادين تقترب منها، فسألتها بلهفةٍ:
_انتي كنتي عارفة باللي حصل مع حور ومقولتليش؟
قالت بحزنٍ وهي تتأمل تلك السيارة التي تقترب منهن:
_لا والله يا طنط انا لسه عارفة من شوية وهسافرلها حالا.
انسدلت دموعها بتأثرٍ، فربتت تسنيم بحنانٍ على كتفيها:
_متخافيش ان شاء الله هتبقى كويسة، انا راحلها وهبقى اطمن حضرتك بالموبيل.
ردت عليها مسرعةٍ:
_انا كمان راحلها.
ثم استرسلت حديثها وهي تشير على السيارة التي توقفت أمامهما:
_تعالي معانا في العربية بدل ما طريقنا واحد.
قالت بحرجٍ:
_لا مفيش داعي أنا هسافر بالقطر كمان ساعة بإذن الله، وكمان شنطتي لسه بالبيت.
بإصرارٍ قالت:
_وتركبي قطر ليه واحنا نازلين القاهرة ورايحين نفس المشوار، ثم ان دي مش حجة هنخلي عادل السواق يطلع على بيتك الاول نجيب شنطتك ونمشي، اركبي يالا.
أخبرتها بابتسامةٍ صغيرة:
_حاضر..
وبالفعل صعدت تسنيم للخلف جوار نادين، وبقى سليم بالامام جوار السائق الذي تحرك بهما على الفور، وآسر كما هو يودعها بنظراتها امام تلك البوابة الضخمة التي تفصله عن الداخل وحينما استدار عائداً تفاجئ بمن يقف أمامه يحدجه بنظراتٍ قاتمة، وعصاه الانبوسية تحتك بالارض بقسوةٍ وكأنه يود بها أن تمنحه عقوبة يعلمها جيداً فابتسم وهو يقترب منه بخبثٍ!
***********
بأحد منازل كبار الصعيد، وبالاخص بمنزل تابع لكبار "الدهاشنة"، دلف ذاك الخادم المتنكر بعمامته البيضاء التي تخفي ملامحه، وهو يتلفت من خلفه بخوفٍ من أن يرأه أحداً، ويا ويلته إن رأه أحداً من المغازية بالتحديد، فبالتأكيد سينقطع رأسه حينما ستشهد خيانته لثرايا"أيان المغازي"، فما ان رأه حارس البيت حتى سمح له بالمرور كالمعتاد لزيارته المتخفية، ومن ثم اتبع الخادمة التي ادخلته مكتب رب هذا المنزل، لتضع له الشهي من المؤكلات والمشروبات كما شدد عليها سيدها، فأكل بنهمٍ وهو يراقب باب المكتب، فما أن ولج صاحب المنزل حتى نهض عن مقعده وهو يردد باحترامٍ وخوف بآنٍ واحد:
_" مهران" بيه!... آآ... أني جبتلك معلومات المرادي تستحق الحلاوة، والمرادي الضربة هتكون لفهد نفسه!..
................. يتبع................
الفصل الرابع عشر...
غاب الظلام عن هذا الليل الذي طالت أحداثه، وسطعت شمس يوماً جديد يصطحب أشعتها بين يديه لتشرق بضيائها المعتاد، فنسخت من خيوطها نقطة التقاء مع أمواج البحر الزرقاء في منظر تقشعر له الأبدان، فراقبها من يتمدد على المقعد المسطح من أمامه بأعينٍ قاتمة خالية من الحياة، يصعب ذاك المنظر النابض بالنشاط والحيوية أن يمس عتمة قلبه بشيءٍ، وكأنه كان ينتظر الصباح ليتمكن من الاتصال بها، فجذب هاتفه ومن ثم مرر اتصالاً هاتفياً يجمعه بها، دقيقة وأتاه صوتها المتوتر حينما قالت باستغرابٍ:
_"أيان"!
بسمة مغترة تسللت على شفتيه الغليظة، ومن ثم تمرد صوته المحتبس ليجيبها بخبثٍ:
_مستغربتش إنك محتفظة برقمي على موبيلك.
غاب عنه صوتها وكأنه لمس حالة الإرتباك التي ابتلعتها، فصمت هو الأخير لقليل من الوقت وعاد ليسترسل قائلاً:
_أنا على البلاچ.. هستانكي.
وأغلق الهاتف دون أن يستمع لردها على إقتراحه المقدم، ثم اقترب ليقف أمام المياه واضعاً كلتا يديه بجيوب سرواله القصير، ليتأمل المياه الساكنة بنظراتٍ شاردة تسرد له بعض الكلمات التي كانت تختصه بها خالته حتى لا ينسى الماضي.
«وهدان الدهشان هو اللي إغتصب أمك وقتلها...»
«تارنا منتهاش بموته تارنا مع عيلة الدهاشنة كلتها لازمن يدوقوا الذل والعار اللي هما كان السبب فيه، دهرهم لازمن ينكسر العمر كله ..»..
_"أيان"!
نادته "روجينا" أكثر من مرةٍ وهو ساكن لا يجيبها، فاقتربت منه ثم قربت يدها من ذراعيه بترددٍ لتناديه بارتباكٍ:
_"أيان".
سلطت نظراته عليها لدقيقة كاملة، استطاع بها رؤية ذاك الإرتباك النابض بين حدقتها، كان من الممتع له أن يرى حبها الأهوج يرفرف كرأية الاستسلام بعينيها، خرج عن صمته المطول بتأملها حينما قال وعينيه تتعمق بالتطلع لعينيها:
_النهاردة أخر يوم في رحلتك وأكيد مش هنقدر نشوف بعض تاني.
تلألأت الدموع بعينيها، فاستكمل بنظرةٍ جريئة تغلغلت لأعماقها:
_ممكن يكون اللي حصل معاكِ غريب بس بالنسبالي لا، الحب مش بالعشرة ولا بفترة تعارف، الحب نظرة وبعدها دقة قلب مضطربة بتهمس لصاحبها إن في شيء غريب بيجمعه بالشخص ده أو هيجمعه بيه..
ورفع يديه ليضعها على خديها وهي تتابعه بصدمةٍ وعدم استيعاب:
_اللي انتي حسيتي بيه نحيتي ده حب يا روجينا، بس للأسف مش ممكن يستمر لأن العلاقة دي مستحيل تكمل.
وتركها ثم ابتعد عنها، متخذ وجهة الرحيل، فركضت خلفه وهي تتساءل بعدم فهم:
_ليه مش ممكن يكمل، أنا ممكن أسيب خطيبي..
توقف عن المضي قدماً ثم استدار ليمنحها ابتسامة ساخرة، اتبعها قوله الصادم:
_اللي بينا صعب بالدرجة اللي تخلي مستحيل حد يقبل بالعلاقة اللي ممكن تجمعنا.
رفعت حاجبيها وهي تتساءل بدهشةٍ:
_أنت تقصد أيه؟
أطال التطلع لها، ثم شدد على كل كلمة تخرج على لسانه:
_أنا إسمي "أيان المغازي" يا روجينا، يعني من عيلة المغازية إن مكنتش أساسها وعمودها..
قالت بتشتتٍ:
_وفيها أيه؟
كان متفاجئ بعدم معرفتها بما يخص عائلته، ولكن هذا لن يخمد نيران ثورته المشتعلة، عليه أن يخطو تلك الخطوة التي رسمها بخطته ليضمن نجاح ما يود فعله، فقال بغموضٍ:
_إسألي حد من عيلتك أيه اللي بين "الدهاشنة" و"المغازية".
وتركها وغادر ولكن تلك المرة لم يستدير للخلف، شعرت بأن هناك أمراً كارثي يضم العائلتين، فانهمرت الدمعات على وجنتها، جلست "روجينا" على أقرب مقعد قريب منها وهي تحاول استيعاب تلك الصدمات التي تتعرض لها، من سيصدق ما تمر به؟
اي عاقل هذا الذي قد يؤمن بما تعتقده هي، أتت الى هنا برحلة ترفهية لتلتقي بهذا الشخص الغامض، الذي استولى على قلبها منذ أول لقاء في حين أنها مضت أعوام بجوار "أحمد" صديق طفولتها ومن المفترض بأنه سيصبح زوجها لذا كان عليها ان تحبه هو بدل عن هذا الذي مر بحياتها كظهور ضيوف الشرف بعمل مكتمل أبطاله، ولكنها تجد ذاتها منجذبة اليه بشكلٍ لم تجد له تفسيراً أو تجده منطقي!
*********
شعرت بيديه اللعينة تلامس جسدها بتماديٍ، كادت بالصراخ ولكن فمها مقيد بإحكامٍ، فتحت "تسنيم" عينيها بفزعٍ وهي تجذب الغطاء على جسدها ومن ثم طوفت بنظراتها المرتعبة الغرفة، بحثت بكل إنشن بها فما أن تأكدت بأنها مجرد أوهام تهاجمها التقطت انفاسها الثقيلة بصورةٍ مسموعة، فلم تستطيع بتلك اللحظة أن توقف دموعها التي هبطت كشلال جف من فرط أحزانه، فجذبت هاتفها لتبحث عن رقم رفيقتها وما ان استمعت لصوتها حتى رددت ببكاءٍ:
_"حور"..أنا مش قادرة أفضل هنا معاه في بيت واحد.
أجابتها رفيقتها بحزنٍ:
_متضغطيش على نفسك يا "تسنيم"، إتحججي بالمذكرة والامتحانات وانزلي القاهرة في أقرب وقت.
بدى لها بأن صوتها متغير على غير عادتها، فتساءلت بقلقٍ:
_ماله صوتك، أنتي فيكي أيه؟
ابتسمت وهي تعلم بأنها ستكشف أمرها مهما حاولت ان تصطنع صوتها المصطنع، فقالت:
_مفيش والله يا حبيبتي، أنا بس غصب عني وقعت الشاي السخن عليا بس الحمد لله مفيش غير رجلي وايدي اللي اتحرقت وحرق بسيط وهيروح مع الادوية ان شاء الله..
هلع قلبها لسماع ما قالته، فصرخت بها بعتابٍ:
_كل ده حصل معاكي ومتقوليليش!
=يا تسنيم الموضوع بسيط وبعدين كفايا الضغط النفسي اللي انتي فيه.
_أنا مش عايزة اسمع مبرر ممكن يعصبني اكتر، أنا هسافرلك النهاردة بإذن الله..
وأغلقت الهاتف سريعاً ومن ثم نهضت، لتجذب حقيبتها ثم اعدتها، ولجت والدتها بتلك اللحظة لتخبرها بصوتها المرتفع:
_يا تسنيم بنادي عليكي من الصبح يا بنتي، يالا الفطار جاهز.
انعقد حاجبيها بذهولٍ حينما رأته تعد حقيبتها، فقالت باستغرابٍ:
_أنتي بتعملي أيه؟!
حملت بعض الثياب ثم وضعتها بالحقيبة وهي تجيبها:
_لازم انزل القاهرة حالا.
اقتربت منها ثم قالت بصدمةٍ:
_انتي لحقتي! ، وبعدين لسه على امتحاناتك اسبوع بحاله!
قالت والدموع تسبقها:
_" حور" الشاي وقع عليها وحرق ايدها ورجلها لازم انزل عشان اطمن عليها..
لطمت على صدرها بفزعٍ:
_يا خبر، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم...
ثم استرسلت بسؤالها المتلهف:
_ طب طمنيني يا بنتي هي عاملة ايه الوقتي.
قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة:
_معرفش يا ماما لما هروح هبقى أطمنك بالتليفون.
أجابتها بتفهمٍ:
_ماشي يا حبيبتي، ومتقلقيش عليها ان شاء الله هتبقى كويسة.
تعلم جيداً ماذا تعنى حور بالنسبة لابنتها، الصداقة التي استمرت لثمانية عشر عاماً تجعل من حولها يكن لهما احتراماً وتفهم لمشاعر الخوف والقلق لكلاً منهن، ارتدت "تسنيم" ثيابها ثم جلست على المقعد وهي تتحدث لذاتها بتوترٍ:
_طب المفروض دلوقتي أعرف بشمنهدس آسر أني نازلة القاهرة ولا أعمل أيه؟!..
ثم عادت لتردد:
_مهو أكيد لازم يعرف عشان يتابع شغله بنفسه أو جايز يكون عايز يبعت معايا حاجة لمصطفى السكرتير، اعمل ايه بس يا ربي!
لم تجد حل يخرجها من تفكيرها العميق سوى الذهاب إليه لتخبره بأمر رحيلها، ولتكن صادقة مع نفسها كان هناك شيئاً بداخلها يشجعها على قرار الذهاب لتتمكن من رؤيته، فبرؤياه تشعر بأمان تفتقده حتى وهي وسط عائلتها والأغرب بأنها باتت تؤمن بذلك!
********
كان من الصعب أن تظل معه بغرفته كسابق، وهو يعلم ذلك جيداً ولم يشعر بالضجر لذلك، يكفي انها تقبلت وجوده لجوارها من جديد، وبالرغم من ذلك شدد "يحيى" بتعليماته على "الهام" بمراقبة "ماسة" جيداً، فما يساور شكوكه جعله يفارق النوم طوال الليل حتى الصباح، خرج "يحيى" من غرفته ثم طرق على غرفتها ففتحت الخادمة، لتواجه صوته المضطرب:
_"ماسة"كويسة؟
إن تكن تشعر بالغرابة لإهتمامه الزائد بحالتها ولكنها أجابته باحترامٍ:
_كويسة، بحضرلها الحمام وخارجة.
أومأ برأسه بتفهمٍ، ثم عاد ليجلس بالخارج ينتظرها، دقائق محدودة واستمع لدقات قدميها السريعة تقترب منه، فسلطت نظراته تجاه تلك الفاتنة التي تقترب منه بفستانها الأزرق الطويل، وخصلات شعرها التي تتدلى من خلفها بإنسيابٍ، للحظة ظنها زوجته التي فقدها منذ أعوام ولكن حينما هزت رأسها وهي تحدثه بطفولة جعلته يعد لأرض واقعه سريعاً:
_هنخرج تاني يا "يحيى"؟
ابتسم وهو يمسك يدها ليخطو بها تجاه الطاولة التي تضم طعام الفطور والعصائر الطبيعية، ثم جاوبها ويديه تلامس تلك الخصلة المتمردة على عينيها:
_لا يا روح قلب يحيى، أنا لازم انزل المصنع النهاردة لكن بكره إن شاء الله هنخرج.
أدلت شفتيها السفلية بحزنٍ، ومن ثم رددت باستياءٍ:
_وعد؟
قال بتأكيدٍ:
_وعد يا روحي، يالا بقا إفطري عشان تاخدي أدويتك.
هزت رأسها باستسلام ومن ثم التقطت الخبز لتغمسه بالعسل الابيض كما تعشقه، لتتذوقه بابتسامةٍ هادئة، جعلت الراحة تتسلل لأعماقه فذهبت شكوكه للجحيم، وبات الامر منطقي بالنسبة اليه فإن ما حدث لها من دوار وتقيء كان عائد للأرجيحة التي صعدت لمتنها.
********
رائحة الشاي الساخن عبقت المنزل لتناشد ذاك الصباح النشيط، وخاصة على الطاولة العتيقة المطولة، جلست العائلة تتناول الطعام بجوٍ من السكينة والهدوء، حرصت"رواية" على اعداد كوب القهوة لزوجها ومن ثم جلست على مقربةٍ منه لتستكمل طعامها، فسألها "عمر" وهو يبحث بين الوجوه باستغرابٍ:
_أمال فين "آسر"؟
ردت عليه بضيقٍ شديد:
_بالاسطبل، مش بيتحرك من هناك خالص يا"عمر" ومفيش فايدة من الكلام معاه.
تدخل "فهد" بالحديث قائلاً:
_همليه يقعد مكان مهو حابب ده مضيقك في أيه؟
استدارت تجاهه ثم قالت بعدم تصديق لسؤاله الذي بدى لها غريباً:
_مضايقني طبعاً، مهو أغلب وقته بعيد عني حتى لما يجي هنا مستكتر يقعد معايا.
ابتسم "سليم" وهو يخبرها:
_كلتها أيام وكلهم هتلاقيهم اهنه يا مرت أخوي.
همست بحنين:
_يارب يعدوا بسرعة نفسي أشوف "روجينا" وحشتني اوي..
قطع الحديث المتبادل بينهما صوت "نادين" الباكي، وهي تهم بالهبوط للاسفل مسرعة حتى كادت أن تتعثر، وصوتها يرتفع بندائه:
_"سليـــــــم".
انقبض قلبه وهو يراها بتلك الحالة التي بدت صدمة للجميع الذي اعتاد رؤية الابتسامة لا تفارق وجهها، نهض "سليم" عن الطاولة ثم أسرع بالاقتراب منها متسائلا بلهفةٍ:
_في أيه يا نادين؟
قالت والدموع تلاحق صوتها المذبذب:
_انا لازم انزل القاهرة حالا، الشاي وقع على ايد حور وحرقها..
أمسك بيدها وهو يهدء من روعها قائلاً:
_يحيى طمني وقالي اصابة بسيطة متقلقيش نفسك.
هزت رأسها بالرفض وهي تردد بإصرار:
_انا لازم اشوفها واطمن عليها بنفسي مش هستنى لأخر الاسبوع لما تيجي..
ربتت "ريم" على ظهرها وهي تخبرها بحزنٍ:
_طب اهدي بس يا نادين، لو كانت حاجة كبيرة لا سمح الله كان زمان أحمد أو بدر اتصل وقالنا، هتلاقي الموضوع بسيط.
هزت رأسها بانفعالٍ، فنهض "فهد" عن الطاولة ثم قال بثباتٍ:
_خد مرتك وانزل مصر يا "سليم"، مش هترتاح غير لما تطمن عليها..
أومأ برأسه ثم دفعها برفقٍ لتمضي معه للأعلى ليستعد كلاً منهما للسفر، فاقتربت" رواية" منه ثم قالت:
_هنزل معاهم يا "فهد" عشان اطمن على روجينا ورؤى وريناد..
أجابها بصوتٍ منخفض بعض الشيء:
_روجينا ورؤى بسكندرية تبع جامعتها..
عقدت حاجبيها باستغرابٍ:
_وأنا معرفش ليه!
حدجها بنظرةٍ مطولة أنهاها ساخراً:
_والله أسألي بنتك..
وتركها وصعد للأعلى والأخرى تقف محلها يكاد الحزن يقتلها، مازالت تعاقبها بالابتعاد عنها، فحينما تراسلها لا تجيبها أبداً، تخفت رواية عن الاعين حتى لا يرى أحداً دمعاتها، ولكنها لم تشعر بنواره التي تلاحقها، حتى أصبحوا منفردين بالغرفة، فقالت بحزنٍ:
_مالك يا "رواية" انتي كمان؟
وكأنها كانت بحاجة للحديث، فقالت بانكسارٍ:
_مش عارفة بنتي لسه بتعاقبني على أيه يا "نواره" ، هو أيه واجب الأم غير أنها تشوف المناسب لمصلحة بنتها، ومصلحتها كانت بجوازها من أحمد.
حينما تحدثت رواية عن ذاك الموضوع السري المرتبط بينهما، أغلقت نواره الباب سريعاً حتى لا يستمع اليهما احداً ومن ثم جلست جوارها على الاريكةٍ الخشبية، فربتت على فخذيها وهي تردد بحكمةٍ:
_مغلطتيش يخيتي اللي عملتيه عين العقل، لو كان أبوها درى باللي هتقوله كانت هتبقى حريقة، وبعدين اني مستغربة ايه اللي غيرها اكده، ما طول عمرهم بيحبوا بعض وعلى طول سوا فجأة اكده تقول مش عايزاه!
هزت رأسها باستياء هي الاخرى وهي تخبرها:
_حقيقي مش عارفة انا بقالي ٨شهور بحاول أخليها تقتنع والغريبة كل ما الفرح بيقرب معاده بتصمم اكتر.
تساءلت نواره باهتمامٍ:
_طب محاولتيش تسأليها عن السبب اللي مخليها عايزة تسيبه.
ردت على الفور:
_سألتها ولو كنت لقيت منها سبب مقنع كنت هتكلم مع فهد وهوقف الجوازة دي، بس اللي قالته سبب تافه انها عايزة تتجوز واحد من القاهرة لانها بتكره العيشة في الصعيد.
ضيقت عينيها بغضبٍ:
_ماله الصعيد أهلها وناسها..
منحتها نظرة بائسة قبل أن تردد:
_هو أنا بأخد رأيك في اللي قالته يا نواره!..
اشفقت على حالتها، فربتت بيدها على ظهرها وهي تردف بحنان:
_متزعليش يا رواية، يمكن عيشتها وسط اهل البندر خلتها تتعود عليهم، و أن كانت حابة القعدة هناك نخلي احمد ياخدها معاه هناك زي ما يحيى ولدي عمل.
ثبتت تفكيرها بأكمله على تلك النقطة فوجدت ذاتها تائهة ضائعة، لا تعلم إن كانت نقطة البقاء بالصعيد او القاهرة هو ما يهم ابنتها فعلاً أم انها مجرد حجة تتحجج بها لتبتعد عنه، وخاصة بأن أحمد وباقي الشباب ينتقلون بين القاهرة والصعيد، فبات الأمر محيراً بالنسبة لها وكأنها عادت لنفس النقطة من جديد..
*********
وصلت "تسنيم" أمام البوابة الخارجية ومن ثم ولجت للداخل، مرت من جوار الثرايا، فكادت بأن تصعد على الدرج لتنتبه للصوت الرجولي الخشن القادم من الخلف، مردداً:
_يا أهلاً بيكِ يا بنتي، نورتي الدنيا كلتها.
استدارت للخلف ببطءٍ، فوجدت "فهد" يجلس على أريكة خشبية موضوعة وسط الحشائش الخضراء ومن جواره عدة أرئك يتوسطها طاولة صغيرة دائرية الشكل، موضوع عليها عدد من المشروبات الساخنة، اقتربت منه على استحياء ثم قالت بخجل:
_منور بكبيره وأهل بيته.
بدت له لابقة باختيار كلماتها ونال هذا إعجابه كثيراً، فقطع نظراته الثابتة كالسهم الذي يعلم الطريق لمستقره حينما قال باتزانٍ:
_عايزة ولدي؟
اربكتها كلمته كثيراً وإن كانت منطقية بعض الشيء لعملها المرتبط به، ولكن رغماً عنها توردت وجنتها، فأومأت برأسها وهي تتابع بارتباكٍ:
_أيوه لازم أبلغه حاجة ضروري.
شبح ابتسامة ارتسمت على طرفي شفتيه، فدارت عينيه على "نعمة" التي تحمل المياه وتقترب لتضعها على الطاولة، كان من الممكن ان يجعلها تستدعي "آسر" ولكن تعمق تفكيره وضعه بمنطقة حيادية، فقال بمكرٍ مختبئ خلف ثبات نبرته:
_بالاسطبل، انتي مش غريبة البيت بيتك..
وأشار لها على الإتجاه الصحيح للاسطبل، بللت شفتيها بلعابها وهي توزع نظراتها بين الاتجاه المشار اليه وبينه، ومن ثم رسمت ابتسامة صغيرة قبل ان تردد بحرجٍ:
_عن إذن حضرتك.
قال وهو يتابعها تبتعد بخبثٍ يشمل لهجته:
_إذنك معاكِ يا بنتي.
ابتعدت عنه رويداً رويداً وهي تبحث بعينيها حائرة بتلك المساحات الشاسعة، فحينما ذهبت معه للاسطبل سلكوا باب جانبي من مكتبه فما هي الا مسافة صغيرة حتى وصلوا إليه، وهي الآن تخطو بين مساحات كبيرة للغاية لا تعرف طريق قد يودي بها اليه، استمعت لصوت صهيل خيل قادم من الاتجاه الذي تسلكه فتأكدت بأن وجهتها صحيحة، فوجدت من أمامها مساحة شاسعة تحفها سرداب من الخشب ليصنع مساحة خاصة للخيل، رفعت صوتها وهي تتفحص المكان باحثة عنه:
_بشمهندس "آسر".
لم يأتيها رده وكيف سيستمع لها وهو بمكانٍ ضخم كهذا، لم تجد تسنيم حلول بديلة الا ولوجها للداخل، ففتحت الباب القصير المنحدر على جنبي السرداب ومن ثم ولجت تقدم قدماً وتؤخر الأخرى بخوفٍ من منظر الخيول المريب بالنسبة إليها أو لأي فتاة قد يرهبها رؤية قط أو فأر فماذا اذا وجدت ذاتها محاصرة بعدد من الخيل الاصيل، ربما لو رأت خيل واحد لا بأس فهي بالطبع تتعامل معه من على بعدٍ تاركة باقي المهام لوالدها، توقفت عن الخطى حينما لمحت فرس صغير على ما يبدو بأنه حديث الولادة، لونه أبيض كبياض الثلج وجبهته ينقرها اللون البني، أعجبت بيها للغاية، فلم تستطيع الا تقترب منها وتلامس جلدها الناعم، فتحت تسنيم الباب الصغير الذي يفصل الفرس الصغير عن باقي الاسطبل ومن ثم مررت يدها على جلده بابتسامةٍ حنونه، راق لها هذا الفرس كثيراً وخاصة بأنه مسالم، ارتعب قلبها فجأة حينما استمعت لصهيل قوي غاضب يأتي من خلفها، ففور ان استدارت وجدت الخيل الذي يلقبه آسر ب" همام" يرفع قدميه تجاهها غضباً، تراجعت للخلف بخوفٍ وهي تحاول أن تتفاداه ولكنه كان يتبعها، ومازال يرفع قدميه عن الارض بحركاتٍ مندفعة عنيفة، رفعت يديها معاً لتحمي وجهها وهي تصرخ بفزعٍ وحينما استمعت لصوته رفعتهما لتجده يقف أمامه ويتمسك بقدميه ومن ثم دفعه للخلف وهو يصيح بها بانفعالٍ:
_همام اهدى!
تراجع الفرس للخلف قليلاً وكأنه شعر بالأمان على ابنه الصغير لوجود فارسه، فعاد ليقف جوار فرسته الجامحة "مهجة" وهو بتأمل صغيره عن بعدٍ، أسرع "آسر" تجاه "تسنيم" ومن ثم عاونها على الوقوف وهو يتساءل بلهفةٍ:
_انتي كويسة؟
أومأت برأسها عدة مرات وعينيها تتابع "همام" بخوفٍ، والأخر يتابعها بنظراتٍ حائرة لا يعرف كيف أتت الى هنا ولكنه سعيد لرؤياها مجدداً، انتبهت تسنيم لنظرات آسر لها وليديه التي مازالت تتمسك بها خشية من أن تسقط من جديدٍ، فتراجعت للخلف وهي تعدل حقيبتها الصغيرة بخجلٍ، ومن ثم قالت بتوترٍ:
_انا آسفة جداً مكنتش اعرف انه هيضايق كده، آآ... آنا كنت جاية عشان اقول لحضرتك اني لازم انزل القاهرة فلو حابب تبعت حاجة تبع الشغل معايا، او على الاقل تبقى عارف بسفري فآآ... وأنا داخلة شوفت "فهد" بيه وهو اللي دلني على الاسطبل وانا بدور على حضرتك شوفت الحصان الجميل ده فبعتذر على اللي حصل..
حديثها المرتبك كان غير مرتب، يعكس ما تشعر به من حرجٍ وتوتر، نعم فهم من مغزى حديثها مهمة أبيه الماكرة ولكنه احب ذلك كثيراً، تحرر لسانه ناطقاً باتزانٍ:
_محصلش اي حاجة لكل ده، ممكن تهدي بس وتاخدي نفسك وبعدين نكمل كلامنا.
رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، فرأته يخرج من السرداب الصغير، فقالت بفزعٍ:
_حضرتك رايح فين؟
ابتسم على خوفها البادي على وجهها قبل ان يتبع صوتها، فأشار لها:
_هجيب كرسين وأجي متقلقيش همام مش ممكن يهاجمك تاني، كده عرف انك تخصيني.
وتركها وغادر وقلبها يخفق باضطراب من أخر جملته، وإن كانت أسرتها قبل أن تأسر قلبها وروحها، صفنت به وهو يقترب منها حامل المقعدين ومن ثم وضعهما جوار الخيل الصغير لتتمكن هي من رؤياه بعدما صرحت بإعجابها به، أشار لها بالجلوس، فجلست على استحياء ومن ثم حرر لجام الصغير ليدفعه برفقٍ ليقترب منها، فوزعت نظراتها بينه وبين همام بخوفٍ، فتعالت ضحكاته الرجولية وهو يتابع بقوله الشبه حازم:
_قولتلك متخافيش!
رفعت يدها ومازالت نظراتها تحوم بين همام ومهجة، فوجدتهما هدئين متقبلين لوجودها برفقة "آسر"، فمررت يدها على جسد الصغير بفرحةٍ غمرتها، ومن ثم قالت بإعجابٍ شديد:
_ما شاء الله جميل اوي.
تعمق بالتطلع لها قبل أن يخرج صوته الرخيم:
_إختاريله أسم بقا.
نظرة مرتبكة تقابلت مع نظراته الفاتنة بجمالها، فازدرت ريقها وهي تجيبه بارتباكٍ:
_مش عارفة بصراحة.
قال ومازالت نظراته متعلقة بها:
_حاولي.
سحبت نظراتها المتعلقة به ومن ثم تأملت الصغير وهي تردد بابتسامة صغيرة:
_ممكن برق..
ابتسم وهو يردد:
_مش هيكون اسمه غير كده.
اصطبغ وجهها بلون حبات الكرز، وهي تتطلع له بتوترٍ، فنهضت وهي تعدل حقيبتها ثم قالت:
_همشي بقا عشان معاد القطر.
تساءل باستغراب:
_مش المفروض انك هتسافري بعد يومين؟
اجابته وعينيها منشغلة بتأمل حقيبتها كمحاولة من التهرب من لقاء عينيه:
_أيوه، بس لازم أسافر عشان أطمن على حور.
أومأ برأسه بتفهمٍ ثم قال:
_طب استني لحظة، هجيب من والدي الملف اللي كان بيوقعه عشان توصليه لبشمهندس يحيى.
هزت رأسها بهدوءٍ ثم وقفت تنتظر عودته جوار ذاك الفرس الصغير الذي سيشهد على قصة عشق ستهز أرجاء الصعيد، قصة ستتحدى عادات وتقاليد الرجل الشرقي ذو العرق الصعيدي، وربما لتوضح للعالم بأن الصعايدة ليس كما يقال عنهم بل هم أصل النُبل والرجولة!
********
وصل "يحيى" للمصنع ومن ثم اتجه لغرفة مكتبه، وحينما دلف للداخل انكمشت معالمه بعدم تصديق لما يرأه او ربما عقله لم يستطيع تفسير من انها تتملك كل تلك الجرءة لتقف أمامه من جديد بعد ما ارتكبته من ذنبٍ فاضح لا غفران له!
*********
عاد "آسر" حاملاً الملف المنشود ثم قدمه لها، فحملته وتوجهت للخروج بعدما ودعته بابتسامةٍ صغيرة، تحمل مغزى يخترق قلبه من دون سابق انذار، تشتت أفكاره التي تخطر له بتلك اللحظة، فلحق بها وقبل أن تصل للبوابة الخارجية اوقفها منادياً:
_"تسنيم".
استدارت لتقابله وهي تتساءل بدهشةٍ:
_نسيت حاجة يا بشمهندس؟.
مرر يديه على رقبته وكأنما يحجب تلك الكلمات التي تكاد على التحرر ولكنه فشل بذلك، فقال:
_خلي بالك من نفسك.
بقت تتطلع له للحظات لا تعلم بماذا ستجيبه؟ ، وذاك فكر اخر هاجمها أيحل له قول ذلك لها لانه رب عملها او لا يحل له؟ ، لطالما كانت جافة بالتعامل مع صنف الرجال جميعاً حتى مع اساتذة الجامعة وغيرهما، ولكنه حالة خاصة وفريدة بالنسبة لها، حالة لا تجد لها تفسيراً منطقي له او لما يحدث لها، بللت شفتيها الجافة بلعابها وهي تجيبه بتوترٍ:
_حاضر، عن إذن حضرتك.
وتركته وغادرت بقلبٍ يكاد يتوقف من فرط الارتباك، فتوقفت مرة اخرى حينما وجدت نادين تقترب منها، فسألتها بلهفةٍ:
_انتي كنتي عارفة باللي حصل مع حور ومقولتليش؟
قالت بحزنٍ وهي تتأمل تلك السيارة التي تقترب منهن:
_لا والله يا طنط انا لسه عارفة من شوية وهسافرلها حالا.
انسدلت دموعها بتأثرٍ، فربتت تسنيم بحنانٍ على كتفيها:
_متخافيش ان شاء الله هتبقى كويسة، انا راحلها وهبقى اطمن حضرتك بالموبيل.
ردت عليها مسرعةٍ:
_انا كمان راحلها.
ثم استرسلت حديثها وهي تشير على السيارة التي توقفت أمامهما:
_تعالي معانا في العربية بدل ما طريقنا واحد.
قالت بحرجٍ:
_لا مفيش داعي أنا هسافر بالقطر كمان ساعة بإذن الله، وكمان شنطتي لسه بالبيت.
بإصرارٍ قالت:
_وتركبي قطر ليه واحنا نازلين القاهرة ورايحين نفس المشوار، ثم ان دي مش حجة هنخلي عادل السواق يطلع على بيتك الاول نجيب شنطتك ونمشي، اركبي يالا.
أخبرتها بابتسامةٍ صغيرة:
_حاضر..
وبالفعل صعدت تسنيم للخلف جوار نادين، وبقى سليم بالامام جوار السائق الذي تحرك بهما على الفور، وآسر كما هو يودعها بنظراتها امام تلك البوابة الضخمة التي تفصله عن الداخل وحينما استدار عائداً تفاجئ بمن يقف أمامه يحدجه بنظراتٍ قاتمة، وعصاه الانبوسية تحتك بالارض بقسوةٍ وكأنه يود بها أن تمنحه عقوبة يعلمها جيداً فابتسم وهو يقترب منه بخبثٍ!
***********
بأحد منازل كبار الصعيد، وبالاخص بمنزل تابع لكبار "الدهاشنة"، دلف ذاك الخادم المتنكر بعمامته البيضاء التي تخفي ملامحه، وهو يتلفت من خلفه بخوفٍ من أن يرأه أحداً، ويا ويلته إن رأه أحداً من المغازية بالتحديد، فبالتأكيد سينقطع رأسه حينما ستشهد خيانته لثرايا"أيان المغازي"، فما ان رأه حارس البيت حتى سمح له بالمرور كالمعتاد لزيارته المتخفية، ومن ثم اتبع الخادمة التي ادخلته مكتب رب هذا المنزل، لتضع له الشهي من المؤكلات والمشروبات كما شدد عليها سيدها، فأكل بنهمٍ وهو يراقب باب المكتب، فما أن ولج صاحب المنزل حتى نهض عن مقعده وهو يردد باحترامٍ وخوف بآنٍ واحد:
_" مهران" بيه!... آآ... أني جبتلك معلومات المرادي تستحق الحلاوة، والمرادي الضربة هتكون لفهد نفسه!..
................. يتبع................
رواية صراع السلطة والكبرياء الفصل الخامس عشر
الدهاشنه2...(صراع السلطة والكبرياء...)..
الفصل الخامس عشر...
انسحب طابع الهدوء الذي يكسو عينيه ليحل محله عاصفة غائرة من غضبٍ فتك بحدقتيه السوداء، فتحررت أحباله الصوتية لتنم عن صوتٍ لا يقل غضبٍ عن جحيم عينيه:
_ليكِ عين تيجي هنا!!
تجاهلت "يمنى" عصبيته الزائدة ثم قالت ببرود:
_يحيى أنا مرتكبتش ذنب أنا حبيتك!
ازدحمت شحنة الغيظ بداخله لما تمتلكه من عدم استيعاب لما فعلته، فخطى ليبدو قريباً منها ومن ثم ردد باستحقارٍ:
_مش مستغرب البجاحة اللي عندك، مهو المسلسل التركي اللي عملتيه سبق ودخل عليا مرة بس مش هيدخل عليا تاني..
ازاحت الحقيبة العالقة بذراعيها ثم اقتربت المسافة المتبقية لتشير له باستياءٍ:
_حبي ليك مش مسلسل يا يحيى، وبعدين انا مش عارفة انت ليه رافضني بالشكل ده وانت متجوز واحدة مجنونة لا هتقدر تفهمك ولا تفهم احتياجاتك..
ثم رفعت يدها تداعب أزرر قميصه الأبيض ظناً منها انها تغريه:
_ثم اني مطلبتش منك تطلقها، لو اتجوزنا جوازنا هيكون في السر..
شهقت فزعاً حينما انهالت يديه بصفعةٍ قوية على وجهها، ومن ثم لف خصلات شعرها حول معصمه، صارخاً بعصبيةٍ بالغة:
_واضح ان الذوق مش بيمشي مع امثالك، أنا بقى هوريكي الرد المناسب..
بالبداية لم تفهم ما يقصده بكلماته المبهمة الا حينما فتح باب المكتب ليلقي بها بالخارج أمام الموظفين جميعاً، فعلت لهجته وهو يحذرها بصوت مسموع للجميع:
_المكان ده لو دخلتيه تاني هكسرلك رجلك، أنا مش عارف أنا ازاي مكشفتش وساختك دي طول الفترة اللي فاتت بس معلش ملحوقة.
وأشار بيديه لرجال أمن المصنع مردداً بحزمٍ:
_أرموا الزبالة دي بره..
انصاعوا اليه فجذبوها للخارج عنوة، وسط صرخاتها وهمساتها الحاقدة، لم تتوقع ردة فعله الصارمة تلك، فلم تحتمل اهانته لها وسط حشد هائل من الموظفين، فخرجت تتوعد له ولمن فازت بقلبه تلك السنوات حتى تأثيرها لم يدعه وشأنه حينما باتت مختلة!.
************
وقف "آسر" جواره يتابع حركة الأشجار من حوله بهدوءٍ شديد، فطال صمتهما الى أن قطعه "فهد" حينما قال:
_إوعاك يا ولدي تكون بتدور على طريقة تنسى بيها حبك القديم فتكون دي ملجأك صدقني هتظلم نفسك قبل ما تظلمها.
لاحت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فأجاب والده بثباتٍ:
_أنا محبتش قبل كده..
تطلع اليه بنظرةٍ قاتمة، فاستطرد موضحاً:
_حضرتك أكتر واحد فهمني، وعارف أني نسيت "ماسة" في اليوم اللي اتجوزت فيه يحيى ومبقتش اقدر أشوفها غير زي "روجينا" و"حور".
أشرق وجهه بابتسامةٍ صغيرة، فرفع يديه على كتفيه وهو يخبره بفخرٍ:
_عارف يا ولدي، بس حبيت أتاكد بنفسي قبل ما ندخل بيوت الناس.
ثم تابع بقوله الصارم المصطنع:
_أني بساعدك من بعيد لبعيد عشان تعرف غلوتك عندي بس.
اتسعت ابتسامة"آسر" حينما صرح الكبير بذاته عن قصده الصريح بارسال "تسنيم" للاسطبل حتى يضمن انفراده بها لدقائق معدودة، كاد بأن يشكره على ما فعل ولكنه تفاجئ بمن تقترب منهما حاملة لأكواب العصير،وتسترق السمع اليهما، وحينما فشلت بسماع شيء، زمجرت بغيظ:
_سكتوا ليه ما تكملوا كلامكم ولا بتتكلموا في حاجه مش عايزني اسمعها!
تطلع آسر لوالده بمكرٍ ومن ثم قال بلهجته الصعيدية:
_مخبرش تقصدي أيه ياما، بس أبوي خابر، عن اذنكم ..
وغادر سريعاً من أمامهما، فوقفت "رواية" مقابله لتعيد سؤالها من جديد:
_ابنك هرب ومفضلش غيرك، قولي بتتكلموا عن أيه يا فهد؟
استقام بوقفته وهو يتناول الكوب من يدها ليرتشفه بتلذذٍ، قائلاً بتسليةٍ:
_في أسرار بين الأب وإبنه لازمن تفضل بينتهم ومتخرجش أبداً..
منحته نظرة مغتاظة وهي تمتم بغضب:
_كده يا "فهد"، طب هات بقا مفيش عصير..
ووضعت الكوب على الصينية مجدداً ثم كادت بالمغادرة، فجذبه منها ثم قال من وسط ضحكاته الرجولية:
_مفيش فايدة فيكِ ولا في عنادك.
كادت بسحب الكوب مرة أخرى، فرفعه عالياً ثم أشار بعينيه الماكرة:
_هقولك بس مش اهنه..
واتجه بها لغرفتهما بابتسامةٍ نصر لنجاح جزء من مخططه بسحبها بعيداً ليقضوا وقتاً سوياً بعيداً عن صخب المنزل الذي لا ينتهي..
************
طال طريق العودة من الاسكندرية للقاهرة، ومازالت كلماته تلاحقها كالوحش الذي يستنزف فريسته، عصفت رأسها بسؤاله الغامض، فبحثت عن اجابة ترضى فضولها حول المتعلق بالعائلتين، كادت بأن تسأل "بدر" الغافل على نافذة الباص البارد ولكنها خشيت ان يعلم بأمرها وربما ان ضغط عليها سيعلم بعلاقتها الخفية بأيان، اهتدت "روجينا" لاجابة متوقعة بأن ربما يجمعهما ثأر مثلما يسود بين أغلب عائلات الصعيد ولكن عليها التأكد وبداخلها تتمنى أن يكون الامر هين حتى لا تفترق عن ذاك الغامض الذي سلبها قلبها قبل عقلها...
أما هناك على الجانب الأخر القريب عنها، كانت نظراتها تتعلق بمعالم وجهه القاسي، تستغل غفلته القصيرة لتشبع عينيها بالتطلع اليه، تعافر تلك الدمعات الخائنة التي تود فضحها، فالا يكفيها ما تشعر به من حرجٍ بعدما فصحت لبدر بما حدث معها بأميركا، نعم كانت قد اقسمت بأن هذا السر سيدفن معها ولكنها مازالت حتى تلك اللحظة تعاني وجع تلك الذكرى المفجعة التي قد تعد هينة وفخر لفتاة تعيش بأحضان امريكا المتطورة بعاداتها التي تشبه العهر، ولكن لفتاة مثل "رؤى" تنكر اصولها العربية يكون ذاك الوجع متسلسل حتى الرمق الاخير من روحها البائسة!...
توقف الاتوبيس اخيراً أمام العمارة، لتنادي أحدى المشرفات على "روجينا" لتخبرها بأنها وصلت لوجهتها، فهبطت هي ورؤى للاسفل ومن خلفهما "بدر" الذي حمل الحقائب على كتفيه ومن ثم اتبعهما، كادوا بالصعود للاعلى ولكن استوقفهم صوت مألوف إليهما، فاستداروا تجاه الجهة الاخرى من الطريق فوجدوا "نادين" تلوح لهما من نافذة السيارة التي تقترب من مدخل العمارة ليهبط منها أبيه ووالدته وتسنيم، أسرع "بدر" اليه ليندث بأحضانه بشوقٍ:
_أبوي..
لف "سليم" ذراعيه حول ابنه بابتسامة حنونة ثم ردد بفرحة:
_اتوحشتني اوي يا ولدي، طمني عليك وعلى اختك..
ابتعد عنه وهو يجيبه بابتسامة هادئة:
_الحمد لله بخير، انتوا اللي عاملين ايه؟
أجابه سريعاً:
_كلنا بخير..
دفعته نادين برفقٍ، لتحتضن ابنها، ومن ثم ابتعدت عنه لتردد بحزنٍ:
_مالك كده يا ابني خسيت النص وحالك عدم كده... انت مش بتاكل ولا ايه؟
تعالت ضحكاته لسماعه كلماتها المعتادة، فقال بمرحٍ:
_ازاي بقا، ده الشيف حور نازلة علينا بالطواجن ليل نهار!
انكمشت تعابيرها حزناً:
_قلبي واكلني عليها... يلا نطلع نطمن عليها الاول.
أومأ برأسه لها فاستدارت لتشير لمن خلفها قائلة:
_يلا نطلع احنا يا تسنيم وهما هيجبوا الشنط وهيجوا ورانا..
هبطت من السيارة وهي تخبرها على استحياءٍ:
_انا هسيب شنطتي تحت لما اطلع اطمن على حور الاول وبعد كده هركب تاكسي واروح السكن..
وقف "سليم" مقابلها لتشير لها بصرامة:
_سكن أيه اللي هتروحيه، انتي هتقغدي اهنه مع الحريم..
كادت بمقاطعته، فرفع حاجبيه بحزمٍ انهى به النقاش المحتد فيما بينهما:
_الكلام اللي بقوله مفيش بعديه نقاش، انتي اهنه في ضيافتنا..
قالت بخجلٍ:
_انا والله ما قصدي اكسر كلام حضرتك بس انا مش عايزة أسببلكم ازعاج..
لفت "نادين" يدها حولها، ثم قالت:
_سيبك من الكلام اللي هيزعلنا ده، انتي مش عايزة تكوني جنب حور ولا ايه؟
قالت بكل تأكيد:
_طبعاً.
حستها على اتابعها للاعلى قائلة:
_طيب يلا..
************
بشقة الفتيات..
بعض الآلام الظاهرة على تعابيرٍ الوجه هينة أمام وجع القلب الذي يئن بصمتٍ، يئن بسكونٍ خشية من أن يستمع إليه أحداً، فربما أن علم أحداً ما يوجعه لإنقلب الأمر لعتابٍ قاسي، هكذا كان ينزف قلب "حور" في صمتٍ تام، قرب "أحمد" منها بتلك اللحظة العصيبة جعلها تتمنى وجوده لجوارها دائماً، تتمناه حبيباً وزوجاً، ولكن ذاك الحلم ليس تمتلك حتى الحق به، انتبهت من غفلتها القصيرة على صوتٍ قرع باب غرفتها، فلم تكن سوى "تالين" تحمل الطعام إليها، وبعض المشروبات الساخنة، ولجت والابتسامة مرسومة على وجهها، لتقدم لها الكوب قائلة:
_ طمنيني أخبارك أيه النهاردة؟ ..
أجابتها بصوتٍ واهن:
_الحمد لله بخير..
ثم تناولت الكوب منها، لتردف بضيقٍ:
_أنا حاسة أني عاملة جراحة خطيرة وانتي بتقومي بالواجب معايا، مش كده يا بنتي هزيد ٢٠كيلو!
لوت فمها بتهكمٍ:
_يعني لا كده عاجب ولا كده عاجب، انتي مينفعكيش الدلع على فكرة.
ابتسمت وهي تجيبها:
_انا عايزة اقوم أعمل أي حاجه لنفسي المهم أقف على رجلي..
قطع حديثهما رنين الباب، فأشارت لها تالين ساخرة:
_هفتح الباب وأجي نكمل حوارنا.
وتركتها وتوجهت للخارج..
***********
دث المفتاح بباب شقته ثم ولج ليجلس على اقرب مقعد ويديه تحك مقدمة رأسه بألمٍ شديد، انتبه "يحيى" لسماع خطوات تقترب منه، ليجد "إلهام" المربية أمامه تخبره باهتمامٍ شديد:
_بشمهندس يحيى كان في حاجه عايزة ابلغها لحضرتك.
أزاح يديه عن رأسه ثم قال بمللٍ:
_حاجة أيه!
أجابته على الفور:
_مدام "ماسة" من بعد ما حضرتك نزلت الصبح وهي بترجع و تعبانه ..
تطلع لها بصدمةٍ، فقال بصعوبةٍ وهو يحاول ابتلاع ريقه:
_طب هي فين؟
أجابته بهدوءٍ:
_اديتها مسكن ونايمة...
صمت قليلاً وكأنه يصارع ما يهاجمه من أفكار سودوية قد يكون نهايتها غير محسومة بالمرة، ثم قال:
_لبسيها عشان هننزل للدكتور.
أشارت له بانصياعٍ ثم تخفت من أمام عينيه لتتركه بدوامته المميتة..
*********
ما أن خلت الغرفة من أبيها ووالدتها بعدما اتطمئنوا عليها حتى همست لرفيقتها بلهفةٍ:
_خالك مسافرش برضه..
بمجرد ذكرها له، جعل جسد "تسنيم" يهتز بعنفٍ وكأنه عاد ليلامسها من جديد، فازدردت ريقها بصعوبةٍ بالغة ثم قالت:
_لا بس انا مكنتش هقعد معاه في بيت واحد تاني..
ربتت حور بتفهم على ذراعيها:
_أحسن، عشان متديش لنفسك فرصة تفتكري اللي فات..
انهمرت دمعة خائنة على وجهها، فازاحتها سريعاً ثم قالت بصوتٍ مختتق:
_مين قالك اني نسيته يا حور، أنا مبعرفش انام وكل ما بفتكر اللي كان بيعمله فيا ببقى عايزة اقتله بايدي..
شاركتها البكاء الصامت ثم قالت بتأثرٍ:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيه، ربنا ينتقم منه ويشوفه في بناته عشان يحس بوجعك..
استوقفتها بضيقٍ:
_لا بناته ملهمش ذنب..
انقطع الحديث بينهما حينما ولجت "رؤى" للداخل لتطمىن عليها، فجلست لجوارها تتساءل عن حالها بينما انغمست تسنيم بارتشاف كأسها الموجع من جديد..
*********
سحبتها "روجينا" داخل غرفتها ثم اغلقت الباب، فقالت "نادين" بحيرةٍ:
_أيه المهم اللي مخليني سبت الطبيخ وجيت معاكي اوضتك يا ست روجين؟
رسمت ابتسامة مصطنعة وهي تجيبها بارتباك:
_وحشاني يا نودي الله، وبعدين انتي جاية من اخر الدنيا عشان تقفي تطبخي!
ابتسمت وهي تجيبها:
_مش بطبخ بعمل اكل خفيف كده للعشا عشان حور تاخد ادويتها..
هزت رأسها ثم قالت:
_اقعدي انتي بس معاها وانا هرتب الشنط وهطلع انا وتالين هنظبط الدنيا..
احتضنتها وهي تردد بمرح:
_طول عمرك جدعة يا بت..
بادلتها الابتسامة وهي تتدعي التهائها بترتيب ما بحقيبتها بداخل الخزانة، فقالت بمكرٍ:
_قوليلي يا نودي، هو انتي تعرفي حد في بلادنا من المغازية؟
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
_بتسألي ليه؟
ابعدت خصلات شعرها خلف اذنيها ثم قالت بتوتر:
_لا مفيش اصلي مصاحبة بنت من عيلة المغازية بس لما عرفت انا بنت مين بعدت عني فاستغربت يعني!..
احتدت نبرتها وهي تحذرها:
_وانتي كمان ابعدي عنها هي مش أحسن منك...
تسائلت بخبث:
_ليه ابعد عنها؟ ، مهو أنا مش فاهمه تصرفها ده سببه ايه؟
اجابتها نادين بهدوء:
_بصي يا بنتي انا معرفش الحكاية بالتفصيل بس اللي أعرفه أن اللي بين الدهاشنة والمغازية سيل دم، وهما اللي قتلوا جدك "وهدان" الله يرحمه وحرقوا ارضينا وممتلكاتنا..
فزعت لما استمعت اليها، فتسائلت بصدمة:
_قتلوه!! ، طب كل ده ليه؟
قالت بضيقٍ شديد:
_بيقولوا انهم اتبلوا على جدك واتهموه إنه اتعدى على مرات كبير المغازية وقتلها..
انقطع مجرى تنفسها لسماع العائق بين العائلتين، فقالت بارتباك'
_طب ليه محاولوش يعرفوا الحقيقة!
قالت باندفاع شدبد:
_لانهم مش عايزين يصدقوا غير كده، حجة يقضوا بيها علينا عشان البلد ميكنلهاش كبير غير واحد بس وطبعاً يكون منهم هما..
صفنت بكلماتها التي قبضت روحها وزهقت قلبها المئن، فبعد سماع تلك الحقائق البشعة ليس هناك أمل ولو ضئيل بتقبل أحداً ما تكنه بداخلها لفرد من افراد المغازية وخاصة حينما تعلم بكنايته!!
***********
طرق على باب الغرفة مرتين متتاليتن ومن ثم حينما استمع لاذن الدخول، ولج أحمد للداخل، فاحنى رأسه أرضاً حينما وجد "تسنبم" بالداخل، فاقترب من الفراش ليتساءل وأعينه لا تفارق الأرض:
_عاملة ايه النهاردة يا حور أحسن؟
استمعت لصوته بأنفاسٍ تختلج لسماع المزيد، وبصوتٍ ثقيل قالت:
_الحمد لله يا أحمد، تسلم على سؤالك..
رفع عينيه مقابلها ليضع الحقيبة الصغيرة من يديه على الكومود الصغير ثم قال:
_انا جبت المرهم اللي مكناش لقينه واحد صاحبي جبهولي شحن من برة..
تسللت الفرحة لوجهها، فاهتمامه بها يروق لها كثيراً، فحررت أحبالها المتوقفة لسماعه قائلة:
_مش عارفة اشكرك على اللي عملته معايا ازاي!
منح لعينيه نظرة أخرى وهو يجيبها:
_مفيش تعب ولا حاجة، المهم ربنا يقومك بالسلامة..
ثم تطلع تجاه تسنيم ليستطرد:
_عن اذنكم.
أومات براسها بهزة بسيطة ومن ثم عادت لتراقب حور التي تتأمل رحيله باعين متلهفة تترجى بقائه في صمت، فما ان تطلعت لرفيقتها حتى قالت الاخيرة بشكٍ:
_لا انا لازم اعرف حكايتك أيه بالظبط؟
*********
الظلام يخيم على الغرفة التي ملأها السكون، ومن بين ذاك العاصف والهائم صوت حركة خفيفة تسودها، فما كان سوى صوت دوار المقعد الذي يدور بحركةٍ ثابتة مخيفة، ليتوقف عن الحركة حينما استمع لصوت الهاتف المترقب، فتسللت الضحكة الخبيثة على وجه سيده الذي يعتلي جسد المقعد الاسود، وخاصة حينما لمع الهاتف باسمها، ليهمس من خلفه بفحيحه المخيف:
_بتسبقيني دايماً بخطوة!!...
.......... يتبع..............
الفصل الخامس عشر...
انسحب طابع الهدوء الذي يكسو عينيه ليحل محله عاصفة غائرة من غضبٍ فتك بحدقتيه السوداء، فتحررت أحباله الصوتية لتنم عن صوتٍ لا يقل غضبٍ عن جحيم عينيه:
_ليكِ عين تيجي هنا!!
تجاهلت "يمنى" عصبيته الزائدة ثم قالت ببرود:
_يحيى أنا مرتكبتش ذنب أنا حبيتك!
ازدحمت شحنة الغيظ بداخله لما تمتلكه من عدم استيعاب لما فعلته، فخطى ليبدو قريباً منها ومن ثم ردد باستحقارٍ:
_مش مستغرب البجاحة اللي عندك، مهو المسلسل التركي اللي عملتيه سبق ودخل عليا مرة بس مش هيدخل عليا تاني..
ازاحت الحقيبة العالقة بذراعيها ثم اقتربت المسافة المتبقية لتشير له باستياءٍ:
_حبي ليك مش مسلسل يا يحيى، وبعدين انا مش عارفة انت ليه رافضني بالشكل ده وانت متجوز واحدة مجنونة لا هتقدر تفهمك ولا تفهم احتياجاتك..
ثم رفعت يدها تداعب أزرر قميصه الأبيض ظناً منها انها تغريه:
_ثم اني مطلبتش منك تطلقها، لو اتجوزنا جوازنا هيكون في السر..
شهقت فزعاً حينما انهالت يديه بصفعةٍ قوية على وجهها، ومن ثم لف خصلات شعرها حول معصمه، صارخاً بعصبيةٍ بالغة:
_واضح ان الذوق مش بيمشي مع امثالك، أنا بقى هوريكي الرد المناسب..
بالبداية لم تفهم ما يقصده بكلماته المبهمة الا حينما فتح باب المكتب ليلقي بها بالخارج أمام الموظفين جميعاً، فعلت لهجته وهو يحذرها بصوت مسموع للجميع:
_المكان ده لو دخلتيه تاني هكسرلك رجلك، أنا مش عارف أنا ازاي مكشفتش وساختك دي طول الفترة اللي فاتت بس معلش ملحوقة.
وأشار بيديه لرجال أمن المصنع مردداً بحزمٍ:
_أرموا الزبالة دي بره..
انصاعوا اليه فجذبوها للخارج عنوة، وسط صرخاتها وهمساتها الحاقدة، لم تتوقع ردة فعله الصارمة تلك، فلم تحتمل اهانته لها وسط حشد هائل من الموظفين، فخرجت تتوعد له ولمن فازت بقلبه تلك السنوات حتى تأثيرها لم يدعه وشأنه حينما باتت مختلة!.
************
وقف "آسر" جواره يتابع حركة الأشجار من حوله بهدوءٍ شديد، فطال صمتهما الى أن قطعه "فهد" حينما قال:
_إوعاك يا ولدي تكون بتدور على طريقة تنسى بيها حبك القديم فتكون دي ملجأك صدقني هتظلم نفسك قبل ما تظلمها.
لاحت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فأجاب والده بثباتٍ:
_أنا محبتش قبل كده..
تطلع اليه بنظرةٍ قاتمة، فاستطرد موضحاً:
_حضرتك أكتر واحد فهمني، وعارف أني نسيت "ماسة" في اليوم اللي اتجوزت فيه يحيى ومبقتش اقدر أشوفها غير زي "روجينا" و"حور".
أشرق وجهه بابتسامةٍ صغيرة، فرفع يديه على كتفيه وهو يخبره بفخرٍ:
_عارف يا ولدي، بس حبيت أتاكد بنفسي قبل ما ندخل بيوت الناس.
ثم تابع بقوله الصارم المصطنع:
_أني بساعدك من بعيد لبعيد عشان تعرف غلوتك عندي بس.
اتسعت ابتسامة"آسر" حينما صرح الكبير بذاته عن قصده الصريح بارسال "تسنيم" للاسطبل حتى يضمن انفراده بها لدقائق معدودة، كاد بأن يشكره على ما فعل ولكنه تفاجئ بمن تقترب منهما حاملة لأكواب العصير،وتسترق السمع اليهما، وحينما فشلت بسماع شيء، زمجرت بغيظ:
_سكتوا ليه ما تكملوا كلامكم ولا بتتكلموا في حاجه مش عايزني اسمعها!
تطلع آسر لوالده بمكرٍ ومن ثم قال بلهجته الصعيدية:
_مخبرش تقصدي أيه ياما، بس أبوي خابر، عن اذنكم ..
وغادر سريعاً من أمامهما، فوقفت "رواية" مقابله لتعيد سؤالها من جديد:
_ابنك هرب ومفضلش غيرك، قولي بتتكلموا عن أيه يا فهد؟
استقام بوقفته وهو يتناول الكوب من يدها ليرتشفه بتلذذٍ، قائلاً بتسليةٍ:
_في أسرار بين الأب وإبنه لازمن تفضل بينتهم ومتخرجش أبداً..
منحته نظرة مغتاظة وهي تمتم بغضب:
_كده يا "فهد"، طب هات بقا مفيش عصير..
ووضعت الكوب على الصينية مجدداً ثم كادت بالمغادرة، فجذبه منها ثم قال من وسط ضحكاته الرجولية:
_مفيش فايدة فيكِ ولا في عنادك.
كادت بسحب الكوب مرة أخرى، فرفعه عالياً ثم أشار بعينيه الماكرة:
_هقولك بس مش اهنه..
واتجه بها لغرفتهما بابتسامةٍ نصر لنجاح جزء من مخططه بسحبها بعيداً ليقضوا وقتاً سوياً بعيداً عن صخب المنزل الذي لا ينتهي..
************
طال طريق العودة من الاسكندرية للقاهرة، ومازالت كلماته تلاحقها كالوحش الذي يستنزف فريسته، عصفت رأسها بسؤاله الغامض، فبحثت عن اجابة ترضى فضولها حول المتعلق بالعائلتين، كادت بأن تسأل "بدر" الغافل على نافذة الباص البارد ولكنها خشيت ان يعلم بأمرها وربما ان ضغط عليها سيعلم بعلاقتها الخفية بأيان، اهتدت "روجينا" لاجابة متوقعة بأن ربما يجمعهما ثأر مثلما يسود بين أغلب عائلات الصعيد ولكن عليها التأكد وبداخلها تتمنى أن يكون الامر هين حتى لا تفترق عن ذاك الغامض الذي سلبها قلبها قبل عقلها...
أما هناك على الجانب الأخر القريب عنها، كانت نظراتها تتعلق بمعالم وجهه القاسي، تستغل غفلته القصيرة لتشبع عينيها بالتطلع اليه، تعافر تلك الدمعات الخائنة التي تود فضحها، فالا يكفيها ما تشعر به من حرجٍ بعدما فصحت لبدر بما حدث معها بأميركا، نعم كانت قد اقسمت بأن هذا السر سيدفن معها ولكنها مازالت حتى تلك اللحظة تعاني وجع تلك الذكرى المفجعة التي قد تعد هينة وفخر لفتاة تعيش بأحضان امريكا المتطورة بعاداتها التي تشبه العهر، ولكن لفتاة مثل "رؤى" تنكر اصولها العربية يكون ذاك الوجع متسلسل حتى الرمق الاخير من روحها البائسة!...
توقف الاتوبيس اخيراً أمام العمارة، لتنادي أحدى المشرفات على "روجينا" لتخبرها بأنها وصلت لوجهتها، فهبطت هي ورؤى للاسفل ومن خلفهما "بدر" الذي حمل الحقائب على كتفيه ومن ثم اتبعهما، كادوا بالصعود للاعلى ولكن استوقفهم صوت مألوف إليهما، فاستداروا تجاه الجهة الاخرى من الطريق فوجدوا "نادين" تلوح لهما من نافذة السيارة التي تقترب من مدخل العمارة ليهبط منها أبيه ووالدته وتسنيم، أسرع "بدر" اليه ليندث بأحضانه بشوقٍ:
_أبوي..
لف "سليم" ذراعيه حول ابنه بابتسامة حنونة ثم ردد بفرحة:
_اتوحشتني اوي يا ولدي، طمني عليك وعلى اختك..
ابتعد عنه وهو يجيبه بابتسامة هادئة:
_الحمد لله بخير، انتوا اللي عاملين ايه؟
أجابه سريعاً:
_كلنا بخير..
دفعته نادين برفقٍ، لتحتضن ابنها، ومن ثم ابتعدت عنه لتردد بحزنٍ:
_مالك كده يا ابني خسيت النص وحالك عدم كده... انت مش بتاكل ولا ايه؟
تعالت ضحكاته لسماعه كلماتها المعتادة، فقال بمرحٍ:
_ازاي بقا، ده الشيف حور نازلة علينا بالطواجن ليل نهار!
انكمشت تعابيرها حزناً:
_قلبي واكلني عليها... يلا نطلع نطمن عليها الاول.
أومأ برأسه لها فاستدارت لتشير لمن خلفها قائلة:
_يلا نطلع احنا يا تسنيم وهما هيجبوا الشنط وهيجوا ورانا..
هبطت من السيارة وهي تخبرها على استحياءٍ:
_انا هسيب شنطتي تحت لما اطلع اطمن على حور الاول وبعد كده هركب تاكسي واروح السكن..
وقف "سليم" مقابلها لتشير لها بصرامة:
_سكن أيه اللي هتروحيه، انتي هتقغدي اهنه مع الحريم..
كادت بمقاطعته، فرفع حاجبيه بحزمٍ انهى به النقاش المحتد فيما بينهما:
_الكلام اللي بقوله مفيش بعديه نقاش، انتي اهنه في ضيافتنا..
قالت بخجلٍ:
_انا والله ما قصدي اكسر كلام حضرتك بس انا مش عايزة أسببلكم ازعاج..
لفت "نادين" يدها حولها، ثم قالت:
_سيبك من الكلام اللي هيزعلنا ده، انتي مش عايزة تكوني جنب حور ولا ايه؟
قالت بكل تأكيد:
_طبعاً.
حستها على اتابعها للاعلى قائلة:
_طيب يلا..
************
بشقة الفتيات..
بعض الآلام الظاهرة على تعابيرٍ الوجه هينة أمام وجع القلب الذي يئن بصمتٍ، يئن بسكونٍ خشية من أن يستمع إليه أحداً، فربما أن علم أحداً ما يوجعه لإنقلب الأمر لعتابٍ قاسي، هكذا كان ينزف قلب "حور" في صمتٍ تام، قرب "أحمد" منها بتلك اللحظة العصيبة جعلها تتمنى وجوده لجوارها دائماً، تتمناه حبيباً وزوجاً، ولكن ذاك الحلم ليس تمتلك حتى الحق به، انتبهت من غفلتها القصيرة على صوتٍ قرع باب غرفتها، فلم تكن سوى "تالين" تحمل الطعام إليها، وبعض المشروبات الساخنة، ولجت والابتسامة مرسومة على وجهها، لتقدم لها الكوب قائلة:
_ طمنيني أخبارك أيه النهاردة؟ ..
أجابتها بصوتٍ واهن:
_الحمد لله بخير..
ثم تناولت الكوب منها، لتردف بضيقٍ:
_أنا حاسة أني عاملة جراحة خطيرة وانتي بتقومي بالواجب معايا، مش كده يا بنتي هزيد ٢٠كيلو!
لوت فمها بتهكمٍ:
_يعني لا كده عاجب ولا كده عاجب، انتي مينفعكيش الدلع على فكرة.
ابتسمت وهي تجيبها:
_انا عايزة اقوم أعمل أي حاجه لنفسي المهم أقف على رجلي..
قطع حديثهما رنين الباب، فأشارت لها تالين ساخرة:
_هفتح الباب وأجي نكمل حوارنا.
وتركتها وتوجهت للخارج..
***********
دث المفتاح بباب شقته ثم ولج ليجلس على اقرب مقعد ويديه تحك مقدمة رأسه بألمٍ شديد، انتبه "يحيى" لسماع خطوات تقترب منه، ليجد "إلهام" المربية أمامه تخبره باهتمامٍ شديد:
_بشمهندس يحيى كان في حاجه عايزة ابلغها لحضرتك.
أزاح يديه عن رأسه ثم قال بمللٍ:
_حاجة أيه!
أجابته على الفور:
_مدام "ماسة" من بعد ما حضرتك نزلت الصبح وهي بترجع و تعبانه ..
تطلع لها بصدمةٍ، فقال بصعوبةٍ وهو يحاول ابتلاع ريقه:
_طب هي فين؟
أجابته بهدوءٍ:
_اديتها مسكن ونايمة...
صمت قليلاً وكأنه يصارع ما يهاجمه من أفكار سودوية قد يكون نهايتها غير محسومة بالمرة، ثم قال:
_لبسيها عشان هننزل للدكتور.
أشارت له بانصياعٍ ثم تخفت من أمام عينيه لتتركه بدوامته المميتة..
*********
ما أن خلت الغرفة من أبيها ووالدتها بعدما اتطمئنوا عليها حتى همست لرفيقتها بلهفةٍ:
_خالك مسافرش برضه..
بمجرد ذكرها له، جعل جسد "تسنيم" يهتز بعنفٍ وكأنه عاد ليلامسها من جديد، فازدردت ريقها بصعوبةٍ بالغة ثم قالت:
_لا بس انا مكنتش هقعد معاه في بيت واحد تاني..
ربتت حور بتفهم على ذراعيها:
_أحسن، عشان متديش لنفسك فرصة تفتكري اللي فات..
انهمرت دمعة خائنة على وجهها، فازاحتها سريعاً ثم قالت بصوتٍ مختتق:
_مين قالك اني نسيته يا حور، أنا مبعرفش انام وكل ما بفتكر اللي كان بيعمله فيا ببقى عايزة اقتله بايدي..
شاركتها البكاء الصامت ثم قالت بتأثرٍ:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيه، ربنا ينتقم منه ويشوفه في بناته عشان يحس بوجعك..
استوقفتها بضيقٍ:
_لا بناته ملهمش ذنب..
انقطع الحديث بينهما حينما ولجت "رؤى" للداخل لتطمىن عليها، فجلست لجوارها تتساءل عن حالها بينما انغمست تسنيم بارتشاف كأسها الموجع من جديد..
*********
سحبتها "روجينا" داخل غرفتها ثم اغلقت الباب، فقالت "نادين" بحيرةٍ:
_أيه المهم اللي مخليني سبت الطبيخ وجيت معاكي اوضتك يا ست روجين؟
رسمت ابتسامة مصطنعة وهي تجيبها بارتباك:
_وحشاني يا نودي الله، وبعدين انتي جاية من اخر الدنيا عشان تقفي تطبخي!
ابتسمت وهي تجيبها:
_مش بطبخ بعمل اكل خفيف كده للعشا عشان حور تاخد ادويتها..
هزت رأسها ثم قالت:
_اقعدي انتي بس معاها وانا هرتب الشنط وهطلع انا وتالين هنظبط الدنيا..
احتضنتها وهي تردد بمرح:
_طول عمرك جدعة يا بت..
بادلتها الابتسامة وهي تتدعي التهائها بترتيب ما بحقيبتها بداخل الخزانة، فقالت بمكرٍ:
_قوليلي يا نودي، هو انتي تعرفي حد في بلادنا من المغازية؟
ضيقت عينيها باستغرابٍ:
_بتسألي ليه؟
ابعدت خصلات شعرها خلف اذنيها ثم قالت بتوتر:
_لا مفيش اصلي مصاحبة بنت من عيلة المغازية بس لما عرفت انا بنت مين بعدت عني فاستغربت يعني!..
احتدت نبرتها وهي تحذرها:
_وانتي كمان ابعدي عنها هي مش أحسن منك...
تسائلت بخبث:
_ليه ابعد عنها؟ ، مهو أنا مش فاهمه تصرفها ده سببه ايه؟
اجابتها نادين بهدوء:
_بصي يا بنتي انا معرفش الحكاية بالتفصيل بس اللي أعرفه أن اللي بين الدهاشنة والمغازية سيل دم، وهما اللي قتلوا جدك "وهدان" الله يرحمه وحرقوا ارضينا وممتلكاتنا..
فزعت لما استمعت اليها، فتسائلت بصدمة:
_قتلوه!! ، طب كل ده ليه؟
قالت بضيقٍ شديد:
_بيقولوا انهم اتبلوا على جدك واتهموه إنه اتعدى على مرات كبير المغازية وقتلها..
انقطع مجرى تنفسها لسماع العائق بين العائلتين، فقالت بارتباك'
_طب ليه محاولوش يعرفوا الحقيقة!
قالت باندفاع شدبد:
_لانهم مش عايزين يصدقوا غير كده، حجة يقضوا بيها علينا عشان البلد ميكنلهاش كبير غير واحد بس وطبعاً يكون منهم هما..
صفنت بكلماتها التي قبضت روحها وزهقت قلبها المئن، فبعد سماع تلك الحقائق البشعة ليس هناك أمل ولو ضئيل بتقبل أحداً ما تكنه بداخلها لفرد من افراد المغازية وخاصة حينما تعلم بكنايته!!
***********
طرق على باب الغرفة مرتين متتاليتن ومن ثم حينما استمع لاذن الدخول، ولج أحمد للداخل، فاحنى رأسه أرضاً حينما وجد "تسنبم" بالداخل، فاقترب من الفراش ليتساءل وأعينه لا تفارق الأرض:
_عاملة ايه النهاردة يا حور أحسن؟
استمعت لصوته بأنفاسٍ تختلج لسماع المزيد، وبصوتٍ ثقيل قالت:
_الحمد لله يا أحمد، تسلم على سؤالك..
رفع عينيه مقابلها ليضع الحقيبة الصغيرة من يديه على الكومود الصغير ثم قال:
_انا جبت المرهم اللي مكناش لقينه واحد صاحبي جبهولي شحن من برة..
تسللت الفرحة لوجهها، فاهتمامه بها يروق لها كثيراً، فحررت أحبالها المتوقفة لسماعه قائلة:
_مش عارفة اشكرك على اللي عملته معايا ازاي!
منح لعينيه نظرة أخرى وهو يجيبها:
_مفيش تعب ولا حاجة، المهم ربنا يقومك بالسلامة..
ثم تطلع تجاه تسنيم ليستطرد:
_عن اذنكم.
أومات براسها بهزة بسيطة ومن ثم عادت لتراقب حور التي تتأمل رحيله باعين متلهفة تترجى بقائه في صمت، فما ان تطلعت لرفيقتها حتى قالت الاخيرة بشكٍ:
_لا انا لازم اعرف حكايتك أيه بالظبط؟
*********
الظلام يخيم على الغرفة التي ملأها السكون، ومن بين ذاك العاصف والهائم صوت حركة خفيفة تسودها، فما كان سوى صوت دوار المقعد الذي يدور بحركةٍ ثابتة مخيفة، ليتوقف عن الحركة حينما استمع لصوت الهاتف المترقب، فتسللت الضحكة الخبيثة على وجه سيده الذي يعتلي جسد المقعد الاسود، وخاصة حينما لمع الهاتف باسمها، ليهمس من خلفه بفحيحه المخيف:
_بتسبقيني دايماً بخطوة!!...
.......... يتبع..............
لمتابعة الحلقات الجديدة للرواية فور نزولها والجديد من الروايات تابعنا علي قناة تليجرام